لجريدة عمان:
2025-04-23@21:33:03 GMT

كيف نقرأ واقع المجتمعات الإنسانية؟

تاريخ النشر: 29th, June 2024 GMT

لا نجد بدًا من الإقرار أن الجنوحَ إلى عمقِ الكينونةِ الإنسانية -الذي يشكّل العقلُ عمقها الرئيس ولبّ مركزيتها وشريان أفكارها ومشاعرها- يعيد تشكيل صورة وجودية تتماهى معها فكرة المجتمعات البشرية وسلوكها في الحياة، وكذلك لا نجد بدًا أن نحاول عبر هذه السردية المتعلقة بالعلوم الإنسانية من المضارعة -من حيث الأهمية- بين ركامات المعرفة التقنية -التي نالت حظها الأفر في مقالات سابقة- مع علوم إنسانية تنساب بشرياناتها النفسية والأنثروبولوجية والبيولوجية في اكتشاف المجتمعات البشرية وفك لغز حضارتها المبنية على أسس عقلانية تتجلّى فيها ضوابط الأخلاق والقيم والدين والفن والأدب والثقافة بشموليّتها الواسعة.

الحديث عن قضايا الإنسان مهمة شاقة تتفاعل فيها عقلانية العقل وعاطفة الضمير الذي يقف العقلُ المفكّرُ في زواياها المعقّدة حائرًا، مضطربَ الفكرِ خصوصًا مع معضلة المجتمعات الإنسانية المعاصرة التي تأتي فلسطين ومعاناة شعبها في قائمة القضايا الأكثر تعقيدا من حيث سنوات الظلم الجاثم عليهم من قبل الصهيونية وأعوانها المساندين، وتظل جلّ النقاشات وحلولها المقترحة لهذه القضية وما يماثلها ذا زاوية تاريخية -سياسية ودينية- دون تطرقٍ كافٍ للزوايا النفسية والفلسفية الخاصة بالإنسان ومجتمعاته؛ كون هذه الزوايا الأخيرة تملك قدرة عالية -حال اندماجها مع زوايا التاريخ والسياسة والدين- في تتبع جذور معضلة المجتمعات الإنسانية وتحليل أنماطها مثل نمط الأخلاق والمعنى التي تساهم في صناعة العقل الفردي ووعيه والعقل الجمعي ومؤثراته الحديثة، وصناعة الثقافة التي يمكنها -في المقابل- أن ترفدَ الوعي -كما سنرى- وتنقل المجتمعات من مستويات العقل الجمعي إلى حالة «اللامنتمي» الذي يتحرر من قيود العقل الجمعي التي تعوق مساق التفكير وإبداعه وتحرر السلوك الأخلاقي من محبسه الجمعي.

سبق في أحاديث سابقة كتبتها في كتابي «هكذا نتطور» أن تناولنا شيئا من حضارة الإنسان ولغاته ودياناته وأفكاره، ويتماثل في الداخل بعض آخر من هذا الحديث الذي نشتاق إلى وروده وارتياده حتى نشفي غليلَ العقلِ وشغفه في فهم المزيد عن عمق الإنسان ومكامنه المجهولة التي تصنع الفرد والمجتمع، وهنا يتبادر إلى الذهن كتاب «الإنسان ذلك المجهول» لـ«كاريل» الذي قرأته قبل سنوات طويلة وعلق الكثيرُ من سطوره في ذاكرتي، وفي مسار آخر يمكن أن نذهب إلى محاولة لفهم مسوقات الإرادة عند الإنسان وسلوكه وشغفه؛ فكان «المعنى» الذي يبحث عنه كلُ واحدٍ منا هو السر الذي يأتي في أشكال مغايرة؛ فيمكن أن يكون المعنى في الإيمان الذي يصلنا بالله، ويكون عند آخرين في فلسفة أو مبدأ لا يُحاد عنه ولا يُتنازل، وأستدعي في هذا الخصوص ما سطّره «فيكتور فرانكل» في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» الذي خاض فيه حديثًا مُسهبًا في النفس الإنسانية ومآلاتها وصراعاتها الطامحة إلى إيجاد المعنى. تخالج في خاطري مشاهد المجتمعات وصراعاتها المبنية على التنافس الذي لا يُلتزم فيها -إلا في قليل من ظواهرها- بأسس الأخلاق التي نعتقد أنها عُمدُ المجتمعات وأركانه؛ فنجد هذه الصورة -لتوضيح مثالها الحالي- في واقع بعض المجتمعات الغربية خصوصا عند ساساتها عبر ظاهرة الانفصال بين النظرية والتطبيق؛ إذ يتبنّى أمثال هؤلاء الساسة نظريات توجب العدالة والمساواة وحرية التعبير لتوهم الأعمى بفيض الأخلاق إلا أن القطيعة بين النظرية والتطبيق جليّةٌ على أرض الواقع؛ فيكفي أن نشهدَ دعم بعض ساسة الغرب للكيان الصهيوني ومساندته في ممارسة الإبادة الجماعية لأهل غزة وقمعهم العنيف لكل أبجديات حرية التعبير التي تحاول مجتمعاتهم الإنسانية أن تناهض بواسطتها مجازر الصهيونية ووقف إمدادها، وهنا تتجلّى معضلة غياب «الأخلاق» وضوابطه التي تحقق العدالة وحقوق المجتمعات والإنسان.

في خضم ما نشاهده من صراعات في المجتمعات البشرية -الذي يعكس وجود القطيعة بين الغريزة الأخلاقية عند الإنسان ودوافع السعي إلى البقاء عبر أساليب الصراع- تتبادر إلى أذهان البعض مسألةُ الفوضى الوجودية التي أوهمت البعضَ بفكرة غياب الخالق، وأن الحياة برمتها مبنية على نمط العشوائية والفوضى التي تسلب إرادة الوجود وأشياءه، وكم تتنازع مثلُ هذه المسائل المربكة في أذهان البعض؛ فتثير حوارا يَؤُول إلى حدوث القطيعة المقصودة - المشار إليها آنفا-، ولعلّ هذا ما يمكن أن يفسرَ نزعة الإنسان إلى تجاوز حدود الأخلاق بممارسة الظلم وفقدان المسؤولية، وهنا لا تردد في القول أن هذه الفوضى متحققة في غالب واقعها التي لا تتوافق مع مصوغات المبادئ الأخلاقية، و يعود مآل ذلك إلى غلبة الفئة الصاعدة بقهر الإنسان الآخر عبر تسخير المجموعات من البشر في ظل غياب الوعي والسمو الأخلاقي؛ فجزء من المجموعات البشرية أسير تأثيرات العقل الجمعي وإرادة المتنفذين من البشر القاهرين بواسطة وسائل تتغاير مع تغيّر الزمان وتقدمه؛ فالإعلام ووسائله التقليدية والرقمية -في زمننا- مثل وسائل التواصل الاجتماعي هي من تقود عملية صناعة العقل الجمعي الذي -في كثير من مظاهره- يعمل على تفكيك البِنية الإنسانية المتمثلة في القيم الأخلاقية ويهشّم أبجديات إنسانيته؛ فيصنع منه الإنسان الضار والمجرم والمدمن، ولا غَرْوَ أن نعيدَ مشهدَ الصهيونية وأساليبها التي تهدف إلى الإضرار بالإنسان وحضارته؛ لتضمن بقاء وجودها ولو على حساب المجتمعات الإنسانية وحياتها، ونحن هنا بحاجة إلى مراجعة شاملة للمنهجية التدميرية التي تستهدف الإنسان ونظامه الأخلاقي والمجتمعي عبر وسائل شتّى تضاعفت مع دخول العصر الرقمي.

في خضم مشهد مغاير يُظهر محاولة إعادة نصاب الإنسانية وأسسها الأخلاقية إلى كينونتها الوجودية التي تتموضع في الوعي الإنساني، وبذلك تكون هناك مقاومة مضادة لفوضى المجتمعات الإنسانية وصراعاتها، ويتجسّد هذا المشهد في تنامي الوعي الإنساني العالمي دون أنْ يحدَّ بدينٍ أو جنسٍ أو عِرقٍ؛ فتتسع رقعة الوعي الأخلاقي في أفراد المجتمعات، وتنتفي بذلك أيقونة «اللامنتمي» التي أطلقها «كولن ويلسون» التي حملت معنى أن توجدَ فردا في مجتمع بشري تتقاذفه الصراعات والتفاهات، وأن تكتشف أنك لا تنتمي لهذا المجتمع الذي لا يتماشى مع أسس أخلاقية؛ فيطغى عليه الظلمُ والقهرُ، وأسوأ من ذلك غياب الوعي الإنساني الواسع الذي يملك حقَ مناهضة هذا الظلم، ولعلّ ما سطّره «كولن ولسون» في عام 1956 يعكس تجربةً قاسيةً خاضتها المجتمعات الغربية إبّان الحرب العالمية الأولى والثانية؛ فتركت أثرها الذي يعكس اليأس في قلب الإنسان «اللامنتمي» إلا أن صحوة الضمير الإنساني أعادت سد فجوة الأخلاق ومعضلتها المزمنة التي نخرت المجتمعات البشرية وأوشكت على الإجهاز على ما تبقى من أشكال الحياة وأخلاقها، وهذا ما نراه من مشاهدِ التحرر العالمي من قيود العقل التي تعوق فيض نزعته الأخلاقية؛ فتعبر عن رفضها للقطيعة بين هذه النزعة -المغيّبة قسرا- وبين الواقع المأمول.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المجتمعات الإنسانیة المجتمعات البشریة العقل الجمعی

إقرأ أيضاً:

سمير عمر: غياب المعلومة الدقيقة سبب رئيسي في خلق الأزمات المرتبطة بنقل صورة المجتمعات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال سمير عمر، رئيس قطاع الأخبار في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، إن مصر تحتاج إلى إعلام أقوى وأسرع وأكثر دقة لمواكبة الأحداث وتقديم صورة حقيقية لما يجري داخل البلاد.

وأضاف، خلال حوار له مع لميس الحديدي في برنامج "كلمة أخيرة" على قناة ON، أن هدفه هو أن تكون القنوات المصرية المنطلقة من مصر هي المصدر الأساسي والموثوق لما يحدث فيها، مضيفًا: "بمعنى، اسمعوا منا لا تسمعوا عنا."

وتابع عمر قائلًا إن غياب المعلومة الدقيقة هو السبب الرئيسي في خلق الأزمات المرتبطة بنقل صورة المجتمعات، موضحًا: "عندما تغيب المعلومة من مصدرها الأساسي، تملأ هذا الفراغ مؤسسات إعلامية قد لا يكون هدفها نقل الحقيقة، ولذلك نحن بحاجة إلى إعلام وطني دقيق وموثوق."

ووجه سمير عمر الشكر إلى فريق "القاهرة الإخبارية" الذين بدأوا التجربة في ظروف صعبة وسط إقليم يموج بالصراعات والتغيرات، مشيرًا إلى أن مصر محاطة بحزام من النار من جميع الجهات.

كما خصّ بالشكر الإعلامي أحمد الطاهري لما واجهه من صعوبات خلال البدايات، والزميل عبد اللطيف المناوي، مؤكدًا أن كل منهما أدى دورًا مهمًا في دعم الإعلام الوطني، إلى جانب كل من مارس هذه المهنة في الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.

مقالات مشابهة

  • المفتي من جامعة الصالحية الجديدة: إحياء القيم الأخلاقية ضرورة دينية
  • فخّ الهويّات.. حسن أوريد يحذّر من تحول الهويات لسلاح إقصاء مجتمعي
  • موقف عمومي
  • إياد نصار: "ظلم المصطبة" مهم للغاية وينقل واقعًا
  • سمير عمر: غياب المعلومة الدقيقة سبب رئيسي في خلق الأزمات المرتبطة بنقل صورة المجتمعات
  • الإمارات.. «صوت العقل» لإنهاء الأزمة السودانية
  • السيسي: نمضي بثبات وعزم لبناء الإنسان المصري بناء متكاملا يراعي العقل والوجدان
  • الرئيس السيسي: تجديد الخطاب الديني يتجاوز التصحيح ليقدم الصورة المشرقة للدين الحنيف
  • التنمية العُمرانية المُستدامة وازدهار المجتمعات
  • الحيزان: بعض المسلسلات لا تعكس واقع السبعينات وتفتقد لدقة توثيقية.. فيديو