كيف نقرأ واقع المجتمعات الإنسانية؟
تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT
لا نجد بدًا من الإقرار أن الجنوحَ إلى عمقِ الكينونةِ الإنسانية -الذي يشكّل العقلُ عمقها الرئيس ولبّ مركزيتها وشريان أفكارها ومشاعرها- يعيد تشكيل صورة وجودية تتماهى معها فكرة المجتمعات البشرية وسلوكها في الحياة، وكذلك لا نجد بدًا أن نحاول عبر هذه السردية المتعلقة بالعلوم الإنسانية من المضارعة -من حيث الأهمية- بين ركامات المعرفة التقنية -التي نالت حظها الأفر في مقالات سابقة- مع علوم إنسانية تنساب بشرياناتها النفسية والأنثروبولوجية والبيولوجية في اكتشاف المجتمعات البشرية وفك لغز حضارتها المبنية على أسس عقلانية تتجلّى فيها ضوابط الأخلاق والقيم والدين والفن والأدب والثقافة بشموليّتها الواسعة.
سبق في أحاديث سابقة كتبتها في كتابي «هكذا نتطور» أن تناولنا شيئا من حضارة الإنسان ولغاته ودياناته وأفكاره، ويتماثل في الداخل بعض آخر من هذا الحديث الذي نشتاق إلى وروده وارتياده حتى نشفي غليلَ العقلِ وشغفه في فهم المزيد عن عمق الإنسان ومكامنه المجهولة التي تصنع الفرد والمجتمع، وهنا يتبادر إلى الذهن كتاب «الإنسان ذلك المجهول» لـ«كاريل» الذي قرأته قبل سنوات طويلة وعلق الكثيرُ من سطوره في ذاكرتي، وفي مسار آخر يمكن أن نذهب إلى محاولة لفهم مسوقات الإرادة عند الإنسان وسلوكه وشغفه؛ فكان «المعنى» الذي يبحث عنه كلُ واحدٍ منا هو السر الذي يأتي في أشكال مغايرة؛ فيمكن أن يكون المعنى في الإيمان الذي يصلنا بالله، ويكون عند آخرين في فلسفة أو مبدأ لا يُحاد عنه ولا يُتنازل، وأستدعي في هذا الخصوص ما سطّره «فيكتور فرانكل» في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» الذي خاض فيه حديثًا مُسهبًا في النفس الإنسانية ومآلاتها وصراعاتها الطامحة إلى إيجاد المعنى. تخالج في خاطري مشاهد المجتمعات وصراعاتها المبنية على التنافس الذي لا يُلتزم فيها -إلا في قليل من ظواهرها- بأسس الأخلاق التي نعتقد أنها عُمدُ المجتمعات وأركانه؛ فنجد هذه الصورة -لتوضيح مثالها الحالي- في واقع بعض المجتمعات الغربية خصوصا عند ساساتها عبر ظاهرة الانفصال بين النظرية والتطبيق؛ إذ يتبنّى أمثال هؤلاء الساسة نظريات توجب العدالة والمساواة وحرية التعبير لتوهم الأعمى بفيض الأخلاق إلا أن القطيعة بين النظرية والتطبيق جليّةٌ على أرض الواقع؛ فيكفي أن نشهدَ دعم بعض ساسة الغرب للكيان الصهيوني ومساندته في ممارسة الإبادة الجماعية لأهل غزة وقمعهم العنيف لكل أبجديات حرية التعبير التي تحاول مجتمعاتهم الإنسانية أن تناهض بواسطتها مجازر الصهيونية ووقف إمدادها، وهنا تتجلّى معضلة غياب «الأخلاق» وضوابطه التي تحقق العدالة وحقوق المجتمعات والإنسان.
في خضم ما نشاهده من صراعات في المجتمعات البشرية -الذي يعكس وجود القطيعة بين الغريزة الأخلاقية عند الإنسان ودوافع السعي إلى البقاء عبر أساليب الصراع- تتبادر إلى أذهان البعض مسألةُ الفوضى الوجودية التي أوهمت البعضَ بفكرة غياب الخالق، وأن الحياة برمتها مبنية على نمط العشوائية والفوضى التي تسلب إرادة الوجود وأشياءه، وكم تتنازع مثلُ هذه المسائل المربكة في أذهان البعض؛ فتثير حوارا يَؤُول إلى حدوث القطيعة المقصودة - المشار إليها آنفا-، ولعلّ هذا ما يمكن أن يفسرَ نزعة الإنسان إلى تجاوز حدود الأخلاق بممارسة الظلم وفقدان المسؤولية، وهنا لا تردد في القول أن هذه الفوضى متحققة في غالب واقعها التي لا تتوافق مع مصوغات المبادئ الأخلاقية، و يعود مآل ذلك إلى غلبة الفئة الصاعدة بقهر الإنسان الآخر عبر تسخير المجموعات من البشر في ظل غياب الوعي والسمو الأخلاقي؛ فجزء من المجموعات البشرية أسير تأثيرات العقل الجمعي وإرادة المتنفذين من البشر القاهرين بواسطة وسائل تتغاير مع تغيّر الزمان وتقدمه؛ فالإعلام ووسائله التقليدية والرقمية -في زمننا- مثل وسائل التواصل الاجتماعي هي من تقود عملية صناعة العقل الجمعي الذي -في كثير من مظاهره- يعمل على تفكيك البِنية الإنسانية المتمثلة في القيم الأخلاقية ويهشّم أبجديات إنسانيته؛ فيصنع منه الإنسان الضار والمجرم والمدمن، ولا غَرْوَ أن نعيدَ مشهدَ الصهيونية وأساليبها التي تهدف إلى الإضرار بالإنسان وحضارته؛ لتضمن بقاء وجودها ولو على حساب المجتمعات الإنسانية وحياتها، ونحن هنا بحاجة إلى مراجعة شاملة للمنهجية التدميرية التي تستهدف الإنسان ونظامه الأخلاقي والمجتمعي عبر وسائل شتّى تضاعفت مع دخول العصر الرقمي.
في خضم مشهد مغاير يُظهر محاولة إعادة نصاب الإنسانية وأسسها الأخلاقية إلى كينونتها الوجودية التي تتموضع في الوعي الإنساني، وبذلك تكون هناك مقاومة مضادة لفوضى المجتمعات الإنسانية وصراعاتها، ويتجسّد هذا المشهد في تنامي الوعي الإنساني العالمي دون أنْ يحدَّ بدينٍ أو جنسٍ أو عِرقٍ؛ فتتسع رقعة الوعي الأخلاقي في أفراد المجتمعات، وتنتفي بذلك أيقونة «اللامنتمي» التي أطلقها «كولن ويلسون» التي حملت معنى أن توجدَ فردا في مجتمع بشري تتقاذفه الصراعات والتفاهات، وأن تكتشف أنك لا تنتمي لهذا المجتمع الذي لا يتماشى مع أسس أخلاقية؛ فيطغى عليه الظلمُ والقهرُ، وأسوأ من ذلك غياب الوعي الإنساني الواسع الذي يملك حقَ مناهضة هذا الظلم، ولعلّ ما سطّره «كولن ولسون» في عام 1956 يعكس تجربةً قاسيةً خاضتها المجتمعات الغربية إبّان الحرب العالمية الأولى والثانية؛ فتركت أثرها الذي يعكس اليأس في قلب الإنسان «اللامنتمي» إلا أن صحوة الضمير الإنساني أعادت سد فجوة الأخلاق ومعضلتها المزمنة التي نخرت المجتمعات البشرية وأوشكت على الإجهاز على ما تبقى من أشكال الحياة وأخلاقها، وهذا ما نراه من مشاهدِ التحرر العالمي من قيود العقل التي تعوق فيض نزعته الأخلاقية؛ فتعبر عن رفضها للقطيعة بين هذه النزعة -المغيّبة قسرا- وبين الواقع المأمول.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المجتمعات الإنسانیة المجتمعات البشریة العقل الجمعی
إقرأ أيضاً:
القومي لحقوق الإنسان يستقبل وفدًا فلسطينًا لمناقشة الأوضاع الإنسانية بغزة
استقبلت السفيرة مشيرة خطاب رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان، ورئيسة الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، وبحضور كل من السفير محمود كارم نائب الرئيس والسفير فهمى فايد الامين العام والدكتور انس جعفر أمين اللجنه التشريعيه بالمجلس، وفداً فلسطينياً برئاسة السيد عمار الدويك (مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان بدولة فلسطين).
تناول اللقاء الأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة والانتهاكات والجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني، وسبل مواجهه تلك الاعتداءات والانتهاكات خاصة في ضوء القرارات الصادرة من كل من المحكمة الجنائيه الدولية ومحكمة العدل الدولية والقرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الامن في هذا الصدد.
كما تناول اللقاء سبل تعزيز التعاون بين المجلس والمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان في دولة فلسطين وذلك في إطار خطة عمل وجهود الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان والتي يتولى رئاستها حالياً المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر.
أشاد الوفد الفلسطيني بالدعم الذي تقدمه القيادة السياسية في جمهورية مصر العربية والجهود المبذولة نحو تسهيل إدخال المساعدات الانسانية للشعب الفلسطيني لرفع المعاناة عنهم علاوة على الجهود التي تُبذل على الصعيدين الإقليمي والدولي من أجل تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني لإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.