أعداء الدولة اليمنية.. لماذا يتشاءمون من السلام..؟
تاريخ النشر: 18th, July 2024 GMT
كلّ شيء في عالم البشر يكاد يتحوّل لتجارة؛ يتغنّون بالحرب ويتاجرون بالحرب، يرفعون شعارات العدالة ويُتاجرون بالمظالم، يدّعون حرصهم على السيادة ويسعون لبسط نفوذهم على أراضي الأخرين، يعلنون احترامهم للدول المجاورة ويستبيحون مقدراتها في السرّ والعلن.. يصح هذا على أغلب دول العالم ذات الأطماع التوسعية، وهو أكثر صحة فيما يخص قضيّة اليمن وجيرانها الأثرياء.
دول منحتها الصُدّفة والأقدار فرصة لبناء مجتمعاتها ووفرت لها فائضا من القوة والمال؛ وما إن رأت جارتها الفقيرة تسقط في هاوية الحرب والتمزّق؛ حتى سارعت لاستغلالها وتعميق جراحها وعمل كل ما من شأنه إعاقة أي إمكانية لقيام دولة كانت وما زال اسمها "الجمهورية اليمنية". أتحدث عن الدولتين الخليجيتين السعودية والإمارات العربية المتحدّة. وفيما يلي سأشرح بشكل موجز كيف تتصرفان تجاه أي سلام محتمل في بلادنا.
ترغب السعودية بالسلام؛ لكنها لا تكترث لجوهر هذا السلام المزعوم. ما تُركّز عليه هو ضمان عدم تعرّضها لأي أذى من قِبل إيران أو الحوثيين باعتبارهم جماعة ضابط إيقاعها مرتبط بإيران، سواء أقرّوا بذلك أم لم يعترفوا. من الواضح أنّ السعودية لا تكترث بسلام حقيقي يضمن الوصول لصيغة سياسية تُفضي لدولة. لقد وضعت خيار الحرب جانبا؛إذا كانت السعودية لا تكترث لماهية السلام المأمول في اليمن، فإن حليفتها الإمارات لا تُلقي بالا لشأن اليمن كدولة وجغرافيا، وتتعامل معها كما لو كانت "تركة الرجل المريض"، وترى لنفسها الحق بأن تُعيد تشكيل خارطة اليمن والتلاعب بها بما يُحقق لها مصالحها ويضمن لها أكبر قدر ممكن من النفوذ وإرادة السطو واستغلال الطرف التاريخي لليمن؛ لكنها لم تملك رؤية واضحة للسلام، تماما مثلما دخلت في الحرب ولم يكن لديها أي تصوّر واضح له. هي الآن تُكرر نفس خطيئتها، وكأن عشر سنوات مهدورة من عمر اليمنيين لم تتعلم منها شيئا أو ربما لا تُريد أن تتعلم.
إذا كانت السعودية لا تكترث لماهية السلام المأمول في اليمن، فإن حليفتها الإمارات لا تُلقي بالا لشأن اليمن كدولة وجغرافيا، وتتعامل معها كما لو كانت "تركة الرجل المريض"، وترى لنفسها الحق بأن تُعيد تشكيل خارطة اليمن والتلاعب بها بما يُحقق لها مصالحها ويضمن لها أكبر قدر ممكن من النفوذ وإرادة السطو واستغلال الطرف التاريخي لليمن؛ كي تتلاعب بمصيره لعقود وربما قرون قادمة. وما سيطرتها على الجُزر اليمنية سوى العنوان العريض لهذه المهزلة؛ بل والجريمة التاريخية التي تتورط فيها الإمارات بوقاحة غريبة وصادمة.
سيقول قائل: ماذا عن "إرادة السلام" لدى أطراف الداخل..؟ فإذا كان الخارج، والقوى المؤثرة في القضية اليمنية، مواقفهم من السلام مشكوك بنزاهتها، فكيف هي إرادة القوى المتناحرة في سطح الجغرافيا اليمنية..؟ الجواب: لعل ما هو مؤسف ومولّد للخيبة، أنّ قوى الداخل لا تلحظ لديها أي تمايز في إراداتها تجاه السلام، وتكاد تكون مقاصدها النهائية نسخا مبعثرة ومشتّقة من رغبات القوى الخارجية. وإذا تأكدت من هذه الحقيقة المبدئية ستفهم لماذا آل المصير اليمني لهذه الحالة المُحبِطة، حيث يلوح أمامك مستقبل ضبابي ومجهول يتسع بقدر ما تلعو أصوات السلام الكاذبة، تماما كما لو أنّ دعوات السلام؛ تُشبه ضربات المدفعة، من حيث الغاية التي تعد بها. لهذا السبب، يرتاب المرء من أصوات السلام، كريبته من قرع طبول الحرب؛ كلاهما مساران متناقضان في مظهرهما، ولكنّهما يكادان يكونان متحدين من حيث النتيجة المرجوّة منهما.
قوى الداخل لا تلحظ لديها أي تمايز في إراداتها تجاه السلام، وتكاد تكون مقاصدها النهائية نسخا مبعثرة ومشتّقة من رغبات القوى الخارجية. وإذا تأكدت من هذه الحقيقة المبدئية ستفهم لماذا آل المصير اليمني لهذه الحالة المُحبِطة، حيث يلوح أمامك مستقبل ضبابي ومجهول يتسع بقدر ما تلعو أصوات السلام الكاذبة، تماما كما لو أنّ دعوات السلام؛ تُشبه ضربات المدفعة، من حيث الغاية التي تعد بها
جنوبا، لدينا تيار سياسي وعسكري منخرط رسميا وشكليا في فضاء ما يُسمّى بـ"الشرعية" أو مجلس القيادة الرئاسي الممثل للدولة اليمنية، لكنه يتزّعم قوة عسكرية "مليشاوية" ويرفع شعارات تشطيرية تستهدف تفكيك جغرافيا اليمن الموحّد. وعليه، فيصعب القول: إن هذا الفصيل مُتحمّس لسلام حقيقي؛ ينتهي لمستقبل يعيد ترتيب خارطة البلاد المبعثرة ويُقلص دائرة الأخطار المحيطة بالكيان الدستوري والقانوني للدولة اليمنية. ومن نافل القول التذكير بأن هذا الفصيل مرتهن لدولة خارجية ويُعتبر الذراع الضامن لمصالحها المتجاوزة للسيادة اليمنية. الدولة هي الإمارات العربية المتحدة، ولمجرد لفظ اسم هذه الدولة؛ يعرف اليمنيون أطماعها في بلادهم ويحفظون تجاوزاتها وما سببته من جراح عميقة في حاضرهم ومستقبلهم، وما تُشكله من تهديد لدولتهم في الأمس واليوم والغد.
وهناك فصيل آخر، يتّخذ من السواحل الغربية للبلاد، وتحديدا سواحل "المخا" الواقعة على امتداد مساحة لا بأس بها من شواطئ البحر الأحمر، مقرّا عسكريا وسياسيا لنشاطاته، وله نفس الرابط العسكري والمالي والسياسي بدولة الإمارات، ويبدو بمثابة النظير أو المعادل الشمالي للفصيل الواقع جنوبا (المجلس الانتقالي). وحتى مع إختلاف التوجهات النظرية والخطابات السياسية للفصيلين، فهذا الأخير متمسّك بوحدة الكيان الجمهوري للدولة اليمنية، ويتخذ من وصف "حُرّاس الجمهورية" مُسمّى له. كما لا يُظهر في خطاباته ونشاطه الإعلامي أي دوافع ممانعة للسلام؛ لكنه في النهاية لا يمكنه أن يدّعي استقلالية تامة في خطه السياسي. حتى لو كان يحاول اتباع نغمة سياسية وبيانية لا تُكثر من إظهار الولاء المطلق للجهة الممولة له، غير أنّه يظل مرتبطا بخيارات الراعي، مع التنويه إلى أننا أمام فصيل لا يملك الثقل الكافي سياسيا ولا يعرف عنه أي نشاط حيوي دافع باتجاه السلام، كما لا يبدو أنّه يملك رؤية واضحة لما يجب أن تكون عليه الدولة اليمنية المنتظرة.
وعند هذه النقطة، تتوجب الإشارة لطابع الانتهازية والبراجماتية التي يتصف بها فصيل "حرّاس الجمهورية" والمكتب السياسي للمقاومة، وهو مكتب يُعتبر الحامل والممثل السياسي للفصيل العسكري نفسه، ما يُرجح وجود استعدادات لدى هذا التيار للتواطؤ والمساومة بقضية السلام، وفقا لما تتطلبه مصلحته، ما ينفي عنه أي إمكانية بلعب دور ضابط وحازم لصالح مصير يمني عام وخادم للدولة اليمنية.
تتبقّى كتلة عسكرية وسياسية أخرى، تتمركز في مأرب وتعز، وهي بمثابة العمود المركزي للقوات المسلحة اليمنية، ويمكن اعتبارها الكتلة الوطنية الأقرب لفكرة الدول، بصرف النظر عمّا توسم به من انتماءات حزبية، فهي تظلّ أكثر الفصائل -إن جاز التعبير- المتمسّكة بمصير يمني ضامن لكل مكتسبات الدولة اليمنية الحديثة ورافض لكل المحاولات التشطيرية أو أي تلاعب بفكرة الهوية اليمنية والمصالح السيادية العليا للبلاد، على الرغم من أنّها تعرضت لعمليات إزاحة سياسية وقيادية، وضعُف تأثيرها على القرار السيادي لليمن مذ أُجريت التعديلات السياسية المتعلقة بهيكل السلطة في البلاد؛ وميلاد مجلس القيادة الرئاسي الحامل المركزي لمشروع الدولة اليمنية أو هذا ما يفترض عليه أن يكون. وهذا التيار لا تبدو عليه ممانعة بخصوص السلام المرتقب؛ غير أنه يشكو من ضعف تمثيله في المحادثات ومن رغبات أطراف خارجية وداخلية بتقليص أثره ودوره في رسم خارطة اليمن المستقبلية.
أخيرا، لدينا كتلة سياسية وعسكرية هي بمثابة النقيض التقليدي للقوى السابقة، ونعني هنا جماعة" أنصار الله". وهذه الجماعة رغم تكوينها الحربي واستعداداتها الدائمة لجولات من المواجهات مع الداخل والخارج، غير أنها تتقن إدارة لعبة السلام كما تتقن الحرب. وهي في جوهرها لا تكترث بالسلام كعملية تفضي لدولة مدنية حديثة؛ بقدر ما تحرص على ضمان حصتها الكبرى من الخارطة المرتقبة لليمن. كما تُقدّم نفسها كممثل للمركز السياسي للبلاد -صنعاء وما حولها من مناطق خاضعة لسيطرتها- وترفض خوض مفاوضات مباشرة مع مجلس القيادة الرئاسي، معتبرة السعودية خصمها في الحرب ونظيرتها في السلم.
إنّها تحاول دحر الشرعية ومنازعتها على الصفة. وبالنظر لميول السعودية للسلام، فجماعة الحوثي تستثمر هذا النزوع لدى المملكة لحصد تنازلات سياسية واقتصادية منها. ومعروف عن هذه الجماعة؛ قدرتها على المناورة طويلا والتلويح بالقوة مع بقاء يدها مفتوحة لأي مكسب سوف تناله من خصومها. ويبدو أنها الجماعة الأكثر ربحا في الحرب والسلم.
في اليمن ملوك الطوائف يتناحرون، وحين يجمِّدون أسلحتهم يكون البديل حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي حالة لا تقل سوءا عن الحرب الوضحة، حيث الشعب عالقا في فوهة بركان، فاقدا لليقين بالغد ومتخوفا من احتمالات انفجار المعركة، كما هو فاقد للثقة بسلام حقيقي
ويبقى السؤال المفتوح: ما هو مصير الدولة اليمنية في ظل التنازع الحاصل بين كل هذه القوى الداخلية والخارجية؟ ومن يمثل الكتلة الكبرى من الشعب؛ الأغلبية الصامتة، كما يحلو لمثقفين ومراقبين وصفها، حيث الملايين يحترقون بنيران الحرب ويعيشون أسوأ أزمة إنسانية في العالم -بعد أبناء غزة وإن كان هناك احتلال يستبيح الأرض ويحرق ما فوقها-؟
ففي اليمن ملوك الطوائف يتناحرون، وحين يجمِّدون أسلحتهم يكون البديل حالة "اللاحرب واللاسلم"، وهي حالة لا تقل سوءا عن الحرب الوضحة، حيث الشعب عالقا في فوهة بركان، فاقدا لليقين بالغد ومتخوفا من احتمالات انفجار المعركة، كما هو فاقد للثقة بسلام حقيقي يضمن له معيشة محترمة وحياة كريمة.
هنا، تظل العيون مترقبة لميلاد كتلة وطنية تفرض نفسها وتوازن اللعبة المختلة، كتلة سياسية وحتى عسكرية، يرتفع صوتها عاليا وتضع حدا لهذا العبث كله، بطريقة أو بأخرى. وهذا الحلم الأخير ليس بمستبعد، إذا وضعنا في اعتبارنا وجود طيف كبير من اليمنيين في الداخل والخارج ساخطين ضد الجميع، وإذا ما توفرت فرصة كي ينتظموا داخل مظلة سياسية معينة، سيولد معهم تيار وطني خالص، ينجح في مدافعة الواقع المشبوه ويتمكن من الدفاع عن الغلابى والمقهورين؛ الأغلبية الباحثة عن صوت يمني حر وموثوق، يصدح باسمها ويمثّل إرادتها الخالصة بعيدا عن الإرادات المشبوهة والمتاجرة القديمة والمتجددة بمصيرهم. فلا يوجد شعب ضحى بسخاء كالشعب اليمني، لكن النهايات تخذله دائما، في ظل غياب الممثل الأصلي للجموع الكبيرة، الصامتة والمهمومة بشؤون معيشتها من الخبز والماء، والتعليم والدواء قبل أي شيء آخر.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اليمن السعودية السلام الحوثيين الإمارات الشرعية السعودية اليمن الإمارات الشرعية السلام مدونات مدونات سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة للدولة الیمنیة الدولة الیمنیة لا تکترث فی الیمن کما لو
إقرأ أيضاً:
حرب المعادن الأوكرانية مستمرة.. بعد توتر العلاقة بين ترامب وزيلينسكى.. السؤال الذى يشغل العالم لماذا تجعل واشنطن اتفاقية التعدين عنصرًا حاسمًا فى عملية السلام مع روسيا؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
بينما كان العالم ينتظر حفل توقيع اتفاقية المعادن بين واشنطن وكييف، تحول لقاء الرئيسين ألأمريكى دونالد ترامب والأوكرانى فولوديمير زيلينسكي، يوم الجمعة، فى البيت الأبيض إلى مشادة نارية شاهدها الملايين على الهواء مباشرةً، وغادر بعدها زيلينسكى البيت الأبيض، فيما ترددت أنباء بأن ترامب طرده بحسب "فوكس نيوز" نقلاً عن مسؤولين في البيت الأبيض.. وبذلك، لم يتم التوقيع على اتفاق المعادن النادرة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ويرى ترامب أن اتفاق المعادن النادرة أمر ضرورى كخطوة نحو التوسط في اتفاق لوقف الحرب مع روسيا والسير فى طريق السلام والاستقرار، وأيضاً ليسترد ما تحملته واشنطن من مليارات الدولارات دعماً لكييف.. ورغم توتر الأجواء وإنهاء الزيارة، فإن زيلينسكى قال عن الصفقة: "يمكننا أن نمضي قدماً بها، لكن هذا ليس كافياً"، وكتب على "منصة أكس": "شكراً أمريكا.. شكراً لدعمكم، شكراً لكم على هذه الزيارة". وأضاف: "إن أوكرانيا تحتاج إلى السلام العادل والدائم، وهو ما نحن نعمل على تحقيقه". ويرى محللون أن هذه الرسالة بمثابة محاولة من الرئيس الأوكراني لتصحيح مسار المفاوضات بعد تعثرها، كما يؤكدون على أن الرئيس الأمريكى لن يتنازل عن مطلبه بتوقيع اتفاق المعادن باعتبار ذلك حرباً لا بد أن تُحسم لصالحه..
فى محاولة لفك طلاسم هذه الصفقة وفهم أبعادها وأهميتها فى ظل حاجة الولايات المتحدة لتلك المعادن النادرة، نطرح سؤالاً محورياً: ما هو السر وراء إصرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على إبرام صفقة الحصول على المعادن النادرة من أوكرانيا؟.. المعلن أنه يريد أن يسترد المليارات التى أنفقتها واشنطن على دعم أوكرانيا فى حربها مع روسيا.. لكن الواقع يقول إن هناك أسباباً أخرى تتعلق بالأساس بحاجة الولايات المتحدة لهذه المعادن لاستخدامها فى الكثير من منتجاتها.
يوضح جيوم بيترون، الباحث المشارك في معهد إيريس، أن اعتماد الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، على المعادن الهامة التي تنتجها الصين هو جوهر اتفاقية التعدين المحتملة مع أوكرانيا.
ما هي بالضبط مصالح الولايات المتحدة وأوكرانيا في هذا العقد؟ لماذا أصبحت هذه الموارد المعدنية ثمينة واستراتيجية إلى هذا الحد؟ تحليل يقدمه جيوم بيترون، الباحث المشارك في إيريس، ومؤلف كتاب "حرب المعادن النادرة. الوجه الخفي للتحول في مجال الطاقة والرقمنة".
تحفظات مهمة
يقول جيوم بيترون إن أوكرانيا تمثل ٠.٤٪ من كتلة اليابسة على الكوكب، ولكنها تحتوي على ٥٪ من ما يسمى بالمعادن الحرجة.. وتعتبر هذه الموارد مهمة للغاية لأن الإنتاج فيها يقتصر على عدد قليل من البلدان. ومن ثم هناك خطر حدوث نقص في العرض. ومع ذلك، فإن هذه المواد الخام ضرورية للتكنولوجيات الجديدة، والطاقات الخضراء، وكذلك لتكنولوجيات الدفاع.
يختلف عدد المعادن حسب الدولة.. وقد أدرج الاتحاد الأوروبي ٣٤ عنصرًا، بينما أدرجت الولايات المتحدة ٥٠ عنصرًا. وقد يشمل ذلك المعادن الشائعة، مثل الحديد والألومنيوم والنحاس والزنك، وما إلى ذلك.. بالإضافة إلى المعادن التي تعتبر نادرة لأنها أقل وفرة في قشرة الأرض، مثل الكوبالت أو التنجستن.
ومن ثم فإن هذا التفاوت بين حجم الأراضي الأوكرانية وإمكاناتها مثير للاهتمام للغاية. كما نجد في باطن الأرض، سواء قيد الاستغلال أو للاستغلال، كل أنواع المعادن التي ذكرناها: اليورانيوم، والجرافيت، والحديد، والنيوبيوم، والليثيوم، وربما المعادن النادرة، وهي عائلة أخرى من خمسة عشر معدنًا، حيث نجد من بين أمور أخرى السكانديوم أو الإيتريوم.
عنصر حاسم
ويضيف جيوم بيترون أن هناك منطقا انتهازيا من جانب دونالد ترامب. يعتقد الرئيس الأمريكي، وهو رجل أعمال سابق، أنه قادر على إعادة التوازن المالي، بالنظر إلى ما تمكن الأمريكيون من إنفاقه في عهد سلفه من أجل أمن أوكرانيا. لكن شبح الصين، منافستها، هو الذي يلقي بظله على هذا الاتفاق. ولكي نفهم هذا، علينا أن نعود إلى الوراء قليلًا. الولايات المتحدة دولة منتجة للتعدين، ولكنها تستخرج اليوم عدداً قليلاً نسبياً من المعادن الحيوية لأن مناجمها أُغلقت، ولم يتم فتح مناجم جديدة لأسباب بيئية. وفي الوقت نفسه، سمح الأمريكيون لدول الجنوب العالمي بإنتاج هذه المعادن لصالحهم منذ ثمانينيات القرن العشرين.. وهذه الملاحظة تنطبق أيضاً على الفرنسيين والأوروبيين بشكل عام. وهذا أمر غير مريح لأنه يخلق اعتماداً على الصين.
وقد اكتسب العملاق الآسيوي الزعامة والنفوذ الكبير فيما يتصل باستخراج وتكرير هذه الموارد. ولقد هددت الصين لسنوات بالتوقف عن تصديرها، وهو ما تفعله، على سبيل المثال، مع الغاليوم والجرمانيوم، بينما تشدد الولايات المتحدة سيطرتها على تكنولوجيات تصنيع الرقائق. وعلى مدى السنوات العشر الماضية أو نحو ذلك، شهدنا صحوة أمريكية، في سياق التوترات الجيوسياسية والتجارية المتنامية مع الصين. وقد تم اتخاذ إجراءات على أعلى مستوى في الدولة لتحديث قائمة المعادن الحرجة، وتحديد الاختناقات في سلسلة القيمة الخاصة بها، وإعادة إطلاق الإنتاج على أراضيها، وتوقيع شراكات دبلوماسية مع دول أخرى من أجل تنويع إمداداتها.. وعلاوة على ذلك، قد يجد ترامب هذه المعادن في أماكن أخرى غير أوكرانيا، على سبيل المثال على أراضيه، أو بين جيرانه في كندا، أو في أمريكا اللاتينية. وببساطة، هناك فرصة فورية هنا والآن في أوكرانيا لتبادل الأمن بهذه الموارد تحت مبدأ "السلام مقابل المعادن".
مصالح أوكرانيا
ولا تزال تفاصيل كثيرة حول هذه الصفقة (التى لم يتم التوقيع عليها) غير معروفة، لكنها قد تكون مفيدة لفولوديمير زيلينسكي. لأن المشاركة في المناجم تعني الاستثمار في الطرق، وفي الموانئ التي تسمح بتصدير الخام، وفي البنية التحتية للطاقة التي تسمح بإنتاج الطاقة اللازمة لتشغيل المناجم.. وهو أيضًا استثمار في الموارد البشرية التي تسمح بخلق فرص عمل في أوكرانيا. السؤال هو من سيتحمل هذا الجهد ومن سيحصد الثمار وبأي نسبة؟ وهنا يتعين على فولوديمير زيلينسكي أن يقف بحزم لضمان أن تكون الصفقة عادلة ومنصفة.
المعيار الثاني المثير للاهتمام بالنسبة لأوكرانيا هو أنه لا ينبغي لأي معادن أن تخرج من البلاد للذهاب إلى الولايات المتحدة بموجب تفويض ترامب.. وقت التعدين طويل جدًا. لقد مرت بالفعل ما بين ١٠ إلى ١٥ سنة بين وصول الأمريكيين وإنشاء نموذج اقتصادي قابل للتطبيق واستخراج المعادن. ومن ثم يجب إضافة نفس المدة لاستغلال المنجم. وهذا يبشر بوجود تواجد أمريكي في هذه المنطقة الاستراتيجية على مدى العقود الثلاثة المقبلة على الأقل. وأخيراً، فإن تركيب أداة التعدين الروبوتية المتطورة والمعقدة من الجيل الأحدث، مع كل البنية التحتية اللازمة، يكلف عشرات أو مئات المليارات من الدولارات. ولن تستثمر الولايات المتحدة هذا المبلغ في سياق سياسي غير مستقر، حيث تقاتل القوات الروسية في كل زاوية فى شارع.. كل هذا يعني ضرورة الاستقرار الجيوسياسي. ولا يمكن أن يأتي الاستقرار بدون السلام. وسيتعين على الأمريكيين ضمان ذلك على المدى الطويل. إن زيلينسكي يربط مصيره بمصير الأمريكيين.
استراتيجية أوروبية
وحول الموقف الأوروبى، يقول جيوم بيترون: لقد كان الأوروبيون يدركون دائمًا أن هناك احتياطيات محتملة متاحة في أوكرانيا. علاوة على ذلك، جرت مناقشات بشأن اتفاقيات التعاون في مجال الليثيوم. لكن زيلينسكي يدرك أن الأوروبيين مترددون في التنقيب عن المعادن في القارة بسبب قضايا اجتماعية وبيئية، حيث يتطلب التنقيب حفر حفرة كبيرة في الأرض، مما يؤثر دائمًا على التنوع البيولوجي، وعلى التربة. ومن ثم، تتطلب عملية التكرير استخدام المواد الكيميائية والمذيبات.. ومع ذلك، يرى زيلينسكي أنها بمثابة رافعة لإعادة إعمار بلاده.
أما بالنسبة لأوروبا، فإن لديها استراتيجية. في عام ٢٠٢٤، قدم الاتحاد الأوروبي قانون المواد الخام الحرجة، والذي ينص على قائمة تضم ٣٤ معدنًا حرجًا، وأهدافًا كمية غير ملزمة لعام ٢٠٣٠. ووفقًا لها، يجب أن يأتي ١٠٪ من احتياجاتها من الموارد المستخرجة من باطن الأرض، في ٢٧ دولة في الاتحاد. وسيتم إنتاج نحو ٤٠٪ من هذه المادة من مواد خام يتم تكريرها في نفس المنطقة. الهدف الثالث هو أن ٢٥٪ من احتياجات المعادن الأساسية تأتي من إعادة التدوير.
باختصار، يتعلق الأمر بإعادة فتح المناجم في أوروبا، ثم الذهاب للحصول على المعادن من الآخرين لتنقيتها فى أوروبا، وذلك بفضل الدبلوماسية المعدنية النشطة. ويتضمن ذلك إبرام اتفاقيات مع أستراليا وكندا وتشيلي ومنغوليا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول، من أجل تأمين الإمدادات الحالية والمستقبلية من المعادن. وهكذا، وكما فعلت الولايات المتحدة، ينبغي تنويع الإمدادات بدلاً من الاعتماد على الصين.
وأصبحت أوروبا على علم بهذه القضية. ولكن، كما ذكرنا سابقًا، فإن وقت التعدين طويل. إن التحرر من هذا الأمر أمر صعب، وخاصة عندما يتوجب عليك التفكير في فتح مناجم على أراضيك الخاصة. ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر، مشروع إيميلي (إيمريس) في ألييه الذي يثير قدراً كبيراً من التوتر في فرنسا. هل يقبل السكان المحليون رؤية منجم مفتوح في أسفل حدائقهم حتى نتمكن من تصنيع سيارات كهربائية تسير في مناطق منخفضة الانبعاثات في باريس؟.
ومن المفهوم أن إنتاج المعادن النادرة سوف يصبح أكثر تكلفةً.. لا نريد أن نكون مثل الديوك الرومية في مهزلة التحول في مجال الطاقة، ضحايا الاستعمار الأخضر الجديد. التحدي الآن هو معرفة في أي مرحلة من معالجة الخام سيتم تصديره. وهذه هي المناقشات التي تدور حاليا.
ازدياد التوتر
ونبه جيوم بيترون إلى أن هناك معادن معينة قد يخلق الطلب عليها توتراً كبيراً، قائلاً: سوف تكون هناك حاجة كبيرة إلى الليثيوم ولجميع المعادن التي تدخل في صناعة البطاريات. الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنجنيز هي العناصر الأساسية. والجرافيت أيضًا، وهو معدن مهم جدًا لهذه الأدوات نفسها. ويمكننا أيضًا أن نذكر المعادن الموجودة في محركات السيارات الكهربائية والتي تحتوي على معادن نادرة. والشيء نفسه ينطبق على توربينات الرياح ذات الطاقة العالية. وأخيرا، أصبح النحاس عنصراً بالغ الأهمية، فهو معدن موصل للكهرباء يستخدم في بناء أميال من خطوط الجهد العالي وخطوط الطاقة. ونستطيع أن نرى بالفعل سيناريو نقص محتمل، لأن الإنتاج غير قادر على مواكبة الزيادة في الطلب. لكن السؤال يظل معقدا. لأنه حتى لو عرفنا احتياجاتنا للغد، فكيف ستتطور المواد الكيميائية، خاصةً أن بدائل المعادن النادرة، وهي عائلة من المعادن المحددة للغاية، لا تزال غير متوفرة؟.