الغطرسة الإسرائيلية التي أنتجت 7 أكتوبر
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
من الأهداف الكبرى التي حقّقتها حركة "حماس" في هذه الحرب، إعادة إحياء القضية الفلسطينية، وإظهار أن الردع الذي تفاخرت به إسرائيل كضمان لأمنها ولمواصلة احتلالها وتغوّلها الاستيطاني ولتقويض حُلم الفلسطينيين بالتحرر الوطني، عُرضة للتصدّع ما دام النضال الفلسطيني قائمًا.
وبمعزل عن الأسباب الموضوعية الكثيرة التي أدّت لانفجار حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن جميعها تلتقي على سبب جوهري واحد، هو الغطرسة الإسرائيلية.
لقد تسبّبت هذه الغطرسة بأثمان كبيرة للفلسطينيين، لكنها فشلت في إخضاعهم وإجبارهم على التخلي عن خيار النضال الوطني. في المقابل، كان شعور القوة، الذي منحته لمشروع الاحتلال، مُخادعًا في كثير من الأحيان. فهي من جانب لم تستطع كيّ الوعي الفلسطيني أبدًا. ومن جانب آخر، أوهمت إسرائيل بقدرتها على أن تُصبح دولة طبيعية دون الحاجة إلى الانخراط في سلام مع الفلسطينيين على قاعدة حلّ الدولتين.
وفي نظرة على سياق نزعة الغطرسة الإسرائيلية، فإنها لم تترك خيارًا للفلسطينيين للتعبير عن قضيتهم بشكل قوي سوى اللجوء إلى الوسائل باهظة التكاليف عليهم.
في المنعطفات التاريخية الكبيرة التي مرّت بها القضية الفلسطينية، اعتاد الفلسطينيون دفْع مثل هذه التكاليف. السبب ببساطة أنهم لم يحصدوا سوى الخيبات من الوسائل الأخرى الأقلّ تكلفة عليهم من حيث الدماء والمعاناة مثل خيار السلام.
بينما تبنّت منظمة التحرير خيار السلام أملًا بالوصول إليه، فإن إسرائيل وجدت فيه وسيلة أقل تكلفة لإطالة أمد احتلالها الأراضيَ الفلسطينية، وتوسيع مشروعها الاستيطاني، وتغذية الانقسام الفلسطيني. كل ذلك كان بمثابة وصفة لمواصلة إدارة الصراع بالطريقة التي تُفضلها إسرائيل.
نتائج ثلاثة عقود من الصراع منذ أن أبرمت السلطة الفلسطينية اتفاقية أوسلو مع إسرائيل في عام 1993، تُثبت أن خيار السلام الفلسطيني المبني على التجرد من النضال لم يؤدِ سوى إلى إطالة أمد معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال. كما أنه حوّل منظمة التحرير الوطني من منظمة وظيفتها الوصول إلى التحرير، إلى مُجرد أداة لإدارة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية.
مع ذلك، فإن العُقدة الرئيسية أمام الوصول إلى التحرّر الفلسطيني لم تكن في خيارات منظمة التحرير الوطني أو في انقسام الصف الوطني الفلسطيني، بقدر ما كانت في إسرائيل نفسها.
هذه الحقيقة يتجاهل الغرب على وجه الخصوص الإقرار بها. تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية حرب السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لا يقفز على هذه الحقيقة فحسب، بل يُستخدم كوسيلة للتغطية على دور الغرب في إطالة أمد معاناة الفلسطينيين مع الاحتلال، ومضاعفة جاذبية الغطرسة في السياسة الإسرائيلية.
إن محاولة معاقبة الفلسطينيين على الخيارات التي أُجبروا على تبنّيها من أجل إظهار أن حقوقهم المشروعة بالتحرر لا تسقط بالتقادم، تعمل كوصفة لتعزيز نزعة الغطرسة الإسرائيلية.
ليس المهم اليوم إقناع الفلسطينيين بالتخلي عن نهج المقاومة والكفاح بمُجرد إقامة دولة فلسطينية؛ لأنهم يُقاتلون أصلًا لتحقيق هذا الهدف. كما ليس من المهم إعادة إنتاج منظمة التحرير إذا كانت هذه العملية ستُصمم لخداع الفلسطينيين مرّة أخرى بدولة، لا يُشير واقع الاحتلال اليوم إلى إمكانية تحقيقها في المستقبل المنظور. بل الأمر الأكثر أهمية من كل ذلك هو إجبار إسرائيل على التخلي عن نزعة الغطرسة.
لقد عززت حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول ثلاث حقائق كبيرة في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
الأولى: أن الغطرسة الإسرائيلية لم تؤدِ سوى إلى إطالة أمد هذا الصراع وانسداد أفق السلام. الثانية: تعزيز إيمان شريحة واسعة من الفلسطينيين بأن المقاومة حاجة وليست خيارًا إذا ما أرادوا الحفاظ على قضيتهم حيّة. الثالثة: أن إسرائيل لا يُمكن أن تُصبح يومًا دولة طبيعية تنعم بالأمن ومُندمجة في محيطها إذا لم يحصل الفلسطينيون على دولتهم.إذا لم يتعامل العالم مع هذه الحقائق كما ينبغي بعد حقبة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فإن هذه الحرب لن تكون حتمًا الأخيرة في مسار هذا الصراع.
كما أن الآثار المستقبلية للصراع على الأمن الإقليمي والعالمي ستكون أشدّ خطورة من الآثار الحالية لهذه الحرب. وفكرة أن إسرائيل قادرة بعد هذه الحرب على إعادة إدارة صراعها مع الفلسطينيين بالطريقة التي فعلتها في الماضي، أصبحت منفصلة عن الواقع الجديد الذي أفرزه 7 أكتوبر/ تشرين الأول.
لقد أمضى كثير من الرؤساء الأميركيين والقادة الغربيين والإقليميين عقودًا طويلة في التفكير بالكيفية التي يُمكن أن ينتهي بها هذا الصراع.
لكنّ النقطة الأساسية التي تُشكل أرضية مناسبة وأكثر فاعلية للتفكير البنّاء في مشاريع الحلول للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، تبدأ من التركيز على الكيفية التي تعمل على تقليص نزعة الغطرسة في السياسة الإسرائيلية تُجاه الفلسطينيين؛ لأن ذلك السبيل الوحيد الذي يجعل الإسرائيليين يُدركون أن احتلالهم لا يُمكن أن يستمر إلى الأبد، وأن التكاليف عليهم تتحول مع مرور الوقت إلى تشكيل تهديد وجودي على إسرائيل نفسها.
عندما زار الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل بعد اندلاع الحرب، نصح القادة الإسرائيليين بتجنّب تكرار الخطأ الذي وقعت به الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، عندما اعتقدت أن استخدام القوة وحدها يُمكن أن يقضي على التطرّف.
مع أن لجوء بايدن إلى هذه المقارنة كان مُضللًا؛ لأنه سعى لتجريم النضال الوطني الفلسطيني المشروع ووضعه على مسافة واحدة مع التطرف، فإنه كان واقعيًا لجهة أنه يُعزز حقيقة أن الغطرسة الإسرائيلية حصدت نتائج مشابهة لتلك التي حصدتها الغطرسة الأميركية في أفغانستان، والعراق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الغطرسة الإسرائیلیة منظمة التحریر تشرین الأول هذه الحرب ی مکن أن خیار ا
إقرأ أيضاً:
تهجير الفلسطينيين من غزة جريمة طبقتها إسرائيل قبل أن ينظّر لها ترامب.. كتاب جديد
الكتاب: التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)الكاتبان: إلهام جبر شمالي وإبراهيم أكرم حمد
الناشر: مركز فينيق للأبحاث والدراسات الحقلية فينيق غزة ـ فلسطين 2025
عدد الصفحات: 340 صفحة
ـ 1 ـ
يعدّ الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين من أسوأ أنواع الاستعمار. فليس هو توسعا لدولة على حساب أخرى، تعود إثره وبعد انتزاع الدولة المستعمرة لحق تقرير المصير إلى مساحتها الأصلية. وإنما انتزاع للأرض من أهلها وإحداث لكيان جديد مستمد من الأساطير تحت عنوان إيجاد وطن قومي لليهود الذين يعيشون في الشتات وإحلال لشعب مكان آخر. فيُجلب المهاجرون اليهود من كل أصقاع العالم مقابل طرد السكان الأصليين الفلسطينيين ليعيشوا تغريبتهم في الشتات عبر سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والفرض التهجير القسري. وقبل قيام هذا الكيان الغاصب تولت عصابات يهودية كبالماخ و الهجاناه كإرجون وبيتار وشتيرن وبلماح والمستعربين، بتواطؤ من الاحتلال البريطاني، تفريغ الأراضي الفلسطينية من سكانها الأصليين لصالح إنشاء مستوطنات يهودية، وإحداث تغييرات ديموغرافية وجغرافية تعزز سيطرتها على الأرض.
التهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم.يحلّل الكتاب "التهجير القسري الإسرائيلي للفلسطينيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967 (قطاع غزة دراسة حالة)" للباحثين إلهام جبر شمالي وإبراهيم أكرم حمد السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير القسري للفلسطينيين. فيوضّح الأبعاد التاريخية والقانونية لممارسات التهجير. ويبحث في التداعيات السياسية والقانونية لهذه السياسات على حقوق الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في تقرير المصير. ويتتبع جذور حركة التهجير القسري، عبر المراحل الزمنية المختلفة معولا على منهج وصفيٍ تحليليٍ ، يعرض اللوائح والقوانين الإسرائيلية المتعلقة بالتهجير و آثارها متخذا من التهجير القسري في قطاع غزة أنموذجا ليكشف كيفية تنفيذ إسرائيل لسياساتها بما في ذلك أفعال الإبادة الجماعية التي تصاعدت منذ السابع من أكتوبر 2023.
ـ 2 ـ
يحاول البحثان التبسط في عرض مفهوم التهجير القسري عبر تعامل المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية معه في الأطوار المختلفة. فقد ظهر مفهوم "الجرائم ضد الإنسانية" بنهاية الحرب العالمية الثانية وأشير إلى التهجير باعتباره أحد الأفعال المشكلة له. ثم جرى استعماله بعدئذ من قبل المحكمة الجنائية لنورمبرغ التي نشأتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة كبار مسؤولي ألمانيا النازية. فأشار نظامها إلى مجموعة من الأفعال التي تصنّف ضمن الجرائم ضد الإنسانية. فعدّ النفي والترحيل، عملين غير إنسانيين. وأسس لفكرة تجريم عمليات نقل السكان المدنيين من مناطق سكناهم بصورة غير مشروعة وقسرية وترحيلهم، لكنه لم يقدّم تعريفا للنفي والإبعاد، وإنما اقتصر على ذكره بما هو عمل إجرامي ضد الإنسانية. ثم جاء نظام المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عام 1993 ليبلور قواعد القانون الدولي الجنائي ومنه تجريم التهجير القسري وحظر إبعاد المدنيين، وعدّه أحد أخطر جرائم العصر.
ـ 3 ـ
على مستوى لوائح الأمم المتحدة وضمن ما يُعهد لها من ضبط للقواعد القانونية الدولية تمت المصادقة على اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب/أغسطس 1949 من قبل المؤتمر الدبلوماسي لوضع اتفاقيات دولية لحماية ضحايا الحروب. وتعدّ، بمعية البروتوكولين الإضافيين الملحق بها، النواة الأولى الحقيقية لتجريم التهجير القسري للمدنيين خلال النزاعات المسلحة. فقد جاء في مادتها 49 [يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه] ثم [ لا يجوز لدولة الاحتلال أن تحجز الأشخاص المحميين في منطقة معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب، إلا إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية]. ثمّ [لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها].
وانطلاقا من هذه النصوص المختلفة يحاول الباحثان تجاوز الفراغ المفهومي وصياغة مفهوم دقيق للتهجير القسري للمدنيين. فيعرفانه بكونه ممارسة مرتبطة بالتطهير وبإجراءات تعسفية قهرية تقوم به حكومات أو مجموعات متعصبة تجاه مجموعة عرقية أو دينية معينة، وأحيانًا ضد مجموعات عديدة بهدف إخلاء أراض معينة لنخبة بديلة، أو فئة معينة، وهو ما سارت عليه المادة الثانية من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. ويؤكدان اندراج مثل هذه الأعمال ضمن جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.
ـ 4 ـ
اتخذ التهجير القسري في قطاع غزة ما بعد طوفان الأقصى مظاهر كثيرة. أولها إعادة احتلال القطاع وجعله تحت القصف المكثف الذي كان يتم تحت عنوان ملاحقة المقاومة بينما كان في حقيقة الأمر تدميرا ممنهجا لكل مكونات البنية التحتية ومقومات للحياة المدنية والخدمات الأساسية بما في ذلك الطرقات والمدارس والأسواق والمستشفيات وقوارب الصيد بحيث أضحى ما يزيد عن ثمانين بالمائة من المباني غير صالح للسكن. واستهدف الصحفيين والطواقم الطبية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" بشكل مكثّف لإرهاب موظفيها. وكان الهدف غير المعلن هو إبادة أكبر قدر من الغزاويين وإرغام من يبقى منهم حيا على ترك أرضه. فيكون التغيير الديموغرافي الناجم عن التهجير القسري في قطاع خطوة نحو تهويد الأرض وتصفية القضية الفلسطينية..
والتهجير أسلوب متأصل في السياسة الإسرائيلية لجأت إليه حكوماتها المختلفة بطرق متعدّدة. وهذا بديهي. فبواعثه قائمة في جذور الفكر الصهيوني الذي يبني تصوره للذات اليهودية انطلاقا من النظرة الدونية للآخر التي تتضمنها عقيدة الأغيار أو غير اليهود والتي تبيح أغلب مذاهبها قتلهم واستباحة أعراضهم وممتلكاتهم. ثم جاءت المرحلة الاستعمارية التي تميّزت بروز فكرة الأنا الناشئة عن النزعات القومية التي ظهرت في الدول الأوروبية خلال القرن التاسع عشر. فقد أذكت المنافسة الصناعية بينها استعمار الدول بحثا عن المواد الأولية. ولمنح نهب ثروات الشعوب بعدا إنسانيا نبيلا تم تطويع الدين وتصوير الحركة الاستعمارية باعتبارها حماية للدول وجلبا للحضارة لها.
واستغلت الصهيونية هذا السياق لعقد صفقة مع الأوروبيين مدارها على ترك اليهود لأوروبا المنزعجة باستمرار من وجودهم فيها وسيطرتهم على محركات الاقتصاد هناك مقابل حصولهم على فلسطين باعتبارها "وطنا قوميا" لهم. وشرعت في تزييف الحقائق بالاستناد إلى ذرائع دينية وتاريخية لا صلة لها بالواقع واستدعت مقولات تزعمها المعتقدات اليهودية كالأرض الموعودة، وجبل صهيون، وشعب الله المختار. وأشاعت شعار [أرض بلا شعب لشعب بلا أرض]. وأسست إستراتيجيتها كلّها على فكرة نفي الفلسطيني وإلغاء وجوده من أرضه.
ـ 5 ـ
يسهم استمرار العدوان الإسرائيلي ـ منذ 7 أكتوبر 2023 ـ في تعميق معاناة الشعب الفلسطيني. ولئن مثل عدوانها في الماضي عملا على تفكيك وحدة الفلسطينيين المادية والجغرافية للأراضي فإن عدوان مرحلة ما بعد طوفان الأقصى اتخذ في غزة شكلا جديدا. فبدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار. وهذا من شأنه أن يدفع السكان إلى النزوح القسري ويمثل أخطر تهديد وجودي للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.
ورغم المفارقة بين تجريم التهجير القسري والوقع على الأرض يواجه الفلسطينيون تحديات قانونية وسياسية معقدة تؤثر في تحقيق العدالة الدولية، يردها الباحثان إلى كون الاعتراف الأممي بفلسطين باعتبارها دولة قائمة الذات لا يزال غير كاف لتحقيق السيادة الفعلية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وإلى التفاعلات الإقليمية والدولية التي أصبحت تدفع الحكام إلى أن يتغاضوا عن الانتهاكات الإسرائيلية خدمة لمصالحهم ولبقائهم في الحكم المرتبط إلى حدّ كبير بالولاء إلى اللوبي الصهيوني صاحب النفوذ العالمي.
أضف إلى ذلك تصاعد نفوذ اليمين الإسرائيلي واختفاء الأصوات الداعية للسلام مع الفلسطينيين والانقسام الداخلي الفلسطيني الذي بات يهدد المشروع الوطني الفلسطيني أو انتخاب دونالد ترامب ـ رئيس الولايات المتحدة سابقا ـ لفترة جديدة الذي يمثل تحديا كبيرا للقضية الفلسطينية بسبب سياساته الداعمة لإسرائيل.
بدا جليا أن إسرائيل لا ترمي إلى ملاحقة عناصر حماس أو استرجاع الرهائن بقدر ما تتخذ من حربها تعلة للتسريع من تهجير الفلسطينيين قسريا وتطهير غزة عرقيا، بحيث لا تجعل سلطة حماس عاجزة عن ممارسة السيادة الفعلية على أراضي القطاع وعلى موارده الطبيعية فحسب وإنما تجعل الحياة نفسها غير قابلة للاستمرار.ورغم التحديات الكثيرة شأن بقاء الاحتلال جاثمًا على أرض القطاع وتدميره لمقومات البقاء فيه وقضائه على الأساسيات الحيوية فيه وتوسيعه للمنطقة العازلة باقتطاع شريط أمني من أراضي القطاع لصالح تحقيق أمن مستوطنات الغلاف، يعوّل الباحثان على الموقف المصري الرافض لعملية التهجير ونشره لجيشه على الحدود مع فلسطين، والرفض الأردني الصريح لأي ضغوط خارجية. ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ الكتاب نشر قبل تصريح ترامب بسعيه إلى تهجير الغزاويين خارج القطاع والسيطرة عليه عسكريا و أحدث من تفاعلات.
ـ 6 ـ
ينتهي الباحثان إلى اقتراح جملة من التوصيات لمواجهة خطر التهجير القسري ودعم المبادرات الدولية والإقليمية للحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية الفلسطينية. فعلى المستوى الاجتماعي يؤكدان ضرورة إعادة إحياء المقاومة المجتمعية، وذلك عبر دعم المبادرات التي تسعى إلى الحفاظ على بقاء الفلسطينيين في أراضيهم، وتعزيز الوعي داخل المجتمع الفلسطيني حول أهمية مقاومة التهجير والتمسك بالأرض.
ولا يتسنى ذلك إلاّ بتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع ووضع الخطط لإعادة النازحين إلى أراضيهم الأصلية، واستعادة الكثافة السكانية في المناطق المتضررة. ويدعوان، على المستوى السياسي والدبلوماسي إلى تعزيز العمل لإعادة تفعيل القضية الفلسطينية وجعلها أولوية على أجندة المجتمع الدولي والتركيز على بناء تحالفات إقليمية ودولية لدعم الحقوق الفلسطينية، ومواجهة الرواية الإسرائيلية إعلاميا بإطلاق حملات عالمية تظهر حجم الجرائم المرتكبة في غزة وتسلط الضوء على الاحتلال الإسرائيلي المطول غير الشرعي للأراضي الفلسطينية، وتعزّز الدعم الإنساني والإغاثي لها، من خلال توفير الدعم الدولي لوكالة الأونروا لضمان استمرار خدماتها في القطاع، وإنشاء صندوق دولي لإعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، وضمان استمرارية الحياة المدنية.
أما على المستوى الحقوقي والقانوني فيؤكدان ضرورة مطالبة المؤسسات الدولية بتفعيل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بإنهاء الاحتلال، وبحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم ودعم تطبيق الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول عدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 ومساندة التحركات الفلسطينية أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لفتح تحقيقات في جرائم الإبادة الجماعية والتهجير القسري. ويجدان في الجهود القانونية الدولية المحاسبة إسرائيل، فرصة لدعم الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية وللضغط على المجتمع الدولي لتطبيق قوانين حماية المدنيين في النزاعات المسلحة بما فيهم الصحفيين والعاملين في الطواقم الطبية، والعمل على تطوير آليات الرصد وتوثيق الانتهاكات ضد العاملين في المجال الإعلامي والطبي.