إيهاب الملاح

أخبار ذات صلة هنادي مهنا تبحث عن «الماموث المنقرض»

(1)
هذا الكتاب، «الخيال العلمي العربي» للمؤلف الإنجليزي يان كامبل، ومن ترجمة أحمد سمير سعد، الصادر أخيراً عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، ويقع في 300 صفحة من القطع المتوسط، يعد في نظري واحداً من أهم المراجع عن أدب الخيال العلمي «العربي» في القرن العشرين.


في حدود بحثي وقراءاتي في هذه الدائرة، باستثناء مجموعة الدراسات والفصول والمقالات التي كتبها المرحوم يوسف الشاروني، وجمعها بين دفتي كتاب بعنوان «الخيال العلمي في الأدب العربي»، لم أقرأ كتاباً واحداً بهذا العمق والشمول والإحاطة والانضباط المنهجي.
يمثل الكتاب موسوعة ثرية بكل ما تعنيه الكلمة، وللأسف فإن هذه الإحاطة وهذا الاستقصاء المدهش لنصوص أدب الخيال العلمي في الثقافة العربية، وخصائصه السردية وتكويناته الجمالية، ونماذجه (المشهور منها وغير المشهور على السواء)، كل ذلك تعرَّض له مؤلف الكتاب «الأجنبي»، ولا أعلم إن كان هناك باحثون أو نقاد عرب قد تصدوا لدراسة الموضوع بهذا الشكل الكلي والشامل أم لا!

(2)
من البداية، يؤطر مؤلف الكتاب عمله منهجياً ونظرياً، ويشير إلى أنه يستهدف بدراسته هذه ثلاث فئات أو ثلاثة أنواع من الجمهور المستهدف، النوع الأول: هم دارسو الخيال العلمي الذين لا يستطيعون قراءة العربية، لكنهم مهتمون بالكيفية التي يتجلى بها «الخيال العلمي» في العربية، ومنشغلون بالتساؤل عن مجازاته الأولية واهتماماته، خاصة بالدرجة التي يختلف بها عن النماذج المعيارية للخيال العلمي الأنجلو أميركي أو بالدرجة التي يطرح بها نقداً ضمنياً لها.
النوع الثاني: هم دارسو الأدب العربي الضليعون في تحليل الإبداع الحكائي الأدبي المعترف به الذي هيمن على الخطاب عن الأدب العربي لوقتٍ طويل جداً، والذين يرغبون في فهم ما هو أكثر عن الخيال العلمي العربي - باعتباره جزءاً من الاهتمام النقدي الجديد نسبياً بالنوع الإبداعي - كما يرغبون في فهم ما هو أكثر عن تطورات نظرية ونقد الخيال العلمي في الإنجليزية، واللغات الأخرى. أما النوع الثالث الذي سعت الدراسة إلى البرهنة على حضوره ووجوده، فهم دارسو أدب ما بعد الكولونيالية، ونظريته كذلك، لأن الخيال العلمي العربي من خلال التعريف الذي تبناه المؤلف هو «أدب ما بعد كولونيالي»، لكنه يختلف عن أغلب الأعمال المدروسة باعتبارها أدب ما بعد كولونيالي، ليس لأنه مكتوب بالعربية بدلاً من أن يكون مكتوباً باللغة الكولونيالية مثل الفرنسية أو الإنجليزية فقط، لكن لأنه لا يميل كذلك إلى إسباغ اهتمام مفرط على أسئلة «الهوية».
ومن هنا سيكون تركيز الدراسة على قراءات مدققة لبعض الأعمال الكبرى في الفترة الأولى للخيال العلمي العربي، وبشكلٍ خاص في ضوء النظرية التي بدأ الباحثون العرب في الأدب العربي و«الخيال العلمي العربي» في تطويرها عن الموضوع.
إذا كان لهذه الدراسة، بحسب مؤلفها يان كامبل، أن تقوم بإسهام معرفي أصلي، فمن المأمول أن تمكن دارسي الخيال العلمي، ودارسي الأدب العربي، ودارسي أدب ونظرية ما بعد الكولونيالية من دمج محتوى واهتمامات فترة تكوين الخيال العلمي العربي بأبحاثهم.

(3)
يستحق الكتاب وقفات طويلة ومتأنية، خصوصاً مع أهمية النماذج النصية التي أوردها المؤلف وتوقف عندها تفصيلاً، ويكفي أنه توقف إزاء رائدين كبيرين من رواد هذه الكتابة في الأدب العربي، وهما:
الراحل نهاد شريف (1932-2011) الذي تعرفت على أعماله من طبعة الأعمال الكاملة في الهيئة العامة للكتاب، أواسط تسعينيات القرن الماضي، وقرأت فيها روايتيه الشهيرتين «الماسات الزيتونية» (صدرت للمرة الأولى عام 1979 عن دار المعارف بالقاهرة)، و«قاهر الزمن» (صدرت عن مؤسسة دار الهلال عام 1972، وتقع في 288 صفحة، وتحولت إلى فيلم سينمائي قام ببطولته نور الشريف، وأخرجه كمال الشيخ، عام 1987). أما الثاني فهو الكاتب الراحل صبري موسى الذي اشتهر بروايته «السيد من حقل السبانخ».
من مزايا هذا الكتاب أنه عرفني على نصوص تنتمي لدائرة أدب الخيال العلمي لكتاب عرب، غير مصريين، وأشار إلى نماذج مهمة لنصوص لم أكن أعرفها ولا سمعت بها من قبل (على سبيل المثال أعمال أحمد عبد السلام البقالي، وطالب عمران، وطيبة أحمد الإبراهيم).
ميزة أخرى أظنها جديرة بالتوقف عندها جيداً وهي الإشارات المهمة في البحث عن بذور أو جذور لأدب الخيال العلمي في نصوص التراث العربي، الكلاسيكية. 

(4)
ربما كنت أتمنى أن يتعرض الكتاب لأسماء أخرى حازت شهرة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، ونالت أعمالها في هذه الدائرة رواجاً غير مسبوق، مثل رؤوف وصفي، ونبيل فاروق، وأحمد خالد توفيق، وإن كنت أظن أنه لم يتوقف عندها لأسبابٍ تتعلق بالمحددات النظرية للنوع الأدبي (وهو أدب الخيال العلمي في حالتنا هذه)، كما عرض له في فصله النظري عن أدب الخيال العلمي العربي «التعاريف والجذور»، وربما لأنه استبعد من دائرة تحليلاته تلك الأعمال الموجهة للناشئة والشباب، وهي أقرب إلى دائرة «كتب الجيب» و«كتب الإثارة والتسلية» والكتب المغرية بالقراءة (خيالية مثيرة للتسلية في المقام الأول)، منها إلى دائرة أدب الخيال العلمي بمحدداته النظرية كما ذكرنا.
وتبقى كلمة عن الترجمة العربية للكتاب التي أنجزها أحمد سمير سعد، أحد نماذجنا المشرفة في النشاط العلمي، بالتأليف والترجمة على السواء، في العقد الأخير.
وأشرت قبل سنوات إلى نباهة هذا الشاب، وقدراته المعرفية والعلمية والترجمية العالية.. ويكفي للتدليل على هذا الجهد العظيم المبذول في الترجمة، ما أشار إليه المترجم في تصديره من سعيه لتوثيق كل النصوص التي أحال إليها المؤلف الإنجليزي في كتابه، والعودة إلى أصولها العربية، وله في ذلك حكايات وطرائف وحيل للوصول إلى هذه النصوص أو إلى أصحابها ومنهم إلى نصوصهم.
ولم تنته الترجمة - في نظره - إلا بتوثيق كامل الاقتباسات، ونقلها من مصادرها «العربية» الأصلية، كما رصد كيف ترجمها المؤلف يان كامبل وتعامل معها، مبيناً كيف أوردها في سياق بحثه، معها وبنى عليها استنتاجاته، كما أثبت في الهوامش ما تبين له خطأ المؤلف في فهمها أو حاد في تفسيرها عن الصواب المعقول.

(5)
في الأخير، فإن هذا الكتاب يستحق أن يُقرأ بعمق وتأمل، وأن تعرض أفكاره وتحليلاته على طاولة البحث والنقاش، إن اتفاقاً أو اختلافاً، لكن في النهاية وبالتأكيد سيثمر هذا النقاش عن قراءات معمقة وأفكار جديدة وملهمة، ولفت الأنظار إلى دوائر للإبداع والكتابة لم تحظ بما تستحقه من حضور وانتشار وأضواء مثل غيرها من أنواع وأشكال الكتابة الإبداعية «البينية»، كما هو الشأن في كل الثقافات واللغات الأخرى.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: المركز القومي للترجمة الخيال العلمي الخیال العلمی فی الأدب العربی

إقرأ أيضاً:

شكوكو.. الفنان ذو القبعة والجلباب الذي حظي باحترام الكتاب والمثقفين

في زمنٍ كانت فيه الفنون الشعبية في مصر تُمثّل نبض الشارع، سطع نجم محمود شكوكو الذي تحل اليوم ذكرى ميلاده، فنان المونولوجات والتمثيل الشعبي، ليغدو ظاهرة ثقافية لا تقل تأثيرًا عن كبار الأدباء والمفكرين في عصره، لم يكن مجرد مؤدٍ ساخر أو مطرب خفيف الظل، بل كان جسرًا بين الفن الشعبي والمثقفين، وعنوانًا لتلاقي الثقافة العالية بالوجدان الشعبي.

ولد محمود شكوكو في حي الدرب الأحمر عام 1912، وتدرّج من نجارة الموبيليا إلى خشبة المسرح، ثم إلى أفلام الأبيض والأسود، لكنه لم يقطع صلته يومًا بالناس البسطاء، وهو ما جعل المثقفين يرونه تجسيدًا حقيقيًا "لفن الشعب".

كانت علاقته بالوسط الثقافي المصري متينة ومميزة، فخلف قبعته الشهيرة وجلبابه البلدي كان هناك فنان يتمتع بذكاء فطري، جعله يحظى باحترام الكتاب والمثقفين، أُعجب به نجيب محفوظ الذي قال عنه: "شكوكو عبقري المونولوج الشعبي"، وكان توفيق الحكيم يشير إليه في بعض مقالاته بوصفه "صوتًا للفطرة المصرية"، لم تكن شهادات التقدير تأتيه من المؤسسات الرسمية فحسب، بل من جلسات الأدباء في مقهى ريش، ومن كتابات الصحفيين الكبار مثل أحمد بهاء الدين ومصطفى أمين.

لم يتوان شكوكو عن المزج بين فنه والحركة الثقافية؛ فشارك في أعمال فنية كانت في جوهرها نقدًا اجتماعيًا لاذعًا، واستخدم المونولوج كمنصة لطرح قضايا سياسية واقتصادية، بل وأخلاقية أحيانًا، وهو ما جذب انتباه المفكرين الذين رأوا فيه "فنانًا مثقفًا بالفطرة"، كما وصفه الدكتور لويس عوض.

كما كانت له علاقة وثيقة برجال المسرح والثقافة، أبرزهم زكي طليمات ويوسف وهبي، اللذين دعماه فنيًا في بداية مشواره المسرحي، ورأيا فيه طاقة إبداعية قابلة للتطوير، بعيدًا عن النمطية. حتى عندما دخل السينما، لم يفقد علاقته بالمثقفين، بل صار حضوره في الندوات والصالونات جزءًا من المشهد الثقافي، رغم اختلاف أدواته عن الآخرين.

ولعل واحدة من أبرز مظاهر علاقته بالمثقفين كانت "عروسة شكوكو"، التي ابتكرها بنفسه لتجسيد شخصية المواطن المصري البسيط، والتي أصبحت تيمة فنية أثارت اهتمام رسامي الكاريكاتير والكتّاب، بل كتب عنها صلاح جاهين نصًا في مجلة "صباح الخير"، معتبرًا إياها تجديدًا في خطاب الفنون الشعبية.

كما ساهم شكوكو في إطلاق فن "المنولوج السياسي" بشكل غير مباشر، ملهمًا أجيالًا من فناني الكلمة والغناء السياسي الساخر، مثل الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم لاحقًا.

ورغم ما حظي به من شهرة شعبية، إلا أن صلاته بالوسط الثقافي ظلّت أكثر عمقًا مما يظنه كثيرون، وظل اسمه يتردد حتى بعد رحيله عام 1985، باعتباره فنانًا شعبيًا مثقفًا بالفطرة، يستحق أن يُدرس كحالة نادرة في تاريخ الثقافة المصرية الحديثة.

طباعة شارك محمود شكوكو فنان المونولوجات التمثيل الشعبي ظاهرة ثقافية كبار الأدباء والمفكرين

مقالات مشابهة

  • هيئة الكتاب تُشعل المشهد الثقافي في 2025.. إصدارات تغوص في عمق التاريخ وتُعيد وهج الأدب
  • شكوكو.. الفنان ذو القبعة والجلباب الذي حظي باحترام الكتاب والمثقفين
  • ماذا بعد معرض الكتاب؟!
  • شاهد.. أول دراجة طائرة في العالم تُحوّل الخيال العلمي إلى حقيقة
  • ذكاء خارق في جيبك.. تعرف على أفضل هواتف 2025 بإمكانات أقرب إلى الخيال
  • هل نحتاج الكتاب اليوم؟
  • البلبيسي: بنك المعرفة المصري الدولي يؤسس لعصر جديد من البحث العلمي العربي
  • معرض الكتاب العربي العاشر في صور.. ثقافة تقاوم الدمار الإسرائيلي
  • مجانا حتى 4 مايو.. عرض أبو الأحلام في دنيا الخيال ضمن مسرح الطفل بشرم الشيخ
  • انطلاق فعاليات مؤتمر اليوم الواحد الأدبي بالغربية تحت شعار «الإبداع الأدبي بين الخيال والهوية»