تتكرر جدلية يوم عرفة وعيد الأضحى في عمان بين فترة وأخرى، فهناك من يحاول أن يجعلها في الإطار الطائفي، وكأنَّ هناك صراعًا بين الطوائف المذهبية في عمان، أو محاولة لفرض مذهب على آخر في طقوسه الدينية والتعبدية، وهناك من يقرأ الحدث بضبابية دون تفكيك له، فيقع في إطلاق أحكام عمومية لا علاقة في العديد من جزئياتها أو بعضها بالواقع.
في نظري لقراءة القضية عن قرب وبعقلانية علينا أن نمايز بين ثلاثة عقول: العقل الجمعي، والعقل الفقهي، والعقل العلمي، وأما العقل الجمعي فهو أقرب إلى صورة الواقع المحسوس من الفقه أو العلم، فقد ينقد الطرق التي يمر عليها ولو لم يفقه علم الهندسة، ويحكم على ما يعايشه من تطبيب ولو لم يكن متخصصًا أو ضليعًا في الطب.
لهذا قبل مائتي سنة مثلا، لما يبدأ صوم رمضان يتصور العقلُ الجمعي العالمَ جميعا في هذه اللحظة بَدَأ الصيام معه، وقد يكون من في قرية أخرى لا تبعد عنه كثيرا لم يبدأوا صيامهم بعد، فكذلك لما يكون في يوم التاسع من ذي الحجة يحضر في وجدانه أن حجاج بيت الله الحرام في هذه اللحظة يقفون في صعيد عرفات، ولكن في الواقع قد يكون عندهم الثامن، وقد يكون لديهم العاشر، وكما فقهت حتى سابقا في مكة لم يكن الناس يقفون في يوم واحد، وقد يُعيده بعضهم احتياطًا، وظهرت في الفقه مقولة «الخطأ في يوم عرفة مغتفر» لأجل أن يقف الناس معا في يوم واحد على صعيد عرفات، حتى جاءت الدولة السعودية، فوحدتهم سياسيا على وقفة واحدة، ومنعت تعدد الوقفات.
أما اليوم فلا يمكن عقلا تصور ذلك؛ لأن الإفاضة إلى منى يوم الثامن، والوقوف بعرفة يوم التاسع، ثم الإفاضة ليلا إلى مزدلفة، وما يعقبه من أعمال النحر والتشريق، كل هذا يعايشه العقل الجمعي من خلال البث المباشر، فأصبحت الصورة الذهنية عالقة في تصوره وتصديقه لها من خلال الإعلام المشاهد بصورة حية، ولهذا ارتأى غالب العالم الإسلامي متابعة أم القرى في هذا الأمر؛ لأن الجانب السياسي كان مرجحًا لهذه الحالة، سواء استند إلى رأي فقهي أو علمي أو لم يستند واقعًا، عدا دول إسلامية أخرى غلبت الجانب الفقهي والعلمي فيها على العقل الجمعي، وهي أقل عددا، وكانت هذه الحالة مؤثرة في الرأي السياسي.
وأما في عُمان ففي فترة مبكرة لأكثر من عقدين كانت تميل سياسيًا إلى متابعة أم القرى في ذلك، ولكنه بعد عام 2008م حدث رأي في القرار السياسي المتمثل في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فتارة تغلب متابعة أم القرى، وتارة تتبع الجانب الاستقلالي فقهيًا، ثم أنها سابقًا وضعت نفسها في سعة من الأمر، فلم يكن هناك لجنة تبث على الهواء كلجنة رمضان، وإنما يترك الأمر لما فيه مصلحة، لهذا لم يكن هناك جدل أو اضطراب خصوصا قبل 2008م، وتناغم العقل الجمعي من أي مذهب كان مع القرار السياسي في الجملة.
هذان الأمران - أي بث الإعلام الحي، والعادة على اتباع عشر ذي الحجة حسب إعلان المملكة العربية السعودية - جعل العقلَ الجمعي ينكمش على حالة واحدة، غير قابلة صوريًا ومصداقًا ذهنيًا على تصور حالة ذهنية أخرى، وهذا ليس في عمان فحسب، ففي عام 2001م حدث جدل كبير مع المسلمين القاطنين في أمريكا، مع بعد أمريكا جغرافيا عن مكة، حيث صادفت وقفة عرفة في مكة 4 مارس، وعيد الأضحى 5 مارس، بينما انقسم المسلمون في أمريكا إلى فريقين: فريق رأى أن الوقفة فلكيا حسب موقع أمريكا يوافق 5 مارس، والعيد 6 مارس، واحتج هؤلاء باختلاف المطالع، بينما ذهب فريق آخر إلى أن الحج عرفة، وهذا مرتبط بمكة، فالاختلاف جائز في عيد الفطر، ولكن لا يجوز أن يكون ذلك في عيد الأضحى، فحدث جدل كبير بينهم، فأرسل الطرفان رسالة إلى الشيخ يوسف القرضاوي (ت 1444هـ/ 2022م) ليحكم بينهم، فأجاب: «إن يوم عرفة إنما هو للحجاج، ولو كان هو اليوم الثامن أو اليوم العاشر في بلدهم، وقد نص الفقهاء على أن الخطأ في يوم عرفة مغتفر، ولو وقف الحجيج يوم الثامن خطأ، فإن حجهم صحيح ومقبول، ولكن لا يجب على جميع المسلمين أن يتبعوهم في هذا الخطأ، بل كل يتبع بلده الذي يعيش فيه، وسلطته الشرعية»، كما أجاب أيضا: «فكم نحب للمسلمين أن يتفقوا في يوم صومهم ويوم فطرهم، ويوم حجهم الأكبر، ولكن جرت سنة الله أن يختلف الناس... إننا إذا لم نصل إلى وحدة المسلمين في العالم حول هذه الشعائر؛ فلنحرص على وحدة المسلمين في كل بلد، بحيث يتبعون سلطتهم الشرعية التي ارتضوها..».
أمام العقل الجمعي -وهو الغالب لطبيعة البشر- يكون العقل الفقهي، والعقل العلمي، وقد كتبت عنهما في أكثر من مناسبة، آخرها في جريدة عمان بعنوان: «الأشهر القمرية وجدلية الهلال»، ويمكن إجمال ذلك أن الخلاف فيه على ثلاثة أوجه، الوجه الأول من حيث المطالع، فهناك من يرى اتحاد المطالع، وآخرون يرون اختلاف المطالع، ومنهم من يرون اختلاف المطالع في المناطق البعيدة عن بعضها، ومنهم من يرى اختلاف المطالع في المناطق غير المشتركة في جزء من الليل أو غالبه؛ والوجه الثاني الاشتراك في أصل الرؤية بالعين الباصرة تعبدًا، فهناك من يرى عدم جواز إثبات الأهلة تعبدًا بغير الباصرة كالتلسكوب والمكبرات، ومنهم من يرى جواز ذلك استئناسا لا تعبدا، ومنهم من يرى جواز ذلك تعبدا وإثباتا، والوجه الثالث باعتبار العلم أو الحساب الفلكي، ففريق يرى بدعيته وظنيته ولا يجوز استخدامه تعبدا، ومنهم من يرى قطعيته لكن لا يعتد به في رؤية الهلال إثباتا ولا إنكارا، وفريق يرى الاعتداد به إنكارا لا إثباتا، ومنهم من يرى الاعتداد به إثباتا وإنكارا، وهؤلاء اختلفوا هل باعتبار الولادة، أم باعتبار المكث بعد الغروب، أم باعتبار المكث والقدرة على رؤيته بالباصرة أو المحدبة.
وأما العقل العلمي فتارة يتزاوج مع العقل الفقهي كما أسلفنا آنفا، وتارة يستقل عنه، فهناك من التقاويم من تعتمد الولادة كتقويم أم القرى، وهناك من التقاويم من تجمع بين المكث وإمكانية رؤيته كالتقويم العماني.
وعلى هذا القرار أو الرأي السياسي في غالب العالم الإسلامي بالنسبة لعيدي الفطر والأضحى ووقفة عرفة على تغليب وحدة المطالع، ولو أن الرأي الفقهي الرسمي مخالف لذلك، ولكن من باب تحقق مصلحة الوحدة الشرعية في مظاهر التعبد كرمضان والعيدين، فيتبعون إعلان المملكة العربية السعودية، وإعلان السعودية قائم على رؤية الباصرة ظاهريا وفقهيا، وليس باعتبار تقويم أم القرى، وهؤلاء غالب العالم العربي والإسلامي، ومنهم من يرى الاستقلالية حسب اختلاف المطالع، فلكل بلد رؤيته، اعتمد على الباصرة أم جمع بينها وبين الحساب، كما في غالب دول شرق آسيا، وفي عمان والمغرب، وكانت الجزائر ترى بهذا ثم أخذت بالقول الأول، ومنهم من يعتمد الحساب الفلكي إثباتا وإنكارا كما يبدو الحال في تركيا، وكانت ليبيا في عهد القذافي على هذا الرأي، وبعد الثورة أخذت بالرأي الأول، ومن الشيعة من يرى هذا سابقا محمد حسين فضل الله (ت 1431هـ/ 2010م)، وحاليا كمال الحيدري، وإن كان وضع الشيعة الإمامية في الاتباع حسب التقليد، لكن من حيث الجانب الرسمي حسب رؤية الدولة كما في إيران والعراق.
وعلى هذا الرأي أو القرار السياسي ليس واحدا في العالم الإسلامي، كما أن العقل العلمي على دقته يكون أحيانا متأثرا بالرأي الفقهي، وعليه ما حدث في عُمان في عيد الأضحى الأخير أي 1445هـ لا علاقة له بالطائفية، ولا ينبغي جر القراءة إلى البعد الطائفي، وإن كان الفقهاء قديما وحديثا اتفقوا على طاعة الحاكم أو الجهة الشرعية المتبعة في هذا، خلافا للإمامية الذين قالوا باتباع المرجع، ومع ذلك كحالة ظهورية لديهم يكون وفق ما قرره الولي الفقيه كما في إيران، وكحالة فردية لكل مرجعيته.
ومن المزعج أيضا هذه العمومية في قراءة الحدث بلا تأصيل، وإن كنت شخصيا أرى أن العلم لو ترك المجال له لخلص العالم الإسلامي من هذه الآراء المتباينة، فإذا اتفق العلم ذاته على معيار واحد لكانت له كلمته، ولكن كما يبدو أن ذلك بعيد المنال حاليًا، ولا زال العقل الفقهي على اختلافه مؤثرًا على العقل العلمي وعلى الرأي السياسي، وبه يرهن العقل الجمعي، لهذا ما نراه من أحداث مخالفة لما عليه الرأي السياسي لا يخرج عن هذا الجدل، وليس به نزعة طائفية، ولا ينبغي جر القراءة إلى هذا المنحدر، كما ينبغي أن تكون هناك سعة حوارية في التعامل حول هذه القضايا، وأن تسبق المعرفة والرحمة والحكمة القرارات السياسية أيا كان اتجاهها.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العالم الإسلامی الرأی السیاسی العقل الجمعی فهناک من أم القرى یوم عرفة فی عمان لم یکن فی یوم
إقرأ أيضاً:
العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي
عملية اتخاذ القرار؛ ومن ثَم صياغة السياسات لها شق فني وآخر سياسي، ويعتمد الشق الفني على الأدلة والقرائن من خلال جمع بيانات دقيقة ومحدثة، يتم تلخيصها وتحليلها وتفسيرها على نحو سليم، كما يعتمد على المعرفة بالخبرات الوطنية والدولية، وعلى الاستفادة من آراء الخبراء في كافة المجالات المتصلة بموضوع القرار المطلوب اتخاذه. وفي المقابل يعتمد الشق السياسي على جوانب مرتبطة بالملاءمة، وبالمصالح السياسية التي يمكن تحققها، وبالمخاطر التي يجب تجنبها، وبتوقيت تنفيذ القرار المتخذ، وبمدى شعبية هذا القرار، وردود الفعل المتوقعة لجماعات الضغط، وموقع الموضوع في سلم الأولويات، وتكلفته مقارنة بتكلفة بدائل أخرى. وعملية اتخاذ القرارات التي يفترض أن تعتمد على القرائن هي مجال خصب للتفاعل بين العمل الإحصائي والعمل السياسي.
نماذج للتوترات:
نظراً لأن مهنة الإحصاء تسعى إلى تكميم الظواهر السياسية، ولكون المقاييس الكمية تعبر عن الحقيقة بشكل محايد؛ فإن التاريخ الحديث يمتلئ بوقائع تعكس توتر العلاقة بين منتجي الإحصاءات والسياسيين. ومع حدوث بعض التحسن التدريجي على الضوابط التي تحكم العمل الإحصائي، إلا أن الصراعات والتنافسات السياسية ما زالت تنعكس على استقلالية العمل الإحصائي. ففي الولايات المتحدة تتصادم الأيديولوجيا السياسية مع الأساليب المنهجية لإجراء التعداد السكاني، حيث تصبح منهجية إجراء التعداد –والذي يعتمد عليه في توزيع الدوائر على الولايات- في بؤرة الصراع السياسي بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ إذ يتبنى الحزب الديمقراطي استخدام عينة مكملة للتعداد؛ وذلك لمعالجة القصور في تسجيل الفئات الأكثر فقراً، في حين يرى الحزب الجمهوري الاقتصار على نتائج أسلوب الحصر الشامل التي تصب في مصلحته؛ لأنها ترصد نسبة أقل من المواطنين الذين يعيشون في مناطق أكثر فقراً .
وفي كندا، اتخذت حكومة المحافظين في عام 2010 قراراً باستبدال التعداد السكاني الشامل بمسح للأسر المعيشية، على الرغم من معارضة واسعة من معظم الإحصائيين وعلماء الاجتماع ومستخدمي البيانات وحكومات المقاطعات، وبلغت الأزمة ذروتها باستقالة كبير الإحصائيين منير شيخ . وبمجرد انتخاب الحكومة الليبرالية الجديدة سنة 2015، أعلنت العودة إلى الوضع السابق فيما يتعلق بالتعداد السكاني، ووعدت بقانون جديد لتعزيز استقلال هيئة الإحصاء الكندية؛ ومع ذلك، في سبتمبر 2016، تكررت الواقعة؛ إذ استقال كبير الإحصائيين واين سميث، احتجاجاً على قانون الإحصاء الجديد؛ لأنه لا يحمي استقلال هيئة الإحصاء الكندية، ولم يعالج ما اعتبره تهديداً رئيسيّاً؛ وهو خسارة الهيئة للسيطرة على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات .
وتمثل حالة اليونان نموذجاً لتوتر العلاقة بين الأجهزة الوطنية والأجهزة الإقليمية، حيث نشأ نزاع دام عقداً من الزمن بين دائرة الإحصاء الوطنية اليونانية (NSSG) والوكالة الإحصائية للاتحاد الأوروبي (EUROSTAT) حول دقة إحصاءات الديون والعجز المالي؛ أدى ذلك إلى سن قانون جديد للإحصاء سنة 2010، وإعادة هيكلة لدائرة الإحصاء الوطنية وتعيين رئيس جديد لها. وأعادت هذه التغييرات الانسجام بين النظام الإحصائي اليوناني (ELSTAT) والسلطات الأوروبية، إلا أن الصراع انتقل إلى المؤسسات اليونانية. فمنذ بداية فترة ولايته، تم اتهام أندرياس جورجيو (Andreas Georgiou) رئيس الجهاز الإحصائي اليوناني بتزوير البيانات -لصالح دائني اليونان- وتم تقديمه إلى سلسلة من التحقيقات والمحاكمات. وفي فرنسا، نشر عدد من الإحصائيين تحت اسم مستعار “لورين داتا” (Lorraine Data) في عام 2009، كتاباً بعنوان “التزوير الكبير: كيف تتلاعب الحكومة بالإحصاءات؟” يدين تزوير الحكومة وتلاعبها بالإحصاءات الرسمية .
وبطبيعة الحال، كان الصراع بين الإحصاء والسياسة أكثر احتداماً في الدول النامية، ففي الأرجنتين أدى التدخل الحكومي المباشر في تعريف وأسلوب حساب مؤشر تكلفة المعيشة، واستبدال الموظفين المحترفين بآخرين محل ثقة خلال سنوات رئاسة كريستينا كيرشنر، والتي امتدت من 2007 إلى 2015؛ إلى تدمير الثقة في عمل المعهد الوطني للإحصاء والتعداد. وخلال الأشهر الستة الأولى من عام 2016، أعلنت حكومة يمين الوسط الجديدة أن الأرجنتين في حالة “طوارئ إحصائية وطنية”؛ إذ توقف الجهاز الإحصائي عن إنتاج المؤشرات الرئيسية، ومنها الناتج المحلي الإجمالي ومعدل التضخم ومعدل الفقر إلى حين إعادة إنتاج هذه المؤشرات وفق التعريفات الدولية المتعارف عليها . وتوجد أمثلة أخرى في تركيا وفي جمهورية الجبل الأسود .
يضاف إلى ما سبق ما سجله تاريخ الإحصاء من وقائع تم خلالها ممارسة أقسى درجات العنف ضد الإحصائيين وصلت في بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية، وهو ما حدث لغراتسييلا سيدلر، الشابة الأرجنتينية، التي أصدرت في سنة 1976 دراسة إحصائية عن أحوال الأحياء الفقيرة في بوينس آيرس، سببت حرجاً شديداً للديكتاتورية العسكرية، فوصفها زعيم المجلس الجنرال خورجي فيديلا بأنها مثال على تسرب المخربين إلى الحكومة. اختفت غراتسييلا بعد ذلك بوقت قصير (في 25 سبتمبر 1976) وكانت تبلغ من العمر 29 سنة.
في نفس العام، ترك كارلوس نورييغا، الذي كان آنذاك مدير المكتب الإحصائي الأرجنتيني، منصبه. وذكرت إفادات غير رسمية من زملائه في العمل أنه أُرغم على ذلك؛ لأنه رفض طلبات من الحكومة العسكرية الجديدة بالتلاعب بالبيانات التي يصدرها المكتب الإحصائي. في فبراير 1977، وفي أثناء قضاء عطلة في مار ديل بلاتا مع زوجته وأبنائه، احتُجز كارلوس بأيدي أشخاص يُعتقد أنهم يعملون في الحكومة. ولم تعترف الحكومة أبداً بأنه قيد الاحتجاز، ويُعتقد أنه أُعدم.
حوكمة العلاقات:
العلاقة بين الإحصاء والسياسة تختلف عن العلاقة التقليدية بين المنتج والمستهلك، والتي يتفاعل فيها الطلب والعرض على نحو يمكن نمذجته. وفي علاقة الإحصاء بالسياسة يمتلك كل طرف مصدر قوة وأوراق ضغط تسهم في صياغة هذه العلاقة، وتحدد مِن ثَم الرابح والخاسر. فمن ناحية يمتلك الإحصاء بريق الحقيقة نظراً للسحر الذي تمتلكه الأرقام باعتبارها “عنوان الحقيقة”، وينظر إليه في كثير من الأحيان باعتباره الحَكم العدل معصوب العينين الذي يصدر أحكاماً مجردة غير متحيزة تعتبر بمثابة تقييم لأداء السياسيين. وعلى الجانب الآخر، يمتلك السياسيون السلطة؛ وهو ما يسمح لهم بالتأثير في الموارد التي يتم تخصيصها لتنفيذ أنشطة جمع وتحليل ونشر البيانات، كما يملكون -لاسيما في الدول التي لا تطبق قواعد الحوكمة- السلطة التي تسمح لهم بالتأثير في وضع المركز الوطني للإحصاء أو غيره من الأجهزة الإحصائية وعلى قدرته على العمل باستقلالية.
وتكمن مشروعية علم الإحصاء في أنه يصف الظواهر الاجتماعية من خلال أرقام، ويصل إلى ذلك من خلال استخدام أساليب علمية موثوق بها؛ ومن ثم فإنه يُفترض أن يقدم حقيقة هذه الظواهر بشكل مجرد. وفي المقابل، فإن السياسيين يأملون أن تتسق هذه الأرقام مع توجهاتهم، أو تضيف مصداقية إلى السياسات والبرامج التي ينفذونها، أو يسعون إلى تنفيذها، أو توثق الإنجازات التي يدَّعون أنهم قاموا بها. والعلاقة بين الإحصائي والسياسي يحكمها حرص الإحصائي على قياس الظواهر الاجتماعية بحيادية كاملة، ورغبة السياسي في أن يحمل هذا القياس أخباراً سارة له؛ وإذا لم يحدث ذلك فقد يحرك السياسي آلية مضادة للتأثير في المقاييس المعلنة أو يشكك في نزاهتها أو يحاول لي أعناق الأرقام لتفصح عما ليس فيها. ويتوقف رد فعل السياسيين على القوة التي يتمتع بها منتج الإحصاءات وعلى قدرة المؤسسات المنتجة للمعرفة على الصمود أمام الضغوط التي قد يمارسها السياسيون. وفي غياب نظام إحصائي مستقل يعمل في مناخ يتسم بإعمال القانون والفصل بين السلطات ويطبق قواعد المساءلة، يتمكن السياسيون من التلاعب بالمعلومات ونشرها بشكل مضلل، أو منع تداول المعلومات التي لا تحقق مصالحهم، أو عرقلة إنتاج البيانات لخلق حالة ضبابية يصعب خلالها إعمال المساءلة.
أولوية الاستقلالية:
بغض النظر عن حسابات المكسب والخسارة التي تحكم العلاقة بين الإحصاء والسياسيين؛ فإنه يمكن القول إن الإحصاء المستقل الذي لا يخضع للمواءمات السياسية يسهم في بناء الدولة الحديثة من خلال إنتاج وإتاحة المعلومات التي تفيد في:
• ترتيب أولويات التنمية وفي تخصيص الموارد.
• تحديد ومواجهة التحديات والمخاطر.
• الاستفادة من الفرص السانحة.
• تحديد مستويات اللامساواة وتوزيعها.
• توقع التوترات.
• إدارة الأزمات والأحداث الطارئة.
• التعرف على اتجاهات وتوقعات وتفضيلات المواطنين.
• متابعة وتقييم الأداء.
والإحصاءات المتصلة بالمجالات المشار إليها تسهم بشكل رئيسي في ترشيد أولويات العمل الحكومي، وتجعل أية برامج أو تدخلات حكومية أكثر واقعية، ناهيك عن أنها تسمح بتقييم هذه البرامج أو التدخلات. كما أن كثيراً من الإحصاءات المتصلة بالمجالات المذكورة أعلاه تفيد في تحسين إدارة الدولة، كما تفيد في تجسير الفجوة بين ما يمكن أن تقدمه الحكومات وما يتطلع إليه المواطنون؛ ومن ثم تسهم في إدارة التوقعات، وليس فقط في إدارة الموارد، وهو ما يساعد على بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، ويدعم الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي.
وحتى يقوم الإحصاء بهذا الدور يجب أن تتوفر له الاستقلالية؛ وإذا ما تم التفريط في استقلالية الإحصاء يخفق السياسيون في الاستفادة من الإحصاء في تحقيق كل أو معظم هذه الأدوار؛ ومن ثم تصبح المكاسب الضيقة قصيرة الأجل التي يحققها السياسيون من جراء التدخل في مخرجات العمل الإحصائي أقل بكثير من المزايا التي تتحقق في الأجل المتوسط أو الطويل من جراء الحفاظ على استقلالية الإحصاء؛ وهو ما يتطلب وجود نظام صارم مستدام لحوكمة العمل الإحصائي ولضمان استقلالية المؤسسات التي تنتج الإحصاءات.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”