????مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي
تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT
مغالطة جون قرنق الكبري وتجلياتها في الحاضر السياسي:
????في الذكري التاسعة عشر لإغتياله نتذكر أن الشهيد قرنق أسس حركته الشعبية ببرنامج إشتركي وكانت الدول ذات التوجه الشيوعي هي نواة تحالفاته الخارجية – إثيوبيا منقستو بالذات ورعاتها من الكتلة السوفيتية.
????ولكن بعد سقوط الكتلة السوفيتية وإنهيار نظام منغستو أعاد قرنق تموقعه السياسي والأيديلوجى واسقط الاشتراكية السودانية من خطاب الحركة واستبدله بخطاب هوية مسموم، مدمر، مفرق ومصاب بعمي الطبقة و ذاهل عن العدالة الأقتصادية من يومه الأول.
????وبرزت في أوساط الحركة شخصيات صديقة للغرب مثل منصور خالد وغيره. ودغدغ خطاب الهوية الذي يشابه خطاب الإسلام هو الحل – في نسخته التبسيطية – هوي ألاف الشباب الذين وجدوا في الخطاب مفتاحا سحريا يجعلهم بين يوم وليلة من أصحاب الثقافة الرفيعة التي تتيح لهم تشخيص كل مشاكل السودان وصرف الوصفات العلاجية عن طريق قلوظة خطاب الهوية بما يناسب كل سؤال – فعلي سبيل المثال مشكلة التعليم في السودان هو فشل الدولة في الأعتراف بكل الهويات وعدم رغبتها في توفير تعليم ومنهج وكتب لكل طالب بلغته الأصلية – علما بانه قبل إنفصال الجنوب كان في السودان أكثر من مئة وخمسين قبيلة تتعدد اللهجات داخلها ومعظم هذه اللغات غير مكتوب. ولا دخل لفشل التنمية الأقتصادية بمشاكل التعليم.
????الدكتور قرنق كان إنسانا واسع الثقافة والمعارف وملك من إمكانات القيادة ما لم يملكه سوداني قبله ربما منذ أيام المهدي. لذا لا أعتقد أن جوهره كان قد تغير بعذ سقوط الكتلة السوفيتية ولكنه قرر أن يختار البراغماتية وان يستعمل المعسكر الغربي – بعد سقوط المعسكر الشرقي – لتحقيق أحلامه السياسية التي كان جلها نبيل أو علي الأقل معقول لا يصعب الأتفاق معه.
????وهكذا متنت الحركة الشعبية علاقاتها بدول الغرب المهتمة بافريقيا بما في ذلك المهتمة بالإنسانيات ولعبت الكنائس الغربية دورا كبيرا في دعم الحركة الشعبية والترويج لها، بما في ذلك تشويه سمعة السودان بفبركة أخبار عن ممارسة السودانيين الشماليين الرق في الخرطوم بل وفي داخل بيوت الدبلوماسيين السودانيين في أعتى العواصم الغربية.
????ولا أعتقد أن جون قرنق لم يكن يعي عيوب تحالفه الخارجي ولكنه قرر إستخدام خارج مشكوك في نواياه لخدمة أهداف قرنيقية نبيلة كما أعتقد. وبالغت الحركة الشعبية من التبرج للخارج حين عرضت علي المملكة السعودية وأمريكا مدهما بخمسئة جندي للمشاركة في تحرير الكويت من غزوة صدام والتي تحولت بعذ ذلك إلي الغزو الأول للعراق في عام ١٩٩١ تحت قيادة جورج بوش الأاب.
????ورغم ولوجه في تحالف مشبوه مع قوي إمبريالية وهو الاشتراكي التقدمي حاد الذكاء إلا أنه يستحيل وصف القرنق بالعمالة لانه أدار تحالفاته الخارجية حسب إرادته وتقديره للأمور ومصلحة القضية ولم يكن منفذا مطيعا لاي أوامر تاتي من أي جهة مهما بلغت درجة بياضها وقداستها. وهكذ أستمر التحالف بين الحركة الشعبية والخارج بقياداته الدولية والإقليمية المعروفة.
????كما قلنا، فإن قرنق كان الأبعد عن العمالة لان هناك فرق بين خلق علاقات في الخارج والعمالة. ولكن يمكن اتهامه بالغرور وممارسة الوهم الرغبوي الطوعي لانه في كل تحالف مرحلي، نفعي، قلق، بين طرفين تختلف أهدافهما بعيدة المدى تكون الكلمة الأخيرة فيه إلي الطرف الذي يملك مقدارا أعلي من عناصر القوة.
????وهكذا تجاهل قرنق أن مغالطته القائلة بإستخدام الغرب لصالح قضية تحررية، توحد أفريقيا من كيب تاون إلي الأسكندرية. وهي مغالطة تفترض غباء الغرب – حاشاه فهو غرب نبيه يعرف دبيب النملة وما تخفي الصدور. ولو استدرك قرنق من أمره ما استدبر لأدرك أن الغرب كان يلعب معه نفس لعبته وهي إستخدامه مرحليا لتقريب الغرب وحلفائه الإقليميين والكنائس من هدفهم النهائي وهو فصل الجنوب. ولكن جون قرنق فضل العمي الطوعي خلف قناع من الغرور واختار الطريق السهل لان مواجهة مثل هذه الحقائق كان كفيل بإجباره علي مراجعات كبري تدخله في جفاء مع من دعمه بالمال والسلاح والسطوة السياسية في العالم.
????وهكذا واصل جون قرنق في مسار أضان الحامل طرشا النفعي البراغماتي.
????وحين تمكن نظام البشير من إستخراج البترول في بداية الألفية أدرك الغرب أن ميزان القوي سيتغير لمصلحته بصورة حاسمة بسبب البترول والحماس العقائدي والقتالي للحركة الإسلامية. ولقطع الطريق علي إنتصار حاسم لنظام البشير، فرض الغرب طريق نيفاشا التي قبل بها نظام البشير مجبرا بعد أن تم إرعابه بان السودان سيكون المسرح الثاني للغزو الأمريكي بعد العراق الذي تم تدميره في غزوة عام ٢٠٠٣ وان مصيره لن يكون أحسن من مصير صدام حسين.
????وقد أيد الغزو الأمريكي للعراق كبار دعاء الاستنارة في السودان – الذين تقام بإسمهم مراكز التنوير الممولة من الخارج – كآخر دليل علي توبتهم إلي بيت الطاعة الغربي. وهو الغزو الثاني للعراق بعد أكثر من عقد من الزمان من تحرير الكويت. كما شارك في الغزو الذي أهلك ملايين الأنفس في العراق مستنيرون أخرون ساعدوا بترجمة لغة العراق وثقافته ودينه للغزاة وأحسنوا الترجمة وزيتوا ولوج سنابك الغزاة. وما أشبه الليلة بالبارحة ولا جديد – فهي استنارة متعودة، دايمن كما قال عادل إمام. فهي استنارة بالميلاد تقتات من موائد الغزاة وتناصر غزواتهم السياسية والإعلامية واحيانا العسكرية ولا تري دم الأبرياء في يدها وطعامها وشربها.
????ولم يكن كافيا لحلفاء الحركة الشعبية في الخارج أن إتفاقية نيفاشا أعطت الجنوب فوق كل سقوف مطالبه السابقة لان الهدف النهائي هو فصل الجنوب وليس إنصافه. فرق تسد. دائما.
????عودة إلي الطبيعة القلقة لتحالف قرنق مع الغرب وممثليه في الإقليم، لم يكن ليغيب علي هذا الغرب أن فصل الجنوب لن يكون نزهة في حديقة في وجود قرنق قوي الشكيمة الذي لا يأتمر بامر أحد. وإنه حتي لو تم فصل الجنوب في وجوده فان دولة جنوب السودان لن تكون ضعيفة، تابعة مخبولة بل سوف تولد تحت قيادة زعيم عظيم لا تقل قامته عن أعلي قامات حركات التحرر الوطني التي عمت الجنوب الكوني في منتصف القرن السابق من ماو، وناصر وكاسترو وسوكارنو ولومببا ونيكروما إلي كريس هاني. وهكذا قرر الغرب أن آن أوان رحيل قرنق فاغتالوه وتم بعد ذلك إتمام مخطط فصل الجنوب.
????تكمن تراجيديا الشهيد جون قرنق أن مقولاته كانت من الأكثر تقدما في تاريخ السودان السياسي، ولكنه قتل مستقبل مشروعه في افتراضه الضمني بأن عبقريته تسمح له بتحالفات تتيح له استغلال شيطان الاستعمار والكنائس لخدمة مشروع تقدمي نبيل. كما أعتقد بنفس العقلية بانه بإمكانه خلق فضاء سياسي معافي وكادر تقدمي، إشتراكي مستنير عبر خطاب هوية مغرق في الضحالة والرجعية وفات عليه ان الاستعمار يلعب معه نفس اللعبة بهدف استغلال تقدميته لتفكيك دولة افريقية بما يتيح اضعافها ونهب موارد أجزائها المتفككة.
????وبلغت مأساة قرنق نهايتها حين اغتاله حلفاؤه الدوليون بعد ان قام بدوره في تشكيل الخطاب ولكنه صار عقبة امام فصل الجنوب. ثم سكت اتباعه السودانيين عمن قتله وواصلوا تحالفهم مع من قتل زعيمهم وولي نعمتهم وما زالوا ياكلونمن قصعة قاتل زعيمهم.
????وحين قرر قرنق بكل ذكائه الوقاد تجاهل “المنهج” فات عليه أن نسيانه الطوعي للمنهج لا يعني أن المنهج سيتجاهله ويتركه يصول ويجول كحليف مساو القوة لان هذا وهم شديد الكلفة.
????ومن يعرف التاريخ يعرف قصص شبيهة يتم فيها إستغلال إنسان نبيل ثم إغتياله عندما ينتهي دوره. ولم يكن قرنق أخر الزعماء الكبار الذين إغتالهم الخارج فإن للأستعمار جنود لا تري بالعين المجردة.
????هذه قصة زعيم قوي الشكيمة أبعد ما يكون عن العمالة. أما في عالم اليوم المليء بالأقزام الذين المنبطحين للخارج بدعوي إستعمال قوته لمصلحة السودان فان لهم في سيرة قرنق عبر. فبعد أن يقضي الخارج وطره ويحقق أهدافه فانه سيلفظهم كلبانة قديمة تم مضغها ليقضي بعضهم ما تبقي من العمر يطارده عار العمالة بعد أن تتوقف أعطياتها، وربما تم أغتيال بضعة أفراد منهم لمحو ذاكرة التاريخ السري للحرب السودانية.
???? في مديح الخواجة العالي يغني النوبي محمد منير:
“أصل الخواجه ابن ماريكا لما بيدخل حواريكا
يا اما ياخدك في بطاطه يا اما يا بني حيأزيكا
حاكم الخواجه ابن ماريكا هوه اللي بدع الشيكا بيكا
تدخل قفاه عايز تلعب حيرقصك سامبا و سيكا”.
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الحرکة الشعبیة فصل الجنوب جون قرنق
إقرأ أيضاً:
«الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
من الاستشراق إلى التجديد.. معركة المفاهيم وتحديات العصر
«الإسلام في تصورات الغرب».. عرض موضوعي لتصورات الآخر عن ديننا وحضارتنا
محمود حمدي زقزوق يفكك خطاب الاستشراق ويكشف أهداف والتوجه الأمثل نحو التعاطي معه
60 ألف كتاب أنتجها المستشرقون.. هل قدم الغرب صورة منصفة عن الإسلام؟
أكثر من 100 معهد استشراق في الغرب ولا يوجد مركز مخصص في العالم الإسلامي
تجديد الخطاب الديني وتحسين الصورة المشوهة بالغرب.. أبرز تحديات عصر التطرف والعولمة
كتب - محمد غنوم
تجديد الخطاب الديني ليس مجرد قضية نظرية، بل ضرورة مجتمعية لمواجهة الأفكار المتطرفة، التي تهدد استقرار الأوطان والقيم الإنسانية، وهو ما يبرز دور العلماء؛ في تقديم الدين في ثوبه الجديد بلغة العصر التي تراعي متغيراته وتؤصل قيم التسامح، ودائمًا ما يرسم البعض في ذهنه صورة عن علماء الشريعة، أنهم بمعزل عن جوانب العلوم الأخرى من فلسفة وفكر وأدب وخلاف ذلك من الأمرور التي قد تطرأ حديثًا.
زقزوق.. مسيرة عالم موسوعي
والحقيقة أن هذه الصورة خاطئة، فهناك الكثير ممن أثروا الحياة الثقافية بالعديد من المشاركات والمؤلفات العديدة، وجمع بين العلوم الشرعية وثقافات الحضارات المتنوعة، ومن أمثال هؤلاء الدكتورمحمود حمدي زقزوق، المولود في 27 ديسمبر عام 1933م، بقرية الضهرية، التابعة لمركز شربين - محافظة الدقهلية، حيث إنه كان واحدًا من أبرز العلماء الذين جمعوا بين التمكن من العلوم الشرعية والثقافة الإسلامية، والدراية الواسعة بالثقافات والحضارات المتنوعة.
شغل «زقزوق»؛ الذي توفي في الأول من أبريل عام 2020م، منصب نائب رئيس جامعة الأزهر، بعد أن تخصص في الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين، وعُيِّن وزيرًا للأوقاف 15 عامًا، كما عُين رئيسًا لمركز الحوار بالأزهر الشريف، بالإضافة لعضوية هيئة كبار العلماء، ومجلس حكماء المسلمين، والأمانة العامة لبيت العائلة المصرية.
جالس كبار المفكرين أمثال عباس العقاد وأحمد حسن الزيات
كتب رحمه الله مذكراته اليومية، وبدأ في سن السابعة عشرة ببعض المشاركات القصصية والشعرية في إحدى الصحف الأسبوعية التي تُسمي «سفينة الأخبار»، كما كَتَب في البريد الأدبي بمجلة «الرسالة»، وجالس كبار الأدباء والمفكرين أمثال؛ عباس العقاد، وأحمد حسن الزيات. كما كان شابًّا وطنيًّا، مهتمًا بشأن أمته، وما يجري حوله من أحداث، فكتب وهو طالب عن الأحداث الثورية التي شهدتها مصر في هذه الفترة، وكان ضمن كتائب الأزهر المتطوعين للدفاع عن الوطن بعد العدوان الثلاثي عام 1956م.
تكريم رئاسي
كرمه الرئيس السيسي لإسهامه في تجديد الفكر في مؤتمر تجديد الفكر الديني؛ الذي عقده الأزهر الشريف في عام 2020م، نظرًا لإسهاماته في تجديد الفكر الإسلامي، وترجماته التي جسدت الانفتاح الواعي على الثقافات وقبول الآخر، والجمع في العلم والفكر بين الأصالة والمعاصرة «الإسلام في تصورات الغرب».
صورة الإسلام في الغرب
في كتابه «الإسلام في تصورات الغرب»، يعرض الدكتور محمود حمدي زقزوق؛ صورتين مختلفتين للإسلام فى الغرب، أولهما صورته في نظر المستشرقين من واقع نماذج من كتابات اثنين من المعاصرين، مع مناقشة الآراء التي تضمنتها هذه الكتابات، أما الصورة الثانية فهى الإسلام في تصور كاتب أوروبي اعتنق الإسلام وارتضاه لنفسه دينًا.
واختار «زقزوق» ثلاثة موضوعات: عبارة عن فصول مختارة من كتابات المستشرق الألماني «جوستاف بفانموللر»؛ وقام بترجمتها وتقديمها وعلق على ما جاء فيها من آراء، حيث رأى أن الصورة السائدة عن الإسلام اليوم فى الغرب، ليست مجرد صورة وقتية عارضة ولا هي بنت اليوم، وإنما هي صورة صاغتها قرون طويلة من الصراع الحضاري بين الإسلام والغرب.
وأول الموضوعات التي يهدف الكتاب الوصول إليها، أن يكون المسلم المعاصر على بيّنة بما يجرى حوله، وعلى وعي بما يُكتب في الغرب عن دينه وحضارته وتاريخه، وعلى إدراك للأسباب البعيدة للمواقف الغربية عن الإسلام؛ حتى لا يقف طويلًا عند الظواهر السطحية العارضة، التي لا تفصح عن الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
وثاني الموضوعات؛ أن يُحِفز ذلك كله المسلم المعاصر، إلى العمل لإعداد نفسه على المستوى الفكري، إعدادًا يستطيع به أن يكون قادرًا على مواجهة كل التيارات الفكرية الآتية من الشرق أو الغرب، حتى لا يتخلف عن الركب، ويدع الفرصة للآخرين لاحتوائه فيظل أسيرًا لعقدة التخلف، ومركبات النقص التي يراد ترسيخها في ذهنه.
مواجهة الحركة الاستشراقية في الغرب
فيما كان ثالث الموضوعات أن يدفع الدكتور «زقزوق» المؤسسات الإسلامية العلمية، إلى النهوض بمسئولياتها تجاه دينها؛ في مواجهة الحركة الاستشراقية في الغرب، حيث إن هناك في أوروبا وأمريكا؛ ما يَربُو على مائة معهد للإستشراق، تقوم جميعها بدراسة عقيدتنا وحضارتنا وتاريخنا كله، ويتوفر لهذا العمل كل الإمكانات المادية والفكرية.
كما يرى أنه في الوقت نفسه لا يوجد في العالم الإسلامي كله؛ معهد واحدًا أو مركزًا علميًا يخصص جهده، لدراسة الكم الهائل من المؤلفات والمجلات والدوريات والموسوعات، التي تصدرها هذه المؤسسات في الغرب عن الإسلام، ونكتفي فقط بالصياح والاستنكار والشكوى؛ من زيف ما يكتبه المستشرقون، ولكننا لا نقوم بعمل إیجابی حقیقي على المستوى العلمي لخدمة الإسلام.
وبحسب المؤلف؛ لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن المفاهيم الخاطئة الشائعة عن الإسلام في الغرب، لا تقتصر على دوائر المتخصصين هناك، بل تتردد في الكتب المدرسية وفى وسائل الإعلام المختلفة، وفي مجال اتخاذ القرارات الحيوية المتعلقة بالسياسة العالمية، وهذه المفاهيم الخاطئة لم ترد بمحض الصدفة؛ وإنما تعتمد على مراجع متخصصة كتبها إعلام المستشرقين، الذين تحظى كتاباتهم عن الإسلام بثقة واحترام عظيمين في الغرب.
آثار بعيدة للاستشراق
يؤكد المؤلف أنه ليس هناك شك في أن الاستشراق له أثر كبير في العالم الغربي، وفي العالم الإسلامي على السواء، وإن اختلفت ردود الفعل على كلا الجانبين، ففى العالم الغربي لم يعد في وسع أحد يريد أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه أو يمارس فعلًا مرتبطًا به، أن يتجاهل الثروة العلمية الهائلة التي أنتجها الاستشراق في السابق أو اللاحق.
كما أنه فى العالم العربي الإسلامي المعاصر، لا يكاد المرء يجد مجلة أو صحيفة أو كتابًا؛ إلا وفيها ذِكر أو إشارة إلى شيء عن الاستشراق، أو يمت إليه بصلة قريبة أو بعيدة، وهذا أمر ليس بمستغرب، ذلك أن الاستشراق كان ولا يزال له أكبر الأثر في صياغة التصورات الغربية عن الإسلام، وفي تشكيل مواقف الغرب ازاء الإسلام على مدى قرون عديدة.
خطاب الاستشراق بين الرفض والقبول
الدكتور «زقزوق» يشدد على أن الاستشراق قضية تتناقض حولها الآراء في العالم العربي الإسلامي، فهناك من يؤيده ويتحمس له إلى أبعد الحدود، وهناك من يرفضه جملة وتفصيلًا، وأعطى مثالًا قريبًا لهذا الفريق الأخير، والواقع أن كلا من هذين الاتجاهين كل منهما يمثل تيارًا غير علمى، وغير نقدي؛ فالاستشراق من ناحية غير معصوم من الخطأ، كما أنه من ناحية أخرى ليس كله شرًا بالنسبة للإسلام والمسلمين.
والاتجاه الأول؛ مبهور بالحضارة الغربية والتقدم العلمي والتكنولوجي هناك؛ وبالتالى فإن كل ما يأتى من الغرب لا بد أن يكون من وجهة نظر هذا الاتجاه؛ «سليمًا وعلميًا وموضوعيًا»، أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه رافض للحضارة الغربية؛ وإن كان يأخذ بأسباب التقدم العلمي، ورفضه للاستشراق مبنى على أسباب عديدة، من بينها الظروف التي أدت الى نشأته وارتباط أهدافه في مراحل معينة بالتبشير، ومواقفه العدائية ضد الإسلام منذ العصر الوسيط.
وكذلك ظروف الصدامات العسكرية؛ التي حدثت بين الغرب والشرق على مدى قرون عديدة، وأخيرًا في العصر الحديث؛ ما كان من ظروف الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، وإذلاله لشعوبها وتحقيره لدينها وحضارتها، وما صحب ذلك من نظرة الاستعلاء الغربية في علاقة الغرب بتلك الشعوب المغلوبة على أمرها، وقد لعب بعض المستشرقين أدوارًا هامة ساعدت الاستعمار الغربي، وساعدت على ترسيخ نظرة الاستعلاء الغربية إزاء الإسلام والمسلمين.
ويوضح «زقزوق»؛ أن هؤلاء قد سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحته؛ وهذا واقع مؤلم يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة، وهكذا يستطيع المرء أن يفهم الأسباب التي أدت إلى وجود تيار قوي في العالم العربي الإسلامي؛ يرفض الاستشراق رفضًا تامًا، ولعله من الأمور المسلم بها الآن، أن صورة الإسلام في الغرب كانت بالفعل صورة قاتمة ومطبوعة بطابع سلبي، منذ العصر الوسيط، وأنها كانت أبعد ما تكون عن أن تكون صورة موضوعية للإسلام.
الاتجاه الإسلامي الحقيقي نحو الاستشراق
وذكر «زقزوق» أن البحوث الاستشراقية بدأت منذ فترة في محاولة التخلص من قيود هذه الصورة التي خلفها العصر الوسيط، ولا نستطيع من وجهة نظر إسلامية أن نقول أن الاستشراق قد تخلص نهائيًا في دراسته للإسلام على وجه الخصوص من كل هذه القيود، وإن كانت المحاولات مستمرة.
التيار النقدي للمستشرقين
وحيث إن كلا الاتجاهين المشار إليهما؛ المتحمس للاستشراق والرافض له «غير منصف فيما ذهب إليه»، فإنه كان لا بد من ظهور تيار ثالث؛ يحاول أن يكون لنفسه رؤية موضوعية عن الاستشراق وأهدافه وأعماله ومنشوراته العلمية، ويحاول جاهدًا أن ينقد ما يراه سلبيًا من وجهة النظر الإسلامية، ولا ينسى في الوقت نفسه؛ أن يذكر الإيجابيات التي تُذكر للاستشراق في المجالات العلمية، المتعلقة بالدراسات العربية والإسلامية.
وهذا الاتجاه الثالث؛ هو فى حقيقة الأمر الاتجاه الذي يمكن أن نسميه اتجاهًا إسلاميًا حقيقيا، لأنه هو الذى يتفق مع ما يطلبه الإسلام في مثل هذه الأحوال؛ انطلاقًا من قول القرآن الكريم «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى».
الدكتور «زقزوق»، يرى في هذا الإطار من وجهة نظر إسلامية أن ينظر إلى الاستشراق في محاولة لبيان وجهة النظر؛ هذه التي لا ينبغى أن يتجاهلها الاستشراق أو يمر عليها من الكرام، بل ينبغي أن تكون دافعًا لحوار بناء بين المستشرقين المعتدلين من جانب، وأصحاب هذا الاتجاه النقدي من جانب آخر.
فعن هذا الطريق فقط؛ يمكن أن يكون هناك سبيل إلى الفهم المتبادل والتعاون العلمي المشترك، في عالم اليوم الذي تتشابك فيه المصالح، وتتعدد فيه مجالات الاهتمامات المشتركة، بهدف الوصول إلى ما فيه خير الجانبين المغربي والإسلامي، ولكى يتم ذلك فإنه لا بد من تحقيق شرط ضروري، وهو التحرر التام من كل الأحكام المسبقة والعقد القديمة.
مستشرقون موضوعيون
ونظر المؤلف؛ إلى الاستشراق نظرة مختلفة عن ما نراها الآن، فرأى من الناحية الموضوعية، أنه لابد أن نعترف أن هناك مستشرقين موضوعيين يتسمون بالنزاهة في الحكم والحيدة في البحث، ومستشرقين آخرين لا تتسم أعمالهم بأی شكل من أشكال الموضوعية والحياد العلمي، بل تصطبغ بأهداف أخرى غير علمية.
ويقدر هذا الاتجاه أيضًا للمستشرقين بصفة عامة ما يبذلونه من جهود مضنية، وصبر عجيب في البحث والدرس، وإخلاص تام لخدمة أهدافهم واطلاع واسع وإحاطة بالعديد من اللغات القديمة والحديثة، وقد أشار إلى شيء من ذلك أيضًا الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذي كان شيخًا للأزهر فى نهاية النصف الأول من القرن الحالي إيجابيات المستشرقين.
إيجابيات الاستشراق
ويذكر هذا الاتجاه الإسلامى بالتقدير؛ الجهود التي بذلها المستشرقون في العناية بالمخطوطات العربية؛ التي جلبت إلى أوروبا وفهرستها فهرسة علمية نافعة، وكذلك ما قدمه الاستشراق من دراسات حول الكثير من هذه المخطوطات، ونشره للعديد من أمهات كتب التراث العربي الإسلامي؛ بعد تحقيق مخطوطاتها تحقيقًا علميًا، مما أتاح للباحثين فرصة كبيرة، وأدى للبحث العلمي خدمة جليلة.
ولم يقتصر المستشرقون؛ على مجال التحقيق والنشر، بل قاموا بترجمات شتى بلغات مختلفة للعديد من الكتب العربية الإسلامية، وقاموا أيضًا بإصدار ترجمات للقرآن الكريم، وإن كانت للمسلمين بعض التحفظات، على ما جاء في مقدمات الكثير من هذه الترجمات والتعليقات التي صحبت هذه الترجمات.
وقد أضاف المستشرقون؛ لذلك كله ما قدموه من دراسات عديدة في جميع مجالات العلوم العربية والإسلامية، وقدموا إنتاجًا غزيرًا؛ بلغ حسب بعض الإحصائيات «ستين ألف كتاب»؛ منذ أوائل القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.