لجريدة عمان:
2025-03-17@15:45:28 GMT

يوم عرفة والعقول الثّلاثة

تاريخ النشر: 23rd, June 2024 GMT

تتكرر جدلية يوم عرفة وعيد الأضحى في عمان بين فترة وأخرى، فهناك من يحاول أن يجعلها في الإطار الطائفي، وكأنَّ هناك صراعًا بين الطوائف المذهبية في عمان، أو محاولة لفرض مذهب على آخر في طقوسه الدينية والتعبدية، وهناك من يقرأ الحدث بضبابية دون تفكيك له، فيقع في إطلاق أحكام عمومية لا علاقة في العديد من جزئياتها أو بعضها بالواقع.

في نظري لقراءة القضية عن قرب وبعقلانية علينا أن نمايز بين ثلاثة عقول: العقل الجمعي، والعقل الفقهي، والعقل العلمي، وأما العقل الجمعي فهو أقرب إلى صورة الواقع المحسوس من الفقه أو العلم، فقد ينقد الطرق التي يمر عليها ولو لم يفقه علم الهندسة، ويحكم على ما يعايشه من تطبيب ولو لم يكن متخصصًا أو ضليعًا في الطب.

لهذا قبل مائتي سنة مثلا، لما يبدأ صوم رمضان يتصور العقلُ الجمعي العالمَ جميعا في هذه اللحظة بَدَأ الصيام معه، وقد يكون من في قرية أخرى لا تبعد عنه كثيرا لم يبدأوا صيامهم بعد، فكذلك لما يكون في يوم التاسع من ذي الحجة يحضر في وجدانه أن حجاج بيت الله الحرام في هذه اللحظة يقفون في صعيد عرفات، ولكن في الواقع قد يكون عندهم الثامن، وقد يكون لديهم العاشر، وكما فقهت حتى سابقا في مكة لم يكن الناس يقفون في يوم واحد، وقد يُعيده بعضهم احتياطًا، وظهرت في الفقه مقولة «الخطأ في يوم عرفة مغتفر» لأجل أن يقف الناس معا في يوم واحد على صعيد عرفات، حتى جاءت الدولة السعودية، فوحدتهم سياسيا على وقفة واحدة، ومنعت تعدد الوقفات.

أما اليوم فلا يمكن عقلا تصور ذلك؛ لأن الإفاضة إلى منى يوم الثامن، والوقوف بعرفة يوم التاسع، ثم الإفاضة ليلا إلى مزدلفة، وما يعقبه من أعمال النحر والتشريق، كل هذا يعايشه العقل الجمعي من خلال البث المباشر، فأصبحت الصورة الذهنية عالقة في تصوره وتصديقه لها من خلال الإعلام المشاهد بصورة حية، ولهذا ارتأى غالب العالم الإسلامي متابعة أم القرى في هذا الأمر؛ لأن الجانب السياسي كان مرجحًا لهذه الحالة، سواء استند إلى رأي فقهي أو علمي أو لم يستند واقعًا، عدا دول إسلامية أخرى غلبت الجانب الفقهي والعلمي فيها على العقل الجمعي، وهي أقل عددا، وكانت هذه الحالة مؤثرة في الرأي السياسي.

وأما في عُمان ففي فترة مبكرة لأكثر من عقدين كانت تميل سياسيًا إلى متابعة أم القرى في ذلك، ولكنه بعد عام 2008م حدث رأي في القرار السياسي المتمثل في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فتارة تغلب متابعة أم القرى، وتارة تتبع الجانب الاستقلالي فقهيًا، ثم أنها سابقًا وضعت نفسها في سعة من الأمر، فلم يكن هناك لجنة تبث على الهواء كلجنة رمضان، وإنما يترك الأمر لما فيه مصلحة، لهذا لم يكن هناك جدل أو اضطراب خصوصا قبل 2008م، وتناغم العقل الجمعي من أي مذهب كان مع القرار السياسي في الجملة.

هذان الأمران - أي بث الإعلام الحي، والعادة على اتباع عشر ذي الحجة حسب إعلان المملكة العربية السعودية - جعل العقلَ الجمعي ينكمش على حالة واحدة، غير قابلة صوريًا ومصداقًا ذهنيًا على تصور حالة ذهنية أخرى، وهذا ليس في عمان فحسب، ففي عام 2001م حدث جدل كبير مع المسلمين القاطنين في أمريكا، مع بعد أمريكا جغرافيا عن مكة، حيث صادفت وقفة عرفة في مكة 4 مارس، وعيد الأضحى 5 مارس، بينما انقسم المسلمون في أمريكا إلى فريقين: فريق رأى أن الوقفة فلكيا حسب موقع أمريكا يوافق 5 مارس، والعيد 6 مارس، واحتج هؤلاء باختلاف المطالع، بينما ذهب فريق آخر إلى أن الحج عرفة، وهذا مرتبط بمكة، فالاختلاف جائز في عيد الفطر، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك في عيد الأضحى، فحدث جدل كبير بينهم، فأرسل الطرفان رسالة إلى الشيخ يوسف القرضاوي (ت 1444هـ/ 2022م) ليحكم بينهم، فأجاب: «إن يوم عرفة إنما هو للحجاج، ولو كان هو اليوم الثامن أو اليوم العاشر في بلدهم، وقد نص الفقهاء على أن الخطأ في يوم عرفة مغتفر، ولو وقف الحجيج يوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح ومقبول، ولكن لا يجب على جميع المسلمين أن يتبعوهم في هذا الخطأ، بل كل يتبع بلده الذي يعيش فيه، وسلطته الشرعية»، كما أجاب أيضا: «فكم نحب للمسلمين أن يتفقوا في يوم صومهم ويوم فطرهم، ويوم حجهم الأكبر، ولكن جرت سنة الله أن يختلف الناس... إننا إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين في العالم حول هذه الشعائر؛ فلنحرص على وحدة المسلمين في كل بلد، بحيث يتبعون سلطتهم الشرعية التي ارتضوها..».

أمام العقل الجمعي -وهو الغالب لطبيعة البشر- يكون العقل الفقهي، والعقل العلمي، وقد كتبت عنهما في أكثر من مناسبة، آخرها في جريدة عمان بعنوان: «الأشهر القمرية وجدلية الهلال»، ويمكن إجمال ذلك أن الخلاف فيه على ثلاثة أوجه، الوجه الأول من حيث المطالع، فهناك من يرى اتحاد المطالع، وآخرون يرون اختلاف المطالع، ومنهم من يرون اختلاف المطالع في المناطق البعيدة عن بعضها، ومنهم من يرى اختلاف المطالع في المناطق غير المشتركة في جزء من الليل أو غالبه؛ والوجه الثاني الاشتراك في أصل الرؤية بالعين الباصرة تعبدًا، فهناك من يرى عدم جواز إثبات الأهلة تعبدًا بغير الباصرة كالتلسكوب والمكبرات، ومنهم من يرى جواز ذلك استئناسا لا تعبدا، ومنهم من يرى جواز ذلك تعبدا وإثباتا، والوجه الثالث باعتبار العلم أو الحساب الفلكي، ففريق يرى بدعيته وظنيته ولا يجوز استخدامه تعبدا، ومنهم من يرى قطعيته لكن لا يعتد به في رؤية الهلال إثباتا ولا إنكارا، وفريق يرى الاعتداد به إنكارا لا إثباتا، ومنهم من يرى الاعتداد به إثباتا وإنكارا، وهؤلاء اختلفوا هل باعتبار الولادة، أم باعتبار المكث بعد الغروب، أم باعتبار المكث والقدرة على رؤيته بالباصرة أو المحدبة.

وأما العقل العلمي فتارة يتزاوج مع العقل الفقهي كما أسلفنا آنفا، وتارة يستقل عنه، فهناك من التقاويم من تعتمد الولادة كتقويم أم القرى، وهناك من التقاويم من تجمع بين المكث وإمكانية رؤيته كالتقويم العماني.

وعلى هذا القرار أو الرأي السياسي في غالب العالم الإسلامي بالنسبة لعيدي الفطر والأضحى ووقفة عرفة على تغليب وحدة المطالع، ولو أن الرأي الفقهي الرسمي مخالف لذلك، ولكن من باب تحقق مصلحة الوحدة الشرعية في مظاهر التعبد كرمضان والعيدين، فيتبعون إعلان المملكة العربية السعودية، وإعلان السعودية قائم على رؤية الباصرة ظاهريا وفقهيا، وليس باعتبار تقويم أم القرى، وهؤلاء غالب العالم العربي والإسلامي، ومنهم من يرى الاستقلالية حسب اختلاف المطالع، فلكل بلد رؤيته، اعتمد على الباصرة أم جمع بينها وبين الحساب، كما في غالب دول شرق آسيا، وفي عمان والمغرب، وكانت الجزائر ترى بهذا ثم أخذت بالقول الأول، ومنهم من يعتمد الحساب الفلكي إثباتا وإنكارا كما يبدو الحال في تركيا، وكانت ليبيا في عهد القذافي على هذا الرأي، وبعد الثورة أخذت بالرأي الأول، ومن الشيعة من يرى هذا سابقا محمد حسين فضل الله (ت 1431هـ/ 2010م)، وحاليا كمال الحيدري، وإن كان وضع الشيعة الإمامية في الاتباع حسب التقليد، لكن من حيث الجانب الرسمي حسب رؤية الدولة كما في إيران والعراق.

وعلى هذا الرأي أو القرار السياسي ليس واحدا في العالم الإسلامي، كما أن العقل العلمي على دقته يكون أحيانا متأثرا بالرأي الفقهي، وعليه ما حدث في عُمان في عيد الأضحى الأخير أي 1445هـ لا علاقة له بالطائفية، ولا ينبغي جر القراءة إلى البعد الطائفي، وإن كان الفقهاء قديما وحديثا اتفقوا على طاعة الحاكم أو الجهة الشرعية المتبعة في هذا، خلافا للإمامية الذين قالوا باتباع المرجع، ومع ذلك كحالة ظهورية لديهم يكون وفق ما قرره الولي الفقيه كما في إيران، وكحالة فردية لكل مرجعيته.

ومن المزعج أيضا هذه العمومية في قراءة الحدث بلا تأصيل، وإن كنت شخصيا أرى أن العلم لو ترك المجال له لخلص العالم الإسلامي من هذه الآراء المتباينة، فإذا اتفق العلم ذاته على معيار واحد لكانت له كلمته، ولكن كما يبدو أن ذلك بعيد المنال حاليًا، ولا زال العقل الفقهي على اختلافه مؤثرًا على العقل العلمي وعلى الرأي السياسي، وبه يرهن العقل الجمعي، لهذا ما نراه من أحداث مخالفة لما عليه الرأي السياسي لا يخرج عن هذا الجدل، وليس به نزعة طائفية، ولا ينبغي جر القراءة إلى هذا المنحدر، كما ينبغي أن تكون هناك سعة حوارية في التعامل حول هذه القضايا، وأن تسبق المعرفة والرحمة والحكمة القرارات السياسية أيا كان اتجاهها.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العالم الإسلامی الرأی السیاسی العقل الجمعی فهناک من أم القرى یوم عرفة فی عمان لم یکن فی یوم

إقرأ أيضاً:

من العقل الرعوي إلى المهدية المعاصرة: تأملات في فكر النور حمد والصادق المهدي

المشارب الفكرية والثقافية لكلاهما
أ) الصادق المهدي: المرجعية الدينية والإصلاح السياسي
الإمام الصادق المهدي ينتمي إلى تيار الإسلام السياسي الإصلاحي، لكنه يتميز بخصوصية تختلف عن الحركات الإسلامية التقليدية. فقد حاول تقديم رؤية حداثية للإسلام تتجاوز السلفية الحرفية، وتعتمد على الاجتهاد والتحديث. تأثر بفكر الحركات الإصلاحية الإسلامية الكبرى، مثل فكر الأفغاني ومحمد عبده، كما استلهم بعض أفكار الديمقراطية الغربية، محاولًا التوفيق بينها وبين الشورى الإسلامية.
كان الصادق المهدي سياسيًا محنكًا وفيلسوفًا دينيًا في آن واحد، وسعى إلى تطوير فكر المهدية السودانية عبر العديد من الكتابات، أبرزها كتابه "يسألونك عن المهدية"، الذي قدم فيه مراجعة عميقة لمفهوم المهدية، محاولًا تفكيك التصورات التقليدية عنها وربطها بالإصلاح السياسي والاجتماعي. كما كتب عن الديمقراطية، والتحديات الفكرية التي تواجه السودان، وكان من دعاة الحلول التوافقية بين التيارات السياسية المختلفة.

ب) النور حمد: النقد الثقافي وتحليل البنية المجتمعية
على الجانب الآخر، النور حمد هو مفكر ثقافي ينتمي إلى تيار النقد الاجتماعي، حيث يركز على تحليل البنية الثقافية للسودان وتأثيراتها على التخلف السياسي والاقتصادي. تأثر بالنظريات النقدية الحديثة، وأدخل مفاهيم مثل "العقل الرعوي"، وهي نظرية تشرح كيف تؤثر الثقافة الرعوية على السلوك الاجتماعي والسياسي للسودانيين.
يرى النور حمد أن أزمة السودان ليست مجرد مشكلة سياسية، بل هي مشكلة ثقافية في جوهرها، تحتاج إلى تغيير جذري في العقلية السائدة قبل أي إصلاح سياسي حقيقي. ومن هنا تأتي رؤيته الإصلاحية التي تعتمد على تفكيك البنى التقليدية وتقديم نموذج جديد للحداثة السودانية.
تأثير الصادق المهدي والنور حمد في الواقع السوداني
أ) تأثير الصادق المهدي-
كان لاعبًا أساسيًا في المشهد السياسي السوداني لعقود.
أسس لفكر سياسي يجمع بين الإسلام والديمقراطية.
قدم مراجعات فكرية مهمة حول المهدية والمشاركة السياسية.
بعد وفاته، تراجع تأثير حزبه بسبب الانقسامات.
ب) تأثير النور حمد-
تأثيره أكثر وضوحًا في الأوساط الأكاديمية والثقافية.
نظرياته حول "العقل الرعوي" أصبحت أدوات تحليلية لفهم الأزمات السودانية.
يلقى قبولًا متزايدًا بين الشباب والمثقفين الباحثين عن تفسيرات أعمق للمشكلات الوطنية.
هل يمكن الجمع بين رؤيتيهما؟

أ) من النور حمد: الإصلاح الثقافي والاجتماعي
يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في العقلية الرعوية التقليدية.
يدعو إلى ثورة ثقافية تسبق أي إصلاح سياسي.

ب) من الصادق المهدي: الإصلاح السياسي والتوافقي
يؤمن بالإصلاح التدريجي عبر الحوار السياسي.
يدعو إلى دمج الإسلام بالديمقراطية في إطار حداثي.

ج) الجمع بين الرؤيتين-

الإصلاح الثقافي + الإصلاح السياسي: بدون تغيير الثقافة، يفشل الإصلاح السياسي، وبدون إصلاح سياسي، يظل التغيير الثقافي حبيس النخبة.

التغيير الجذري + الإصلاح التدريجي: يمكن تبني نهج يجمع بين التغيير الثقافي العميق والإصلاح السياسي الواقعي.

المثقفون + السياسيون: يمكن للمثقفين أن يلعبوا دور الجسر بين الإصلاح الثقافي والسياسي.

أيهما أكثر تأثيرًا اليوم؟
في ظل الأزمة السودانية الحالية، يبدو أن أفكار النور حمد حول تحليل الثقافة والمجتمع تلقى رواجًا أكبر بين الشباب والمثقفين، في حين أن إرث الصادق المهدي السياسي لا يزال حاضرًا، لكنه يواجه تحديات بسبب غياب قيادة واضحة لحزب الأمة.

ما أري هو السودان بحاجة إلى مشروع وطني يجمع بين الإصلاح الثقافي الذي دعا إليه النور حمد والإصلاح السياسي الذي سعى إليه الصادق المهدي. فالتغيير الثقافي العميق والإصلاح السياسي التوافقي هما وجهان لعملة واحدة في بناء سودان جديد.

* وفي النهاية اقول تمت المقارنة بين رؤيتي النور حمد والصادق المهدي في سياق الأزمة السودانية الحالية، حيث تناولنا تأثيرهما، إمكانية الجمع بين رؤيتيهما، وأثر كل منهما في الواقع السوداني. لقد تم التركيز على الإصلاح الثقافي والاجتماعي الذي دعا إليه النور حمد، والإصلاح السياسي الذي كان محور فكر الصادق المهدي.
مع ذلك، إن شبّهت هذه المقارنة قصورًا، فهي جاءت دون دراسة أكاديمية متعمقة لتراث الإمام الصادق المهدي. أعتذر لحراس فكر الإمام والمهدية المعاصرة كما يعتقد بعض الأصدقاء. في الواقع، كان هذا الطرح جزءًا من محاضرة تتناول كتابات النور حمد، وكل ما ورد هنا كان عفو الخاطر ومجموعة ملاحظات لم تكن ضمن دراسة ممنهجة.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • «ليفربول» يخسر لقب كأس الرابطة.. و«سلوت» يحاول أن يكون إيجابياً
  • أكرم حسني: مينفعش أختلف مع أستاذ بقيمة المخرج شريف عرفة
  • حقيقة وجود خلاف بين أكرم حسني والمخرج شريف عرفة بسبب فيلم الأنس والنمس
  • عاجل | وزير الخارجية السوداني للجزيرة نت: الحكومة الموازية وُلدت ميتة ولن يكون لها دور في مستقبل السودان
  • من العقل الرعوي إلى المهدية المعاصرة: تأملات في فكر النور حمد والصادق المهدي
  • ???? مدنيون ضد الحقيقة ومع تدمير العقل السياسي السوداني
  • المخرجة بتول عرفة تشيد بمسلسلي «ولاد الشمس و أثينا»
  • بمواصفات خيالية.. هل يكون «OnePlus» الحاسب الذي ننتظره؟
  • كيف اكتشف سيدنا إبراهيم أن هناك إلهًا واحدًا أزليًّا لا يتغير؟
  • بن شرادة: هدف حكومة الدبيبة قد يكون تعطيل وعرقلة الانتخابات وإرباك المشهد السياسي