سر لحظة الخلق الأولى.. هل بدأ الكون بانفجارين عظيمين؟
تاريخ النشر: 8th, July 2024 GMT
مقدمة للترجمة
بنيت الصور الأولى من نظرية الانفجار العظيم قبل نحو قرن من الآن، ومع تطور علوم الرصد تمكن العلماء من تأكيدها، لكن مؤخرا ظهرت عدة فرضيات إضافية تقترح أن الانفجار العظيم لم يكن مجرد نقطة واحدة بدأ منها كل شيء، بل هناك حالة من التغير والتقلب التي اختبرها الكون خلال بداياته الأولى، والتي تسببت ربما في حدوث انفجار عظيم ثان بعد عدة أسابيع من الأول الذي نعرفه، لكنه انفجار ذو طابع مختلف، كان السبب في نشوء المادة المظلمة.
نص الترجمة
أحضِر غلاية وضعْ ماء بداخلها ثم اتركه يغلي، وبينما تجلس لتستمع من كثب إلى فقاعات بخار الماء وهي تتمدد وتتداعى وتتصادم مع بعضها بعضا، ستشهد تجربة تحاكي الانفجار العظيم (اللحظات الأولى من نشأة الكون)، وفي أثناء ذلك، ربما تهتدي أيضا إلى حل لغز كيفية حصول الكون على مادته المظلمة.
حسنا، ما تحدثنا عنه للتو يعَدّ صحيحا جزئيا، حيث يجد فريق من الفيزيائيين أن هناك فقاعات من الطاقة كانت تتصادم بنفس الطريق في بداية الكون، تعد سببا للتكهن بوجود أفكار جديدة حول كيفية نشوئه، إذ يعتقد هؤلاء أنه بعد الانفجار العظيم بعدة أسابيع، وقع انفجار عظيم آخر! ولعل تلك اللحظة الثانية أوجدت جسيمات تمادت في التوغل بقوة إلى الحد الذي بلغت فيه كتلتها ضعف كتلة الجزيئات المكوِّنة للمادة العادية بتريليونات المرات. ومن يعلم! فقد يكون لتلك الجسيمات دور في تفسير المادة المظلمة الغامضة والخفية التي يبدو أنها تشكِّل الروابط بين المجرات.
رغم أن فكرة "الانفجار العظيم المظلم" الثاني قد تتسم ببعض الغرابة، فإنها تتماشى على نطاق واسع مع الأفكار الجديدة التي ينطوي عليها علم الكونيات، إذ يعيد علماء الكون صياغة مفهومنا التقليدي عن الانفجار العظيم ليشمل عدة مراحل انتقالية متميزة، لكل منها بصمتها في الكون. وما يميز هذه الفكرة هو امتلاكنا في الوقت الحالي أدوات قد يعَوَّل عليها لاختبار هذه الفكرة والتعمق في لحظات الكون الأولى وتحليل التموجات الخافتة التي سببتها تلك التحولات الجوهرية. وإذا أشارت الأدلة في النهاية إلى حدوث "الانفجار العظيم المظلم"، فإن ذلك لن يعيد تشكيل نظرتنا إلى الكون في مراحله المبكِّرة فحسب، بل سينفض غبار الجمود عن نظرتنا للمادة المظلمة ويبعث فيها اليقظة من جديد بتقديم أدلة حول طبيعتها وكيف يمكننا في النهاية الكشف عن هويتها.
العلماء يلاحظون وجود المادة المظلمة بطريق غير مباشر، عن طريق رصد أثرها الجذبوي على المجرات وعناقيد المجرات (ناسا) لماذا نعتقد وجود المادة المظلمة رغم أنها خفية؟السبب الذي يجعلنا نعتقد وجود المادة المظلمة في الكون هو سلوكها الذي أدى إلى حل عديد من المشاكل الفلكية. فعلى سبيل المثال، تدور المجرات الموجودة في عناقيد مجرية حول بعضها على نحو أسرع من المتوقع، مما يشير إلى وجود مصدر آخر للجاذبية في الكون. وبالمثل، تتشكَّل المجرات الفردية قبل الأوان وتدور أجزاؤها الخارجية بسرعات غير متوقعة كان من المفترض أن تتفكك المجرات بسببها، وهو ما يفضي إلى وجود هالات ضخمة من مادة خفية تعمل جاذبيتها الإضافية على لصق المجرات، لكن رغم أن نسبة المادة المظلمة تصل إلى 5 أضعاف المادة العادية في الكون، فإننا مع ذلك لم نحدد بعد هوية الجسيمات التي تتألف منها.*
تعتَبر المادة المظلمة لغزا محيرا للعلماء، فهي تشكِّل جزءا كبيرا من كتلة الكون، لكننا لا نستطيع رؤيتها أو الشعور بها. وعلى مدار 40 عاما، واصل علماء الفيزياء سعيهم متلمسين طريقهم لكشف أسرارها من خلال بناء أجهزة استشعار متطورة، مستندين إلى فرضية أن الأرض، في أثناء دورانها حول مجرة درب التبانة، ستتقاطع بلا شك مع بعض جسيمات المادة المظلمة. وتركِّز بعض هذه الأبحاث على جسيمات تسمى "الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل"، وهي جسيمات افتراضية يعتقد أنها تتفاعل مع المادة العادية عبر القوة النووية الضعيفة، إحدى القوى الأساسية في الطبيعة.
يسعى العلماء إلى التقاط ومضات ضوئية تشير إلى اصطدام الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل بنواة الذرة، وذلك عن طريق مراقبة حاويات كبيرة من سوائل كثيفة على أمل رصد وملاحظة تأثير اصطدام جسيم مادة مظلمة مع إحدى هذه الأنوية، فيتجلى على هيئة وميض يدل على وجود المادة المظلمة. ورغم تنوع وتطور التجارب التي أجريتْ خلال الـ40 عاما الماضية، بجانب توسيع نطاق البحث ليشمل أنواعا جديدة محتملة من المادة المظلمة، لم يُكتشف أي دليل قاطع على وجود المادة المظلمة بعد.
لكن فشلنا في العثور على هذه الجسيمات حتى الآن قد يشير إلى حقيقة مفيدة، وإن كانت مقلقة بعض الشيء حول طبيعة المادة المظلمة، فوفقا لكاثرين فريز، عالمة الفيزياء الفلكية في جامعة تكساس في أوستن، فإن عدم اكتشاف هذه الجسيمات حتى الآن قد يدل على أن المادة المظلمة لا تتفاعل على الإطلاق، مما يعني أن الجاذبية ستكون القوة الوحيدة التي تربط المادة المظلمة بالمادة العادية، وهو ما يسمى "بسيناريو الكابوس"، لأن الجاذبية ضعيفة جدا على مستوى الجسيمات الفردية، مما يجعل اكتشافها شبه مستحيل. ومع ذلك، ترى فريز أن الفشل في العثور على المادة المظلمة قد يشكل فرصة لإعادة النظر في افتراضاتنا حول كيفية نشأتها، ومن جانبها تضيف فريزر قائلة: "يفترض الناس دائما أن كل شيء نشأ في الوقت نفسه خلال انفجار عظيم واحد، لكن لا أحد يدري حقا ما حدث في ذلك الوقت".
في فبراير/شباط العام الماضي، اقترحت كاثرين فريز وزميلها مارتن وينكلر أن انفجارا عظيما ثانيا قد حدث بعد أسابيع من الانفجار العظيم الأول. وأطلقا على هذا الانفجار اسم "الانفجار العظيم المظلم" على أساس احتمال أن يكون هو السبب في إنتاج المادة المظلمة خلال عملية مختلفة عن تلك التي أنتجت الجسيمات والقوى التي نعرفها.
ما الانفجار العظيم؟
قد يبدو هذا الأمر غريبا وعصيا على الفهم، إلا أن هناك أسبابا وجيهة للاعتقاد بأننا قد أسأنا فهم ما حدث في الكون في مراحله الأولى، بما في ذلك ما نعنيه حتى بالانفجار العظيم. عندما نتحدث عن مصطلح الانفجار العظيم، سنجد أن أول من صاغه كان فريد هويل عام 1949، وللمفارقة أنه كان من معارضي هذه النظرية. بيدَ أن هويل استخدم هذا المصطلح للسخرية من فكرة أن كل المادة والطاقة انبثقت إلى الكون في لحظة واحدة، غير أن مؤيدي النظرية يرون أنه في هذه اللحظة كان الكون عبارة عن نقطة شديدة الحرارة والكثافة توسعت تدريجيا لتغدو هذا الكون الشاسع والمتنوع الذي نراه اليوم.
ورغم أن هذه الفكرة بدت غير منطقية لهويل، فإنه في الستينيات توصل الفيزيائيون إلى أدلة حاسمة تؤيد نظرية الانفجار العظيم، فقد اكتشفوا بحرا من الإشعاع يعرَف بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي، ولا يمكن تفسير هذا الإشعاع إلا بوجود كون يتوسع ويبرد.**
(الجزيرة)لكن نموذج الانفجار العظيم سرعان ما واجه مشاكل، تمثل إحداها في أن درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي موحدة ومتجانسة بدرجة مدهشة في جميع أنحاء الكون. ومثلما يستغرق الماء البارد وقتا ليتوزع في حمام ساخن، تحتاج الفوتونات أيضا (وهي جسيمات الضوء والمسؤولة عن القوة الكهرومغناطيسية) وقتا كافيا لتتوزع في جميع أنحاء الكون. ومع ذلك، لم يمر وقت كاف منذ الانفجار العظيم حتى يومنا هذا لتحقيق هذا التوازن الموجود حاليا. ولحل هذه المعضلة، أضاف الفيزيائيون فترة من التوسع الشديد بعد الانفجار العظيم، تسمى "التضخم الكوني"، لتسوية التفاوتات في درجات الحرارة.
يعدّ التضخم الكوني نوعا من التحول الطوري المشابه للتحول الذي يحدث عندما تعمل غلايتك على تحويل الماء السائل إلى بخار غازي. ومنذ ذلك الحين، أدرك الفيزيائيون أنه في أثناء التحولات الطورية في الكون المبكر، تجمعت طاقة الفراغ الزمكاني (الفضاء الذي يبدو فارغا، ولكنه يحتوي على طاقة كامنة) وشكَّلت الجسيمات الأساسية التي نعرفها اليوم، مثلما تتشكل قطرات الماء في الضباب الكثيف. لم تتسبب التحولات الطورية في إنتاج الجسيمات الأساسية من طاقة الفراغ الزمكاني فحسب، بل فصلتْ أيضا القوى الأربع الأساسية للطبيعة (الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة) من قوة واحدة موحدة كانت تسبقها.
تحولات زلزالية
في الوقت الحالي، لا تستحوذ الفكرة الغامضة المتمثلة في الانفجار العظيم على اهتمام العلماء كثيرا، وإنما يتجه جلّ اهتمامهم نحو التحولات الطورية أو المعروفة بالمراحل الانتقالية في بداية الكون. "الانفجار العظيم الساخن" هو المصطلح الشامل المستخدم الآن لسلسلة معقدة من تحولات الطاقة التي حدثت بعد فترة التضخم الكوني.
في السياق ذاته، يقول كاي شميتز من جامعة مونستر في ألمانيا: "حل محل المفهوم الخاص بالانفجار العظيم في علم الكونيات مصطلح آخر وهو علم كونيات التضخم (inflationary cosmology)، لكن تفاصيل هذه الفترة المتذبذبة والزاخرة بالتقلبات لا تزال غير محددة بصورة كاملة. ومع ذلك، لدى العلماء حاليا مرونة أكبر في كيفية تفسير وفهم الأحداث والتفاصيل التي جرت في الفترات المبكرة للكون".
يتمتع العلماء الآن بمساحة أكبر لإعادة تركيب وتفسير المكونات المختلفة للكون، وهو ما يجعل فرضية فريز ووينكلر بخصوص احتمالية وجود انفجار عظيم ثان فرضية مقبولة نسبيا، وليست لجة متقافزة من الأفكار التي يصعب تصديقها كما قد تبدو للوهلة الأولى. يتسم مفهوم "الانفجار العظيم المظلم" ببعض المنطقية لأن الجسيمات التي يولِّدها هذا الانفجار تؤثر على الكون المرئي لنا فقط من خلال الجاذبية.***
وعن ذلك، تقول فريزر: "لقد افترضنا أن هناك نوعين من (الانفجارات العظيمة) التي شكلَّت الكون، خلَّف النوع الأول وراءه الجسيمات العادية التي نعرفها ونفهمها، في حين أنتج الآخر المادة المظلمة التي تؤثر على الكون عبر الجاذبية فحسب". وفقا لفريزر، لكي يكون مفهوم الانفجار العظيم المظلم معقولا ومتسقا مع ما نعرفه عن تطور الكون، لا بد أن يحدث في وقت قريب جدا من الانفجار الأول، بمعنى أنه في غضون شهر، سيكون تأثيره على هيكل المجرات والتجمعات التي نراها اليوم ضئيلة للغاية، وتضيف فريزر قائلة إن "في خضم ذلك كله، يجب أن تتأكد من أن أي فرضية جديدة أو تعديل على النظريات الحالية لا يتعارض مع الفهم التقليدي والمقبول لعلم الكونيات".
وما إن يتعلَّق الأمر بأنواع المادة المظلمة التي سيخلِّفها الانفجار العظيم المظلم وراءه، حتى نجد أن حسابات فريز ووينكلر تشير إلى أن الانفجار العظيم المظلم يمكنه تشكّيل 3 أنواع مختلفة على الأقل من جسيمات المادة المظلمة، وجميعها غريبة، ولكن بعضها أغرب من غيرها، وعن ذلك تقول فريز: "إن أثقلها هو الأشد غرابة بينها". ولإنتاج جسيمات ضخمة من المادة المظلمة، لا بد أن تكون مرحلة الانتقال سريعة ومفاجئة، مما يخلق فقاعات تتوسع وتنقل النظام من حالة إلى أخرى، وبمجرد أن تصطدم هذه الفقاعات، حتى تطلِق طاقتها. يشبه هذا الصوت الهسيس الذي نسمعه عندما تبدأ الغلاية في الغليان وتتبدى آلاف الفقاعات الصغيرة على السطح. في هذا النوع من الانفجار المظلم، تكون الفقاعات نشطة لدرجة أنها يمكن أن تنتج جسيمات أكبر بمقدار 10 تريليونات مرة من كتلة البروتون. ولكي تعكس الحجم المرعب لهذه الجسيمات المظلمة، أطلقت عليها فريز اسم "داركزيلا" في إشارة إلى اسم الوحش الخيالي في إحدى المسرحيات اليابانية (غودزيلا).
على الجانب الآخر، يمكن أن تنتَج جسيمات مظلمة مختلفة تماما إذا حدث الانتقال الطوري تدريجيا، فذاك يعني أن الانفجار العظيم المظلم سيخلِّف وراءه جسيمات أخف، والنوع الأول من هذه الجسيمات من المفترض أنه يشبه الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل التي تبحث عنها التجارب التقليدية للمادة المظلمة، هذه الجسيمات المظلمة ستتفاعل مع نسخ مظلمة من قوى الطبيعة، مثل الكهرومغناطيسية المظلمة، التي يفترض أن تنتج فوتونات المظلمة. وفي حالة كانت هذه القوى المظلمة غير موجودة، فإن الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل لن تكون قادرة على موازنة طاقتها من خلال امتصاص وإصدار الفوتونات المظلمة. وبدلا من ذلك، ستنتهي بجسيمات أشبه بآكلي لحوم البشر، إنها جسيمات مروّعة تبتلع بعضها بعضا كلما تصادمت، وذلك بسبب عدم وجود أي قوى طبيعية للحفاظ على التوازن. ومن جانبها، تقول فريز: "هذا هو كل ما توصلنا إليه من احتمالات حتى الآن، ولعل هناك مزيد لم نتمكن من التوصل إليه بعد".
إن الفكرة التي تشير إلى وجود قطاع خفي من الجسيمات المظلمة ليست جديدة، فمنذ فترة طويلة، اقترح بعض العلماء وجود "الفوتونات مظلمة" و"النيوترينوات الخاملة" كمرشحين للمادة المظلمة التي تستجيب فقط لقوة الجاذبية. على الجانب الآخر، اقترح عديد من الباحثين فكرة إنتاج المادة المظلمة من خلال تصادم الفقاعات في التحولات الطورية، بينما استخدم آخرون التحولات الطورية لتفسير تكوين المادة المظلمة من الثقوب السوداء البدائية أو تفسير ظواهر غريبة مثل "شذرات الكوارك".
يوضح شميتز أن ما يميز اقتراح فريز ووينكلر هو أن قطاعهم المظلم معزول تماما عن القطاع المضيء (المرئي) من الكون، حيث لا توجد أي قوى تربط بين القطاعين سوى الجاذبية. لكن شميتز يضيف أنه على الرغم من ذلك فإن هذا الانفصال بين الانفجارين يثير تساؤلات في حد ذاته، لأنه ليس واضحا من أين تأتي الطاقة اللازمة لإشعال فتيل الانفجار العظيم المظلم، ووفقا لمبدأ "نصل أوكام" (وهو مبدأ فلسفي يستند إلى فكرة أنه كلما زادت الافتراضات اللازمة لتفسير لغز ما، انخفضت فعالية هذا التفسير، بمعنى أنه يعطي الأفضلية للنظرية الأبسط)، فإن شميتز يرى أيضا أنه لا جدوى من وجود انفجارين في حين أن أحدهما كاف.
في وقتنا الحالي، لا تزال الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل هي المرشح الرئيسي للمادة المظلمة، وفقا لما يقوله تشامكور غاغ، أستاذ الفيزياء بكلية لندن الجامعية، الذي يرى أنه "من المحتمل أن يستغرق الأمر عقدا آخر من الزمان على الأقل قبل استبعاد هذه جسيمات بوصفها نظرية مفضلة لدى العلماء". ومع ذلك، يتمتع غاغ بعقلية متفتحة تجاه البدائل الأكثر غرابة مثل وجود انفجار عظيم ثان. ويضيف: "ظاهريا، لا يوجد ما هو خاطئ في الفرضية الجديدة، إلا أن التحدي يكمن في التحقق من صحتها وإمكانية اختبارها عمليا".
موجات الجاذبية هي تغيرات طفيفة في النسيج الكوني (ناسا) البحث عن داركزيلا (الجسيم المرعب)تؤمن فريز بوجود انفجار عظيم مظلم مستندة إلى فرضية أن الفقاعات المتصادمة خلال المراحل الانتقالية المرتبطة بالانفجار العظيم المظلم ستترك آثارا ملموسة تظهر على شكل تموجات جاذبية في الزمكان، وهي ظواهر ربما رصدناها بالفعل. ففي عام 2016، أول اكتشاف لموجات الجاذبية أعلنه مرصد لَيغو، وهو مرصد للأمواج الثقالية بالولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، رصد العلماء أكثر من 100 موجة جاذبية أخرى، ويمكن إرجاع أصل كل واحدة منها إلى تصادم بين جسمين سماويين فائقي الكثافة، مثل الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية.
ومع ذلك، سنجد نوعا آخر من موجات الجاذبية يعرف باسم "الهمهمة الخلفية"، هذه الهمهمة تشبه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. وهناك فرضيتان رئيستان تفسران مصدر هذه الهمهمة، تشير الفرضية الأولى إلى أنها قد تكون ناتجة عن اصطدامات عديدة من الثقوب السوداء البعيدة التي لا يمكن رصدها بصورة منفصلة، في حين تشير الثانية إلى أنها ربما تكون ناتجة عن التحولات الطورية في الكون المبكر، مثل تلك التي أدت إلى فصل القوى الأساسية في الكون.
في يونيو/حزيران العام الماضي، اكتشف علماء الفلك من مرصد نانو هيرتز لموجات الجاذبية في أمريكا الشمالية همهمة خلفية لهذه الموجات. ورغم أن الإشارة لا تزال ضعيفة جدا لتحديد مصدرها بصورة مؤكدة، فإن احتمال أن تكون نتيجة اصطدام الثقوب السوداء هو الأقرب للصحة لأننا على الأقل نعلم بوجود هذه الثقوب. تقدِّم نظرية "الانفجار العظيم المظلم" تفسيرا بديلا أكثر إقناعا وفقا لفريز التي ترى أن مقاييس الطاقة لهذه الفكرة تتوافق مع الإشارات التي التقطها مرصد النانو هيرتز لموجات الجاذبية. في حين يؤكد شميتز على أن هناك فرصا كبيرة لفهم أعمق واكتشافات جديدة من خلال دراسة التغيرات الطورية التي حدثت في المراحل الأولى من عمر الكون، كما أن فكرة الانفجار العظيم المظلم لا يمكن استبعادها استنادا إلى البيانات الحالية.
يعمل مرصد النانو هيرتز لموجات الجاذبية على قياس التغيّرات الطفيفة في الإشارات المنتظمة للنجوم النابضة. ومن خلال تحليل دقيق لأوقات وصول هذه الإشارات، قد نستنتج خصائص موجات الجاذبية، مما يوفر أدلة حول أصلها. إذا ظهرت تباينات في هذه الخلفية، فذلك يعني أن تصادمات الثقوب السوداء هي المسؤولة عنها، وليس التحولات الطورية في الكون المبكر. وعن ذلك، يقول شميتز: "إذا كنا محظوظين كفاية، فقد يكون اكتشاف مثل هذه التباينات قريبا جدا، ربما في غضون بضع سنوات فحسب".
إذا بقيت همهمة الموجات الجاذبية موحدة، فمن المرجح أن تكون إشارة من التحولات الطورية في الكون المبكر. ومع ذلك، قد تكون هذه الإشارة مكونة من عديد من التحولات الطورية المتداخلة التي يجب فصلها أو فك اشتباكها. قد تشمل هذه التحولات التضخم الكوني أو التحولات الطورية التي شكلت القوى والجسيمات في النموذج القياسي.
فعلى سبيل المثال، حدثت إحدى هذه التحولات عندما تكثّف مجال هيغز، وهو مجال من الطاقة غير المرئية الذي يقال إنه موجود في كل مكان في الكون ويعطي كل الجسيمات كتلتها. ترى عالمة الكونيات كيارا كابريني من جامعة جنيف في سويسرا أن هناك احتمالية لوجود تحولات طورية أخرى لم تكتشف بعد، ربما لأنها قد تتطلب طاقات هائلة تتجاوز ما نستطيع إنتاجه أو ملاحظته بشكل مباشر في المختبرات الحديثة. ولفهم كل هذه الأفكار فهما أفضل، نحتاج إلى بيانات أدق عن موجات الجاذبية يمكن أن يعوَّل عليها. ترى فريز أن التلسكوبات الحديثة باتت قادرة الآن على رصد الإشارات المتوقعة من الانفجار العظيم المظلم، وكل ما علينا فعله هو مراقبة البيانات وتحليلها لاكتشاف إذا ما كانت مطابقة لافتراضها.
عندما تبدأ الصورة في الاتضاح حول خلفية موجات الجاذبية، سيكون لدى علماء الكونيات كثير من العمل. فثمة عديد من التحولات الطورية المحتملة التي يجب عليهم التحقق منها. بمعنى آخر، سيحتاج علماء الكونيات إلى تقديم تنبؤات دقيقة لتمييز التحولات الطورية المختلفة والتعرف على قصة أصلنا الأبعد والأشد حلكة. ورغم أنه يبدو عملا شاقا، فإنه يستحق المحاولة.
*لفهم فكرة المادة المظلمة تخيل أن أحدهم يضع تفاحة في كفة ميزان وكيلوغرام معدني في الكفة الأخرى، ولكن كفة التفاحة تظل أثقل، فيضيف صديقنا كيلوغراما معدنيا آخر، لكن كفة التفاحة تظل أثقل، فيضيف 5 كيلوغرامات لكن كفة التفاحة لا ترتفع، هنا سيقول أن هناك شيئا ما مع التفاحة يجعلها ثقيلة، لكننا لا نراه، العلماء كذلك يقيسون سرعات المجرات والنجوم داخلها، فيجدون أنها لا تتفق مع أشكال تلك المجرات في التلسكوبات، هناك شيء خفي يتسبب في هذه السرعات الغريبة، وهو شيء يؤثر جذبويا فقط كما يبدو على المجرات، لا نراه ولا نتمكن من رصده، ويعني ذلك أنه لا يشع أي شيء أو يتفاعل مع أي شيء.
**كل ما نراه اليوم كان قبل مليارات السنوات مضغوطا في مساحة أصغر بكثير، أي أننا لو عدنا إلى المراحل المبكرة من عمر الكون، سنكتشف أنه كان يتألف حينذاك من حالة بلازمية شديدة السخونة والكثافة، لكن بعد 380 ألف سنة من الانفجار العظيم، تمكنت فوتونات الضوء من السفر بحرية دون عائق، ولا يزال بإمكاننا رؤية أول الفوتونات التي انطلقت في تلك اللحظة، والتي تشكِّل أقدم ضوء في الكون، والمعروف باسم إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ.
***وهو ما يعني أن هذه الجسيمات لا تتفاعل مع المادة العادية عبر القوى الأخرى مثل القوة الكهرومغناطيسية أو القوة النووية الضعيفة، وإنما فقط عبر الجاذبية مما يجعل اكتشافها صعب المنال وتحديدها مهمة أقرب إلى المحال.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الخلفیة الکونیة المیکروی المادة العادیة الثقوب السوداء موجات الجاذبیة القوة النوویة هذه الجسیمات من الانفجار وجود انفجار هذه الفکرة ومع ذلک أن هناک عدید من یعنی أن من خلال فی هذه وهو ما مع ذلک فی حین
إقرأ أيضاً:
سياج الصين العظيم أمام السلاسل الأميركية فهل ستتحول بكين من الدفاع للهجوم؟
مع فوز الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بولاية ثانية، تتجه الأنظار من جديد إلى جزيرة تايوان. فخلال حملته الانتخابية، ألقى ترامب مرارًا بظلال من الشك على مدى الدعم الأميركي لتايوان في المستقبل. وقال في مقابلة أجريت معه في يوليو/تموز الفائت مع "بلومبرغ بيزنس ويك": "يجب على تايوان أن تدفع لنا مقابل الدفاع. كما تعلمون، نحن لا نختلف عن شركة تأمين… تايوان لا تعطينا أي شيء" .
دفعت هذه التصريحات بعض خبراء الشأن الصيني إلى الاعتقاد بأن ترامب سيسعى إلى إبرام اتفاق مع تايوان مقابل المزيد من الدعم الدفاعي الأميركي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2في أكتوبر الأسود موجات من الخسائر والضربات الصعبة توجع إسرائيلlist 2 of 2لماذا راهن إيلون ماسك على فوز ترامب بكل قوته؟end of listحيث يبلغ الإنفاق العسكري في تايوان حوالي 2.6 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي اليوم؛ وقد يطلب ترامب من الجزيرة زيادة هذا الرقم كما اقترح مستشار الأمن القومي السابق لترامب روبرت أوبراين.
وفي وقت سابق، كانت شركة TSMC عملاق أشباه الموصلات التايواني، قد استثمرت بالفعل أكثر من 65 مليار دولار في مصانع جديدة تقع في أريزونا، لكن ترامب قد يدفع لمزيد من الاستثمار المحلي، كما قال خبراء تايوانيون لفورين بوليسي.
ويطرح هذا التغير في الموقف الأميركي حتى هذه اللحظة مجموعة من التكهنات لمستقبل النزاع في هذه المنطقة، وهي صيغة تختلف عمّا تبنّته الإدارة الديمقراطية برئاسة جو بايدان.
ففي العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرج الرئيس التايواني "ويليام لاي" في ا ليتعهد أمام شعبه بمقاومة أي جهود لضم تايوان من قِبَل الصين أو أي محاولة للاعتداء على "سيادة" بلاده، في تصريح أغضب بكين على ما يبدو، ليبدأ جيش التحرير الشعبي الصيني بعد ثلاثة أيام فقط مناورة عسكرية واسعة النطاق شاركت فيها أعداد قياسية من الطائرات والسفن العسكرية بهدف التدريب على محاكاة الهجوم والسيطرة على تايوان.
كان من شأن المناورات الصينية في وقت آخر أن تطلق صافرات الإنذار حول العالم، لكن خلال السنوات الأخيرة، اعتاد مضيق تايوان ومحيطها وأجواؤها على المناورات والاختراقات العسكرية الصينية.
فمنذ عام 2016، وعقب الانتخابات الرئاسية التي جاءت بزعيمة الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض للنفوذ الصيني، تساي إنغ-ون، رئيسة للبلاد؛ بدأ غضب الصينيين يتصاعد، ومعه بدأت مناوراتهم التي رفعت سقف التوترات في المنطقة.
أخذت الصين تستعرض قواتها البحرية على هيئة مناورات بشكل متصاعد حول جزيرة تايوان، أمام سمع وبصر البحرية الأميركية وحلفائها في بحر جنوب الصين، كان آخرها مناورتين عسكريتين واسعتي النطاق نفَّذتهما في مايو/أيار وأكتوبر/تشرين الأول 2024 وأطلقت عليهما "السيف المشترك (أ)، و(ب)".
وقبل نهاية المناورات، صرّح الرئيس الصيني "شي جين بينغ" خلال زيارته للواء قوة الصواريخ في الجيش الصيني بالقول: "إن على الجيش تعزيز التدريب والاستعداد الشامل للحرب، وإن على القوات رفع قدراتها الإستراتيجية على الردع والقتال".
وبالتزامن مع ذلك، أطلقت الولايات المتحدة والفلبين مناورات عسكرية مشتركة استمرت عشرة أيام، شارك فيها ألف جندي أميركي وفلبيني، فيما شاركت قوات أسترالية وبريطانية ويابانية وكورية جنوبية بأعداد أقل.
من خلال هذه المناورات ومثيلاتها، ترسل الولايات المتحدة رسالة لا لبس فيها إلى الصين، مفادها أن أميركا تمتلك يدا باطشة وحلفاء متعددين في الجوار الصيني، وأن بإمكانها ردع بكين بالقوة إذا لزم الأمر. تشمل قائمة هؤلاء الحلفاء كلًّا من اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والفلبين وغيرهم، الذين يعملون بمساعدة واشنطن على تعزيز قدراتهم العسكرية استجابة للتهديدات المتصورة والمتوقعة من الصين.
وإدراكا منها لهذا الوضع المعقد، تحشد بكين دفاعاتها هي الأخرى، وتسعى لعقد تعاون دفاعي مضاد مع عدد من حلفائها في المنطقة لكسر الحصار المفروض عليها من قِبَل أميركا وحلفائها.
أحزمة أميركية تطوق الصينمنذ انتصارها في الحرب العالمية الثانية، عملت واشنطن على تطويق الصين بحزامين أو سلسلتين بحريتين، حيث أنشأت مع حلفائها شبكة من القواعد العسكرية الممتدة عبر المحيط الهادي التي تحاصر الصين فعليا. يُعرف الحزام الأول باسم "سلسلة الجزر الأولى"، ويمتد من جزر كوريل شمال اليابان إلى جزر ريوكيو، ثم تايوان والفلبين، وصولا إلى إندونيسيا. ولإدراك حجم الاستثمار الأميركي في بناء هذا الحزام، يكفي الإشارة إلى أن تايوان وحدها تلقَّت مساعدات أميركية تُقدَّر بـ30 مليار دولار منذ عام 2009.
أما السلسلة الثانية فتتكون من جزر بونين وجزر البركان، بالإضافة إلى جزر ماريانا، وتشمل جزيرة غوام التي تستضيف قاعدة أميركية كبيرة، مرورا بجزر كارولين الغربية، وانتهاء بغينيا بابوا الجديدة. فيما تلعب أستراليا دورا حاسما في تقديم الدعم اللوجيستي للأحزمة الأميركية ضمن ما يُطلَق عليه "حلقة الدفاع الأميركي المتقدم" (US forward defense ring).
تعتمد واشنطن بشكل رئيسي على قوتها البحرية المتفوقة لفرض هذا الحصار البحري الشرس على خصمها اللدود. وتُعد حاملات الطائرات رمز الهيمنة البحرية للولايات المتحدة، حيث تمتلك واشنطن 11 حاملة طائرات عاملة تنتشر في بحار العالم ومحيطاته.
وبجانب هذه المدن العسكرية الطوافة، تتمركز القوات الأميركية بصورة دائمة في عدة دول حليفة في المنطقة، في مقدمتها اليابان التي تستضيف قرابة 53 ألف جندي أميركي، يتمركزون في 120 منشأة عسكرية منها 15 قاعدة كبيرة، ما يُعد أكبر تجمع للعسكريين الأميركيين خارج الولايات المتحدة.
بالمثل، تستضيف كوريا الجنوبية أكثر من 23 ألف جندي أميركي يتمركزون في 73 موقعا عسكريا. أما في الفلبين، فتتمتع الولايات المتحدة بإمكانية الوصول إلى قواعد عسكرية متعددة الاستخدام بموجب اتفاقيات تعزز التعاون الدفاعي الثنائي، وتستضيف مانيلا بضع مئات من الجنود الأميركيين، ويُجري البلدان مناورات منتظمة آخرها تدريب في أبريل/نيسان الماضي بمشاركة 16 ألف شخص، سبق ذلك افتتاح مانيلا قاعدة عسكرية للمراقبة في جزيرة ثيتو في المياه المتنازع عليها بين الصين والفلبين في ديسمبر/كانون الأول 2023.
يُعد ذلك الانتشار للقوات الأميركية هو الأكثر كثافة في العالم؛ ما يؤكد الأهمية العسكرية لمنطقة شرق آسيا من منظور الأمن القومي الأميركي، حيث وصفت وثيقة الأمن القومي الصادرة في أكتوبر/تشرين الأول 2022 الصين بأنها المنافس الوحيد الذي لديه النية والقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولي، ما يجعل ردع بكين على رأس الأولويات الأمنية والعسكرية الأميركية.
وبخلاف الردع، يُطمئن انتشار القوات الأميركية حلفاءها في اليابان وكوريا الجنوبية حول التزام واشنطن بحمايتهم، كما يساعد في تأمين سلاسل التوريد الحيوية التي تُعد ضرورية للاقتصادات الإقليمية والعالمية.
على الجهة المقابلة، يُمثِّل هذا الحصار الأميركي تهديدا كبيرا للأمن الصيني. ومن شأن أي تعطيل للملاحة، قصدا أو عرضا، في بحار جنوب وشرق الصين أن تكون له عواقب اقتصادية وخيمة على الصين. فالاستقرار الاقتصادي للصين مرتبط بشكل كبير بتجارتها البحرية، حيث تشير تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) إلى أن نحو 80% من التجارة العالمية من حيث الحجم، و70% من حيث القيمة، يُنقَل عن طريق البحر، ومن هذا الحجم يمر 60% من التجارة البحرية عبر آسيا، ويحمل بحر الصين الجنوبي ما يُقدَّر بنحو ثلث الشحن العالمي.
كذلك تنقل الصين ما يقرب من 90% من تجارتها عن طريق البحر، وهو ما يُشكِّل 52% من إجمالي الناتج المحلي الصيني، بخلاف حقيقة أن 80% من واردات النفط الصينية تأتي عن طريق البحر.
مناورات بكين وكسر السلاسل الأميركيةفي مواجهة هذه المخاطر، شرعت الصين منذ قرابة عقدين في عملية تحديث عسكري نشطة للتعامل مع المخاطر الجديدة، بدأت عام 2008، وتبلورت مع صعود الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة عام 2013 وإطلاق مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع ضخم للبنية التحتية يربط الصين بالعالم من خلال 6 ممرات اقتصادية، وهو ما تطلَّب تحديث عقيدة الصين الدفاعية بما يسمح بحماية مصالحها في الخارج.
وتماشيا مع هذه العقيدة، انخرطت الصين في تحالفات مشتركة مع حلفائها الإقليميين بهدف بناء دفاع مشترك في مواجهة أميركا وحلفائها.
في مقدمة هؤلاء الحلفاء تأتي كوريا الشمالية وميانمار، وبدرجة أقل فيتنام التي لا تزال تتأرجح بين واشنطن وبكين. وقد استثمرت الصين في هذه الدول عسكريا وسياسيا واقتصاديا، بدرجات متفاوتة، خلال العقود الماضية في إطار جهودها لتشييد ما يمكن وصفه بـ"السياج الأمني"، وهو جدار دفاعي إقليمي يعتمد على توظيف الجغرافيا والتضاريس عسكريا لتحقيق توازن أمام التهديدات المتوقعة من أميركا وحلفائها.
يتسق ذلك مع الرؤية الأمنية الأكثر شمولا للصين لمنطقة المحيطين الهادي والهندي، التي تنطوي على دمج جوانب مختلفة، سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية، وذلك في إطار إستراتيجي متماسك يهدف إلى حماية سيادة الصين ومصالحها التنموية.
وتُصنَّف كوريا الشمالية وميانمار تحديدا تحت ما يُسمى بـ"الدول العازلة" بالنسبة إلى الصين، وتُعرف الدول العازلة بأنها دول أصغر تقع بين قوتين أكبر متنافستين غالبا، وتلعب دورا حاسما في الحفاظ على توازن القوى، ويمكنها التأثير على ديناميكيات العلاقات الدولية، عبر التصرف بشكل مستقل أثناء التنقل بين مصالح جيرانها الأكثر قوة.
بشكل أكثر تحديدا، غالبا ما يُنظر إلى كوريا الشمالية (شرقا) على أنها حاجز مهم للصين ضد الوجود العسكري الأميركي في كوريا الجنوبية واليابان. وتنبع الأهمية الجيوسياسية لشبه الجزيرة الكورية من قربها من حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين والقواعد العسكرية الأميركية؛ ما يجعل كوريا الشمالية حاسمة لإستراتيجية الأمن القومي الصينية. ومن خلال دعم بيونغ يانغ، تهدف الصين إلى منع إنشاء نظام معادٍ إلى الشرق، ومن ثم الحفاظ على عمق إستراتيجي ضد التهديدات المتصورة من الولايات المتحدة.
لذلك، حافظت بكين على علاقاتها مع بيونغ يانغ رغم العقوبات الغربية القاسية التي فُرضت عليها بسبب التجارب النووية والصاروخية. وفي عام 2016، اعترضت الصين على قرار أميركا والصين نشر منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية "ثاد" في كوريا الجنوبية، حيث رأت بكين أن نشر المنظومة لا يستهدف فقط كوريا الشمالية، لكنه يهدف إلى مراقبة أنظمة توصيل الأسلحة النووية الصينية.
ردا على ذلك، ضاعفت الصين مرور سفنها في البحر الأصفر (شرق الصين وغرب شبه الجزيرة الكورية، وهو الجزء الشمالي من بحر الصين الشرقي) ثلاث مرات بين عامي 2016-2018، وعززت تحالفها مع كوريا الشمالية، وصولا إلى إعلان عام 2024 بأنه عام الصداقة بين البلدين.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) والرئيس الصيني شي جين بينغ يحضران حفلاً موسيقيًا للاحتفال بمرور 75 عامًا على العلاقات بين روسيا والصين (الفرنسية)تخدم ميانمار الواقعة جنوبا غرضا مماثلا بالنسبة إلى الصين، وإن اختلفت الجغرافيا، حيث تُمثِّل حاجزا طوبوغرافيا جزئيا بينها وبين الهند، وهي قوة إقليمية كبرى أخرى. وتهدف استثمارات الصين في ميانمار، خاصة في مشاريع البنية التحتية مثل خطوط الأنابيب، إلى تأمين طريق بديل للطاقة، وفي الوقت نفسه مواجهة النفوذ الهندي في جنوب شرق آسيا.
ويسمح النفوذ الصيني على نايبيداو بالاستفادة منها بوصفها ثغرة في الطوق الجغرافي الذي تحاول أميركا فرضه على الصين، ما يمنح الصين مناعة دفاعية طبيعية لا تقل أهميتها عن التعزيزات العسكرية من السفن والصواريخ والطائرات.
عملت بكين على رفع حضورها البحري في ميانمار بعد الانقلاب العسكري عام 2021، مستغلةً موقعها بوصفها وسيطا مقبولا بين الحكومة العسكرية والجماعات السياسية الأخرى في البلاد، حيث أجرى البلدان تدريبات بحرية مشتركة في خليج البنغال تحت شعار "تعزيز الأمن الإقليمي ومكافحة القرصنة".
ويمنح الوصول المفتوح إلى خليج البنغال الصين مسارا بديلا لواردات الطاقة حال إغلاق مضيق ملقا، كما يمنحها حضورها في ميانمار، بجانب وجودها في باكستان، القدرة على تطويق الهند إستراتيجيا.
أبعد من ذلك، يمكن أن تعمل قاعدة بحرية مستقبلية للصين في خليج البنغال جسرا يسمح لبكين بمزيد من التقدم في إستراتيجية "سلسلة اللؤلؤ" في حوض المحيط الهندي، وهي إستراتيجية تهدف في المقام الأول إلى خلق بدائل لكسر السلسلة الأميركية التي تعمل الولايات الأميركية وحلفاؤها على تطويق الصين بها.
بشكل لا يقل أهمية، تُعد العلاقات مع روسيا (شمالا) ركيزة مهمة بالنسبة إلى بكين، رغم الحضور المتحفظ لموسكو في ساحة المنافسة الرئيسية بين الصين وأميركا في بحار الصين والمحيط الهادي. تشكَّلت ملامح علاقة إستراتيجية بين البلدين مطلع عام 2010، حيث أجرت الصين وروسيا تدريبات بحرية في البحر الأصفر؛ ما أبرز الروابط العسكرية المتنامية بينهما.
ودخل التعاون العسكري طورا جديدا مطلع عام 2012، بعدما نفَّذتَا مناورات "البحر المشترك"، وهي مناورات شبه دورية تُنفَّذ غالبا في بحر الصين الجنوبي وبمشاركة القوات البحرية والجوية، وتوسعت تلك المناورات لأقاليم بعيدة عن الصين وشرق آسيا لتكون المناورة الأولى في البحر المتوسط عام 2015.
لاحقا، أُضيفت للمناورة تدريبات بالذخيرة الحية ومعارك مضادة للغواصات في عام 2017؛ ما عزز التعاون البحري ونقله إلى مرحلة متقدمة. وفي عام 2018، نُفِّذت المناورات في بحر البلطيق، ثم نُفِّذت في بحر اليابان عام 2021. وفي أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا، شاركت الصين في مناورات "فوستوك 2022" مع روسيا بـ2000 جندي من جيش التحرير الشعبي، وركّزت على العمليات الهجومية والدفاعية المشتركة. وفي عام 2023، نفَّذ البلدان دوريات بحرية مشتركة في المحيط الهادي بوصفها جزءا من التنسيق العسكري الأوسع بين البلدين.
وفي سبتمبر/أيلول 2024، وقع أحد أكبر التدريبات البحرية منذ الحقبة السوفيتية، بمشاركة أكثر من 400 سفينة حربية وغواصة وسفينة دعم من كلٍّ من روسيا والصين تحت اسم مناورات "المحيط 2024″، التي أُقيمت في بحر اليابان وبحر أوخوتسك. وقد شملت التدريبات سيناريوهات عملياتية مختلفة، مثل صد العدوان واسع النطاق والدفاع عن القواعد البحرية، كما تضمنت تدريبات الدفاع عن الاتصالات البحرية وإجراء سيناريوهات قتالية مختلفة.
في غضون ذلك، تسعى موسكو وبكين لتطوير تعاونهما العسكري إلى إطار إقليمي يشمل قوى متعددة. مثلا في يوليو/تموز 2023، اقترح وزير الدفاع الروسي السابق، سيرغي شويغو، خلال زيارة إلى بيونغ يانغ تنفيذ تدريبات بحرية ثلاثية بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، وهي المرة الأولى التي تُدعى فيها كوريا الشمالية للمشاركة في تدريبات مشتركة مع الصين وروسيا، وكان ذلك وسط توترات متزايدة في شرق آسيا، واستجابة للترتيبات الأمنية بين كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة، التي يُشار إليها باسم "جاروكوس".
كل تلك التدريبات، والمناورات البحرية، وبناء الدفاعات الإقليمية، تُشير إلى عزم الصين على كسر السلاسل التي بنتها الولايات المتحدة مع حلفائها في الإقليم. يمكن تشبيه الأمر كله بـ"سياج جغرافي عظيم" على منوال "سور الصين العظيم"، الذي طالما حمى الصين من تهديدات الغزاة على مدار أكثر من ألفَيْ عام. يعزز هذا السياج أمن الصين، وتأمل بكين أن يمدها بعمق إستراتيجي حال قررت التمرد على سلاسل الحصار الأميركية، والمروق بكامل قوتها إلى البحار المفتوحة.