محطات لفحص طروحات التيار الجديد حلبة القفز تحت سقف الطيب صالح
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
زياد مبارك
masarebart2019@gmail.com
محطات لفحص طروحات التيار الجديد
حلبة القفز تحت سقف الطيب صالح:
من يلمس السقف أولًا؟!
.
.
(1)
تأسس الوعي الجمعي في شأن الرواية السودانية على المقولة المعلّبة (إن الطيب صالح سقف الرواية السودانية)، وأعتقد أنها مقولة عبرت إلى وعي المهتمين بالسرد السوداني من زمن الطيب صالح حين كتب رائعته (موسم الهجرة إلى الشمال) بصيتها الذي ذاع منذ ذلك العصر.
(2)
وللمزيد من الإشارات المؤسسة لما يلي المقدمات؛ فهذه المقولة يرسّخ لها النقاد والروائيون السودانيون. معلوم أن النقاد العرب والغربيين قالوا انطباعاتهم وآراءهم حول الطيب صالح وروايته ومضوا، بينما ظلّ الفاعلون في الوسط الثقافي السوداني عاكفين على استجرار انطباعاتهم عن مشروع الطيب صالح السردي، لتتمّ صياغتها في هيئة ثوابت ومتاريس وسقوف للكتابة الإبداعية. وإن أردت تسميّة هذا السلوك فسأرجعه مباشرة إلى انغلاق الممارسين للكتابة النقدية على مفاهيم جمعية من دون العمل على التحليل وإجراء المراجعات، فصار الناقد يردّد ما يردّده القارئ، وهذا مما يشير لضعف التفاعل النقدي وركنه في ركن التأثر لا التأثير.
وعندما نقرأ كثيرًا من المراجعات لمشروع الطيب صالح والمقولة المعلّبة عن مشروعه السردي، نجد أن المراجعات تنحى منحًى واضحًا في سبيل إيجاد موضع للسرد السوداني بجانب رواية الطيب صالح، بينما من المفترض أن يكون العكس هو الصحيح. بدلًا من أن يُنظر إلى الطيب صالح كروائي سوداني؛ صار المفهوم الذي يُكرس له هو دمغ السرد السوداني بأنه إبداع يقتفي أثر الطيب صالح، وعلى موقعه أن يكون بصيغة (أسفل/ أعلى/ مقارب/ مشابه...) للطيب صالح. وبوصف لا أجد غيره فهذه المراجعات جعلت من ضيق الأفق أفقًا تطلّع إليه الكثيرون. فإذا كان هذا حال النقد، فكيف حال نقد النقد الذي بالضرورة لا يوجد إلا في بيئة نقدية خصبة وغنية تنظيرًا وتطبيقًا؟
(3)
سأقف على محطات تكفي لإيضاح العقل النقدي والآلية التي تحكمه في إصدار الأحكام: سأبدأ بتصريح للروائي والقاص الصحفي عيسى الحلو -رحمه الله- في حوار صحفي، سأله المحاور: (سبق أن قلت يومًا إن الطيب صالح سقف الرواية، ثم عدت وقلت إن الطيب صالح لم يعد سقف الرواية). أجاب عيسى الحلو بقوله: (في الحالة الأولى كنت صادقًا جدّاً، بمعنى أن الرواية كانت قبل عشرة سنوات لم يكن هنالك في الأفق من هو أقدر منه، أما بعد ذلك فقد جاءت أعمال متفوقة، وأصبحت هي ذاتها سقوفًا. ستسألني أهي سودانية أم غير ذلك؟ أنا أتكلم عن الرواية في العالم عمومًا).
ولا يمكنني استخلاص أي فهم من هذه الإفادة غير أمر واحد: وهو أن للرواية سقف، ليكن الطيب صالح، أو ليكن غيره. لا بد من وجود سقف ولا مانع من وجود عدة سقوف. وما يدعم هذا الاستخلاص ما أضافه الحلو: (هنالك روايات أضافت واقترحت اقتراحات جديدة تجاوزت نجيب محفوظ والطيب صالح، عالميّاً هنالك الأمريكية توني ميرسون، وهنالك الإسباني أنطونيو غالا). وما يصنع نقاط التقاء لأحكام الحلو مع مقولات التيار الجديد قوله: (لقد أعجبني حمور زيادة رغم أنه لم يتجاوز الطيب صالح، ولكنه معجزة في اختياره للموضوع وفي براعته التعبيرية). وتصريحه الأخير يشرع نافذة على توجّه لا يمكن اعتماده في النقد تحت أي ذريعة، حتى لو كانت الانطباعية، لأن المقارنة النقدية التي ميدانها النصوص تزاح بالمقولات المعلّبة وغير المساءلة إلى مقارنة الشخوص. وهذا جزء مما يعمل عليه من ينتجون المقولات الفروخ في مظاهراتهم النقدية التي يحكمها الانطباع والمؤانسة الثقافية. ما يجعل التمييز بين الناقد والباحث والصحفي ضروريّاً للحكم على الكتابة نفسها وموافقتها لاشتراطات الكتابة النقدية، فيما أشار إليه الناقد الفلسطيني د. عز الدين المناصرة.
(4)
في محطة أخرى؛ حوار صحفي مع بركة ساكن هذه المرة؛ صرّح فيه أن الطيب صالح ليس سقفًا له. وتلقى بالطبع تعليقات كثيرة على خدشه العلبة التي وُضعت فيها المقولة المعروفة، وذلك بعد أن صدرت الصحيفة وفي أعلى الصفحة الثقافية كان المانشيت الرئيسي عبارة بركة ساكن. وللأسف الحوار قديم وليس منشورًا في الإنترنت. ولكن فيما بعد، بعد حصوله على وسام جوقة الشرف برتبة فارس في الفنون والآداب للعام 2024 يعدّ الصحفي الشاعر والروائي حاتم الكناني تقريرًا صحفيّاً لنشره بهذه المناسبة، يضمّ ذكرًا لمسيرة بركة ساكن وانطباعات لكاتبات وكتاب سودانيين عن بركة ومشروعه الإبداعي، وينشر التقرير بموقع (اندبندنت عربية) تحت عنوان (عبد العزيز بركة ساكن تمرّد على سلطة الطيب صالح). ولا يستدعي العجب اختيار مثل هذا العنوان لتقرير احتفائي بتتويج روائي سوداني؛ لأن كتاب التيار الجديد يكتبون بمبدأ حشر المشاريع الإبداعية السودانية في زجاجة الطيب صالح بلا مبررات موضوعية أو منطقية.
يمكننا الاستغناء عن طرح مقارنة بين مشروعي بركة ساكن والطيب صالح، فالمشروعان مختلفان بالكامل ولا يجتمعان على الإطلاق حتى لو تمّت الدراسة بنوع من العسف وليّ أعناق النصوص! فتقرير الكناني لم يرد فيه أي تصريح ضمن الآراء المستطلعة يذكر الطيب صالح، ولكن يأتي العنوان ليسقط مقولاته المستولدة (التمرد/ سلطة الطيب صالح)، كأنه يربط نجاح السرد السوداني وعبور بعض نماذجه إلى العالم بالطيب صالح لا بالمشاريع ذاتها وروافعها وجدارتها بالمنافسة العالمية.
(5)
في هذه المحطات سأتوقف مطولًا عند تصريحات الروائي والناقد الأكاديمي د. عاطف الحاج سعيد، وبشكل أساسي لأنه رئيس (المنصة الرقمية لمناقشة ومدارسة الرواية السودانية)، وأحسب أنه من المؤثرين الفاعلين في الشأن الثقافي، وفي حقل السرد السوداني بصورة خاصّة. وقد استكمل بحثه الجامعي لنيل الدرجة العلمية في النقد الأدبي في أنموذج رواية الهجرة للطيب صالح، وأحسب –كما سأشير- لإسهامه في تكريس مفهوم سقف الرواية السودانية، وانسحاب مشروعه الروائي لمشروع الطيب صالح بصورة ملحوظة، ولكن الأهم هو إنتاجه للمقولات التي تسقط السرد السوداني في منزلق الطيب صالح بأسلوب يستدعي المقارنة التي كما ذكرت ابتداءً أنها لا تهدف لوضع الطيب صالح في قالب الرواية السودانية بل العكس، لينتج د. عاطف مقولات إضافية في هذا المسلك، سأذكر منها ما فيه الكفاية.
هذا اقتباس لتصريح د. عاطف حول رواية (أيام سرقة الشيلات) للروائي وقاص الصادق، وهذه نماذج للمقولات التي دفعتني للكتابة حول الأمر:
• (خاض وقاص تحدي فشل فيه جميع كتاب السرد في السودان، وأنا متأكد من ذلك، أن يقارب سردياً قرية الطيب صالح على نحو جديد ومبدع).
• (استخدم تقريبًا ذات تقنيات العبقري، واستدعى تقريباً ذات شخصياته، وتوسّم تقريباً ذات تقنياته، لكنه فجّر هذه الأشياء تفجيرًا، وشدّها إلى أقصى ما تستطيع، حتى كاد أن يتجاوز العبقري).
وفي مناقشتي للدكتور عاطف حول رأيه ركزت على نقطة محددة: وهي ثنائية التقليد والابتكار في الإبداع. وكان رد د. عاطف أن ليس في الرواية المذكورة تقليدًا (محاكاة) بل هي قائمة على التناص/ النظرية النقدية المعروفة. وطبيعة هذه الردود أنها تطبع النقاشات بالطابع الجدلي الذي يستخدم أدوات المعرفة المنطقية لإضفاء ما يريده المجادل على القضية وإبدال موضوعات النقاش وإحلال موضوعات أخرى ينصرف التركيز إليها. فإذا كانت الرواية قد كُتبت بذات تقنيات الطيب صالح، واستدعت شخصيات الطيب صالح، واشتغلت بتقنياته الفنية، وقاربت سرديّاً قريته في موسم الهجرة: فما هو التقليد إن لم يكن هذا هو التقليد؟ وخطورة هذه الآراء –كما ذكرت في نقاشنا – أن تشجيع التقليد يعني أن الناقد يبحث عن ظلال الطيب صالح لا عن مشاريع إبداعية جديدة ومبتكرة. إضافة إلى ضخ المزيد من المقولات (الطيب صالح تحدي/ تجاوز العبقري)، والمقولة الأخيرة تذكرنا بما قاله عيسى الحلو عن حمور زيادة في شوق الدرويش بشكل معكوس (لم يتجاوز...). بمعنى، لأصيغ ما أرمي إليه، إن هذا التشجيع يحضّ على الكتابة على آثار الطيب صالح لتضحى الكتابة السردية جديرة بالبقاء داخل سجن روايته وفي أزقة قريته.
(6)
تذكر أبحاث علم النفس الإبداعي ضمن دوافع الإبداع التي تدفع المبدع لإنتاج منجزه بما يلزمه ذلك من طاقة ذهنية وجسدية ونفسية: الأصالة وتأكيد الاستقلالية والتفرّد. هذا مبدأ معروف ولم أكن أظن أنني سأضطر لذكره في سياق مناقشة نقدية حول منجز ما. ويمضي بعض علماء النفس المهتمين بدراسة علم النفس الإبداعي لمعالجة ظاهرة الاعتراف وحاجة المبدع للاعتراف مهما كان حجمه لتعزيز ذاته من الناحية النفسية، كما فعل د. عبد الستار إبراهيم. وفي مناقشته للاعتراف اعتبر نجيب محفوظ الأعلى حظًا في هذا الجانب، ولكنه ذكر رأيه في إنتاج نجيب محفوظ، أنه لو كتب ما كتبه بعد خمسين عامًا لما تمّ الاعتراف به إلى الحدّ الذي بلغه في ذلك الأوان. وناقش الظروف التي تجعل الإنتاج الإبداعي خاضعًا للظروف المحيطة ذات التأثير في الاعتراف بهذا الإنتاج. ألا ينطبق ذلك على الطيب صالح وموسم الهجرة إلى الشمال؟ هل لو كُتبت الآن في عصرنا لكان لها ذات التأثير والذيوع، بينما أدب ما بعد الكولونيالية برمته قد غرب عن دائرة الاهتمام وتجاوزته تجارب واهتمامات وأشكال وثيمات الكتابة السردية؟ وهنا سأشير لاقتباس ذي صلة من مقولات د. عاطف في إحدى مقالاته: (إن لحظة الطيب صالح لا تزال حاضرة ومسيطرة على زمان السرديات السودانية). وحتى لا يُفهم الاقتباس منزوعًا من سياقه فقد ورد الاقتباس في مقال يستعرض أربع روايات سودانية رصد فيها د. عاطف تناصًا مع موسم الهجرة إلى الشمال، وهو المفهوم الذي يفضل أن يفسر به المحاكاة والتقليد في الكتابة الأدبية، مستعينًا بمقولة تودوروف عن التناص. غير أن الأسئلة التي بحاجة للطرح عن لحظة الطيب صالح الحاضرة: حاضرة بالنسبة لمن؟ لمن يقلدونه/ يتناصون معه؟ أم عمومًا هي لحظة حاضرة ومسيطرة على زمان السرديات السودانية، بالتفسير الحرفي لهذه العبارة غير الدقيقة؟ بحيث تؤخذ هكذا وتحتسب على الذين أنتجوا مشاريع غير متأثرة بالطيب صالح؟
(7)
هذه المقولات تدفعنا، أو بالأصح تضع المشاريع الإبداعية لمنتجي هذه المقولات في طائلة البحث، فإذا كان تحدّي الكتابة السردية هو المقاربة مع مشروع الطيب صالح حسب الوعي الذي يصدرون عنه: فإن إنتاجهم بلا شك سيُنظر إليه من هذه الزاوية، إلا إن استدعينا منطقًا آخر لتفسير الأشياء على غير مظاهرها. ولاستدعاء مثل هذا التناص سألجأ إلى روايات د. عاطف نفسه. سأمضي مع الإقرار على مبدأ الدكتور على أنه تناص، مع أن ذلك محل مناقشة -لا أود الخوض فيها- في التفسير الحرفي للنظريات الغربية وتنزيلها لاستخدامها في صدّ الآراء المخالفة، علمًا أن الناقد إبراهيم الإعيسر حين قال إن التناص تغطية للسرقة الأدبية فهو مسبوق بهذا القول وليس أول من جادل في ذلك، ولم أكن أتمنى لدكتور عاطف ممارسة التمترس بالنظريات واعتبارها بديهيات، فإبراهيم يعرف هذه النظريات وليس جاهلًا بها، ولكنه ينكر توظيفها في القراءة النقدية بلا ضابط كما يفعل د. عاطف.
ورد في الصفحة الأولى من رواية (ربيع وشتاء) لدكتور عاطف، أي في استهلال الرواية: (إنها لعنة التغييرات المناخية التي تضرب الأرض بقسوة، إننا هنا في أوروبا نحسّ هذا التغيير بصورة ملموسة؛ فالناس في إفريقيا مثلًا لا يعون هذا التغير ولا يحسّونه، إنهم في بلادتهم وجهلهم يعمهون). واقتباس آخر من نفس الصفحة: (على كل حال كنت مرتبكًا وليس لديّ تصورات واضحة للكيفية التي سأمضي بها العطلة. منذ أن فارقتني زوجتي الفرنسية آن – صوفي والتي كانت تخطط جيدًا لبرامج نهاية الأسبوع، فهي والحق يُقال رغم كل ما فعلته بي وما سببته لي من ألم، تحب الاحتفاء بالحياة).
ومن هذا الاستهلال -وللحق فلم أقرأ غير هذا الاستهلال من الرواية بخلاف بقية روايات د. عاطف- ألا تستحق هذه الرواية أن يضمها د. عاطف إلى الروايات الأربع التي ذكرها بمقاله؟ لدينا حالة البطل الذي يعيش بأوروبا ويعشق الأوروبيات ويعقد المقارنات الحضارية، أليس هذا تناصًا مع موسم الهجرة؟ ولكن في رواية (نورس يهجره السرب) التي غيّر د. عاطف عنوانها لتصدر بعنوان آخر (شمسان على النيل) فيبدو التناص مع الطيب صالح صارخًا وأكثر صراحة وذلك باستعارة ألفاظ الطيب صالح مباشرة. حيث يقول الراوي شمس: (أنظر للآخرين أراهم منغلقين على ذواتهم، كل منهم يتأرجح في عالم من الأوهام، ربما يتخيلون أنفسهم يتنزهون في بلدان الشمال مع حبيباتهم البيضاوات المفترضات). وإطلاق مسمى الشمال على الغرب مما توقّف عنده جورج طرابيشي في دراسته لرواية الموسم بقوله: (الشرق في رائعة الطيب صالح الروائية جنوب، والغرب شمال، وهذه واقعة تكفي بحد ذاتها للدلالة على مدى ارتجاجية مفهوم الشرق والغرب وعدم مطابقته للواقع).
وكذلك في روايتيه الأخريين (عاصف يا بحر) و(غراميات استثنائية فادحة) لا ينفك السرد عن تداول الهجرة إلى أوروبا والنساء الأوروبيات، وهي أبرز ملامح عالم موسم الهجرة إلى الشمال، كما لا تنفك عن شحن السرد بالجنس الشبق بكل أنواعه بشكل مكثف ومستدعى قسرًا لأحداث الرواية (جنس طبيعي/ شذوذ/ تحول/ استمناء/ تحرش/ اغتصاب/ أعراض بيدوفيليا)، ولا تهدف هذه الإشارات لمحاكمة ذات نزوع طهراني بقدر ما تتوجه إلى محاكاة الجنس عند الطيب صالح الذي يُعتبر من قوائم موسم الهجرة إلى الشمال. وعلى ذلك فهذه الأعمال تقرأ ضمن أطياف العبقري، وهو العنوان الذي أصدر تحته د. عاطف ما رصده من أعمال تقتفي أثر الطيب صالح.
(8)
تداخل الناقد والروائي منهل حكر الدور في خط النقاش حول رواية (سرقة أيام الشيلات)، ولا يسعني تجاوز المداخلة لأنها تقرّ المنهج الذي يسير عليه د. عاطف في انتاج المقولات، بقوله: (أن تتداخل في منشور طابعه نقدي للدكتور عاطف الحاج سعيد أمر بالغ الصعوبة، لكونه أديب ومترجم وأكاديمي وأستاذ جامعي ويكتب عن النقد بأدوات جبارة. ولكن حتى لا أقع مثل غيري في مصيدة تداخل المصطلحات النقدية والانزلاق معها وحملها بعيدًا عن معناها القاموسي وقصدها الاصطلاحي...).
من الغريب ألا يكتفي الأستاذ منهل بتذكيرنا بمقام د. عاطف الذي يعرفه الجميع، ولكنه يمضي أبعد من ذلك إلى إنتاج مقولات تفضي بالنقاش إلى فضفضة المصطلحات والتشكيك في المفاهيم بل وفي فهم المتلقي لما يقال. ما معنى هذا الكلام: (قارب وقاص قرية الطيب صالح سردياً، واستخدم تقريبًا ذات تقنيات العبقري، واستدعى تقريباً ذات شخصياته، وتوسّم تقريباً ذات تقنياته). وفسّر كلام د. عاطف بما لا يحتمل: (المقاربة السردية هي منتج نقدي يتم تطبيقه على المنجز السردي أو الإبداعي بمعنى أنها كتابة نقدية وليست روائية). وهذا كلام لا يصدر عن ناقد على الإطلاق، وحدود معرفتي بأستاذ منهل لا تتعدى السماع أنه ناقد كتب الرواية مؤخرًا، لكن ما أعقب عليه لا يصدر عن ناقد، وإلا ما كان قد ذكره د. عاطف نفسه! فالمقاربة هي المقاربة بلا حاجة لشرح الواضح، المقاربة النقدية للنصوص من طرق دراسة النصوص وهذا معروف في البحوث، بالإضافة للمقارنة. وذلك لا يمنع أن تكون هناك مقاربة سردية للمكان، وهذا ما أشار إليه د. عاطف في انطباعه.
أما الأغرب أن يعيد أستاذ منهل إنتاج مصطلح المعارضة الأدبية، وينقله من حقل الشعر إلى حقل السرد. فالسرد ليس فيه معارضة أدبية. طبق الشعراء المعارضة في الشعر، بأن يقول المعارض شعراً على ذات البحر والروي والقافية للقصيدة التي يعارضها. كما في مثال أحمد شوقي: (قم للمعلم وفه التبجيلا ** كاد المعلم أن يكون رسولا)، الذي عارضه إبراهيم طوقان بقوله (شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم وفه التبجيلا ** اقعد فديتك هل يكون مبجلا من كان للنشء الصغار خليلا). وكذلك أبيات شاعر العصر المملوكي صفي الدين الحلي:
سلي الرماح العوالي عن معالينا ** واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا بيض صنائعنا سود وقائعنا ** خضر مرابعنا حمر مواضينا.
التي عارضها الشاعر العراقي أحمد مطر بقوله:
سلوا بيوت الغواني عن مخازينا
واستشهدوا الغرب هل خاب الرجا فينا
سود صنائعنا، بيض بيارقنا
خضر موائدنا، حمر ليالينا.
وجاء استناد الأستاذ منهل على رواية الجزائري كمال داؤود (معارضة الغريب) التي كتبها كرد فعل لرواية (الغريب) لألبير كامو؛ لإضافة مصطلح شعري إلى المعجم السردي، وهذا لا يكفي؛ أن يستدل بعنوان رواية بل عليه أن يمارس التنظير والتأصيل المعروف في تقعيد المفاهيم النظرية وإضافاتها البحثية الشارحة. ولكن بما أننا نناقش في الأساس استيلاد المقولات وشحنها في القراءات النقدية والانطباعات غير العلمية –حتى لو كانت صادرة عن نقاد وروائيين وأكاديميين- فلا بأس من وجود مقولات أخرى ومتعددة، فهي ظاهرة في الوسط الثقافي، وكثيرًا ما نجد من يلصق مصطلحات البنيويين في مقالاته الانطباعية التي لا تتبع المنهج البنيوي أصلًا، وهذا مثال فقط من مظاهر الاستعراض الثقافي بالمصطلحات والنظريات مع فقر كبير في الكتابة التطبيقية التي تتطلب الجهد وتحمل المشقة.
(9)
وفي نفس السياق، سياق إنتاج المقولات الفروخ عن المقولة المعلّبة الأصل، ما كتبه الروائي محمد الطيب عن رواية (أيام سرقة الشيلات): (وضعت موسم الهجرة إلى الشمال سقفًا للرواية السودانية لما يزيد عن 50 عامًا، ولا جدال في مدى جودة الرواية وعلو كعبها وربما أدى هذا السقف -أقول ربما- لتأخير مسار الرواية السودانية عدة خطوات. من الجيد أن وقاص الصادق قد كتب أيام سرقة الشيلات لتوازي هذا السقف وربما تتفوق عليه بالفعل).
والمقولات التي ينتجها محمد الطيب لا تقف عند الاعتقاد بأن للرواية سقفًا، الذي في مفهوم د. عاطف يتجسّد التحدي والنجاح والفشل في محاولة الوصول إليه، بل يرى محمد الطيب أن هذا السقف يؤخر الرواية السودانية! وهذا المفهوم أظن أن محمد الطيب نفسه إن طالبناه بشرح مقولته فلن يستطيع تفسيرها ناهيك عن أن يشرحها للآخرين. رواية الطيب صالح هي جزء من تاريخ الرواية السودانية، ولم نسمع في فلسفة التاريخ بأن محطة ما من محطات التاريخ يبلغ بها التأثير لتأخير ما يأتي في خط الزمن لاحقًا، أعتقد أن فهمًا كثيرًا للعلوم الإنسانية ينبغي العمل على تشكيله لتنسجم هذه المقولات مع جملة من المفاهيم التي كانت قبل هذه المقولات المرسلة تُفهم بوضوح وتلقائية.
والسؤال: كيف أدّت موسم الهجرة إلى الشمال لتأخير الرواية السودانية؟!
وأقترح على محمد الطيب أن يكتب إجابة عن هذا السؤال المتعلق بمقولته، قبل أن يكتب دراسته التفصيلية عن رواية أيام سرقة الشيلات التي يحاول نقل النقاش من حيز الانطباعات التي يتبرع بها إلى حيز الرواية نفسها!
(10)
وأخيرًا؛ عن الورشة التي قدمها محمد الطيب بعنوان (فن كتابة الرواية) -إن كنت أذكر عنوان الورشة- أقول: إذا درّس محمد الطيب طلّابه هذه المقولات فتلك مصيبة، وإذا لم يلقّنها لهم فالمصيبة أكبر، فما فائدة أن يدرس الموهوبون في ورشة لتعليم الكتابة الإبداعية، ثم لا يعرفون أن للكتابة السردية سقفًا عليهم أن يحاولوا تجاوزه؟!
(11)
يعتبر الأستاذ الناقد عز الدين ميرغني أن الكتاب السودانيين تجاوزوا سقف الطيب صالح ولم يصبح عقدة عندهم، لذا فرؤية الأمر على حقيقته تفضي إلى نتيجة جليّة: إن الطيب صالح عقدة لدى بعض الكتاب، وهؤلاء من ينتجون المقولات ويشجعون الكتابة داخل جلباب الطيب صالح!
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التیار الجدید محمد الطیب برکة ساکن الذی ی صالح ا
إقرأ أيضاً:
الرواية.. بين الانتصار للحقوق وإملاءات الجوائز
لا تزال الساحة الثقافـية بين ضفتي المتوسط مشغولة بقضية الكاتب الفرنسي الجنسية الجزائري الأصل كمال داود، الحائز مؤخرا على جائزة «غونكور» الفرنسية، التي لا تتجاوز قيمتها المالية أكثر من عشرة يورو، ولكن للجائزة قيمة معنوية تمنح الرواية الفائزة شهرة واسعة فـي البلدان ذات الثقافة الفرنكوفونية، التي تُعد هذه الجائزة إحدى قواها الناعمة والمغرية للكُتّاب بلغة فولتير، مع أن هذه الجوائز تُخضِع الأدب القادم من العالم الثالث لمواصفات وشروط الذائقة الأوروبية والفرنسية على وجه التحديد، كما ذكر ذلك الكاتب الفرنسي جان ــ لو أمسيل فـي كتابه «اختلاق الساحل» الذي راجعه الكاتب بابا ولد حرمه ونشره فـي الموقع الإلكتروني لمركز الجزيرة للدراسات. ويرى الكاتب بأن ذلك الإبداع يستجيب «لشروط وهياكل مسبقة شيدتها فرنسا عبر شبكات تعاونها المتمثل فـي المراكز الثقافـية ووسائل الإعلام والجوائز الأدبية ودور النشر التي تخصص حيزاً كبيراً من جهودها لما يبدعه كتاب ومثقفون ومفكرون ذوو علاقات وطيدة مع النخب الثقافـية والعلمية فـي باريس». وقد عنون الكاتب الفصل الثاني من الكتاب « توطين المثقف الناطق بالفرنسية فـي الساحل» حيث ذكر المؤلف بأن « فرنسا تقتات ثقافـيا على إبداعات وطاقات أبناء القارة السمراء الطافحة بالوعود والحياة» ويتطرق المؤلف إلى تتبع خيوط الروايات الحائزة على الجوائز الأدبية وخاصة جائزة «غونكور» المهتمة بالأعمال المناهضة «للإسلاموية أو الرُهاب من الإسلام وما تخلفه هذه الأعمال من صدى، وما يُـذرف من دموع فـي أرجاء فرنسا حسرة وأسى على مصائر شخوصها من ضحايا الأبوية و«الإسلاموية» والتطرف المناقض للقيم الإفريقية «الأصيلة السمحاء».
هكذا إذن يُقيّم المثقف الأوروبي للجوائز الأدبية التي تمنحها الدول الاستعمارية لمستوطناتها القديمة، ويذُكرنا ذلك بالمثل الإنجليزي القائل «من يدفع للزمار يختار اللحن». فالجوائز الأدبية التي تُمنح الشُهرة للعمل الأدبي، قد تؤثر على المواضيع التي يتناولها الأدب ويُتهم كتابها بالسعي إلى الشهرة على حساب القيم الوطنية والنيل من مكانة الدولة، مع العلم بأن الكتابة التي تدين العنف وتفضحه وتعريه هي كتابة مرحب بها، نظرا لأن وظيفة الأدب ليست المؤانسة والإمتاع، وإنما وسيلة من وسائل الانتصار للمظلوم ورفع الضيم عنه، ولكن للأسف يتم أحيانا توظيف الكتابة لأجندة سياسية قذرة تُستغل وتتحول إلى وسائل ابتزاز وضغط على بعض الدول، وهذا أحد أسباب الجدال «حسب رأيي» حول رواية حوريات، التي منحها محكمو الجائزة ستة أصوات من أصل عشرة للجنة التحكيم.
وبصرف النظر عن مواقف الكاتب كمال داود من القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا، فإنه لا يجوز محاكمة الكُتاب على أفكارهم شريطة ألا تتحول الكتابة إلى كآبة يتضرر منها آخرون كحال الشابة الجزائرية سعادة عربان (30 عاما) التي أفشت طبيبتها النفسية أسرارها لزوجها الكاتب كمال داوود وحكت الرواية قصتها الحقيقية، فأصبحت سعادة ضحية مرتين. مع التأكيد على أننا لم نكن لنعرف مأساة سعادة لولا رواية حوريات، كما لم نتعرف على مقتل الشاعرة الأفغانية ناديا انجومان التي قتلها زوجها عام 2005، لولا رواية حجر الصبر للكاتب الأفغاني عتيق رحيمي، الذي كشف المعاناة التي تتعرض لها المرأة فـي أفغانستان تحت حكم سلطات قامعة لكل حق فـي الحرية. وهنا تكمن سلطة الكتابة وسطوتها فـي التأثير على الرأي العام، وهنا لا بأس أن تتحول الرواية إلى ساحة جدال.
أما بخصوص الجوائز الثقافـية الغربية فتُعد المأساة الفلسطينية محكا لها وللفاعلين الثقافـيين من كتاب وإعلاميين وأكاديميين، فإما الانتصار للعدالة الإنسانية أو الخضوع لأهواء اللوبيات الداعمة للكيان الصهيوني، والتي تمارس نفوذها فـي المؤسسات الثقافـية الغربية، وهنا نستذكر ونُذكّر بحادثة الكاتبة والروائية الفلسطينية عدنية شبلي التي ألغى معرض فرانكفورت للكتاب حفل منحها جائزة «ليبراتور»، بسبب أحداث السابع من أكتوبر. لذلك لا ننتظر من المحكمين لجائزة «غونكور» تتويج أي عمل أدبي يتناول القصص الإنسانية للإبادة الجماعية فـي فلسطين وجنوب لبنان، وغيرها من قصص ضحايا الحروب التي مارسها الغرب حديثا فـي المنطقة العربية.