جمال محمد ابراهيم

(1)
ضاعفتْ المواجهات العسكرية، وقتل المدنيين بصورة متواترة ، إلى تقليـص فُـرصِ اداء فاعلٍ للدبلوماسـية السّودانية مقابل تصاعد الأداء العسكري المدمّـر للـبلاد. يكفـي أن نرى القـنـوات الفضائية تبثّ تهافـتا دبلوماسياً ، ما كان سيحدث ولا يتوقّع أنْ يصل إلى ما وصل إليه، ما شهدناه في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن، حـول الحــرب في السّـودان، بين ممثلي دولتيـن عربيتين، هُـما السّودان والإمارات.


لعلّ أولى الملاحظات هنا، تتصل باستعجال الطرف الذي سارع برفع الخلاف بين الطرفين إلى مجلس الأمن للنظر في ما اشتكى منه الطرف السوداني من تدخل لدولة الامارات لصبِّ الزّيت على نار الحرب الدائرة في السودان. إن العجلة هي ما مثلتْ تجاوزا من طرف الدبلوماسية السودانية للمنصات الإقليمية المتاحة لرفع مثل تلك الشكوى إليها وأولها هي الجامعة العربية .
وثاني الملاحظات هو الذي مثلته تجاوزات الدبلوماسية السودانية ، في عدم صبرها على الوسائل الدبلوماسية الثنائـية التي تتيح للبلدين مستويات عـديدة من التعامل الحصيف الجاد. لقد كان من الممكن إحتواء مثل تلك الخلافات عبرها ، خاصة لما بين بلدين لهما من علاقات الأخوة الثنائية والتاريخية العميقة، لو تم استصحابها وتفعيلها ، لما كانت ثمّة ضرورة لرفع الخلاف إلى منصّات الجامعة العربية، ناهيك أن يصل إلى الأمم المتحدة ومجلس أمنها.

(2)
لعلّ استعجال حكومة الأمر الواقع السودانية تصعيد شكواها إلى مجلس الأمن ضد دولة تشاد لتدخلها في حرب السودان الدائرة الآن ، وهي دولة تقاسم السودان حدودا تبلغ آلاف الكيلومتراتلم يكن متوقعاً . لربما كان من الممكن معالجة أمر ذلك الخلاف واحتواءه لو أتيح للدبلوماسية الثنائية بين السودان وتشاد، أن تقوم بدورها للحفاظ على علاقات الأخوة الأفريقية والجوار، وأن لا تعمد لتصعيدها، وللسودان تاريخ أبوي ناصع في استقرار دولة تشاد. والأمر نفسه بقال عن علاقات السودان ودولة أفريقيا الوسطى ، وهي الطرف الثالث الذي طاله اتهام مستعجل للتدخل تأثيرا غير مرغوب في الحرب الدائرة في السودان وفي دارفور التي تتاخم أراضي دولة تشاد.
ولك أن تعجب لمه لم تعمد حكومة الأمر الواقع في السودان على إقحام دولة ليبيا في الشكوى المرفوعة لمجلس الأمن ، إذ من الشواهد لعديدة ما قد يثبت تهاون السلطات الليبية إدخال سيارات دفعٍ رباعي بالآلاف وليس المئات عبر الحدود الليبية السودانية إلى داخل السودان ، ومعروف تاريخ الجوار السوداني الليبي الذي شهد هذا النوع من التدخّلات . غير أن الدبلوماسية السودانية نجاهلت اتهام ليبيا ، ربما لحسابات تخصّ علاقاتها مع طرف من الأطراف التي تتنازع على الحكم في ليبيا .

(3)
لسنا هنا بصدد إثبات حقيقة أو خطل تلك الاتهــامات التي أعلنها السودان، وهـو يتقاتل مع نفسه على حساب مواطنيه، ولكن الذي يلفت النظر هو ما نرى من ضعف في تفعيل التواصل الدبلوماسي بين السودان وتلك الدول التي رفعت حكومة الأمــر الواقــع شكواها ضدها إلى مجلس الأمن . من الأعراف الدبلوماسية ما يتيح تدرّجاً معلوماً تتمّ عبره معالجة ما ينشب من خلافات بين الدول . عند بدء مثل تلك الخلافات مثلاً، يقع التنبيه عبر تبادل رسائل خاصة بحكم وجود التمثيل الدبلوماسي بين الطرفين المختلفين، ثم يرتفع مستوى التواصل بايفاد مبعوثين إن اقتضى الحال . أمّا إن استعصى الأمر بعد ذلك، فيكون المجال مفتوحاً لوساطات أخوية ممّن لهم صلات بين تلك الأطراف ، أو أن تلجأ الأطـراف لحل خلافاتهما باللجوء إلى المنصّات الإقليمية التي تجمعهم لتلافي التصعيد، وتبقى بعد ذلك منصّة الأمم المتحدة آخر ما يشتكى إليه.
فيبقى السؤال المحيّر : لماذا هرع السودان في استعجالٍ دبلوماسي قد لا يكون مبررا، للشكوى لدى الأمم المتحدة ، دون استنفاد الخطوات الأخرى المتاحة. .؟

(4)
لو كانت للجامعة العربية أدوارٌ في معالجة الخلاف بين السودان ودولة الإمارات ، لما وجدت حكومة الأمر الواقع ما يدفعها للشكوى للأمم المتحدة ، إذ الخلاف بين دولتيـن عربيتين تجمعهما تاريخيا علاقات عميقة من التعاون والشراكات بحكم روابط العقيدة واللسان والثقافة. ربما وقوع حرب غزة بعد نحو ستة أشهر من حرب السودان، قد شغل الجامعة العربية ، والخشية أن تكون لبعض أعضاء تلك الجامعة من يرى منطقا في تفاوت التعامل مع بعض دولها بحكم تصنيف لا تخرجه الألسن، عن دول في المركز وأخرى في الهامش فوقع نسيان أو تناسي حرب السودان . لكننا لم نشهد توجها في ذلك الاتجاه ، ولا سمعنا من حكومة الأمر الواقع في السودان تململاً أو استياءاً ، بل تابع الجميع إسراعها للشكوى لدى مجلس الأمن ، لنشهد نوعا من الدراما الدبلوماسية المحزنة باستعراض لم يكن مناسبا أن يقع تحت قبة الأمم المتحدة .
ولك أن تسأل عن الاتحاد الأفريقي وهو المنظمة السياسية الاقليمية التي تجمع السـودان مع دولة تشاد وأفريقيا الوسطى وبقية دول غربي أفريقيا، إذ لا تجد له دوراً مؤثرا بحكم ما اتخذ من قرار حاسم بتجميد عضوية السودان لإثر وقوع انقلاب عسكري لا يجيز الإعتراف به ميثاق ذلك الإتحـاد. .

(5)
وهكذا وجدتْ دبلوماسية السودان والبلاد في حرب مع نفسها طابعها أفريقي ، تتعامل مع ظرفٍ أفضى بها إلى ما يشـبه العـزلة في إقلـيمها. يستعصِي عليها التعامل لايجــاد حلول لحربها العبثية تحت مظلة المنظمة الأفريقية، بحكم تجميد عضويتها فيه ، فيما ترى تتناسى الجامعة العربية السودان بحكم أزمة طابعها أفريقي لا تعـنـيها كبيـر عناية ، فـيمـا انشغالها بأمر حرب اسرائيل ضدّ فلسطين بات أدعى.
غير أنّ تلك العزلة كما هو واضح ، تسبّب فيها السودانيون أنفسهم، إذ بتساهل تعاملهم مع بعض أطرافٍ خارج حدود بلادهم ، خاصّة بعد إســقاط نظام الطاغـية البشـير، منحتْ تلك الأطراف فرصاً للتأثير في مجريات الحرب لتتسع دوائرها ، فكأنها صارت حـرباً إقليمية بين أطراف أجنبية ذات مصالح، مثلما فيها من أجندات تحـرّك من بعـيد طرفي الحرب في السّودان، بخيوطٍ من تحالفات خفية ، جعلتها تتواصل، يوما بعد يوم وشهراً بعد شهر، ليكون احتمال ترشــيحها للتـدويل، أقرب من إمكان إيقـافـهـا.

(6)
لكن لا بدـَّ من ملاحظةٍ هــامّة ، تتصل بأداء دبلوماسية السّـودان في هذا الصـدد.
لعلّ المتابعين لمسوا كيف نال اتساع دائرة الحرب من انهيار مؤسّسات الدّولة كـافـة ، بما فيها ومنها جهاز الدبلوماسية السّـوداني الذي تمثله وزارة الخارجية. لقد ظلّ أهـمّ دور لتلك الدبلوماسية، يتمثّل في تقديمها النّصح لصاحب القرار السياسي الأوّل في إدارة علاقات السودان الخارجية. غير أنَّ صاحب القرار السياسي هنا، هـو ما يسـمّى المجلس السّـيادي. ذلـك مجلس بات هيكلا يتهاوى تماسكه بسبب تشتت التصريحات وتضارب البيانات تصدرَ على ألسنة أعضـائه، الشيء الذي أربك أداء تلـك الدّبلوماســية لـيـراها المراقـبون، تابعـاً لبعض قـراراتٍ فطـيرة، لا ناصحاً يُعـيـن في ضبط رصانتها صياغة ومحتوى . تنظر في أحوال معظم بعثات السودان الخارجية، لتجد أنّ الصوت الأعلى من بين أغلــب أصوات سفرائها، هو صوت ممثل السودان في الأمم المتحدة ، يصـارع بأسـلوب انفعـالـي يضـرّ بمنطق شكواه أكثر ممّـا ينفعها . ولنا أنْ لا نلومه الـلوم كله على انفعاله، فـهـو دبلوماســيٌّ قد انقطع عن مهنـته لأكثر من عشرين عاما.
وَيبقىَ التساؤل ماثلاً حول أحول السّـودان الذي كان رقـمـاً مؤسّـساً ومؤثراً عـلى المستويين العــربي والأفريقي والدولي، ولعقودٍ طويلة منذ استقلاله عام 1956م ، فإذا هـو الآن ريشة تتخطفـها رياح الطامعيـن قبل الأبعـدين، وشعبها بين نازح ولاجيء ومقتول .

القاهرة – 21 يونيو/حزيران 2024

 

 

jamalim@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: حکومة الأمر الواقع دبلوماسیة السودان الجامعة العربیة الدبلوماسیة الس الأمم المتحدة دبلوماسیة الس فی السودان مجلس الأمن دولة تشاد فی الس

إقرأ أيضاً:

فعالية في حلب إحياءً للذكرى الثانية عشر لمجزرة نهر قويق التي ارتكبها النظام البائد

مجزرة نهر قويق 2025-01-30malekسابق بالعلامة الكاملة… منتخب سوريا للشباب يتوج بطلاً لدورة “ماندري” في إندونيسياآخر الأخبار 2025-01-30صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق، سلطان سلطنة عمان، يبعث برقية تهنئة إلى رئيس الجمهورية العربية السورية السيد أحمد الشرع، بمناسبة توليه رئاسة الجمهورية، ويعرب عن تمنياته الخالصة لفخامة الرئيس الشرع بالتوفيق والسداد في قيادة سوريا الشقيقة في هذه المرحلة المهمة، وتحقيق آمال وتطلعات الشعب السوري 2025-01-30وزير الخارجية أسعد الشيباني خلال مؤتمر صحفي مع نظيره القطري سمو الأمير محمد بن عبد العزيز الخليفي: كانت دولة قطر حليفاً ثابتاً للشعب السوري، وستظل سوريا تتذكر الدعم القطري الثابت للشعب وقضاياه 2025-01-30خادم الحرمين الشريفين وولي العهد السعودي يهنئان الرئيس الشرع بمناسبة توليه رئاسة الجمهورية العربية السورية 2025-01-30قطر تجدد دعمها الكامل لسوريا وترحب بخطوات إعادة هيكلة الدولة  2025-01-30رئيس الوزراء الأردني: ضرورة تهيئة ظروف العودة الطوعيَّة والآمنة للاجئين السوريين 2025-01-30مندوبة قطر لدى الأمم المتحدة تؤكّد دعم خيارات الشعب السوري 2025-01-30الدفاع التركية تؤكد وقوفها مع سوريا ضد التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمنها ووحدتها 2025-01-30الرئيس الشرع يستقبل أمير دولة قطر 2025-01-30مراسل سانا بحمص عن مصدر أمني: بعد عمليات الرصد والتحري إدارة مكافحة المخدرات في إدارة الأمن العام تداهم معملاً لصناعة المواد المخدرة في أطراف حي الزهراء 2025-01-30سيلقي السيد الرئيس أحمد الشرع خطاباً موجهاً للشعب السوري مساء اليوم

صور من سورية منوعات تيك توك تستأنف خدماتها في الولايات المتحدة بفضل ترامب 2025-01-20 الصين تطلق مجموعة جديدة من الأقمار الصناعية إلى الفضاء 2024-12-05فرص عمل جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23 الخارجية تعلن برنامج اختبارات المرحلة الرابعة في مسابقتها لتعيين عاملين ‏دبلوماسيين 2024-12-05حدث في مثل هذا اليوم 2024-12-077 كانون الأول-اليوم العالمي للطيران المدني 2024-12-066 كانون الأول 2004- اقتحام القنصلية الأمريكية في جدة بالمملكة العربية السعودية 2024-12-05 5 كانون الأول – اليوم الوطني في تايلاند 2024-12-033 كانون الأول 1621- عالم الفلك الإيطالي جاليليو جاليلي يخترع التلسكوب الخاص به 2024-12-022 كانون الأول- اليوم الوطني في الإمارات العربية المتحدة 2024-12-011 كانون الأول 1942 – إمبراطور اليابان هيروهيتو يوقع على قرار إعلان الحرب على الولايات المتحدة
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • تجنب الانفعال.. حظك اليوم برج الثور الجمعة 31 يناير
  • شبكة أطباء السودان: نشعر بقلق بالغ إزاء التقارير التي تشير إلى قيام الحكومة التشادية بترحيل لاجئين سودانيين
  • غباشي: مصر تقود جهودًا دبلوماسية مع واشنطن لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط
  • هذه هي الرسائل التي بعثت بها الولايات المتحدة لنتنياهو بشأن مراحل اتفاق غزة
  • فعالية في حلب إحياءً للذكرى الثانية عشر لمجزرة نهر قويق التي ارتكبها النظام البائد
  • ماذا تعرف عن قاعدة غوانتانامو التي ستستضيف المهاجرين؟
  • بعد سجنه في معسكر بوكا.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح رئيس سوريا الانتقالي؟
  • عَملٌ مسرحي على خشبة ثقافي طرطوس يُحاكي اللحظات التي رافقت التحرير
  • رئيس أمريكا الذي تسيره المؤسسات
  • مقتل 18 شخصاً جرَّاء تحطم طائرة في جنوب السودان