(نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها) .. مع الاعتذار للقارئ الكريم
تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
لا يحق لأي شخص أن يتحدث عن أي شعب دون أن يكون جزءاً من ذلك الشعب، بحيث يعيش همومه ومعاناته، ويعرف خفايا الأمور وبواطنها، يتحسس آلامه ويستشرف غده.
وسيكون الحديث آنذاك مفرغاً من مضمونه، بعيداً عن معناه الأساس، إن لم يكن المتحدث نبضاً في صدر زمانه ومكانه و أهله وبلاده.
فهل يمكن مثلاً أن يتحدث عراقي أو أردني أو مغربي عن مصر، ويحلل مرحلة عبد الناصر سلباً أو إيجاباً، فارضاً قناعاته على الشعب المصري، مصادراً أفكار وتصورات وآراء المصريين عن تلك الحقبة الزمنية!، وهو لا يعرف خلفيات الأمور، ولا يفهم تفاصيل الحياة وخباياها ومفاصلها المصرية ؟
والشيء نفسه يقال عن الحال في حقبة السادات أو حسني مبارك أو السيسي أو غيرهم، إذ لا يمكن لغير المصري أن يعرف أحوال مصر .
كذلك الحال مع المصري الذي لايحق له أن يتحدث نيابةً عن الجزائري، ولا الأخير عن السعودي، ولا أي شخص عن شعب لا ينتمي له ويعيش معه.
فالشعوب هي أدرى وأعرف بأحوالها، وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقال في المثل المشهور. لذا، نرى أن اندفاع بعض العراقيين و بعض العرب حتى!، للدفاع عن نظام صدام حسين، جزء من تدخل ذميم وغير أخلاقي بل وغير علمي أيضاً، فهم لا يعرفون ما نعرفه عن صدام ونظامه الإجرامي القمعي الدموي، ولم يذق العرب جزءاً بسيطاً مما ذاقه العراقي من إجرام وطغيان وعسف ذلك النظام الفاشي. ولا قاسوا ما قاساه شعب عاش الحروب البربرية والحصارات والمجاعات والمنافي والتشريد والتنكيل والإخفاء القسري على يد صدام وعصابته البعثية، وعانى ما عاناه من ويلات التسلط القبلي المتخلف.
بل نكاد نجزم أن ما ارتكبته الحقبة الصدامية بحق الشعب العراقي لم يرتكبه هتلر بكل تاريخه الإجرامي الحافل.
نسوق هذه المقدمة للحديث عن اندفاع ودفاع بعض العرب، كالأردنيين مثلاً عن النظام الملكي المباد في العراق، وهو حديث لا يخلو من لمز وهمز وغمز تافه.
والكلام ذاته يقال عن العراقيين الذين ولدوا بعد أكثر من ستة عقود على سقوط النظام الملكي، فما يفصلهم عن النظام الملكي الذي ثار عليه الشعب العراقي منذ زمن طويل، وما استعادة الحديث عنه إلا جزء من سياسة نكأ الجراح والتعمد للرقص على ذكريات غابرة عانى منها الشعب العراقي الأمرَّين. فهؤلاء العراقيون واولئك الأردنيون لا يعرفون ماذا كانت تعني سنوات العهد الملكي لذاكرتنا الجمعية، تلك السنوات المظلمة التي عششت فيها ويلات الفقر والفاقة، والأمراض والأمية والتخلف، والقمع والتعذيب والاضطهاد والتمييز الديني والقومي والعرقي أيضاً.. إذ لم تكن تلك السنوات وردية وعهداً ديمقراطياً كما يصف البعض، بل على العكس، فقد كان العهد الملكي عهداً سوداوياً بكل ما تعنيه الكلمة..
إن امتداح العهد الملكي برأيي يعد تجنياً على التاريخ وتزويراً للحقيقة، وإذا كان ذلك العهد وردياً وديمقراطياً كما يقولون، فلماذا ثار عليه الشعب العراقي عدة ثورات، وانتفض عليه مرات عديدة، ومن يقرأ التاريخ سيجد أن في كل مقطع من مقاطع ذلك الحكم ثورة عليه هنا أو انتفاضة عليه هناك.
حتى أصبح شعار “نوري سعيد القندرة.. وصالح جبر قيطانها” ،هتاف تلك المرحلة وعلامة دالة على وضع الشعب الذي لم يرَ في تلك الطغمة إلا حذاءً للمستعمر الأجنبي، وصيغة هشة للتعبير عن حالة شاذة، ونوع حكم شكلي، يخلو من مقومات النظام الوطني المعبر عن آمال وتطلعات الشعب.
اللهم، إلا امتلاء ذلك النظام بالقمع والتنكيل والتشريد لأبناء الشعب العراقي، خصوصاً بعد اغتيال الملك غازي، وتسلط الوصي الفاسد عبد الإله، الذي ملأ وسوّد سجلات ذلك العهد بظلم السجون والمعتقلات والإعدامات لرجال الحركة الوطنية الذين طرزوا طريق الخلاص بالدماء وفي مقدمتهم الشهيد فهد ورفيقاه حازم وصارم.
لذا نستطيع القول بفم ملآن إن”إطلاق النعوت على عهد ارتكبت فيه كل الموبقات السياسية والاقتصادية، ونُكل فيه برجالات العراق، ومنح الإقطاع وأذنابه الضوء الأخضر للانقضاض على الفلاح وسلبه قوته ومؤونته، وتشريده، وتكبيل العراق بأحلاف ومعاهدات ظالمة، وما يتفوه به البعض هذه الأيام هي جزء من سياسة غسيل الأدمغة التي تمارس لأسباب سياسية وطائفية بشكل واضح”.
إن الباحث المحايد الذي يريد أن يعرف خلفيات وبواطن الأمور عليه أن ينصرف لقراءة ما دونته الصحف والمجلات والمخطوطات التي كتبها أناس خارج متن السلطة الملكية ليرى كمية الفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي كانت تعاني منه الأمة آنذاك، وكيف كانت تعيش الطبقات الاجتماعية المسحوقة، باستثناء نخبة الحكم التي يقول عنها حنا بطاطو، أنها أبتّ أن تتخلى عن مكتسبات غير مشروعة حققتها بالاستفادة من القرب من الإنجليز ورجال الحكم المعينين منهم.
وبالعودة إلى أي مدونات عن تلك الحقبة سنرى العجب العجاب، من إعدام العقداء القوميين الاربعة، إلى مذبحة (سميل) التي ارتكبها النظام الملكي بحق شعبنا الآشوري، إلى مجازر كاورباغي وجسر الشهداء في وثبة كانون وجرائم اجهزة بهجت العطية الامنية الدموية التي ارتكبت في إضرابات العمال في البصرة وكركوك وبغداد، إلى مذبحة سجن الكوت وبعقوبة، وبقية سجون العهد (الوردي الديمقراطي) ..!
وللتاريخ فإن تجربة التعذيب الوحشي، قد ابتكرها وابتدعها كلب النظام الملكي بهجت العطية، بدءاً من استيراد أساليب قمعية ضد المعتقلين السياسيين حتى الموت، كقلع الاظافر وصب الماء الحار وتكسير العظام، وانتهاءً بوضع السلاسل وكرات الحديد الثقيلة بين اقدام السجناء طيلة فترة سجنهم الطويلة والمؤبدة..!
أما عن النظام الملكي الدستوري، وإفراغ البرلمان الملكي من مضمونه وفكرته فحدث بلا حرج.. إذ استأثر الطاغية نوري السعيد بالحكومات الواحدة تلو الأخرى، حتى حطم الرقم القياسي بتشكيل 14 وزارة، أُسقطت أغلبها إثر احتجاجات شعبية وأحداث ساخنة.
كل هذه الكبائر التي ألحقها ذلك النظام، فضلاً عن إسقاط الجنسية العراقية عن الكثير من الشخصيات الوطنية الكبيرة، وغيرها هي من ( منجزات العهد الملكي).
وطبعاً فإن هذه الأساليب القمعية والاستيلائية ظلت متبعة بشكل أقسى وأفظع في نظام صدام حسين القمعي والقبلي، الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقارنه بأي نظام سبقه، سواء أكان النظام الملكي او الجمهوري العارفي، ولا أي نظام سيلحقه، لإن إجرام صدام فاق كل الحدود ولا يمكن أن يقارن قطعاً مع النظام الملكي ..
لكن هذا لا يعني أن النظام الملكي كان نظاماً شفافاً ووردياً ووديعاً، بل كان نظاماً شرساً وصعباً، ولديه من الأساليب القمعية مما يعجز أي صاحب قلم أن يحصرها بمقال قصير.
لذلك يمكننا أن نختم حديثنا هذا بكلمة فصل، و هي أن الاجتزاء و محاولات الاسقاط غير المنطقية هي أساليب فاشلة، لا تخدم الحقيقة و لا تؤمن أي قدر من الموضوعية، وهي ليست اكثر من محاولة غرس لمثل هذه المفاهيم في أذهان عامة الناس، وهي جزء من مخطط طويل يهدف لتبرئة الأنظمة القمعية المجرمة، و تجريم ضحاياها..
أقول هذا الكلام ولا أبخس حق ودور بعض الوزراء المهنيين الذين استوزرهم النظام الملكي في حكوماته المتعاقبة، ولا بعض الشخصيات الوطنية التي لمّع بها نظام نوري السعيد وعبد الاله وصالح جبر وجوههم الكالحة ..
ختاماً أقول: لماذا أطلق الشعب هتافه الشهير: “نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانها”، إذا كان الباشا أبو صباح ونظامه ديمقراطياً ونزيهاً وشريفاً وعفيفاً جداً ؟!
فالح حسون الدراجيالمصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات الشعب العراقی النظام الملکی العهد الملکی جزء من
إقرأ أيضاً:
شرط الحرية وجماهير مصر الثائرة.. والصامتة أيضا
وصل المناضل اللبناني جورج عبد الله إلى مطار رفيق الحريري في بيروت، يوم 25 تموز/ يوليو، وبينما كان يحدّث ويحمّس الجماهير حول استمرارية المقاومة ضد إسرائيل، ذكر مصر، فلم يتكلم عن النظام المصري، فهو ربما لا يعرف عنه الكثير بسبب سجنه، بل تكلم إلى من يرى نفسه جزءا منهم، عن الجماهير، الجماهير المصرية التي ربط شرط الحرية لنا جميعا بتحرّكها ونزولها إلى الشوارع.
الجماهير المصرية تحديدا لها تأثير بالغ وعميق في وجدان الشعوب العربية كافة، ولا سيما أهل غزة، إذ لا يمضي يوم إلا وأرى فيه منشورا كتبه ابن لمدينة غزة المُدمّرة، وهو يتحدث بأن خذلان العرب، بالنسبة له، كلّه في كفّة وخذلان المصريين وحده في أُخرى. إن أهل غزة والمصريين بينهم ترابط تاريخي، نسبَي وثقافي، ومهما حاولت سرديات ما بعد كامب ديفيد فصلها أو محوها لن تنجح كلية، ربما نجحت نسبيا، لكن سرعان ما يأتي حدث عنيف، مثل الإبادة، ليذكّرنا نحن المصريين بأن غزة وشعبها جزء منَّا، ونحن منه أيضا.
لكن، لماذا تخلّينا عن هذا الجزء؟ ليس صحيحا أن الشعب المصري تخلّى عن أهل غزة، كذلك ليس صحيحا أنه تحرك بشكل كاف من أجلها، إذ وقف في المنتصف، ثار ولم يثُر، حاول ولم يحاول بشكل كاف، لأن محاولاته كانت ضعيفة مقارنة بحجم الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة، وكذلك بحجم القمع الذي فرضه النظام المصري بقيادة السيسي.
ليس صحيحا أن الشعب المصري تخلّى عن أهل غزة، كذلك ليس صحيحا أنه تحرك بشكل كاف من أجلها، إذ وقف في المنتصف، ثار ولم يثُر، حاول ولم يحاول بشكل كاف، لأن محاولاته كانت ضعيفة مقارنة بحجم الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة، وكذلك بحجم القمع الذي فرضه النظام المصري بقيادة السيسي
هذه المحاولات كانت من خلال مظاهرات جماعية بالآلاف كما حدث يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أي بعد أقل من أسبوعين من بدء الإبادة، فانتفض الآلاف من المصريين واقتحموا ميدان التحرير رغما عن القوى الأمنية، واستمر الهتاف لساعات. لكن سرعان ما تجمّعت قوات الأمن وفُضت المظاهرة بالقوة، واعتُقل العشرات. من بعد هذا اليوم، بدأت حملة مسعورة لاعتقال المئات من المصريين بسبب دعمهم لفلسطين بشكل حركي لا كلامي على منصات التواصل فحسب، وهم سجناء إلى الآن. اعتقل الطلاب من الجامعات، والرجال والنساء من البيوت بسبب جمعهم تبرعات لأهل غزة، وأيضا من الشوارع بسبب صرخاتهم فرادى من أجل غزة، وكذلك من قاموا بعمليات مسلحة ضد إسرائيليين في مصر طاردتهم قوات الأمن، كما اعتقلت كل من يشتبه بمعرفتهم.
كل هذه المحاولات لم تكن كافية للضغط على النظام -الذي يملك قوة أمنية كبيرة- لوقف تواطئه وتنسيقه مع إسرائيل والضغط عليها لوقف الإبادة وإدخال المساعدات، وأخذ مواقف سياسية ودبلوماسية أكثر صلابة. لكن من المهم معرفة ما هو التشخيص الموضوعي الذي جعل هذه المحاولات ضعيفة وغير كافية!
بإيجاز، توجد أسباب متباينة ومتداخلة للإجابة، أولها، أن الشعب المصري منذ عام 2011 حتى 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قد مورس عليه عنف لم يشهده من قبل في تاريخه الحديث. آلاف القتلى في الشوارع بدءا من ثورة يناير مرورا بأحداث ثورية عنيفة جدا مثل أحداث محمد محمود (تشرين الثاني/ نوفمبر 2011) واستاد بورسعيد (شباط/ فبراير 2012) وفض اعتصامي رابعة والنهضة (آب/ أغسطس 2013)، هذا بجانب التصفيات الجسدية والقتل تحت التعذيب في مقرات الاحتجاز والسجون، فالمصريون منذ كانون الثاني/ يناير 2011 وصولا إلى عام 2016، لم يتركوا الشوارع، وكانوا في ثورة وقمع دائمين.
نتج عن هذا العنف آلاف القتلى ومئات المختفين قسريا، فضلا عن مئات الآلاف من المعتقلين، إذ منذ تموز/ يوليو 2013، دخل وخرج مئات الآلاف من المواطنين السجون بتهم سياسية، واستقر منهم بشكل كبير قرابة 40 ألف سجين سياسي، وعشرات الآلاف من "المنفيين"، فمصر تحتل المراتب الأولى في مؤشرات القمع العالمي، هذا فضلا عن تمثلات أُخرى من القمع عبر المراقبة والمتابعة الدائمة لأجساد المواطنين.
هذا العنف، بجانب الإفقار المعيشي، تسبب في إنهاك المصريين بشكل كبير، جعلهم في حالة موات مشاعري تجاه أنفسهم، وتجاه أي حدث، فضلا عن غياب أي تنظيمات سياسية أو اجتماعية، ما تسببَّ في نفي أي تحرك جماعي كبير سواء من أجل مطالبات داخلية أو خارجية مثل وقف الحرب على غزة. ومع هذا، دائما ما وُجدت صرخات ثورية فردية، في دلالة على تغيير الحالة الثورية المصرية من الجماعية إلى الفردية، فتجد شابا أو امرأة تصرخ وحدها في الشارع من أجل فلسطين، والناس يرونها، لكنهم لا ينضمون إليها، مع حاجتهم الشديدة للصراخ مثلها، لكنهم لا يستطيعون بعد كل هذا الإنهاك أن يصرخوا، لمعرفتهم اليقينية بأن أجسادهم ستُقتل بشكل مباشر أو حتى ستقتل ببطء، حين تدخل في ظلامات السجون لسنوات طويلة، وسينساها الناس، ويدفع الإنسان وحده الثمن والذي لا يستطيع تحمل تكلفته.
أيضا، تغيرت كثير من المفاهيم والتمثلات لدى المجتمع المصري، لا سيما عند الأجيال الجديدة، فلم تعد الثورة هي حدث يشغل بال المصريين، بكل أجيالهِم، فلا تأتي الثورة كل يوم، الثورة تحتاج إلى عمل ورؤى وأفكار، تبنى لسنوات كثيرة، كما أن المفاهيم الحياتية الحالية، والناعمة، باتت أيديولوجيا عند فئات كثيرة من الشعب، من الفردانية والإنجاز والنجاة الفردية والاستهلاك بكل تمظهراتِه. هذه هي الممارسات اليومية للمصريين؛ لا ممارسات تخص الفكر السياسي والعمل للتغيير، وهذه حالة عمّت المنطقة كلها وليست حصرا في مصر.
الضغط على النظام بالاحتجاجات أمام مقرات السفارات المصرية يسبب له مزيدا من الضغط، وربما يدفعه للتمرّد على الصمت تجاه الإبادة في غزة، مع الالتزام بأولوية الضغط على من يقومون بالإبادة ذاتها، إسرائيل ومن ورائها الولايات المُتحدة
أيضا، يتملّك المصريون الخوف من الفوضى. نعم، وصل جزء كبير من الشعب المصري، بشكل لا واع، إلى تبني فكرة العيش المُذلّ تحت الاستبداد أفضل من العيش المذل تحت الفوضى. يرى المصريون كل البلاد من حولهم وقد تحولت إلى ساحات اقتتال داخلي، مثل سوريا وليبيا واليمن والسودان، أو خارجي متمثل في حروب الاحتلال على غزة ولبنان. لذا، يخاف المصريون من الفوضى، والنزوح، واللجوء، والحروب الأهلية، وتفشي جماعات التطرف. وقد لعب النظام المصري الحالي على أوتار هذه السردية منذ توليه الحكم، ففي كلماته الشهيرة والمُكررة، يقول السيسي دائما "مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق". وقد تأثر الشعب وخاف كثيرا من تلك السردية.
إن النظام المصري خذل غزة، واستطاعت أمريكا وإسرائيل توظيفه، بإرادته، كمنسق وشاهد صامت على حرب الإبادة، بل وقامع لأي تحرك يضغط لوقف الحرب وكسر الحصار. لذا، الضغط على النظام بالاحتجاجات أمام مقرات السفارات المصرية يسبب له مزيدا من الضغط، وربما يدفعه للتمرّد على الصمت تجاه الإبادة في غزة، مع الالتزام بأولوية الضغط على من يقومون بالإبادة ذاتها، إسرائيل ومن ورائها الولايات المُتحدة، فلا يُصبُّ كل الضغط والحشد تجاه النظام المصري الذي لا يملك قرار وقف الحرب، ولا يملك إدخال المساعدات من الجانب الإسرائيلي، لكنه يملك إدخالها أو على الأقل حشدها، مع مؤسسات دولية، أمام معبر رفح من الجهة المصرية، وهذا ما يفترض أن يفعله.
الشعب المصري -لا النظام- لا يرضى بحرب الإبادة وكل تمثلاتها المأساوية التي نراها يوميا بحق أهلنا، لكنه شعب أُنهك وخُوّفَ وأُفقرَ وقُمع، بطريقة لن يدركها سوى من اختبر تمثلات القمع نفسها، وبات لا يحمل أي أيديولوجيا أو تنظيم يتحرك من خلاله لمنع أحداث مأساوية. إن التقاط الأنفاس للشعوب بعد سنوات من التدمير شيء طبيعي، ويأخذ سنوات وسنوات، كما الوصول إلى الإصلاح والثورة يأخذ سنوات من العمل والتنظيم وتراكم الاحتجاج، وقد وقع من أجل قضايا الحرية والتحرر، ومنها قضية فلسطين، خلال السنوات الماضية، عشرات الآلاف من الشهداء؛ لا شخص واحد! فكانت فلسطين حاضرة في كل المنعطفات الثورية المصرية.
ختاما، هذا التشخيص ليس دعوة أو تبريرا للصمت على الاستبداد بحجة التقاط الأنفاس، أو التيه والخوف والاستسلام، بل -عن نفسي- أتمنى أن يُكسر هذا الصمت، اليوم قبل الغد، لكنه تشخيص نفهم من خلاله ما وصلنا إليه، وأسبابه، ونحاول معالجته. فهكذا المُجتمعات تصمت أو تثور، بنسب متبانية، بسبب دوافع وشروط، تحيا وتموت وتختفي عبر العقود.