في مقالي «هجمات 11 سبتمبر.. في سياق السياسة الدولية» [جريدة عمان، 13/ 9/ 2021م] كتبت: (النظام العالمي الجديد.. مصطلح كثر تداوله منذ عام 1990م، مع التحولات المفصلية التي جرت حينذاك، منها: انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين، وغزو صدام حسين للكويت، حيث بشّرت أمريكا بنهاية الحروب والصراعات، وإحلال السلام في العالم؛ خاصةً منطقتنا، فدشنت إدارة جورج بوش الأب الحوار حول القضية الفلسطينية بما عرف بـ«اتفاقية أوسلو للسلام».

النظام الجديد.. لم يكن وليد تلك الفترة، وإنما ولد مع «اتفاقية سايكس بيكو» عام 1916م، ليظهر المصطلح مع نشأة «عصبة الأمم» عام 1919م. ثم توارى ليعود مع انهيار الاتحاد السوفييتي). لكنه عاد هذه المرة متدرعًا بالنيوليبرالية، والتي اتخذتها أمريكا «عقيدة رأسمالية» بفرضها على العالم. فما هي النيوليبرالية؟ لمعرفتها علينا أولاً أن نقف على مفهوم الليبرالية ذاته.

تقوم الليبرالية على ثلاثة مبادئ أساسية: الحق في الحياة، والحرية الفردية، والمِلكية الخاصة، وقد عُرِفتْ بالتشدد في ضمان هذه الحقوق حتى اعتبرت حقوقًا طبيعية للإنسان. هذه النظرة الفلسفية المجردة اصطدمت بالواقع، لاسيما مع الفكر الاشتراكي الذي بدأ بالانتشار نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وتتوج بالثورة البلشفية عام 1917م في روسيا ليتمدد منها في العالم، مما أرغم منظري الليبرالية على طرح وجه جديد لها عرف بالليبرالية الاجتماعية أو الجديدة، حيث حاولت أن تتلافى تركّز الثروة بيد قلة من الأثرياء مع ازدياد الفقر بين الناس واستغلال الأغنياء السيء لهم، وهو ما كانت تراهن الاشتراكية بالثورة عليه، فإذا بها هي الأخرى تسقط في اختبار الواقع العملي باتخاذها «العنف الثوري» سبيلًا للتغيير.

بسقوط المنظومة الاشتراكية ممثلة في الاتحاد السوفييتي بداية التسعينات المنصرمة رجعت الليبرالية بوجه أكثر تشددًا عُرِف بالنيوليبرالية، بفرضها «عقيدة» للنظام العالمي الجديد، من خلال التفرد الأمريكي بالهيمنة عالميًّا، عبر الاتفاقيات الاقتصادية الدولية؛ لاسيما مع البنك المركزي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية. والنظام.. لتحقيق ذلك يرتكز على الخصخصة والسوق الحر والديمقراطية، أي أن الليبرالية تحولت من حق فردي وممارسة مجتمعية إلى بُنية الدولة ذاتها، من خلال أنظمتها وقوانينها لصالح الشركات الكبرى والتوجه الأمريكي، دون قدرة للحكومات على التدخل، ومن يرفض النظام الجديد يتعرض للضغط عليه عبر مؤشرات الأداء المؤسسي للدولة كالاقتصاد والحريات، وقد يصل الأمر إلى الامتناع عن الاستثمار، أو الحصار الدولي، أو دعم الانقلابات، وربما تطور الوضع إلى إثارة حرب أهلية وتدخل العسكري، كل ذلك بغية إعادة هيكلة الدولة وفقًا للنيوليبرالية.

أمام هذه التحولات الكبرى، وما يعصف بالمنطقة من أوضاع وصلت إلى الحروب المذهبية والثورات المدمرة؛ كانت سلطنة عمان سبّاقة إلى معالجة الأوضاع، بما كان جلالة السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) -طيّب الله ثراه- يملك من رؤية واضحة للقضايا المستجدة، وبما قامت به الدولة من تفعيل حكيم لتلك الرؤية في التعامل مع الأوضاع ومتغيراتها. كان إدراك الدولة لدخول العالم هذه المرحلة مبكرًا؛ مع فرض النظام الجديد عالميًا بداية التسعينات الماضية، يقول السلطان قابوس -طيب الله ثراه- في خطابه بمناسبة العيد الوطني الحادي والعشرين بتاريخ: 18/ 11/ 1991م: (‏إن العالم يشهد هذه الأيام تحولات جذرية في كل الميادين، كما يؤكد أن عقد التسعينات هو بداية لظهور نظام د‏ولي جديد، نرجو أن لا يكون فيه مكان للصراع أو المواجهة، بل للتعاون والتفاهم والسلام). لقد كان هذا العقد صاخبًا بالأحداث العالمية، ولمواجهة ذلك أكملت سلطنة عُمان بنيتها التشريعية بوضع النظام الأساسي للدولة عام 1996م لتصدر منه القوانين والتشريعات والاستراتيجيات والخطط.

من متطلبات النظام العالمي الجديد لإعادة صياغة العالم تحت القيادة الأمريكية: فرض قيم النيوليبرالية، وتبني الديمقراطية الغربية، وإفساح المجال لمؤسسات المجتمع المدني، والتطبيع مع إسرائيل، و«محاربة الإرهاب»، وتبني الدول منظومة السوق الحر وتطبيق الخصخصة. فكيف تعاملت سلطنة عمان مع هذه الإلزامات؟

لمواجهة الأفكار الدخيلة.. كان الخطاب السامي؛ بدايةً بخطابات السلطان قابوس منذ توليه مقاليد الحكم عام 1970م مليئًا بالقيم الأخلاقية العظيمة، وقد واصلت خطابات مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- الحض على الالتزام الأخلاقي؛ مما جعل خطاب سلطنة عمان بقيمه الإيجابية سدًّا عن اختراق المجتمع العماني بإكراهات النظام العالمي الجديد. وفي المجال الديمقراطي.. عملت الدولة على إشراك المواطنين في تشريع القوانين ومراقبة أعمال الحكومة؛ بإنشاء «مجلس عمان» بغرفتيه: مجلس الدولة ومجلس الشورى.

مع نهاية التسعينات الميلادية اهتمت الدولة بمؤسسات المجتمع المدني والأهلي لتقوم بدورها التكاملي مع المؤسسات الحكومية، تفعيلاً «للمادة:40» من النظام الأساسي للدولة: (حرية تكوين الجمعيات مكفولة، وذلك على أسس وطنية ولأهداف مشروعة وبوسائل سلمية، وبما لا يتعارض مع نصوص وأهداف هذا النظام، ووفقًا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون).

بالنسبة للتطبيع مع إسرائيل؛ فقد حسمت الدولة أمرها بوقوفها مع القضية الفلسطينية، وأي تطور في هذا الملف خاضع للموقف الفلسطيني ذاته، عبر إيجاد حل عادل بإنصاف الشعب الفلسطيني وحفظ كرامته وحقوقه، يقول جلالة السلطان قابوس -طيب الله ثراه- في خطابه بمناسبة العيد الوطني الحادي والعشرين: (لقد دعونا باستمرار إلى تسوية قضية الشرق الأوسط بالشكل الذي يحقق السلام الشامل والعادل لجميع الأطراف، ومن هذا المنطلق فإننا نرحب بمؤتمر السلام الذي افتتح بمدريد لمعالجة هذه القضية ونعدّه خطوة مهمة من شأنها تعزيز الأمن وترسيخ الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة، وتهيئة حياة أفضل لشعوبها وعلى الأخص الشعب الفلسطيني الشقيق الذي عانى من الاحتلال خلال نصف قرن مضى، ونرجو أن يتمكن هذا المؤتمر من تحقيق الأهداف المتوخاة من عقده، ويتوصل إلى إقامة السلام الدائم والعادل لدول المنطقة، ويعيد إلى الشعب الفلسطيني المناضل حقوقه المشروعة، ويضمن له العيش الكريم على أرض وطنه، وتكريس طاقاته لإعادة بنائه وتعميره وتنميته وتطويره).

وفي مجال «محاربة الإرهاب».. شهدت سلطنة عمان خلال التسعينات معالجة قضية الإرهاب على أعلى مستوى، ولم تواجه الإرهاب بالإرهاب، وإنما واجهته بتحصين المجتمع منه، وبالإسهام في نشر السلام في العالم، واتخذت عُمان مقولة السلطان قابوس: (السلام مذهب آمنا به) شعارًا لها، أسهمت بمقتضاه في حل ملفات ملتهبة عالميًا.

وأما الخصخصة.. فإن الحكومة منذ التسعينات تمارسها بحذر، فلم ترفضها تمامًا ولم تتبناها كليةً، فقد خصخصت بعض القطاعات، ولكنها ظلت تمسك بزمام «القطاعات السيادية». وهذه التجربة تحتاج إلى دراسة موضوعية من الاقتصاديين، فهي مرتبطة بأمن المجتمع وأفق تحوله، وبفلسفة السوق الحر وإلزاماته.

وهكذا يتقرر بأن عُمان لم تصمت حيال النظام العالمي الجديد، ولم تنسق إليه، كما أنها كعادتها لم تشغل نفسها بالمعارضة الدولية، بل عالجت الأمر بحكمة؛ من منطلق البُعد الحضاري والأخلاقي المكوِّن للمجتمع العماني.

رغم التحولات التي يشهدها العالم مؤخرًا باتجاه التعددية السياسية، إلا أن النيوليبرالية ازدادت غلوًا، ولم تقف عند الحدِّ الاقتصادي، بل استهدفت عمق النفس الإنسانية وجذور الأسرة بفرضها على العالم تشريعات شاذة كالمثلية الجنسية والإجهاض، ولذلك؛ تواصل سلطنة عُمان سياستها في مواجهة المستجدات العالمية، فقد أكد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- السير على السياسة التي انتهجتها البلاد، ففي خطابه بتاريخ: 3/ 11/ 2020م يقول: (شكّل إرثنا التاريخي العريق، ودورنا الحضاري والإنساني الأساس المتين لإرساء عملية التنمية التي شملتْ كافة ربوع السلطنة على اتساع رقعتها الجغرافية، لتصل منجزاتها لكلّ أسرة ولكل مواطن، حيثما كان على هذه الأرض الطيبة، ورسّختْ قواعد دولة المؤسسات والقانون... وسنواصل استلهام جوهر المبادئ والقيم ذاتها، في إرساء مرحلة جديدة، تسير فيها بلادنا العزيزة -بعون الله- بخطىً واثقة نحو المكانة المرموقة).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: النظام العالمی الجدید السلطان قابوس جلالة السلطان سلطنة عمان سلطنة ع

إقرأ أيضاً:

سفير سلطنة عمان: متفائل بزيادة التعاون الاقتصادي مع مصر الفترة المقبلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال السفير عبد الله الرحبي، سفير سلطنة عمان بالقاهرة، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية، إن ما حدث في الدولة المصرية خلال العشر سنوات الأخيرة يُعد طفرة كبيرة، وهذا من شأنه أن يُساهم في دفع الاقتصاد المصري نحو الأفضل خلال الفترة المقبلة.

وأضاف "الرحبي"، خلال مداخلة هاتفية مع الإعلامي فهمي بهجت، ببرنامج "المحاور"، المذاع على فضائية "الشمس"، أن العلاقات بين مصر وعمان تاريخية، مشيرًا إلى ضرورة أن تنعكس هذه العلاقات على العلاقات الاقتصادية خلال الفترة المقبلة.

ولفت إلى أن الاستثمارات العمانية في مصر أكثر حجمًا من الاستثمارات المصرية في عمان، مشيرًا إلى أنه متفائل لزيادة التعاون الاقتصادي خلال الفترة المقبلة في ظل الزيارات المتبادلة لرجال الأعمال في كلا البلدين.

مقالات مشابهة

  • سفارات سلطنة عمان تواصل الاحتفال بالعيد الوطني
  • ولايات سلطنة عمان تواصل احتفالاتها بالعيد الوطني الـ 54 المجيد
  • «OL-1» عينٌ من الفضاء على سلطنة عمان
  • سفير سلطنة عمان في القاهرة: مصر لم تتأخر يومًا عن دعم القضية الفلسطينية
  • سفير سلطنة عمان يناشد العالم وقف الحرب في غزة
  • سفير سلطنة عمان: مصر لم تتأخر يومًا عن دعم القضية الفلسطينية
  • سفير سلطنة عمان: متفائل بزيادة التعاون الاقتصادي مع مصر الفترة المقبلة
  • سفير سلطنة عمان عن إنجازات الدولة المصرية: مفخرة للمواطن العربي
  • سفير سلطنة عمان: إنجازات الدولة المصرية مفخرة للمواطن العربي
  • نهاية الأمل للسودانيين في سلطنة عمان