تصحيح المسار في تونس.. بين انتظارات العائلة الديمقراطية ومشروع التأسيس الجديد
تاريخ النشر: 7th, June 2024 GMT
عندما أطلق "الخبير الدستوري" قيس سعيد مشروعه السياسي سنة 2011 وأعاد طرحه سنة 2013 تحت عنوان "من أجل تأسيس جديد"، كان ذلك المشروع يتموضع في دائرة الخطابات السياسية الهامشية وغير الوازنة، أي في دائرة تلك البدائل التي اتخذت موقفا نقديا جذريا من مسار التأسيس وما سُمّي بـ"الانتقال الديمقراطي". ولأسباب تتعلق بمحدودية القاعدة الشعبية لهذا "البديل" الذي يتحرك بمنطق إعادة التأسيس من داخل الديمقراطية المباشرة أو المجالسية، فإنه قد احتاج إلى سنوات كي يكون جزءا من العرض السياسي القادر على منافسة الأجسام الوسيطة المسيطرة على الديمقراطية التمثيلية، ذلك أن فشل الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا كان هو الشرط الضروري للدفع بالرئيس ومشروعه إلى واجهة المشهد السياسي.
رغم تصريح المرشح الرئاسي قيس سعيد خلال "الحملة التفسيرية" بأنه يطرح نفسه بديلا لا شريكا للنخب السياسية، فإن التلقي الجماعي لخطابه تعامل معه باعتباره رمزا للإصلاح من داخل الديمقراطية التمثيلية وحَكما ذا مصداقية بين الفرقاء السياسيين. وإذا كان من اليسير تبرير هذا البون الشاسع بين منطوق الخطاب السياسي وبين تلقيه لدى عموم المواطنين من ذوي الثقافة السياسية المحدودة، فإن المسألة تبقى مشكلةً عندما يتعلق الأمر بالنخب السياسية المؤدلجة وأحزابها. لا يمكن أن نفهم دعم مختلف العائلات الأيديولوجية للسيد قيس سعيد -خاصة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية- إلا باعتباره تجسيدا لمحدوديتها في تقدير الموقف موضوعيا والاستشراف العقلاني للمشهد السياسي بعد دخول هذا الفاعل الجديدفمشروع "الخبير الدستوري" قيس سعيد -كما هو مثبت في حوار له على موقع "الشارع المغاربي" قُبَيل الانتخابات الرئاسية- يقوم على "فكر سياسي جديد يُترجمه نص دستوري جديد بالفعل". ولا شك في أن القراءة الجدية لهذا الخطاب ستصل إلى أن تربع السيد قيس سعيد على كرسي الرئاسة سيؤدي بالضرورة إلى إعادة هندسة جذرية للمشهد السياسي؛ من منظور يؤمن بنهاية الديمقراطية التمثيلية وانتفاء الحاجة إلى أجسامها الوسيطة.
ونحن لا يمكن أن نفهم دعم مختلف العائلات الأيديولوجية للسيد قيس سعيد -خاصة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية- إلا باعتباره تجسيدا لمحدوديتها في تقدير الموقف موضوعيا والاستشراف العقلاني للمشهد السياسي بعد دخول هذا الفاعل الجديد. ولعل ما يُفسر ذلك هو أن أصحاب السرديات الكبرى الذين هيمنوا على الديمقراطية التمثيلية قد استخفوا بالرئيس بحكم افتقاده للحاضنة الحزبية وللتاريخ النضالي، وللدعم الصريح من الدولة العميقة أو ما يُسمّى بـ"منظومة الاستعمار الداخلي". ورغم وعينا بأن القياس لا يجوز إلا مع الفارق، فإن موقف النخب الحداثية من مشروع "التأسيس الجديد" لا يختلف عن موقفها من وجود المرحوم الباجي قائد السبسي على رأس الحكومة في المرحلة التأسيسية.
لقد قبلت كل العائلات السياسية بالمرحوم الباجي -رغم تاريخه المعروف في خدمة النظام السابق ورغم انتفاء أي علاقة له بالثورة واستحقاقاتها- لأنها قدّرت أنه مجرد وجود عابر ومؤقت وغير قادر على منافستها سياسيا. ولكنّ مسار الانتقال الديمقراطي أثبت تهافت هذا المنطق؛ بتحوّل المرحوم الباجي إلى أهم فاعل سياسي عند إنشاء "حركة نداء تونس" وفرض هيمنتها على المشهد السياسي بعد انتخابات 2014 في الرئاسة والبرلمان ورئاسة الحكومة. وقد كانت عودة ورثة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي إلى مركز الحكم مطلوبةً من لدن أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية"، باعتبارها تحجيما لحركة النهضة ومنفذا للمشاركة في صنع القرار بمنطق الشراكة السياسية والاجتماعية.
ولا شك عندنا في أن أغلب "الحداثيين" عندما دعّموا "تصحيح المسار" فإنهم قد أسقطوا على السيد قيس سعيد انتظاراتهم المجهضة في عهد المرحوم الباجي، ورأوا فيه فرصة لتحقيق ما تعذر تحقيقه دستوريا أو بمنطق الانقلاب في "العشرية السوداء".
إذا كان المرحوم الباجي قد حجّم حركة النهضة داخل أجهزة الدولة وواصل ابتزازها بملفّي الإرهاب والاغتيال السياسي، فإن منطق التوافق قد أبقاها فاعلا رئيسا في الحقل السياسي بشروط المنظومة القديمة. وكان يجب على هذه الهندسة السياسية -حسب انتظارات أغلب "الحداثيين"- أن تتغير بعد "تصحيح المسار"، أي بعد إعلان الرئيس عن حالة الاستثناء وتفعيل الفصل 80 من الدستور يوم 25 تموز/ يوليو 2021. سردية مقاومة الفساد -بما يؤسسها من شيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء"- لم تكن موجهة ضد حركة النهضة وحدها، بل ضد كل الأجسام الوسيطة بصرف النظر عن موقعها في الحكم أو في المعارضةفالنخب "الحداثية" بمختلف مواقعها السياسية والنقابية والإعلامية والمدنية كانت تتمثل "تصحيح المسار" باعتباره تلك اللحظة التي يتم فيها إقصاء النهضة وحلفائها؛ دون المساس بالديمقراطية التمثيلية وبمصالح الأجسام الوسيطة "الحداثية" فيها. وهو ما يعني أن "مبدأ الرغبة" قد جعل تلك النخب ترى في الرئيس قيس سعيد شريكا جديدا لا بديلا يؤذن بإنهاء الحاجة إليها جميعا، ولكنّ الواقع أثبت أن هذا الفهم هو من باب أحلام اليقظة التي لا محصول تحتها.
بعد إعلان حالة الاستثناء، لم يستهدف الرئيس حركة النهضة في ذاتها -أي باعتبارها حزبا سياسيا ذا مرجعية إسلامية- بل باعتبارها مركز الديمقراطية التمثيلية والنظام البرلماني المعدّل، وهو أمر لم يفهمه أغلب من ينتسبون إلى "العائلة الديمقراطية". فسردية مقاومة الفساد -بما يؤسسها من شيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء"- لم تكن موجهة ضد حركة النهضة وحدها، بل ضد كل الأجسام الوسيطة بصرف النظر عن موقعها في الحكم أو في المعارضة. ذلك أن الفساد هنا ليس فقط فساد الأجسام السياسية (الارتباط بالمال المشبوه وبالتمويل الأجنبي وتدليس الإرادة الشعبية) وفساد المحصول الاقتصادي (التفقير المُمنهج لأغلب الفئات والجهات وتزايد المديونية الداخلية والخارجية)، بل هو فساد التأسيس ذاته، أي فساد التوافقات التي كانت وراء دستور 2014. وهو فكر سياسي استوجب تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية أو مرحلة تأسيس جديد؛ لا مكان فيها للشراكة مع أنصار تصحيح المسار، بل لا مكان فيها للا مركزية السلطة ولأي دور مستقل للأجسام الوسيطة.
لمواجهة هذا الواقع الجديد، لم يكن أمام الأجسام الوسيطة التي ناصرت "تصحيح المسار" إلا خياران: المعارضة الراديكالية، أو الموالاة بشكليها غير المشروط أو النقدي. ونحن نذهب إلى أن المعارضة الجذرية بعد المساندة تفتقد لأي مصداقية شعبية؛ بحكم غياب أي نقد ذاتي أو مراجعة عميقة لأسس الفكر السياسي الذي أنتج الموقف وضده. أما الموالاة بشكليها فهي -بحكم النظام الانتخابي الجديد- قبول بوضعية التابع المتذيل للسلطة دون أية مكاسب تتجاوز آحاد الأفراد من المنتسبين إلى بعض الأحزاب "الديمقراطية".
أثبتت عشرية الانتقال الديمقراطي وتصحيح المسار على حد سواء أن احتياجات النخبة للحرية وتشبعها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (وما يعنيه ذلك من مشروع للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة والاعتراف بالانقسام الاجتماعي والتعدد الثقافي وشرعية من يمثلهما)؛ هي مجرد شعارات مضلّلة لا محصول تحتها إلا التنافس في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي والتنكر لانتظارات المقهورين والمهمشين منذ بناء ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية"
ونحن هنا أمام مفارقة لا يفهم الموالون أنها مفارقة مؤقتة، فالأحزاب التي تقبل بالترشيحات الفردية لمنتسبيها هي ظاهرة مؤقتة وسينتهي دورها بانتفاء الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، كما هو متوقع في الفلسفة السياسية للتأسيس الجديد.
سواء أكان الرئيس قيس سعيد ومشروعه السياسي مجرد بديل من بدائل المنظومة القديمة لكسب شرعية مستأنفة أم كان مشروعا مستقلا فرض نفسه على المنظومة فإن الواقع قد أثبت أن حسابات "العقل الديمقراطي" وتوقعاته هي مظهر من مظاهر أزمة العقل الحداثي التونسي مثلها في ذلك كمثل العقل السياسي التوافقي لحركة النهضة. فإذا كانت النهضة قد توافقت مع ورثة المنظومة القديمة بشروطهم وضد انتظارات ناخبيها قبل غيرهم من عموم التونسيين حتى فقدت رأسمالها الرمزي المتمثل في "المظلومية"، فإن أغلب من يحتكرون صفة "الحداثة" قد أثبتوا هم أيضا -منذ رحيل المخلوع- أنهم مجرد أدوات في خدمة استراتيجيات الانقلابية على مشروع العيش المشترك والاحتكام للإرادة الشعبية، حتى فقدوا رأسمالهم الرمزي المتمثل في "الديمقراطية".
ختاما، لا شك في أنّ أداء مختلف النخب السياسية يمينا ويسارا يجعل من مراجعة "هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية" فيما يخص احتياجات النخبة؛ أمرا مؤكدا. فقد أثبتت عشرية الانتقال الديمقراطي وتصحيح المسار على حد سواء أن احتياجات النخبة للحرية وتشبعها بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان (وما يعنيه ذلك من مشروع للتحرر الوطني وبناء مقومات السيادة والاعتراف بالانقسام الاجتماعي والتعدد الثقافي وشرعية من يمثلهما)؛ هي مجرد شعارات مضلّلة لا محصول تحتها إلا التنافس في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي والتنكر لانتظارات المقهورين والمهمشين منذ بناء ما يُسمّى بـ"الدولة الوطنية". وهو ما يجعلنا نرجّح -على الأقل في المدى المنظور- أن تبقى الأجسام الوسيطة مفتقدةً لتلك المصداقية الشعبية التي تجعلها قادرة على أن تكون بديلا للتأسيس الجديد، وذلك بصرف النظر عن محدودية إنجازات "تصحيح المسار" وشرعية الكثير من الانتقادات الموجّهة له.
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه قيس سعيد تونس الأحزاب تونس أحزاب قيس سعيد مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد صحافة صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدیمقراطیة التمثیلیة تصحیح المسار حرکة النهضة قیس سعید فی خدمة
إقرأ أيضاً:
كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.
•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.
•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..
•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني