مقاربة معرفية لحكم الروائي عبد العزيز بركة ساكن على قحت وتقدم
تاريخ النشر: 2nd, July 2024 GMT
بقلم د. عثمان عابدين عثمان
حمَّل الروائي السوداني، عبد العزيز بركة ساكن، الجنجويد (الدعم السريع)، وقحت (قوى الحرية والتغيير)، وتقدم (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) وزر كل قطرة دم سالت بسبب الحرب الدائرة حاليا في السودان. وذهب بركة ساكن في حكمه أبعد من ذلك ليصف بعض أعضائها قحت\تقدم بعدم الأخلاق وخيانة الوطن.
عبد العزيز بركة ساكن روائي يهتم بالكتابة التي تتناول الواقع، تشخصه، وتتصور له الحلول من منظور النص المعرفي المستنير الذي يفسر في سياق التاريخ والواقع الذي أنتجه. لذلك، في مقالنا هذا، سنحاول فهم الأسس المعرفية التي بني عليها بركة ساكن أحكامه على قحت\تقدم، وتلك التي جعلته يتنقل من حكم إلى آخر نقيض.
قحت سابقا، وتقدم حاليا، على الرغم من أصلهما المشترك من حيث المبادئ والغايات الكلية، هما تحالفان سياسيان باعتبار كينونتيهما القائمتين بذاتهما. وفوق ذلك فهما يضمان قوى مدنية في غاية التنوع والاختلاف، والتي في داخلها يكبح الفرد آراءه الشخصية لمصلحة رأيها الجمعي، مع الاحتفاظ بحقه في التعبير عن ذلك الرأي في أية وقت يشاء.
في سياق معرفة -السياسة، يحكم على موقف التحالفات قياسا على رأيها الرسمي المعلن. وظرف حالة الحرب الجزئية، وثورة الشوارع، والأيادي المرفوعة، والحناجر المشدودة، أيام قحت، ليس كظرف حالة الحرب، العبثية، الشرسة، الشاملة، التي سدت أنفاس الشوارع برائحة الموت والبارود، أيام تقدم. فالزمان ليس هو الزمان، والأشياء لم تبق كما هي الأشياء أنفسهم.
حري عن القول إن الرأي الجمعي بطبع توافقه على القيم والمبادئ العريضة التي تهم الجميع، يفتقد أساس التفكير الرغائبي، والقصد التأمري لفعل الأذى، والإنسان العارف يجرد صفات التشابه والتباين من حواملها، حتى يتمكن من الحكم عليها من مقام الموضوعية والحياد. لكن، بركة ساكن، أصدر حكمه بتحميل قحت وتقدم وزر كل قطرة دم أُرِيقَت في حرب الجنرالين بافتراض أنه لا فرق بينهما وأن أفكارهما وأهدافهما في تتطابق وتجانس تام. هذا من جانب. أما من جانب الحكم على رأي جماعي توفيقي، لتحالف سياسي عريض، من منطلق تعميم آراء بعض أعضائه الشخصية، جعله يختزل المقدمات الضرورية للاستنتاج الصحيح، وأوقعه في مغالطات التنميط الضيق والتعميم الاستقرائي الخاطئ.
عموما، من الصعب إيجاد مسوق عقلاني لتذبذب الآراء وتناقضها. فبركة ساكن بنى حكمه في عدم تجريم قحت\تتقدم على مقدمة إنها قوى مدنية صاحبة رأي وأنه لا يمكن تخوين صاحب الرأي الذي لا يحمل السلاح. وهذا استنتاج صحيح؛ لأنه بنيَّ على مقدمات صحيحة ومتماسكة. أما أن يتغير حكم بركة ساكن على قحت\تتقدم من البراءة لنقيضه التجريم، من دون أن يتغير حال قحت\تتقدم وتتحول لقوى عسكرية تحمل السلاح، وتصبح جزءا من الحرب الدائرة بين الجنرالين المتصارعين على السلطة، فهي مغالطة معرفية على عدة مستويات من اختلال منطق الكلام. الحقيقة أن قحت\تقدم رفضت من حيث المبدأ الوقوف مع الحرب أو الانحياز لأحد طرفيها، ولم تتغير أو تتبدل. الذي تغير وتبدل هو لجوء بركة ساكن إلى مكنون عواطفه ونفوذ سلطته المعرفية ليبرر بها تغيير حكمه من كامل البراءة لأقصى التجريم بالخيانة.
أما في سياق منطق التسبيب للأشياء، المعروف أن النتيجة لا تقوم إلا بتوفر شروطها من الضرورة والكفاية. وشرط الضرورة في منطق الحرب هو حمل السلاح لأطرافها وشرط كفايتها هو السبب الذي يقدح نارها ويشعل فتيلها. لكن، معادلة بركة ساكن التسبيبية - التجريمية لقحت/تقدم هذه، تجاهلت شرط الضرورة الثاني في الحرب (الجيش) وبدلا عن ذلك حملت جهة مدنية لا تحمل السلاح، مسؤولية إراقة دماء السودانيين مناصفة مع الجنجويد، إلا إذا افترضنا أن بركة ساكن يعتبر قحت/تقدم هي شرط ضرورتها الثاني وسبب كفايتها في آن واحد. هذا من جانب صحة وتناسق النتائج مع المقدمات.
من جانب معرفة متتالية الأسباب، كلنا يعرف أن الدعم السريع هو صنيعة نظام الإسلاميين وربيب جيشهم المؤدلج والمنغمس في السياسة حتى أخمص قدميه. كذلك، كلنا يعرف أن عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش، هو من رفَّعَ مقام محمد حمدان دقلو لرتبة جنرال، وخصص له ثلث ميزانية الجيش، وعينه نائبا لمجلس سيادته، وأمنه على حراسة أهم المواقع الإستراتيجية في عاصمة البلاد. في هذا يقول منطق الأشياء: إذا كانت المسؤوليات، بتعريفها الحرفي، لا تتساوى، فمن خلق مسخا مشوها يكون جزا مكملا لطبعه وخصاله، وبالتالي يتحمل كل وزر سوء عماله. لذا، الجيش، الدعم السريع، وفلول النظام الإسلامي السابق هم أضلاع المثلث الثلاثة المكملة الكافية والضرورية المسببة للحرب. وكما في كل ظواهر المجتمع والسياسة التي فيها تتعدد وتتعقد الأسباب والنتائج، تقع مسؤولية فهم ترتيب أهميتها وتسلسلها الزمني على عاتق عقل المالكين لأدوات حكمة المعرفة، لأنهم إن لم يفعلوا، انزلقوا في وحل الاستنتاجات المتسرعة ومغالطات التبسيط المُخِل.
في بنائنا المعرفي الذي اخترناه لنًحْتكِم إليه وسميناه بالقضاء، إصدار حكم التجريم في شخص\أشخاص يعتبر صك براءة للمتهمين الآخرين. وحكم بركة ساكن بتجريم قحت\تتقدم هو بمثابة صك براءة لمن تسببوا في الحرب، وما زالوا ينفخون في كيرها. المتابع لمجريات الحرب الدائرة في السودان، على مدار ما يربو عن العام، سوف يعرف بالدليل الكافي من يقف وراء الحرب، ومن يغذي أوارها بالهشيم من الحطب والبغيض من خطاب العنف والكراهية والإقصاء، وليس هناك أجدر و"أرجل" بمثل هذا الخطاب من الإسلاميين، فلول النظام السابق كما أقرو بعظمة لسانهم، في أكثر من مناسبة، من قبل اندلاع الحرب وبعدها.
كل هذا البؤس، والشقاء، والألم، والموت، والدمار، والنزوح، والتشرَّد، الذي تُسببه الحرب يٌجبرنا أن نتساءل عن مشروعية الحرب بمفهومها المجرد والموقف الأخلاقي منها الذي يتماشى مع غاية أحكام الضمير والتفكير السليم. في رأينا الراسخ، أنه ليس هناك ما يبرر الحرب في كل الظروف والأحوال؛ لأنها ببساطة تنتهك حق قٌدسية الحياة. فإذا كان حكمنا على الحرب بهذه القطعية، على الرغم من وقوف الحقيقة، بلونها الرمادي، في منزلة ما بين المنزلتين، فلا بد أن يكون خيار الوقوف مع أحد أطرافها هو خيار للحرب نفسها.
لكن، هناك واقع الحروب التي يتسبب فيها معتدي غشيم يجعل من الطرف الآخر على صواب وحق. وهنا، الخيار الأخلاقي في الوقوف بجانب المعتدى عليه، ليس بالضرورة أن يكون خياراٌ مع الحرب في حد ذاتها، لكنه خيار للوقوف مع المظلوم وحقه في الحياة. وهكذا قد يتبدى لنا ثنائية وزيف خيار الوقوف مع أحد أطراف الحرب عندما يكون المتضرر الأول والأخير منها هو المواطن الأعزل البسيط.
نرى أن موقف قحت وتقدم الأخلاقي والسياسي الثابت والمتسق، الرافض مبدئيا للحرب، سابقة رفيعة في أدب السياسة وثقافة اللاعنف والتسامح في بلاد السودان، ومنارة أخلاقية سامقة نتوقع لها أن تنير عتمة طريق أزمة السودان وإنسانه المكلوم. فالإنسان، كإنسان يجهل مآسي الحرب وأهوالها، أو ذلك الذي لا يكترث لمعايير الحكم في الأخلاق، هو العنصر الضروري والكافي لقيام الحرب كانت. فالحرب، وكما يقولون، هي ذاكرة البدائيين الذين لم يعرفوا خيارات أخرى غير تلك التي تتحكم في غرائزهم وردود أفعالهم. لذلك، قناعتنا، هنا أيضا، راسخة، أنه سوف يأتي الزمان الذي يعرف فيه الإنسان عقم وهباء الحرب، فيمتنع من سد رمق حاجتها، ويكفيه بوعيه ألا تقوم الحرب، وتشتعل في أول المقام.
د. عثمان عابدين عثمان
osmanabdin@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: برکة ساکن من جانب
إقرأ أيضاً:
افرام: ستتغيّر مقاربة الملف اللبنانيّ بعد الانتخابات الأميركيّة
توقّع رئيس المجلس التنفيذيّ ل"مشروع وطن الإنسان" النائب نعمة افرام أن" تتغيّر طريقة مقاربة الملفّ اللبنانيّ بعد الانتخابات الأميركيّة، وأن تنتهي الحرب في عهد الرئيس الجديد المنتخب أسرع ممّا كانت ستنتهي عليه في السابق".
وأضاف:" مبدأ الرئيس ترامب في ما يتعلّق بالحروب والنزاعات المندلعة في العالم يشبه شعار الجيش الروماني قديماً: "من يريد السلام يحضّر للحرب". فهو يطرح السلام من منطلق القوّة والجرأة، أي أنّ باستطاعته إشعال الحرب إلاّ أنّه وفي الوقت عينه يدعو الآخرين إلى القبول بالسلام. ولأميركا مصلحة في وقف الحرب الدّائرة في الشّرق الأوسط، لأنّها في أقلّ تقدير تسبّب لها نزيفاً ماليّاً هائلاً لجهة التسليح، ونظراً إلى حجم العجز الهائل في الاقتصاد الأميركيّ وكلفة خدمة الدين".
واعتبر أنّه "لا تزال هناك فرصة للموفد الرئاسيّ الأميركيّ أموس هوكستين في الفترة الإنتقاليّة بأن يتمكّن بمحاولة أخيرة من الوصول إلى وقف لإطلاق النار وتنفيذ الـ1701 بكامل مندرجاته وبشكل واضح مع سلطة موسّعة لقوّات اليونيفيل والجيش اللبنانيّ، وإيجاد حلّ للمشاكل الحدوديّة العالقة والنقاط المتنازع عليها، ولسوريا دور مهم إذ عليها تقديم دليل على أنّ مزارع شبعا لبنانيّة".
أضاف:" يجب أن نخرج من الصراع وأن لا نكون وقوداً لمشاريع لسنا معنيّين مباشرة بها واللبنانيّ لا يجب أن يموت عن غير لبنان. واليوم هناك نفس جديد في العالم كلّه تُفتح معه صفحة مهمّة ترتكز على مبدأ "Win-Win" حيث تستفيد جميع الأطراف. فخلق القيمة المضافة وتوزيعها أصبح الأولويّة بما يعود بالنفع على الجميع. لذلك، يجب أن ننصرف سريعاً إلى تطبيق القرار 1701 بحذافيره وبكلّ مندرجاته والتأكيد للمجتمع الدولي أنّ الجيش هو من يحمي حدودنا، ونبادر إلى بناء الدولة وإلّا نكون أشبه بـ"مشاع" فـ"الرزق السايب يعلّم الناس الحرام".
وعن المرحلة المقبلة قال: "ستكون صعبة وفيها ضغط كبير خصوصاً في ما يتعلّق بأزمة النازحين واحتمال عدم قدرة نسبة كبيرة منهم بعد أشهر على دفع الإيجارات وتأمين المساكن. ووحدها المؤسّسات الشرعيّة تحمينا والجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة مدعوّة للتصرّف سريعاً وبحكمة في حلّ أيّ من النزاعات بين النّازحين والمضيفين، لأنّ "القلة تولّد النقار" ولا نريد أن نصل إلى مشاكل داخليّة".
وعمّا حصل في البترون قال:" لا يختلف عمّا يحصل في لبنان أجمع من خرق لأنّنا شرّعنا أبوابنا، وقد حان الوقت لإعادة إقفالها من خلال فصل الساحات، ووقف إطلاق النار، والالتزام بالـ 1701 ومندرجاته، والعودة الى خيمة الدولة الشرعيّة والانصراف إلى بناء دولة المؤسّسات القويّة".
وختم طالباً أن" يكون مشروعنا المشترك في لبنان هو بناء مؤسّسات الدولة اللبنانية بعيداً من الطائفيّة والمحاصصة السياسيّة "والنفس يجب أن يتغيّر"، وانتخاب الرئيس القادم هو التزام من قبل كلّ نائب وكتلة نيابيّة بهذا المشروع. فللأسف مؤسّسات الدولة تحوّلت إلى غنائم حرب بفعل المحسوبيات وطريقة التوظيف والمحاصصة، وهذا يجب أن ينتهي، وعنوان المرحلة المقبلة يجب أن يكون عنوانها الاقتصاد وتأمين الحماية الاجتماعيّة والاستقرار والنموّ".