تحدث الرئيس التونسي الأسبق، المنصف المرزوقي عن سيناريوهات ومآلات الأزمة التونسية خلال المرحلة المقبلة، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس قيس سعيّد قبل أيام عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية المرتقبة في 6 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، مطالبا الجميع (شعب ودولة عميقة ومعارضة) بـ "ضرورة إغلاق قوس الانقلاب في أقرب وقت؛ نظرا لكارثية الأوضاع".



وفي مقابلة مصورة مع "عربي21"، طالب المرزوقي كل أطراف الدولة العميقة -ليس الجيش والأمن فقط- بـ "ألا يسمحوا باستمرار قيس سعيّد في سدة الحكم، وألا يسمحوا له بتزوير الانتخابات، لأنهم إذا شاركوا أو تغاضوا عن تزوير الانتخابات فستكون مصيبة كبرى للشعب التونسي لسنوات".

وأضاف: "على الشعب في تونس أن يتخلص من هذا الشخص في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وأن يجد حلا لبديل يعيد المسار الديمقراطي على السكة، وهذا لن يكون إلا بالعودة إلى دستور 2014، إما هذا وإما فإن تونس ستدخل في مرحلة تفكك الدولة، وتعفن المجتمع، وهذا ما أخشاه كثيرا".


وأردف: "نظرا لخطورة الوضع في تونس يجب أن تتوحد قوى الديمقراطية وتضع خلافاتها جانبا، لأن المعركة في نهاية المطاف بين القوى الديمقراطية والقوى المعادية للديمقراطية، ويجب علينا أن نضغط خلال هذه الفترة لكي تتوفر الشروط المطلوبة للانتخابات الحرة؛ فإذا توافرت الشروط ستكون اللعبة مفتوحة، وإلا نجعلها معركة فاصلة تخرج فيها التظاهرات العارمة، لكي يرحل هذا الشخص لأنه لا سبيل آخر".

ورفض المرزوقي بشدة فكرة الخروج الآمن لقيس سعيّد كي يحدث انتقال سلس للسلطة، قائلا: "أنا لا أؤمن بهذه النظرية مطلقا. هو إن لم يخرج من السلطة سيُخرَج منها، وجنون العظمة الذي لديه لن يسمح له أبدا بالخروج، لكن إذا كان قررت الدولة العميقة أن تستبدله، فإنها ستسعى إلى شيء كهذا، لكن أنا سأرفضه".

وأشار الرئيس التونسي الأسبق، إلى أن "أكبر خطأ ارتكبناه في الثورة هو أننا لم نحاسب المجرمين الذين عذبوا، وقتلوا، ولو فعلنا ذلك لكانت الأمور أخذت مجراها المأمول، والآن هناك مطلب عدالة، وهذا المطلب يجب أن يُستجاب له".

وتابع: "القضية الآن أن يرحل هذا الرجل، كما يجب أن يُحاكم، وما أعرفه أنه لن يترك السلطة، لأنه يعرف تمام المعرفة أنه إذا ترك السلطة فسيُحاكم، وأنا أول مَن سيطالب بمحاكمته؛ فقضية العدالة الانتقالية انتهت؛ فكفى توافقا مع الفاسدين والمستبدين".

وإلى نص المقابلة المصورة مع "عربي21":

الرئيس التونسي قيس سعيّد دعا قبل أيام الناخبين إلى انتخابات رئاسية في 6 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.. لماذا تأخر هذا الإعلان برأيكم؟

علينا أولا نضع مثل هذه الأمور في إطارها الواسع؛ فالثورة التونسية قامت بالأساس لسببين، الأول: هو الفقر والبطالة، والثاني: هو غياب الحريات، والمتمثل في القمع الذي كان النظام القديم يستعمله للتغطية على التفاوت في الثروات، والفساد، وغير ذلك.

استطاعت الثورة أن تلبي جزءا كبيرا من مطالب الشعب التونسي المتعلقة بالمطالب السياسية، والكرامة، لأنها جاءت بالديمقراطية والحريات، لكنها فشلت في تلبية الحاجات الاقتصادية لأسباب متعددة، منها: الفترة القصيرة، والإضرابات الكثيرة، والموقف الإقليمي من الثورة، وكذا الموقف الدولي.

ونظرا لهذا الفشل، استطاعت الثورة المضادة آنذاك بقيادة الباجي قايد السبسي أن تستغل الوضع الاقتصادي الصعب لتعود إلى السلطة مستعملة وسائل الديمقراطية التي حاربتها طيلة حياتها.

وشهدت فترة رئاسة الباجي قايد السبسي (الخمس سنوات) بقاء الحريات التي جاءت بها الثورة، لكن الوضع الاقتصادي تفاقم؛ فلم يكن لدى هؤلاء أي حل اقتصادي، وذلك خلافا لما وعدوا به الناس، بل على العكس: الحكومة التي أدارت البلاد (حكومة يوسف الشاهد) كانت حكومة شهدت عودة قوية للفساد.

تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتفاقم الأزمة السياسية بالبرلمان الذي أظهر عجزه، والصورة السلبية التي أعطاها للديمقراطية، فتح الباب لهذا الشخص (قيس سعيّد) الذي لا يعرفه أحد؛ فركب موجة الشعبوية، وتمكّن من البلاد خلال خمس سنوات.

وخلال الخمس سنوات تفاقمت الأزمة الاقتصادية بكيفية رهيبة؛ لأن الرجل لا يفهم شيئا في الاقتصاد، والفساد الذي ادعى محاربته تفاقم، ولأول مرة يعرف التونسيون نقص الخبز، ونقص السكر، وغيره.

وفي نفس الوقت رأينا الشخص الذي أتت به الديمقراطية يضرب الديمقراطية؛ فأزاح المكسب الوحيد الذي جاءت به الثورة، وخلال الخمس سنوات الأخيرة عادت تونس إلى ما عهد قبل الثورة، أزمة اقتصادية متفاقمة، وعودة إلى الاستبداد، وهذا ما جعله يؤخر الإعلان عن الانتخابات الرئاسية إلى آخر لحظة، لأنه يعرف أنها ستكون "مخاطرة كبرى".

الآن هذا الشخص، ومَن وراءه، في تقاطع طريق بالغ الخطورة؛ فهم يعلمون جيدا أنه نظرا لتفاقم الأزمة الاقتصادية التي ادعوا حلها، ونظرا لضرب الحريات التي جاءت بها الثورة، والوعود الكاذبة التي كانت في جعبته.. فإن الذهاب إلى انتخابات حرة ونزيهة معناه أن هذا الرجل حتما سيخسر الانتخابات؛ لأن قاعدته الشعبية انهارت، وكما رأينا في كل الانتخابات التي قام بها كانت نسبة المشاركة 10%، سواء مَن صوّتوا للدستور، أو للبرلمان. إذن قاعدته الشعبية تضاءلت جدا، لذا هو والمنظومة التي معه الآن أمام مفارقة صعبة جدا.

انتخابات حرة ونزيهة تعني سقوطه الأكيد، وربما تعني المحاكمة له ولمَن كانوا وراءه في هذا الانقلاب، أو الانغماس في الحالة الاستبدادية، وهذا ما سيذهبون إليه.

كيف ترى تبعات إعلان قيس سعيّد عن إجراء الانتخابات يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل؟

أردد أن هذا الرجل غير شرعي؛ لأنه انقلب على الدستور، والدستور الذي وضعه لم يشارك في التصويت عليه إلا 10% فقط من المسجلين بالقوائم الانتخابية، وسيحاول أن يكتسب شرعية جديدة من هذه الانتخابات الزائفة.

الانتخابات تُربح عن طريق الانجازات؛ فالشعب التونسي بحاجة إلى انجازات اقتصادية، وبحاجة إلى الحقوق والحريات التي جاءت بها الثورة، واليوم لا حرية للصحافة، ولا حرية رأي، ولا حرية تعبير، كل هذا في ظل الوضع الاقتصادي المتردي.

تونس لم تعرف هذا القدر الهائل والمخيف من الفقر، وتوقف الآلة الاقتصادية، والاستدانة من الخارج، لذا وضعه هو ومَن معه الآن يشبه وضع السيسي بعد الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي؛ فقد كذب السيسي على كل الأجهزة، وضحى بالحريات، ولم يكن مُستعدا أن يواجهه أحد في انتخابات حرة ونزيهة، لذا رجعنا إلى ما قبل الثورة، إلى عهد انتخابات زين العابدين بن علي.

هل تعتقد أن قيس سعيّد سيخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة بالفعل؟

هذا الرجل أعتبره "مخلب قط"؛ فقد أدى مهمتين أساسيتين، هما: ضرب الإسلاميين، والإطاحة بالدستور، ليأتي بدستور رئاسي يسمح لمَن يأتي بعده أن تكون له سلطات واسعة.

وأنا أتساءل: هل المنظومة التي وراءه ستقرر الاحتفاظ به، أم قررت التضحية به؟، إذا قررت التضحية به فسيكون هناك "غلاف ديمقراطي"، وسنرى مَن سترشح هذه المنظومة لكي "ينتصر عليه"؛ لأن العملية الانتخابية ستتم في غياب محكمة دستورية، وغياب لجنة مستقلة للانتخابات، وغياب مرشحين حقيقيين، وغياب إعلام حر ونزيه، إذن الفائز في الانتخابات معلوم مسبقا.

وحتى الآن لا نعرف المنظومة التي وراءه قرّرت التخلص منه بكيفية ما أم لا، أم لا تريد أن يكون هناك انقلابا، أم ستقرر الإبقاء عليه نظرا لضغوط خارجية؛ فالضغوط الخارجية تلعب دورا كبيرا، وحينئذ فإن مستقبل تونس سيشهد ثورة جديدة؛ فالرجل ليس عنده ما يقدمه باستثناء مزيد من القمع والكذب، ومزيد من الفقر والاستدانة.

ما موقفكم من الانتخابات الرئاسية، وهل تعتزم خوض تلك الانتخابات؟

لا أرى أنه ستكون هناك انتخابات بالمعنى الذي كان في 2014، من خلال وجود مرشحين جديين، وقواعد لعبة واضحة.

ليست لدينا محكمة دستورية كالتي في السنغال التي منعت محاولة العبث بالدستور، ولجنة الانتخابات هو (قس سعيّد) مَن عيّن أعضائها، والإعلام كله تحت سيطرة الداخلية التي تتحكم في كل شيء، وكل المرشحين الجديين الذين يمكن أن يكون لهم دور إما في السجون وإما في المنافي؛ فعن أي انتخابات رئاسية نتحد؟

أقول هذا لتتوفر شروط المنافسة، ومن بعد ليتنافس المتنافسون، أما القبول بالمشاركة في لعبة مغشوشة فأمر لا أقبله. السياسة ليست كالرياضة حيث الشعار المهم "المشاركة".

لكن هل يمكن أن تخوض الانتخابات الرئاسية في حال توفرت لها شروط المنافسة الحرّة والنزيهة؟

لقد اتخذت موقفا وأريد الحفاظ عليه؛ فما يهمني الآن هو مستقبل النظام الديمقراطي في تونس؛ فبحكم التجربة اكتشفت أننا جئنا بنظام ديمقراطي فيه الكثير من العيوب والثغرات، وما أنا معني به حاليا هو استعادة الديمقراطية، واستعادة النظام الديمقراطي.

والأهم عندي الآن الانتخابات البلدية، وليست الانتخابات الرئاسية؛ نظرا للوضع الكارثي الذي تسبّب فيه هذا الرجل عندما حل المجالس البلدية.

الديمقراطية تُبنى من القاعدة، يجب أن تُجرى انتخابات بلدية، ثم انتخابات برلمانية، لكن عبر قانون أحزاب حقيقي واضح وصارم يمنع الشركات السياسية (في إشارة إلى الأحزاب) من استعمال أدوات الديمقراطية لضرب الديمقراطية، وربما يجب التفكير في العودة إلى الانتخابات الرئاسية من قِبل البرلمان وفق الدستور الموجود حاليا بتغيير بعض الفصول.

الانتخابات الرئاسية أصبحت "مغامرة"، نظرا لدور المال الفاسد، والإعلام الفاسد، والشركات السياسية الفاسدة، واللعب على غرائز الناس؛ فلا تعرف بماذا يمكن هذه الانتخابات أن تأتي به، وبغض النظر عن هذه الانتخابات، يجب علينا إعادة النظر في نظامنا الديمقراطي الذي أظهر الكثير من العيوب لكي نحمي الأجيال التونسية المقبلة؛ فليس لدينا خيار آخر، فإما الاستبداد، وإما الديمقراطية، وهذه الديمقراطية بحاجة إلى إصلاحات جذرية ديمقراطية قاعدية: الانتخابات البلدية ثم الانتخابات البرلمانية، وحتى تعيين رئيس الجمهورية من قِبل البرلمان.

وإعادة ثقة الناس في الإعلام، وإلا ستبقى مغامرة بعد مغامرة، وربما الشخص الذي سيأتي بعد قيس سعيّد سيكون أتعس منه.

كيف استقبلت حادث اقتحام وسرقة بيتك في تونس قبل أيام؟

هذه مسألة ثانوية جدا؛ فكما هو معلوم: أنا ملاحق من قِبل هذا النظام، ويتهمونني بـ "الخيانة العظمى"، الرجل الذي انقلب على الدستور، وصادر الحريات، ووضع الناس في السجون، ويتعامل مع الدول الخارجية كمنفذ أوامر يتهمني بـ "الخيانة"؛ لأنني فقط طلبت من الدول الديمقراطية ألا تؤيد هذا النظام؛ فحكموا علي بأربع سنوات، ثم بثماني سنوات؛ لأني أحاكم في قضيتين، وربما أكثر، ولا أدري ما هي الفاتورة، لذا قضية الاعتداء على بيتي مسألة ثانوية.

قلبي اليوم مع المساجين السياسيين الذين يعيشون في أفظع ظروف؛ فأنت لا تعرف السجن في تونس، وخاصة في الصيف، ويقبع فيه الآن عشرات المناضلين الحقوقيين من كل الأطراف، فهؤلاء مَن أهتم بهم، لا بيتي.

هل قيس سعيّد مجرد أداة وواجهة للجيش التونسي والدولة العميقة؟

الجميع يعرف أنه مجرد واجهة، واجهة لقوة ما، وهي الدولة العميقة، وحتى مفهوم الدولة العميقة في تونس مفهوم مُعقّد؛ فلا تعني الدولة القوية المتماسكة.. وإنما مجموعة قوى متعددة تدير المشهد من وراء ستار، وأعتقد أن القوى الفاعلة الآن التي تحمي هذا الرجل هي الجيش والأمن، والعامل الخارجي يلعب دورا كبيرا في الصراع.

هذا الرجل مجرد واجهة، قبلوا به ليصفي الحركة الإسلامية، باعتبار أن التخلص من الحركة الإسلامية سيؤدي بطبيعة الحال إلى التخلص من الحركة الديمقراطية بصفة عامة، وتصفية ما بقي من الربيع العربي.

ثم التخلص من الدستور، ووضع دستور آخر لمَن يأتي بعده؛ فيجده دستورا جاهزا يعطيه كل السلطات، والآن قد أدى المهمة، وأصبح عبئا ثقيلا؛ فالجميع الآن يراه غير سوي، وغير كفء، لذلك لا أعرف ماذا قررت القوى التي وراءه (الخارجية والداخلية).. هل تحافظ عليه لعدم وجود بديل آخر، وتغامر بخمس سنوات مقبلة ربما تكون سنوات الانهيار، وربما الثورة، أم ستغامر بإيجاد شخص بديل؟، هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة.

دور المعارضة الآن أن تجتمع على مرشح قوي، وتلتف حوله الجماهير، لكيلا تترك المجال لهؤلاء الناس، لكن مع الأسف هناك عدد كبير من المرشحين من جهات مختلفة، وقد حاولت شخصيا أن أجمع كل هذه الأطراف، ودعوت إلى مؤتمر ديمقراطي وطني، وكانت فكرتي جمع كل الأطراف الديمقراطية التي تناهض الاستبداد وتريد الثورة، وترشح شخصا ما من بينها، لكن مع الأسف الشديد هذا لم يحدث.

إلى أي مدى حدث تحوّل في عقيدة الجيش والأمن التونسي في أعقاب اندلاع ثورة الياسمين؟

الجميع في الأجهزة الأمنية أو الجيش بات يتفهم أن مَن يأتي للحكم لن يستمر بقائه فيه 20 أو 30 سنة كما كان في الماضي، وأن الشخص الذي يحكم لن يستمر بقائه إلا 3 أو 5 سنوات؛ فتجد على سبيل المثال الضباط أو الأمنيين في سن الثلاثين أو الأربعين -من ناحية المصلحة– لا يراهنون على شخص لن يدوم بقائه، فيتورطون معه في قضايا قتل أو غيرها، ثم يجدون أنفسهم أمام محاكمة، وبالتالي لم يعد ساكن «قصر قرطاج» له القدرة والسلطة على التحكم في الدولة العميقة كما كان من قبل.

ما أبعاد التغييرات العسكرية التي حدثت في صفوف الجيش التونسي عقب خروجك من قصر قرطاج؟

لما توليت منصب الرئاسة غيّرت كل القيادات العسكرية باعتباري القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكنت فخورا بأن اختياري لقيادة المناصب لم يكن لاعتبارات جهوية، أو حزبية، وإنما لاعتبارات مهنية بحتة، وثانيا لثقتي بأن هذه القيادات ستدافع عن الثورة، وكانت القيادات على مستوى عالٍ تجاه هذه المسؤولية، لكن مع الأسف بعد خروجي من الرئاسة حدث "تطهير كبير" للمؤسسة العسكرية، ولا أدري مَن أتى بعد ذلك.

وقد وجّهت للمؤسسة العسكرية أكثر من مرة نداءات بأن واجبها حماية تونس، وليس حماية هذا الشخص الذي انقلب على الدستور، وحنث بوعده، ويعمل بشكل واضح ضد مصالح الوطن، وربما لمصالح خارجية.

كما أدعو كل أطراف الدولة العميقة -ليس الجيش والأمن فقط- ألا يسمحوا باستمرار هذا الشخص، وألا يسمحوا له بتزوير الانتخابات، لأنهم إذا شاركوا أو تغاضوا عن تزوير الانتخابات فستكون مصيبة كبرى للشعب التونسي لسنوات.

القضية الآن أن يرحل هذا الرجل، كما يجب أن يُحاكم، لأن حكمه قائم بالأساس على حبس الكثير من الناس في السجون، والشعب التونسي يملك غريزة العدالة، ولا أقول الانتقام؛ فيجب أن تُطبق العدالة على هذا الرجل الذي أذنب في حق الشعب، وكذب عليه، وسخر منه لما انقلب على إرادته، وإرادة كل مَن انتخبه -وأنا منهم– فقد انتخبناه على أساس أنه سيدافع عن دستور الثورة، لكنه خان الأمانة.

بالإضافة إلى ذلك أنه ارتكب جريمة لا تغتفر في إدارته لأزمة كوفيد 19؛ فأنا كطبيب وأستاذ مختص في الطب الوقائي، أقول إنه أدار هذه الأزمة برعب وبكيفية غريبة، وأعتبره مسؤولا عن موت آلاف من التونسيين، ويجب أن يُحاكم على هذه القضية.

كيف كانت العلاقة بينك وبين المؤسسة العسكرية أثناء فترة حكمك؟

كانت علاقة جيدة جدا؛ فكما ذكرت: قد غيّرت القيادة كلها، وأتذكر الجنرال محمد صالح الحامدي الذي كان رئيس أركان الجيش البري، عندما كانت هناك دعوة إلى انقلاب عسكري على الثورة مثلما حدث في مصر كان واضحا كل الوضوح، وقال لي: سيدي الرئيس كن على أتم الثقة أنه لن يتجاسر أحد في 6 أيلول/ سبتمبر (الموعد المقرر لاحتلال مقرات الدولة في ذلك التوقيت) على الدخول.

وأحيي الجيش التونسي، الذي كان درعا للثورة؛ فلم يقتل المتظاهرين، ولم يرتكب جريمة للمحافظة على الديكتاتور، لذا أدعوه بنفس الكيفية أن يستلهم من أحداث الماضي، وألا يضحي بتونس من أجل هذا الديكتاتور الذي أتضح أنه غير سوي، وغير كُفء، وغير شرعي.

هل الجيش التونسي يمكن أن يصبح في يوم من الأيام مُسيطرا على المشهد السياسي والاقتصادي على غرار الجيشين المصري والجزائري؟

هذا الأمر غير ممكن بالمرة؛ أولا لأنه ليس له تاريخ في هذا في المجال، ولو أراد لفعل ذلك، لكنه لم يرد ذلك. الجيش التونسي جيش وطني، وقف مع الثورة، وأعتقد أنه وقف وراء هذا المنقلب لأنه كان رئيس جمهورية المنتخب بصفة ديمقراطية، لكن منذ اللحظة التي انقلب فيها على الدستور فقد شرعيته لكي يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة، وعليه أن يرحل فورا.

ما تقييمكم لموقف القوى الإقليمية والدولية من الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

أعتقد أن أغلب القوى المحيطة بحاجة إلى بقاء تونس دولة مستقرة، لأن عدم الاستقرار الموجود في المنطقة، وخاصة في ليبيا وغيرها، لا تسمح بوجود بؤرة عدم استقرار في دولة أخرى، لكن المراهنة على أن قيس سعيّد هو الذي سيضمن الاستقرار مراهنة خاسرة، لأن الرجل غير كفء بالمرة، والوضع الاقتصادي متفاقم وسيتفاقم أكثر وأكثر، وهناك أزمات أخرى لا ينتبه لها البعض، مثل الأزمة البيئية، وأزمة الهجرة، وأزمة البطالة، وغيرها.. كل هذا سيؤدي إلى انفجارات خطيرة إن لم تكن مرعبة.

بالإضافة إلى أن الجميع ينتظر ما ستسفر عنه الأوضاع في غزة، ومراجل الناس تغلي بالغضب لما يقع؛ فمنطقتنا مؤهلة إلى انفجارات عديدة، والثابت أن هذا الشخص غير مؤهل على الإطلاق لكي يحفظ الاستقرار في هذه المنطقة من الإقليم.

لماذا فشلت المعارضة في تشكيل جبهة واسعة وموحدة ضد نظام قيس سعيّد؟

سؤال تجيب عنه المعارضة؛ فقد حاولت بكل الوسائل أن أجمعهم على كلمة رجل واحد، ولا زلت أطالبهم بذلك.

وفيما يخص هذه الانتخابات: لو كان هناك الحد الأدنى من الشروط الموضوعية، مثل وجود محكمة دستورية، أو إعلام نزيه، لكانت فرصتنا أكبر في استعادة السلطة في إطار انتخابات حرة ونزيهة تتوفر فيها كل الشروط، لأن هذا الشخص ليس له شرعية باستثناء الـ 10% الذين يؤيدوه، وباستثناء الأبواق التي تنبح له في صفحات التواصل الاجتماعي؛ فشرعيته انهارت شيئا فشيئا، وأصبح اليوم "مسخرة كبيرة".

وبما أن المعارضة لم تستطع أن توفر هذا التوحد، وباتت الترشحات من هنا وهناك، وبما أن "اللعبة مغشوشة" منذ البداية فيجب الخروج على هذه اللعبة، ويجب القيام بما أسميه "المقاطعة النشيطة"، وسيقول البعض إن المقاطعة لم تؤدٍ أبدا إلى انهيار ديكتاتورية، وأقول لهم أيضا: إن المشاركة في لعبة مغشوشة لم تؤدٍ أبدا إلى انهيار الديكتاتورية، والدليل ما صار في مصر.

القضية الآن هي المقاطعة النشيطة، ويجب أن تكون المعارضة نشيطة لكي نطالب بثلاثة أشياء قبل الانتخابات: محكمة دستورية، ولجنة مستقلة للانتخابات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، إلى جانب السماح بحرية الإعلام.

وعندما تتوفر هذه الضمانات يصير النقاش حول المشاركة، وإذا لم تتوافر فيجب في هذه المرحلة (حتى 6 تشرين الأول/ أكتوبر) أن تكون مرحلة ضغط من أجل توفير هذه الشروط، وإذا لم تتوفر حتى يوم 5 تشرين الأول/ أكتوبر علينا أن ندخل في مرحلة "المقاطعة النشيطة"، وهي الخروج في مظاهرات عارمة يوم 6 تشرين الأول/ أكتوبر، ثم الدخول في مرحلة رفض نتائج هذه الانتخابات، ثم مرحلة إجبار هذا الشخص على الاستقالة، هذا تصوري للمعركة المقبلة.

ما فرص نجاح المعارضة التونسية في تشكيل جبهة موحدة ضد النظام خلال المرحلة المقبلة؟

في الوقت الحاضر ما زالت هناك الكثير من الصعوبات، لكن كل شيء ممكن، ولا بد في هذه الأشهر أن نكثف الجهود لتكوين جبهة مثلما صار في فرنسا؛ فقد تكونت جبهة اليسار من شخصيات مختلفة جدا، لكن على أساس إيقاف المد الفاشي الموجود الآن في فرنسا.

ونظرا لخطورة الوضع في تونس يجب أن تتوحد قوى الديمقراطية، لأن المعركة في نهاية المطاف بين القوى الديمقراطية والقوى المعادية للديمقراطية، وهذا الرجل معادٍ للديمقراطية، ولا يفقه فيها أي شيء، ويريد أن يرجع بنا إلى دستور 1959، وعلى كل القوى الديمقراطية الآن أن تضع "خلافاتها" جانبا، وأن تضغط خلال هذه الفترة لكي تتوفر الشروط، فإذا توافرت الشروط ستكون اللعبة مفتوحة، وإلا نجعلها معركة فاصلة تخرج فيها التظاهرات العارمة، لكي يرحل هذا الشخص لأنه لا سبيل آخر.

أيهما أكثر ضعفا من الآخر اليوم: نظام قيس سعيّد أم المعارضة التونسية؟

المعارضة في الوقت الحاضر أضعف، لأن قيس سعيّد مدعوم بالدولة العميقة، ويفعل ما يريد، و"المعارضات" -إن صح التعبير- في موقع رد فعل؛ فيجب أن تصير هذه "المعارضات" معارضة واحدة لكي تتغير موازين القوى، لكن واضح أن موازين القوى في الوقت الحاضر في مصلحة النظام.

ما مدى ثقتكم في حركة «النهضة» اليوم، وما المراجعات المطلوبة منها؟

أنا حذّرت الأخوة في حركة النهضة أكثر من مرة، وقلت لهم إن السياسة التي تمارسونها هي ممارسة "تغذية التمساح لتكون آخر من يأكل "، والتمساح الآن أكل "النهضة".

وأتمنى أن تكون "النهضة" تعلمت الدرس، وأن يحدث تغيير جذري في تعاملها مع الحلفاء والأصدقاء؛ فأحيانا كنت أرى أنهم يهتمون بإرضاء الأعداء أكثر من الأصدقاء، وأتمنى أن تكون غيّرت مواقفها في كل الموضوعات، لكن سنرى هل سيغلب الطبع التطبع، وتكون هناك مراجعة كاملة للسياسات التي أدت إلى هذه المأساة أم لا؟

هل نشهد الآن الفصل الأخير من فترة حكم قيس سعيّد، وهل يمكن أن تحدث لاحقا "مفاجآت سياسية"؟

المجموعة التي وراء هذا الشخص في وضع صعب جدا؛ لأن المحافظة على هذا الشخص مغامرة، وتركه مغامرة أيضا، لأنه غير كفء، وغير سوي، وغير شرعي، والأزمة الاقتصادية ستتفاقم بشدة، وأزمة الحريات ستتفاقم، وسيؤدي في آخر المطاف إلى انفجار، لكن أيضا ما هو البديل، وهل هناك "بديل آمن" يُطمئن المعارضة والشعب، وينفس "الطنجرة" قبل الانفجار.. ليست لدي معلومات دقيقة، وأعتقد أنهم في "ورطة كبرى"، ويجب علينا جميعا إغلاق قوس الانقلاب في أقرب وقت؛ نظرا لكارثية الأوضاع.

في حال خروج قيس سعيّد من سدة الحكم، كيف تتوقعون مصيره؟ وهل يمكن أن تكون نهايته شبيهة بنهاية زين العابدين بن علي؟

سينتهي مصيره إما على طريقة "بورقيبة" من خلال "انقلاب طبي"، وإما على طريقة "بن علي" من خلال الهرب للخارج، وما أعرفه أنه لن يترك السلطة، لأنه يعرف تمام المعرفة أنه إذا ترك السلطة فسيُحاكم، وأنا أول مَن سيطالب بمحاكمته؛ فقضية العدالة الانتقالية انتهت؛ فبالنسبة لي لم تعد هناك عدالة انتقالية ولا عدالة انتقامية، وإنما عدالة وفقط. هذا الرجل يجب أن يُحاكم محاكمة عادية على جرائمه، ولا أعني بالضرورة محاكمة كل مَن سانده، وإلا سيكون هناك المئات أو الآلاف من الأشخاص، وإنما أقصد هذا الشخص، واثنين أو ثلاثة آخرين ممَن ساهموا في تزوير الانتخابات والدستور، هؤلاء يجب أن يُحاكموا، وهذا هو الحد الأدنى الذي لم تفهمه "النهضة"؛ فكفى توافقا مع الفاسدين والمستبدين.

على الشعب في تونس أن يتخلص من هذا الشخص في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، وأن يجد حلا لبديل يعيد المسار الديمقراطي على السكة، وهذا لن يكون إلا بالعودة إلى دستور 2014، إما هذا وإما فإن تونس ستدخل في مرحلة تفكك الدولة، وتعفن المجتمع، وهذا ما أخشاه كثيرا، ويجب أن ينتبه إليه كل التونسيين.

فمن غير المقبول أن يسمحوا بتفكك الدولة، وتعفن المجتمع، وهذا حتما سيحدث طالما أن هذا الشخص ظل موجودا على رأس السلطة.

البعض ربما يسأل: لماذا لا تقبلون بخروج آمن لقيس سعيّد وبضمانات لعدم ملاحقته بأي صورة كي يحدث انتقال سلس للسلطة دون قلاقل؟

لا أؤمن بهذه النظرية مطلقا، هو إن لم يخرج من السلطة سيُخرَج منها. الرجل يعاني من مرض الوهم؛ فهو واهم أن كل الناس ضده، ومتآمرين عليه، وأنه أتى بما لم تستطعه الأوائل؛ فجنون العظمة الذي لديه لن يسمح له أبدا بالخروج، لكن إذا كان قررت الدولة العميقة أن تستبدله، فإنها ستسعى إلى شيء كهذا، لكن أنا سأرفضه.

قناعتي أن أكبر خطأ ارتكبناه في الثورة هو أننا لم نحاسب المجرمين الذين عذبوا، وقتلوا، ولو فعلنا ذلك لكانت الأمور أخذت مجراها المأمول، والآن هناك مطلب عدالة، وهذا المطلب يجب أن يُستجاب له.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مقابلات التونسي المنصف المرزوقي الانتخابات الرئاسية حركة النهضة تونس المنصف المرزوقي حركة النهضة الانتخابات الرئاسية قيس سعيد المزيد في سياسة مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات مقابلات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الانتخابات الرئاسیة انتخابات حرة ونزیهة الأزمة الاقتصادیة الوضع الاقتصادی الدولة العمیقة هذه الانتخابات محکمة دستوریة الجیش التونسی أکتوبر المقبل الجیش والأمن تشرین الأول على الدستور الشخص الذی الکثیر من هذا الرجل انقلب على التخلص من هذا الشخص قیس سعی د فی مرحلة یرحل هذا الذی کان یجب أن ت الآن أن فی تونس أن تکون یمکن أن وهذا ما هذا ما أن هذا

إقرأ أيضاً:

في حوار لجريدة «عُمان».. الباحث البروفيسور نائل حنون: مدينة إزكي ذكرت بوضوح باسمها الحالي في نصوص الملك الآشوري آشور- بانيبال عام 640 قبل الميلاد

- الألف الثالث قبل الميلاد تاريخ ظهور المدن الأولى في الحضارات القديمة التي قامت في المشرق العربي، من حضارة وادي الرافدين في الشمال، إلى عُمان في الجنوب

- بناء صورة أي حضارة يجب أن يبتدئ بمقومات وجودها، ثم توظيف عمليات التنقيب الأثري في مواقعها لتكوين معالم صورتها الشاملة لوضعها في مكانتها بين الحضارات الإنسانية

- المدينة عموما المرحلة الأكثر نضوجا في تطور الحضارة بعد عدة آلاف من السنين التي مرت منذ نشوء القرى الأولى وتوصل الإنسان إلى الاستقرار والزراعة وتطوير حضارته المبكرة في مختلف المجالات

تتجسد الحضارة العُمانية الممتدة في كونها حضارة شمولية؛ نظرا لارتباطها الوثيق بالحضارات الإنسانية القديمة. فهي تشكل نموذجا تاريخيا يمتد إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وما نشهده اليوم من اكتشافات متتالية هو خير مثال على ذلك. حيث إن التنقيب القائم على الأسس العلمية والدراسات العميقة أضاف عمقا لتاريخ عُمان وأبجدياته الأولى.

في هذا السياق، يتحدث البروفيسور نائل حنون، الباحث بمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات اللغوية والإنسانية بجامعة نزوى، برؤية عملية ذات وقع تفصيلي على إظهار أبرز المشاريع التاريخية والعلمية، ويشير قائلا: «ندرج مشاريع البحوث العلمية التي نعمل عليها في الوقت الحاضر ضمن ثلاثة مسارات، وهي: الدراسات والأوراق البحثية، والكتب العلمية، والمشروعات العلمية الكبيرة. ففي المسار الأول، هناك خمسة بحوث منشورة أو مقبولة للنشر، ومنها بحث عن انتقال الأفلاج إلى وادي الفرات في سوريا القديمة (منطقة وادي الخابور الأسفل)، وبحث عن العلاقات العُمانية - البحرينية في العصور القديمة فضلا عن البحث الخاص بمدينة إزكي، ويتواصل العمل حاليا بالاشتراك مع باحثين من جامعة نزوى على عدة موضوعات أخرى. وفي المسار الثاني، صدر كتابان، يحمل أحدهما عنوان (الاستكشاف الأثري من وادي الفرات إلى عُمان)، ويجري العمل على مشاريع كتب أخرى».

ويضيف: «في سياق الكشف عن المدن القديمة في عُمان، مثل (إزكي)، ومكانتها وتاريخها ودورها الحضاري والعلمي، لابد من التذكير بأن المدينة تمثل المرحلة الأكثر نضوجا في تطور الحضارة بعد عدة آلاف من السنين التي مرت منذ نشوء القرى الأولى، وتوصل الإنسان إلى الاستقرار والزراعة وتطوير حضارته المبكرة في مختلف المجالات. فالمدينة هي البوتقة التي تتفاعل فيها كل مقومات الحضارة ونتاجها المادي والفكري، ولذلك يختلف تاريخ نشوء المدن الأولى من حضارة إلى أخرى بحسب درجة التطور التي بلغتها كل حضارة. اقترنت هذه الحقائق العلمية مع ما تميزت به حضارة وادي الرافدين القديمة من ابتكار الكتابة الأولى في تاريخ البشرية وتوظيفها للتوثيق بشكل لم تصل إليه حضارة قديمة».

ويوضح: «لا يُستغرب أن تلك الحضارة استمرت في توثيق البلدان المعاصرة لها منذ الابتكار الأول للكتابة ولمدة تزيد على ثلاثة آلاف عام. لم يقتصر هذا التوثيق على موطن الحضارة نفسه، بل شمل العالم القديم الذي عرفته تلك الحضارة وتفاعلت معه بشكل أو بآخر. وهذا يعني أن نصوص حضارة وادي الرافدين، المدونة بالخط المسماري على ألواح الطين والحجر، وباللغتين السومرية والأكادية، وثقت البلدان القديمة في منطقة واسعة تمتد، بالمصطلحات الحديثة، من أفغانستان شرقا إلى مصر وقبرص وكريت غربا، ومن بلاد الأناضول شمالا إلى عُمان جنوبا. ويجب التوضيح هنا أن المقصود بمصطلح (البلدان) (Toponyms) هو ما يدل عليه هذا المصطلح في الكتابات التاريخية العربية من الدلالة على المدن والأقطار والأقوام والقبائل والمعالم الطبيعية».

ويبين: «بسبب هذا المستوى من التوثيق، أصبح من الضروري دراسة حضارة وادي الرافدين ولغاتها ونصوصها القديمة في جميع البلدان المذكورة هنا ليكون علم الآثار مكتملا فيها. فمنذ مرحلة مبكرة من عملنا في مشروع (موسوعة البلدان القديمة)، قبل ما يزيد على ثلاثة عقود، توصلنا إلى أسماء نحو 2500 مدينة قديمة وجدت خلال عصور الحضارة القديمة في المنطقة التي شملها التوثيق في النصوص المسمارية. وتمكنا من تحديد مواقع معظم هذه المدن، وما بقي مجهول الموقع منها يزيد قليلا على ثلاثمائة مدينة يمكن أن تكون في أي من البلدان التي شملها التوثيق القديم. والمقصود بالتوثيق هنا هو تضمن النصوص معلومات تخص مواقع البلدان وبيئاتها والطرق إليها وعلاقاتها مع حضارة وادي الرافدين، ومع بعضها، فضلا عن الدول التي كانت تتبعها والأقوام القاطنة فيها».

ويؤكد أيضا: «لم يكن ما أوصلنا إلى مدن عُمان القديمة عمليات التنقيب عن الآثار، وإنما مواردها في النصوص المسمارية، كما هو الحال فيما يخص الاسم القديم للبلاد (مجان) (Magan) وقد استُعمل هذا الاسم لعُمان في الألف الثالث وجزء من الألف الثاني قبل الميلاد، وتغير الاسم في الألف الأول قبل الميلاد. وتقدم لنا النصوص المسمارية معلومة مهمة جدا عن اسم مَجان، ذلك أنه لم يكن اسما للبلاد فقط وإنما اسما للمدينة التي كانت عاصمة البلاد. وقد أدى عدم معرفة هذه المعلومة، بسبب عدم دراسة النصوص المسمارية والاستعانة بما تقدمه، إلى عدم البحث عن موقع هذه المدينة أصلا وعدم التوصل إلى دلالتها على وجود مدن في عُمان القديمة خلال الألف الثالث قبل الميلاد، وهو زمن نشوء المدن الأولى. المدينة الثانية التي قامت في عُمان قديما يعود تاريخها أيضا إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وقد توصلنا إلى اسمها من خلال النصوص المسمارية التي تعود إلى ذلك الزمن، واسم هذه المدينة هو (جُبِن) (Gubin) ولابد من الإشارة إلى أن التوثيق في النصوص المسمارية تميز بذكر تفاصيل مهمة جدا تساعد كثيرا علماء الآثار في التوصل إلى تحقيق الاكتشافات المهمة. ولذلك، عندما يعمل هؤلاء على غير هدى هذه النصوص، فإنهم يكونون بعيدين عن رسم الصورة الكاملة والشاملة للحضارة القديمة. فعلى سبيل المثال، يدل نص مسماري ورد فيه اسم مدينة جُبِن على أن أخشابا متميزة جُلبت منها إلى وادي الرافدين. وهذه الأخشاب، مثل العلعلان، لا يمكن أن تنمو في عُمان سوى على سلسلة جبال الحجر الشرقي (الجبل الأخضر أو جبل شمس)، وبهذا أمكن تحديد المنطقة التي كانت فيها هذه المدينة».

وقال: «إن مدينة إزكي، ذُكرت بوضوح باسمها الحالي نفسه في نصوص الملك الآشوري آشور- بانيبال في القرن السابع قبل الميلاد، وتحديدا في عام 640 قبل الميلاد. ولم يقتصر ذكر إزكي على اسمها فقط، بل وصفت بأنها (مدينة ملوكية) (وباللغة الأكادية: آل شَرّوتِ)، أي أنها كانت عاصمة ملكية. إن تحديد موقع المدينة القديمة بالنسبة إلى المدينة الحالية أمر ذو أهمية كبيرة، ويمكن أن يمهد للكشف عن معالمها. هذه المدينة لا يمكن أن تشابه المستوطنات المتفرقة التي تم التنقيب فيها حتى الآن، فكونها عاصمة ملكية يعني تطورها عمرانيا واحتواؤها على قصر ملكي وقصور أخرى، وكذلك منشآت دينية ومدنية مهمة وأضرحة ملكية فضلا عن الأحياء السكنية والأسوار والحصون».

في سياق البحث والتنقيب عن التاريخ العُماني، وحول ما إذا كان هناك ضعف في هذا الجانب وما يجب الاشتغال عليه للنهوض بالإرث التاريخي، يقول: «إن بناء صورة أي حضارة يجب أن يبدأ بمقومات وجودها، ثم توظيف عمليات التنقيب الأثري في مواقعها لتكوين معالم صورتها الشاملة ووضعها في مكانتها بين الحضارات الإنسانية التي مهدت للبشرية حاضرها وحضارتها المعاصرة. ويمكن تحديد منهج العمل الأثري في سلطنة عُمان بالاقتران مع المعلومات المستمدة من الدليل الكتابي بهدف استجلاء معالم حضارة البلاد القديمة».

ويشير أيضا إلى «أنه لابد من تكوين الصورة الحقيقية لحضارة عُمان القديمة وثروتها الأثرية، ووضعها في مكانها الصحيح وطنيا وعالميا، حتى يتمكن الجميع من استيعاب الحقائق الناتجة والتعامل معها في سياق الدراسات الثقافية والحضارية. كما ينبغي إدخال نتائج كل عملية تنقيب أثري في أي موقع في سلطنة عُمان ضمن خارطة جامعة فعلية وافتراضية، رسما ومعلوماتيا، لاستحداث دور أكثر فعالية للنهوض بالإرث التاريخي الوطني استكمالا لما تم حتى الآن».

ويقترب «حنون» من طبيعة التاريخ العُماني القديم وتأثير إنسان هذه الأرض على العالم الخارجي، ويؤكد: «حتى نعرف عمق الدور العُماني في مرحلة نشوء الحضارات القديمة، وفي رسم خطى البشرية في موكب الحضارة، نعود إلى السؤال الأساسي عما إذا كانت هناك حضارة عُمانية قديمة بمقوماتها وسماتها الخاصة، أم هي مسألة مواقع أثرية ومستوطنات متفرقة تجري في أفقها عمليات التنقيب الأثري الحالية؟ طبعا، بإمكان أي شخص أن يقول ببساطة: إنه كانت هناك حضارة عريقة في عُمان القديمة، ولكن حين يسأل عن الدليل العلمي، لا يجد ما يجيب به سوى وجود الآثار. ولكن آثار الإنسان القديم ومجتمعاته توجد سواء وجدت حضارة أم لم توجد. نقصد بالحضارة هنا ما يدل عليه مصطلح (Civilization) وليس مصطلح (Culture). والمصطلح الأخير في علم الآثار يعني (الثقافة)، ويدل على مخلفات الإنسان القديم سواء كان متحضرا (Civilized) أم غير متحضر، أي في ظل وجود حضارة أو في عدم وجودها. ثم إن من يقدم تلك الإجابة يبدأ بالبحث عن دليل من خلال محاولة إثبات وجود «كتابة» و«أبجدية»، حتى في غياب الشاهد على وجودها. وما هذا بالمنهج العلمي، فالكتابة ليست هي الحضارة، وإنما هي إحدى نتاجاتها، ويمكن أن تكون هناك حضارة من غير وجود كتابة فيها».

يوضح «حنون» أن المنهج العلمي يقتضي عرض المعايير العلمية لتعريف الحضارة قبل القول بوجودها. ويتفق علماء الحضارات على أن بلوغ أي مجتمع عتبة الحضارة يعتمد على تفعيل مثلث من ثلاثة عوامل تكمن عند قاعدة كل واحدة من الخصائص الثقافية، وهذه العوامل الثلاثة هي: الفرصة، والحاجة، والقدرة على الابتكار. وتأتي الإضافات الأساسية على مجموع ما يتكون منه تراث كل مجتمع بشري من خلال الاكتشافات العرضية أو المقصودة. وبهذا، لا يمكن حصر تقييم وجود الحضارة بمعيار واحد أو بضعة معايير، بل بمجموعة معايير قد لا يتوافر جميعها في حضارة معينة وإنما بتوافر أغلبها. وقد سبق أن حددنا هذه المعايير سابقا (في كتابنا دراسات في علم الآثار واللغات القديمة، ج1، هيئة الموسوعة العربية، دمشق، 2011م) بتسعة معايير، وهي: نشوء المدن، وابتكار الكتابة، وتصنيع البرونز، وتشييد الصروح الكبيرة، ووجود تكوين اجتماعي طبقي، وتقسيم العمل والتخصص الحرفي، وتطور التجارة والاتصالات البعيدة، وتطور النظام الحربي ووجود الجيش، وأخيرا التقدم المعرفي في مجالات العمارة، والرياضيات، والفلك والحسابات التقويمية.

ويؤكد «حنون» في هذا السياق: «في عُمان تحققت قديما ثمانية من هذه المعايير التسعة، وهذا في حد ذاته يكفي للقول بوجود (حضارة عُمان القديمة) ووضعها في مصاف الحضارات القديمة التي عرفت بدورها في تطور البشرية، لاسيما أن حضارة عُمان كانت على اتصال وتفاعل مع أهم وأكبر ثلاث حضارات قديمة، وهي حضارة وادي الرافدين، حضارة وادي النيل وحضارة وادي السند. علما أن هناك حضارات قديمة لم يتحقق فيها وجود مثل هذا العدد من المعايير. أما المعايير الثمانية التي وجدت في حضارة عُمان القديمة فهي: أولا: وجود المدن منذ عصور نشأة المدن الأولى، ونقصد ما ذكرناه عن مَجان وجُبِن (في الألف الثالث قبل الميلاد) وإزكي (في الألف الأول قبل الميلاد). ثانيا: كانت حضارة عُمان القديمة رائدة في تعدين النحاس وصناعة البرونز وإنتاج الأدوات البرونزية. ثالثا: عرفت عُمان قديما بتشييد الصروح المتمثلة في الأبراج، وكذلك المشاريع الكبرى المتطلبة لجهود جماعية مكثفة والمتمثلة بالأفلاج. رابعا: يدل تعدين النحاس وصناعة سبائكه (الكعكات) وإنتاج الأدوات وممارسة الصيد البحري والزراعة بنظام الواحات على اتباع التقسيم في العمل والتخصص الحرفي المتطور. خامسا: أثبتت أعمال التنقيب الأثري ووثائق حضارة وادي الرافدين وجود تجارة متطورة وبعيدة المدى لعُمان في العصور القديمة بلغت بالتأكيد مناطق وادي الرافدين وبلاد فارس ووادي السند وما وراءها. سادسا: واجهت عُمان في العصور القديمة غزوات من قوى كبرى، مثل الإمبراطورية الأكادية، واستطاعت أن تصدها، وما كان هذا ممكنا دون وجود نظام حربي وتكوين مسلح. سابعا: تدل فعاليات مختلفة، ثبت وجودها، على تقدم معرفي في عدة مجالات تقترن بالحضارة، ومن هذه الفعاليات التعدين وابتكار نظام الأفلاج وإدارته والإبحار، وجميع هذه الفعاليات ترتبط بالحرفية والتقويم والفلك والحسابات. ثامنا: وجود الملوك والنظام الملكي طوال ثلاثة آلاف عام يدل على وجود راسخ للحكم ونظام اجتماعي لا يمكن أن يتشكل دون نضوج التكوين الطبقي الاجتماعي».

ويعرّف «حنون» بالدور الذي يضطلع به مركز الخليل بن أحمد الفراهيدي بجامعة نزوى في تبني الدراسات والبحوث المتعلقة بالنبش في مكونات ثقافة وتاريخ عمان القديم والحديث، ويقول: «المركز هو المكان المناسب لانطلاق المشاريع العلمية والعمل بروح الفريق في ظل بيئة أكاديمية بناءة. ولقد استضاف المشاريع الخاصة بالدراسات الأثرية والحضارية وساعد على تطويرها، على الرغم من تعدد المهام التي يقوم بها المركز والتي تشمل إصدار المجلات العلمية وعقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العلمية فضلا عن متابعة البحوث. وباتت الظروف مهيأة لاستحداث كرسي للدراسات الأثرية والحضارية لينهض بعبء العمل في هذا المجال. ولقد تفاعل مركز الخليل في جامعة نزوى خلال السنوات الأخيرة مع وزارة التراث والسياحة وجهودها المتواصلة في النهوض بالواقع الأثري، كما تمت المشاركة في عدد من الندوات والمؤتمرات العلمية الوطنية والدولية. وقد طرحت فكرة العمل المشترك مع مديرية التراث والسياحة في محافظة الداخلية لتفعيل عملية اكتشاف مواقع المدن القديمة تمهيدا للتنقيب والاستكشاف، وفي هذا الصدد يضع مركز الخليل نتائج العمل في المسارات الثلاثة آنفة الذكر في خدمة العمل الميداني والتخطيط لمشاريع مهمة على الأرض».

وفي ختام حديثه، يقول «حنون»: «إن علم الآثار له خصوصية متميزة ويتطلب توافر معارف وعلوم متعددة، ذلك أن هذا العلم يتعامل مع ما خلفه الماضي في غياب صانعيه. وهو نتاج مختلف نشاطات الإنسان والمجتمع القديم ومعارفه المتراكمة وإبداعاته، ومن العلوم الحديثة نسبيا ولا يزال يتطور. وهذا ما يحتم على العاملين فيه مواكبة تطور مقوماته واستيعاب عمقه وأبعاده العالمية لتطبيقه فيما بعد ببعده المحلي. والخشية أن يكون العمل فيه عكس هذا، فالإبداع والتقصي مطلوبان بشكل ملح في مجال علم الآثار من العمل الحقلي إلى الدراسة والبحث والتأليف. وهذا يعني الاعتماد على النفس وامتلاك المعلومات الأساسية واستلهام مكونات الذات الوطنية، وليس مجرد اتباع عمل البعثات الأجنبية».

مقالات مشابهة

  • الرئيس التنفيذي للشركة في حوار مع «الاتحاد»: 20 مليون موافقة طبية أصدرتها «ضمان» في 2023
  • الجنونُ الصهيو أمريكي ومآلاتُه
  • رئيس غانا يتعهد بانتقال سلس للسلطة بعد الانتخابات الرئاسية القادمة
  • في حوار لجريدة «عُمان».. الباحث البروفيسور نائل حنون: مدينة إزكي ذكرت بوضوح باسمها الحالي في نصوص الملك الآشوري آشور- بانيبال عام 640 قبل الميلاد
  • المرزوقي يفتتح بطولة الإمارات الفردية للشطرنج
  • سلوي عثمان لـ "الفجر الفني": لا توجد وصفة سحرية لزواج ناجح.. وهذا رأيي فى الذكاء الاصطناعي (حوار)
  • نائب المحافظ سوهاج يلتقي أهالي ساقلتة في حوار مجتمعي
  • ما سيناريوهات الرد الإيراني على اغتيال إسرائيل لإسماعيل هنية؟
  • 11 مرشحا للرئاسيات التونسية يطالبون بضمان شروط المنافسة.. اشتكوا من مضايقات
  • الانتخابات الرئاسية في تونس.. أمل في التغيير وشكوك حول النزاهة