اختتم رئيس مجلس النواب جلسة 2024/07/23 التي صادق فيها هذا المجلس على مشروع قانون المسطرة المدنية بكلمة وجهها للسادة النواب الذين حضروا تلك الجلسة إذ قال فيها  » لقد صنعتم التاريخ ».

بالفعل لقد تم صنع التاريخ 1- بتصويت مجلس النواب على مادة لم تعرض لا على مكتب المجلس ولا على لجنة العدل. 2 بالتصويت على مقتضيات تخرق الدستور.

وتخالف القوانين التنظيمية. وتتعارض مع قوانين سارية المفعول.

ويتعلق الأمر بمصادقة مجلس النواب على مادة تحت تحمل رقم 17 تتضمن مقتضيات تشريعية لم تعرض لا على مكتب مجلس النواب ولا على لجنة العدل والتشريع.

من المعلوم أن مقتضيات المادة 17 التي تضمنها مشروع قانون المسطرة المدنية والذي قدم المكتب مجلس النواب وعرض ونوقش أمام لجنة العدل والتشريع قررت هذه اللجنة بجميع أعضائها معارضة وأغلبية وحكومة حذف مقتضياتها من مشروع القانون.

وللتذكير فمشروع قانون المسطرة المدنية تضمن في المادة 17 منه مقتضيات اعطت للنيابة العامة الحق في أن تطلب التصريح ببطلان أي مقرر قضائي في أي قضية حتى ولو لم تكن طرفا فيها وبدون التقيد بأي أجل.

وبعد الانتقاد القوي الذي وجهت به تلك المادة بسب مخالفتها للدستور والمبادئ الأولية للقانون والمنطق العادي قررت لجنة العدل والتشريع حذفها من ذلك المشروع.

والمثير أن الحكومة نفسها قبلت ووافقت على حذف مقتضيات المادة 17 في إجماع فريد جمع كل من المعارضة والاغلبية والحكومة.

وقرار لجنة العدل والتشريع هذا أدى إلى إحالة مشروع قانون المسطرة المدنية على مجلس النواب بدون مقتضيات المادة 17 أي أن تلك المقتضيات لم يبق لها أي وجود لا فعلي ولا قانوني.

غير أن الجميع فوجئ بكون الحكومة تبعث برسالة الى رئيس مجلس النواب تحمل في موضوعها عبارة تعديل للمادة 17 من قانون المسطرة المدنية، مع أن المادة 17 لم تبق موجودة، وهو ما وعت به الحكومة.

وإن أي مطلع على ما سمي ب تعديل المادة 17 سيلاحظ بدون عناء كبير بل وحتى بدون ان يكون متخصصا في عملية التشريع أن رسالة الحكومة حملت الى الجلسة العامة مقتضيات جديدة لا علاقة لها بالمقتضيات التي كانت تنص عليها المادة 17 من المشروع أي ليست تعديلا للمادة 17 الأصلية التي حذفت.

هذه المقتضيات الجديدة كتبت على الشكل التالي:

يمكن للنيابة العامة المختصة وإن لم تكن طرفا في الدعوى ودون التقييد بأجال الطعن المنصوص عليها في المادة السابقة أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام.
يتم الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، بناء على امر كتابي يصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض تلقائيا أو بناء على إحالة من رئيس المنتدب للمجلس الأولى للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا غير أن هذه المقتضيات الجديدة تثير الملاحظات التالية:

حول خرق الحكومة للدستور

كما سبق لي أن كتبت في مقالات أخرى أو عبرت عليه في ندوات أخرى أن الدستور لم يمنح لأي حكومة ورقة بيضاء تشرع في حقوق واموال واعراض المواطنين كما تريد. كيف ما كانت عدد المقاعد التي تكون قد حصلت عنها في الانتخابات

وانه لهذا السبب أوجب الدستور على الحكومة وعلى البرلمان الخضوع المسطرة خاصة يجب احترامها لتقديم أي مشروع المقتضى له طبيعة قانونية، سواء تعلق الأمر بمشروع مقتضيات مكون من مئات المواد او مشروع مقتضيات لمادة واحدة. إذ العبرة ليست بتعدد المواد بل العبرة بالمقتضيات التي تتضمنها المواد وهي المواد التي تحمل رقما لترتيبها.

وهذه المسطرة لم ينص عليها في قانون عادي ولا في نظام داخلي ولا في قانون تنظيمي بل نص عليها في صلب الدستور.

هذه المسطرة الدستورية تلزم الحكومة بأن لا تعرض أي مقتضى قانوني على مجلس النواب مباشرة. وانما يجب عليها ان تعرضه أولا على مكتب المجلس. وذلك طبقا للفقرة الثانية من الفصل 78 من الدستور التي تنص على ما يلي:

لرئيس الحكومة والأعضاء البرلمان على السواء حق التقدم باقتراح القوانين. تودع مشاريع القوانين بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، غير أن مشاريع القوانين المتعلقة على وجه الخصوص، بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين.

كما الزم الدستور الحكومة والبرلمان وبعد أن تحال مشاريع القوانين على مكتب المجلس الزمهم بأن تحال تلك المشاريع على اللجن. وذلك وفقا لأحكام الفصل 80 الذي ينص على ما يلي:

تحال مشاريع ومقترحات القوانين لأجل النظر فيها على اللجان التي يستمر عملها خلال الفترات
الفاصلة بين الدورات.

غير انه بالرجوع الى مقتضيات الجديدة التي أعطت لها الحكومة رقم المادة 17، والتي صوت عليها مجلس النواب نجد انها:

1- لم تعرض على مكتب المجلس.

-2- لم تعرض على لجنة العدل ولم تناقشها ولم تصوت عليها.

وانه لا يمكن ان يرد على الاخلال بكون مشروع المسطرة عرض على مكتب المجلس وعلى لجنة العدل، وذلك لسبب بسيط وهو أن لجنة العدل عندما عرضت عليها المادة 17 مع مشروع قانون المسطرة المدنية، وتداولت بشأنها قررت حذف مقتضيات المادة 17 من المشروع بإجماع أعضائها أي معارضة واغلبية وكذا الحكومة.

وانه مما يؤكد أن الدستور يلزم بان يسلك كل تعديل لأي مقتضيات قانونية لنفس المسطرة المشار اليها أعلاه، واعتبار ان كل تعديل لم يعرض على اللجنة هو غير مقبول. وهو ما ينص عليه الفصل 82 في الفقرة الأولى منه التي نصت على عدم إمكانية مناقشة أي تعديل لم يعرض على اللجنة اذ نصت تلك الفقرة على ما يلي:

لأعضاء مجلسي البرلمان والحكومة حق التعديل، وللحكومة، بعد افتتاح المناقشة، أن تعارض في
بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر.

وبالفعل، فإن الفقرة الأولى من المادة 17 الجديدة تعطي للنيابة العامة الحق أن تطلب التصريح ببطلان كل مقرر قضائي من شأنه مخالفة النظام العام. بينما الفقرة الثانية تتكلم على شيء آخر غير النظام العام، وهو أن النيابة العامة أو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية من حق كل منهما أن يطلب التصريح ببطلان حكم بسبب الخطأ الجسيم الذي ارتكبه القاضي.
////

وهكذا عندما أقول بان المادة 17 الجديدة والمقدمة للبرلمان ليست هي المادة 17 التي ناقشتها لجنة العدل وقررت حذفها، فإن ذلك القول صحيح لأن المادة 17 الأصلية التي حذفتها لجنة العدل والتشريع لم تكن تنص على حق النيابة العامة في طلب بطلان مقرر قضائي بسبب الخطأ الجسيم الذي يرتكبه القاضي، ولم تكن تنص على ما من شانه أن يخالف النظام العام.

جول توسيع مجال تدخل النيابة العامة

يتبين من المادة 17 الجديدة أنها حافظت على حق النيابة العامة في المطالبة بالتصريح ببطلان أي مقرر قضائي التي كانت تنص عليه المادة 17 الأصلية قبل حذفها من طرف لجنة العدل والتشريع.

لكن المادة 17 الجديد اضافت شيئا جديدا وهو أن حق النيابة العامة في التقدم بطلب التصريح ببطلان حكم لم يبق يقتصر على المقررات القضائية التي خالفت النظام العام بل منحت للنيابة العامة نفس الحق حتى بالنسبة للمقررات القضائية التي من شأنها أن تخالف النظام العام.
وأن هذه الصيغة تفرض وضع السؤال حوال من هي الجهة التي ستتنبأ بكون مقرر قضائي سيخالف النظام العام مع انه قد يصدره قاضي فرد أو 3 قضاة أو غرفة أو مجموع غرف محكمة النقض.

إن ذلك المقرر أحدث مراكز قانونية لأطراف الدعوى ولكل المتدخلين الآخرين. وهنا تصطدم المادة 17 الجديدة مع الشروط الأولى لصياغة قاعدة قانونية كما هي متعارف عليها دوليا.

كما أن صياغة المادة 17 الجديدة تتوجه للقاضي وتقول له ان الحكم الذي ستصدره قد يكون مقررا قضائيا من شأنه مخالفة النظام العام. وقد لا يكون من شأنه مخالفة النظام العام. أي أن النيابة
العامة هي التي ستقرر فيما بعد ذلك.

حول الجهة المستند لها تحديد حالة النظام العام

بالرجوع الى المادة 17 الجديدة تبين منها انها أسندت هذه المهمة للنيابة العامة. لكنها أضافت لها
المختصة، وهو ما يدفع إلى تساؤل أول وهو: هل توجد نيابة عامة غير مختصة. أما التساؤل الثاني هو أن صياغة المادة 17 لم تلزم النيابة العامة بالمطالبة بالتصريح ببطلان مقرر حتى لو كان المقرر القضائي قد خالف النظام العام فعلا مادام المادة 17 الجديدة بدأت بأول من شأنه مخالفة النظام العام، بل اعطتها إمكانية في ذلك. أي إن ارادت أن تطلب التصريح ببطلان حكم من شأنه مخالفة النظام العام فلها ذلك، وان ارادت ان لا تقدم ذلك الطلب فلا أحد يلزمها به مادامت المادة 17 بدأت بكلمة ويمكن للنيابة العامة …..

لكن المادة طلبت من النيابة العامة المختصة أن لا تقوم بأي مبادرة منها أي لا يمكن لوكيل الملك مثلا في وجدة أو أي مدينة أخرى أن يتقدم بطلب تلقائيا من أجل بطلان مقرر قضائي. بل لابد ان
يتوصل بأمر من الوكيل العام المحكمة النقض.

وانه من الضروري وضع السؤال لماذا استعملت المادة 17 الجديدة صيغة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض. ولم تستعمل صيغة  » رئيس النيابة العامة  » . ما دام القانون 17-33 المتعلق بنقل اختصاصات وزير العدل استعمل صيغة الوكيل العام لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة
العامة.

هذه الملاحظة ليست لعب بالكلمات بل هي حقيقة قانونية اذ ان الذي حل محل وزير العدل في الاشراف والمراقبة وممارسة السلطة على جميع قضاة النيابة العامة هو رئيس النيابة العامة. وذلك
وفقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة الأولى من قانون 17-33 المشار اليه أعلاه.

حول مأسسة إعطاء التعليمات للقضاء الحكم

إن المادة 17 الجديدة لم تتوقف عند الوكيل العام وتمكينه من اصدار الأمر للنيابة العامة لتقدم طلب التصريح ببطلان حكم قضائي بل أعطت هذا الحق كذلك للرئيس المنتدب للسلطة القضائية في حالة ثبوت خطأ جسيم أضر بحقوق أحد الأطراف.

إن محرر هذه الصياغة لم ينتبه إلى انه يكتب قاعدة قانونية تؤسس لإعطاء التعليمات لقضاء الحكم من طرف الرئيس المنتدب الذي هو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يتكلف بتأديب وترقية القاضي الذي سيبت في طلب التصريح بطلان حكمه.

فكيف تصاغ قاعدة قانونية تقول بأن الرئيس المنتدب من حقه أن يطلب من قاضي حكم بان يبطل حكمه الذي سبق له ان أصدره لكون حكم من شأنه أن يخالف النظام العام.

كما أن محرر المادة 17 الجديدة لم يوضح لمن يتوجه بجملة بناء على إحالة من الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية هل الإحالة تتوجه للمحكمة مصدر المقرر ام تتوجه للنيابة العامة.

ذلك أنه إذا كانت كلمة (إحالة (….) تتوجه للنيابة العامة فإن ذلك يخرق الفصل 25 من القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاء الذي يجعل النيابة العامة تتلقى التعليمات من رئيس النيابة العامة وحده. وليس من الرئيس المنتدب للسلطة القضائية.

وإذا كانت كلمة (إحالة … تتوجه إلى المحكمة المصدرة للمقرر الذي سيطلب الرئيس المنتدب التصريح بطلائه فإن الأمر سيعتبر إعطاء تعليمات من الرئيس المنتدب الى قاضي الحكم وهو ما يشكل تدخلا واضحا في استقلال قاضي الحكم.

حول التنقيص من قيمة قاضي الحكم

يتبين من صياغة المادة 17 الجديدة أنها حددت الجهة التي سيعرض عليها طلب التصريح ببطلان الحكم وعينتها بكونها هي المحكمة مصدر القرار المطلوب التصريح ببطلانه. أي أن القاضي او القضاة أو غرفة بمحكمة النقض او كل غرف محكمة النقض سيطلب منها أن تقضي ببطلان قرارها الذي أصدرته.

حول الدخيل غير المعروف الهوية

أصرت الحكومة على الإبقاء على مؤسسة جديدة اعطتها اسم الوكيل الذي لا يتمتع بحكم مهنته بحق التمثيل أمام القضاء)، ونصت عليه في المادة 79 من مشروع قانون المسطرة المدنية بدون
أن تعطي أي تفسير حول من هو الشخص ومن سيعينه ولا القانون الذي سيخضع له.

وانه لا يرد على هذا التساؤل بكون الأمر يتعلق بالزوج أو الصهر لسبب بسيط وهو ان هؤلاء الوكلاء الذين هم من عائلة المدعي نصت عليهم نفس المادة 79 في الفقرة الأولى منها.
بينما خصصت نفس المادة الفقرة الثانية لهذا الدخيل على المحكمة.
كما أن الفقرة الثانية من المادة 79 سهلت على أي كان وبدون أي تحديد او مواصفات أن يحضر
للمحكمة ويدعى بانه ينوب على مدعي، ويقدم المقال باسمه ويحضر الجلسات ويرافع أمام المحكمة ولا يكون ملزما إلا بتصريح شفوي يدلي به امام المحكمة.
بينما المحامي يجب ان يتوفر على شهادات علمية. وان يجتاز الامتحان بنجاح. وان يقضي فترة للتمرين. وأن لا يتجاوز سنه عمرا معينا. وان يلتزم بالضوابط المهنية وغيرها من الالتزامات.
وهذا الدخيل سنجده في كل المواد التي ينص عليها مشروع المسطرة المدنية.

لهذا اعيد طلب ضرورة تدخل رئيس الحكومة باعتباره رئيس الأغلبية لكي يتم إعادة حذف المادة 17 الجديدة كما حذفت لجنة العدل والتشريع المادة 17 الاصلية. ويتم حذف ما يسمى بالوكيل لكون هذه الفكرة هي دخيلة على قانون المسطرة المدنية. ويتم حذف كل المواد التي تمنع المواطن من حقه في للولوج المستنير للعدالة. وتلك التي تمس مبدا المساواة بين المواطنين فيما بينهم. وبينهم وبين الإدارة
العمومية بجميع اشكالها. وللحديث بقية..

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: مشروع قانون المسطرة المدنیة لجنة العدل والتشریع للسلطة القضائیة على مکتب المجلس النیابة العامة للنیابة العامة الفقرة الثانیة الرئیس المنتدب على لجنة العدل الوکیل العام رئیس المنتدب محکمة النقض مجلس النواب من المادة مکتب مجلس الأولى من لم تعرض وهو ما على ما لا على لم تکن

إقرأ أيضاً:

ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟

تتسم المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا الجديدة بنهج عدائي شديد الوضوح، فقد نظرت القيادة الإسرائيلية إلى التحولات الجيوسياسية الناشئة كتهديد للأمن القومي الإسرائيلي، حيث شرعت منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد بشن سلسلة من الاعتداءات والغارات الجوية وقامت بتوغلات برية أسفرت عن ضم واحتلال مزيد من الأراضي السورية. وقد أعلنت إسرائيل دون لبس أو مواربة عن عدائها للقيادة السورية الجديدة، وكشفت عن رغبتها وعزمها على إبقاء سوريا دولة هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية. وعبّرت إسرائيل بجلاء عن قلقها وخوفها من تنامي النفوذ التركي المتصاعد، وأكدت على خوفها وخشيتها من عودة وإحياء الإسلام السياسي السني الذي بات يسيطر على دمشق، وأثره وتداعياته على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

شكّل سقوط نظام آل الأسد الوحشي الطائفي في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، على يد فصائل المعارضة المسلحة بقيادة "هيئة تحرير الشام" في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، مفاجأة غير سارة للكيان الإسرائيلي، لكنه كان خبرا سعيدا لتركيا، ففي الوقت الذي تريد تركيا أن تكون سوريا الجديدة دولة ناجحة، ترغب إسرائيل بوجود دولة سورية جديدة فاشلة، ولذلك سارعت إسرائيل بالتزامن مع سقوط نظام الأسد، بشن سلسلة من الهجمات، ولم تكتف تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الإستراتيجية ومراكز البحث العلمي والتصنيع العسكري.

انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت
ورغم أن تركيا وإسرائيل استفادتا بشكل كبير من تفكك المحور الذي تقوده إيران، وخاصة في سوريا، لكن تركيا كانت الرابح الأكبر، بينما تضاربت المشاعر الإسرائيلية وأفضت إلى نشوة مؤقتة أعقبها قلق دائم، فالعداء بين إسرائيل وتركيا لا يقارن بالصراع الطويل والدموي بين إسرائيل وإيران ووكلائها، والتحديات التي تواجه العلاقات التركية الإسرائيلية في الشرق الأوسط بعد الأسد تشير إلى تشكل منعطف حاسم في الجغرافيا السياسية الإقليمية، الأمر الذي يغير بصورة جذرية الديناميكيات التي طبعت العلاقات التاريخية بين تركيا وإسرائيل، والتي تأرجحت بين نسق من التحالفات البراغماتية والانقسامات الأيديولوجية، وقد أدى زوال عدوهما المشترك في سوريا إلى تحول في توازن القوى الإقليمي، وهو ما خلق تحديات جديدة وأخل بمرونة علاقاتهما الهشة.

إن انهيار "محور المقاومة" الذي تقوده إيران في سوريا، وانكفاء نفوذه الإقليمي وتراجع مشروعه الطموح الذي كان يمتد من إيران والعراق عبر سوريا إلى لبنان حزب الله، مثّل نعمة أمنية آنية بالنسبة لإسرائيل، فسرعان ما شعرت إسرائيل بالقلق من أن المحور الإسلامي السُنّي الجديد بقيادة تركيا قد يصبح خطيرا بنفس القدر، وربما يتفوق على الخطر الإيراني مع مرور الوقت، فالدعم التركي العلني الذي يقدمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأعداء إسرائيل وفي مقدمتهم حركة حماس، قد يتطور إلى آفاق بعيدة.

وبحسب تقرير لجنة "جاكوب ناجل" بشأن ميزانية الدفاع الإسرائيلية، الذي نُشر في السادس من كانون الثاني/ يناير 2025، فإن طموحات تركيا إلى "إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق" تشكل تحديا أمنيا ملحا، وقد أوصت اللجنة في تقريرها إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بالاستعداد لحرب محتملة مع تركيا، في ضوء مخاوف متزايدة لدى تل أبيب من تحالف أنقرة مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط نظام بشار الأسد. ونبهت اللجنة في تقريرها إلى خطر التحالف السوري التركي، الذي ربما "يخلق تهديدا جديدا وكبيرا لأمن إسرائيل"، وقد يتطور إلى شيء "أكثر خطورة من التهديد الإيراني"، وفقا للجنة التي تم تشكيلها عام 2023، قبل بدء الحرب على غزة، لتقديم توصيات لوزارة الدفاع الإسرائيلية بشأن مواطن الصراع المحتملة التي تواجهها إسرائيل في السنوات المقبلة، ويترأس اللجنة يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي.

إن التهديد الذي تشكله تركيا لإسرائيل يشكل تحديا جديا كبيرا لأمن إسرائيل في ضوء التحولات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، وهو تحد بالغ الخطورة بالنسبة لإسرائيل، إذ يعد الجيش التركي أحد أكبر الجيوش وأكثرها قوة في الشرق الأوسط، ويتألف الجيش التركي من 425 ألف جندي نشط و380 ألف جندي احتياطي. ووفقا لمصادر أمنية، فإن النفوذ المتزايد لتركيا في سوريا كقوة مهيمنة يستلزم دراسة جدية لقدراتها العسكرية، وتشكل المليشيات العسكرية الموالية لتركيا في سوريا، مثل "الجيش الوطني السوري"، تهديدا محتملا لإسرائيل، وخاصة على طول الحدود السورية الإسرائيلية. ويمكن للرئيس أردوغان أيضا الاستفادة من مجموعات مثل هيئة تحرير الشام بقيادة الرئيس الحالي أحمد الشرع ضد إسرائيل.

وقد أعلن الجولاني، في السابق ذات مرة أنه "بعون الله، لن نصل إلى دمشق فحسب؛ بل إن القدس تنتظرنا". وكان أردوغان قد أصدر تهديدات مباشرة لإسرائيل، ففي 28 تموز/ يوليو 2024، صرح في مؤتمر لحزب العدالة والتنمية بالقول: "كما دخلنا قره باغ وليبيا، سنفعل الشيء نفسه مع إسرائيل".

إن السيناريو الإسرائيلي المفضل في سوريا هو التفتيت والتقسيم وخلق كيانات هشة ضعيفة على أسس عرقية ومذهبية، وهي الطريقة الوحيدة التي تجعل من إسرائيل دولة طبيعية في المنطقة من خلال كيانها اليهودي العنصري. ففي سوريا تتحقق رؤيتها من خلال تأسيس دويلات هشة وضعيفة على أسس عرقية إثنية ومذهبية دينية، وهي ذات الرؤية الاستعمارية التقليدية، فأُمنية "إسرائيل" هي رؤية سوريا مقسمة إلى بضعة جيوب؛ الأكراد في الشمال الشرقي، والدروز في الجنوب، والعلويون في الغرب.

وكانت وكالة رويترز كشفت نقلا عن أربعة مصادر مطلعة أن إسرائيل تسعى للضغط على الولايات المتحدة من أجل بقاء سوريا ضعيفة ومفككة ودون سلطة مركزية قوية، بما في ذلك السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية لمواجهة ما سمته النفوذ التركي المتزايد في البلاد. وأضافت المصادر أن إسرائيل أبلغت واشنطن أن من سمتهم الحكام الإسلاميين الجدد في سوريا، المدعومين من أنقرة، يشكلون تهديدا لحدودها. ووفقا لرويترز، فقد ذكرت ثلاثة مصادر أميركية أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ إزاء الدور الذي تلعبه تركيا كحليف للإدارة السورية الجديدة.

في هذا السياق أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وأكد نتنياهو على أن إسرائيل "لن تتسامح مع أي تهديد للطائفة الدرزية" في المنطقة. وتزامنت هذه التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود الإدارية بين المحافظتين.

وقال وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس في بيان إن الهجمات "جزء من السياسة الجديدة التي حددناها لإخلاء جنوب سوريا من السلاح، والرسالة واضحة: لن نسمح لجنوب سوريا أن يصبح جنوب لبنان".

وعقب حالة التوتر في الأول من آذار/ مارس 2025، جراء اشتباكات بين عناصر أمن تابعين للسلطة السورية الجديدة ومسلحين محليين دروز في ضاحية جرمانا قرب دمشق، أسفرت عن مقتل شخص وإصابة تسعة آخرين بجروح، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس تعليمات للقوات الإسرائيلية "بالاستعداد للدفاع" عن مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، وقال بيان صادر عن مكتب كاتس إن المدينة "تتعرض حاليا لهجوم من قبل قوات النظام السوري"، وقال كاتس: "لن نسمح للنظام الإسلامي المتطرف في سوريا بإيذاء الدروز. إذا آذى النظام الدروز، فسوف نضربه". وأضاف: "نحن ملتزمون تجاه إخواننا الدروز في إسرائيل ببذل كل ما في وسعنا لمنع إيذاء إخوانهم الدروز في سوريا، وسنتخذ كل الخطوات اللازمة للحفاظ على سلامتهم".

تستند إسرائيل في سياساتها العدوانية في سوريا إلى دعم أمريكي عسكري وسياسي مطلق، فما تقرره القيادة الإسرائيلية كضرورة للحفاظ على أمنها القومي تصادق عليه الإدارة الأمريكية، وتعتبر واشنطن ممارسات إسرائيل العدوانية بداهة استراتيجية من باب حق الدفاع عن النفس، فالمستعمرة الاستيطانية الصهيونية حجر الزاوية الأساس في مشروع الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، والاشتراطات الأمريكية على القيادة السورية الجديدة هو الالتزام بأمن إسرائيل ومحاربة أي مجموعة أو كيانات تناهض إسرائيل، وهو ما عبرت عنه واشنطن بوضوح، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية هي جوهر البحث والمداولة. فقد قالت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف عقب اللقاء:سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر إن أبو محمد الجولاني التزم خلال الاجتماع في دمشق بعدم السماح للجماعات الإرهابية بالعمل في سوريا وتهديد الولايات المتحدة والدول المجاورة (إسرائيل)، فالولايات المتحدة على مدى عقود، ترتكز في مقاربتها للمنطقة على ضرورة مكافحة الإرهاب (الإسلامي) وضمان أمن إسرائيل (الصهيوني).

خلاصة القول أن سوريا الجديدة سوف تبقى تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها الولايات المتحدة دون قيود، وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وتستند إلى مقاربة استعمارية تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية العرقية والدينية الطائفية. فوجود كيان حكم سني يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى تنامي النفوذ التركي المتصاعد، ويشير إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة.

ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية. ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، ولذلك فإن أولوية سوريا الجديدة هي تعزيز روابط التحالف مع تركيا، والعمل بجد على تأسيس جيش موحد قوي، وإخضاع كافة النزعات الانفصالية. فالرد على الكيان الاستعماري الإسرائيلي يجب أن يكون داخليا أولا باتخاذ قرارات وإجراءات قانونية وعسكرية وسياسية حاسمة تجاه المكونات الانفصالية؛ بدءا بقوات سوريا الديمقراطية ثم الانعطاف إلى بقية الكيانات الموازية.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • في الحاجة إلى تكريس الشرعية الدستورية في المجال السياسي العربي
  • النيابة العامة تُجري تفتيشًا لقسم شرطة ثالث أكتوبر
  • ‏النيابة العامة تُجري تفتيشًا لقسم شرطة ثالث أكتوبر.. صور
  • هل تعيد سياسة أمريكا غير المعترفة بالقانون تشكيل النظام العالمي؟
  • بِحُجة الظلم الذي تتعرض له إسرائيل .. تل أبيب وواشنطن تدرسان رسميًا الانسحاب من محكمة العدل الدولية
  • حفل الأوسكار 2025: مورغان فريمان يكرّم الراحل جين هاكمان الذي فارق الحياة بطريقة غامضة
  • ما الذي تريده إسرائيل من سوريا الجديدة؟
  • «العدل للدراسات الاقتصادية»: حزمة الحماية الاجتماعية الجديدة تشمل جميع مناحي الحياة «فيديو»
  • "العدل للدراسات الاقتصادية": حزمة الحماية الاجتماعية الجديدة تشمل جميع مناحي الحياة
  • العدل للدراسات الاقتصادية: حزمة الحماية الاجتماعية الجديدة تشمل جميع مناحي الحياة