رغم أن تركيبة صلصة الكاتشب قد بدأت بالظهور في كتب الطبخ الأمريكيَّة والبريطانيَّة قبل ثلاثة قرون تقريبا، إلا أن استعمالها شاع في الصيدليَّات إبَّان القرن التاسع عشر -مثلها في ذلك مثل الكولا- بوصفها عقَّارا مُضادا للإسهال. وقد بدأت التركيبة المعروفة لكاتشب الطماطم يُروَّج لها -على نطاق واسع- منذ منتصف القرن العشرين؛ لأن كم السكر المضاف إليها مُحبَّب إلى الأطفال، ويُغطي طعم أي شيء ينفرون منه؛ مما يُيسر عليهم ازدراد أي شيء تُضاف إليه هذه الصلصة، مهما كان رديئا.
ورغم ارتباط الكاتشب بنمط الحياة الأمريكي، ومنذ وقت مبكر؛ إلا أنه لم يَصِر مكونا أساسيّا من مكونات "المطبخ الأمريكي" سوى مع تراجُع الطعام الأمريكي التقليدي والبدائي (مثل اللحم المشوي على اللهب)، وغَلَبَة المصنَّعات الرديئة على هذا المطبخ، بظهور الوجبات "المخاطيَّة" المجمَّدة التي تُسخَّن وتؤكل أمام التلفاز، وهيمنة الأطعمة التي تُباع نصف مطهيَّة على النظام الغذائي للأمريكيين (والمصريين!)، حتى آل الأمر إلى صيرورة أكثر من نصف الأطعمة التي تُباع في متاجر السوبرماركت الأمريكية "أطعمة زائفة"؛ مُخلَّقة في المعامل (ولهذا يُمنع أكثرها من التداول في بُلدان أوروبا).
وقد كانت غلَبَة هذا الطعام الرديء ضروريَّة لبلوغ الكاتشب تلك المكانة، إذ أن استعماله مع طعام حقيقي مثل "الستيك المشوي" يُعَدُّ من المحرَّمات الاجتماعيَّة المثيرة للتقزُّز، وذلك كما يُنهى عن تعاطيه مع النقانق الأمريكيَّة (هوت دوغ). لهذا، استفزَّت إعلانات شركة هاينز -التي تروج للعكس في الولايات المتحدة- عدَّة جهات أمريكيَّة من التي تُعنى بحفظ تقاليد الغذاء الوطنيَّة، قد يبدو الأمر تافها عجيبا لبعض السذج قصار النظر، بيد أنها معركة ثقافيَّة حقيقيَّة بين الحفاظ على الذائقة العامَّة والتقاليد الثقافيَّة -من جهة- والتي يُعَدُّ طهو الطعام وتناوله جزءا لا يتجزأ منها، والاستسلام -من جهة أخرى- للكولونياليَّة الغذائيَّة-الثقافيَّة وتخريبها، الذي تُمثله وتضطلع به علامات تجاريَّة مثل هاينز (التي تحوز حصَّة سوق تتجاوز 60 في المئة من سوق الكاتشب العالمي)؛ التي تتلاعب بهذه "الثقافة" وتُحطمها من داخلها في سبيل أرباحها المهولة على حساب كل قيمةعلاوة على استنفارها عددا من الشخصيات العامَّة، والطهاة؛ لإصدار تصريحات مضادة لاستعمال الكاتشب مع الهوت دوغ، بوصفها جريمة بحق الذوق العام. وبلغ الأمر ذروته في تصريحات لباراك أوباما، ثم صدور كتاب ينهى عن وضع الكاتشب على الهوت دوغ لمن تجاوز سن الطفولة!
والسجال في هذا الموضوع عنيف جدّا ومستمر، رغم هيمنة الشركات الكبرى على المجال العام هيمنة تامَّة في الولايات المتحدة، وطول أذرُعها المخيف. قد يبدو الأمر تافها عجيبا لبعض السذج قصار النظر، بيد أنها معركة ثقافيَّة حقيقيَّة بين الحفاظ على الذائقة العامَّة والتقاليد الثقافيَّة -من جهة- والتي يُعَدُّ طهو الطعام وتناوله جزءا لا يتجزأ منها، والاستسلام -من جهة أخرى- للكولونياليَّة الغذائيَّة-الثقافيَّة وتخريبها، الذي تُمثله وتضطلع به علامات تجاريَّة مثل هاينز (التي تحوز حصَّة سوق تتجاوز 60 في المئة من سوق الكاتشب العالمي)؛ التي تتلاعب بهذه "الثقافة" وتُحطمها من داخلها في سبيل أرباحها المهولة على حساب كل قيمة.
لكنَّ كارثة دعاية الكاتشب هذه قد تضاعف أثرها في بلد "مُتخلف" مثل مصر. إذ على عكس الولايات المتحدة؛ فلا وجود لـ"خِصْم طبيعي" أو "حائط صد" اجتماعي-ثقافي في مصر، يذود عن التقاليد ويواجه هذا الغثاء الاستهلاكي مواجهة يوميَّة؛ مهما كان ضعف قدراته أو وهن إمكاناته. بل ما من مؤشرات أصلا على أن ثمة إدراكا -من أي نوع- بوجود إشكاليَّة ثقافيَّة وغذائيَّة واجتماعيَّة ضخمة، وإنما قد يَعُدُّ بعضهم انتشار مثل هذه المنتجات دليلا على "التقدُّم" والرقي! أما الكارثة الأعظم، فهي أن تَصدُر مُصادقة على هذه الدعاية المدمرة من أوساط "اقتصاديَّة" يُفترَض بها الحفاظ على التقاليد الغذائيَّة-الثقافية، مما يسهم إسهاما واضحا في تقويض البقيَّة الباقية من تقاليد الطهي المصرية، ومن داخلها!
وقد سبقت لنا الإشارة -في مقال سابق- إلى إعلان كاتشب هاينز -المذاع قبل عامين- الذي استأجر ثلاثة من أصحاب أكبر المطاعم المصريَّة التقليديَّة -كباب الدهَّان، وكبدة البرنس، وأسماك قدُّورة- ليظهروا في إعلان مُتلفَز؛ يقولون فيه بأن الكاتشب "مناسب" للإضافة على الأطعمة التي تُقدِّمها مطاعمهم؛ بوصفها "ذروة سنام" المطبخ المصري التقليدي!
وناهيك عن افتقاد هؤلاء الطهاة/ رجال المطاعم إلى أدنى بصرٍ بسفاهة هذا الجُرم الذي أقدموا عليه، ومدى خطورته؛ فإنهم لم يُصدروا مصادقة على الدعاية فحسب، بل وظَّفوا لها شخوصهم توظيفا مباشرا؛ فصاروا كمن يُستأجر لتخريب بيته بيديه! ولو أنصفوا لاعتذروا -على الأقل- لأنفسهم ثم للجمهور عمَّا بدر منهم. لكن يبدو أن "فكرة" مسؤوليتهم الاجتماعيَّة عن بعض تقاليد الطبخ المصريَّة، وأمانة تمثيلهم إياها؛ هي مُجرَّد "فكرة" اقتصاديَّة مُجرَّدة، ليس لها أدنى قيمة فيما وراء ذلك. إذ أنها لا تطوي عندهم أيَّة أبعاد اجتماعيَّة أو ثقافيَّة أو أخلاقيَّة من أي نوع، وإنما هي مُجرَّد بقرة تُحلَب حتى يجف ضرعها! وهذا يُسوِّي -في لا وعي الجمهور- بينهم وبين كل أحد غيرهم يُريد الولوج إلى "السوء"، ويقوِّض -على المدى الطويل- أدنى قدر من ولاء العملاء لمطاعمهم، بل ويجعلهم مُجرَّد مُرتزقة؛ يُمكنهم ببساطة الانتقال إلى تصنيع الكاتشب نفسه وبيعه، إذا وجدوا فيه فرصة اقتصاديَّة "أجدى" من تقديم الطعام التقليدي.
* * *
إحدى الثوابت النسويَّة في الطبقات المترفة (نزولا إلى المقلدين من الشرائح العليا من الطبقة الوسطى) هي أن الطهي مَضيَعةٌ للوقت، ومن ثم؛ فنساء هذه الطبقة لا يَلِجْن مطبخا. وقد انتقلت هذه العدوى إلى بعض المنتسبين الجُدد للطبقة نفسها. بل إن الأمر قد اتخذ صيغة أكثر "علمويَّة" في شرائح أدنى، وذلك بفعل شيوع التعليم الذكوري العلماني وثقافة الاستهلاك؛ لتعتبر المرأة أن الطهي تضييع للعمر
وقد سألني صديق يوما عن سبب إقبال بعض نساء شرائح الطبقة الوسطى على المطاعم المصريَّة التي تُقدِّم طعاما بلديّا تقليديّا؛ فبدا لي حينها أنها مُجرَّد طريقة جديدة للتعبير عن الصعود الاجتماعي، لا في أوساط نساء هذه الطبقة فحسب؛ بل في أوساط نساء طبقة "الأغنياء الجُدد" (Nouveau riche)، التي تعود أصولها غالبا إلى الطبقات الاجتماعيَّة الدُنيا؛ التي يُفترَض بها إتقان صُنع كثير من هذه الأطعمة، إن لم يكن كلها. وبعد أن كان التردُّد على المطاعم الإفرنجية هو المؤشر على الصعود الاجتماعي، صار التردُّد على المطاعم التي تُقدِّم الأطعمة البلدية مؤشرا جديدا أعمق دلالة من سابقه، وأكثر تفسيريَّة.
وقد اختبرت هذا المؤشر على بعض من أعرف من طبقات مختلفة، ووجدت تحليلي قريبا للغاية من الصواب. إذ إن إحدى الثوابت النسويَّة في الطبقات المترفة (نزولا إلى المقلدين من الشرائح العليا من الطبقة الوسطى) هي أن الطهي مَضيَعةٌ للوقت، ومن ثم؛ فنساء هذه الطبقة لا يَلِجْن مطبخا. وقد انتقلت هذه العدوى إلى بعض المنتسبين الجُدد للطبقة نفسها. بل إن الأمر قد اتخذ صيغة أكثر "علمويَّة" في شرائح أدنى، وذلك بفعل شيوع التعليم الذكوري العلماني وثقافة الاستهلاك؛ لتعتبر المرأة أن الطهي تضييع للعمر، ومن ثم؛ فمن الأفضل لها تبديد عمرها في "الدراسات العليا"، أو في "مباشرة نشاط اقتصادي"، أو في "التسكُّع في المؤسسات الخيرية"، أو في تبديد الوقت والمال في "ابتياع ما لا تحتاجه" من الرموز الطبقيَّة، أو حتى في "لقاء أقرانها في النوادي"... عن أن ُتعنى بغذاء أسرتها؛ التي اعتادت هي الأخرى على طعام "بلاستيكي" نصف مُعَد لا تستطيع الأم طبخه، أو لنكون أدق؛ لا يحتاج أمّا لتُعِدُّه!
وليت الأمر كان قاصرا على التعبير عن عدم تفرُّغ هاتيك النسوة لطهو هذه الأطعمة (سواء أكانت الأم امرأة عاملة أم ربَّة منزل أم حتى فارغة لا شغل لها)؛ بل هو في أحيان كثيرة تعبيرٌ عن عدم قدرتهن على ذلك أصلا، خصوصا الشرائح العمريّة الأصغر سنّا، والتي نشأت وترعرعت بعد الانعتاق الطبقي للأسرة، ومن ثم؛ لم تتعلَّم شيئا مما تعلمته الأم في حداثتها -من المهارات الضروريَّة- ونبذته عند "نضجها"!
الأمر الأهم أن الجيل الجديد من الذكور، الذي ترعرع -هو اﻵخر- على تلك الأطعمة "البلاستيكية" الجاهزة؛ قد انخفض طلبه المنزلي على مثل هذه الأطعمة "الفولكلوريَّة"، ومن ثم؛ ساهم في وأد أية مواهب محتملة للإناث من الزوجات والأمهات. ويبدو أن تردُّد النساء (وكذلك الرجال) على هذه المطاعم هو أحد مؤشرات تدهور الخصائص الإنسانيَّة للأنثى المصرية؛ خصوصا في مسألة الطهي.
انتشار المطاعم الرديئة ليس مسؤوليَّة الذائقة الجمعيَّة الفاسدة وحدها، وقد أفضنا الحديث عنها في مقالنا السابق؛ وإنما هو كذلك مسؤولية يتحمَّل قسط عظيم من وزرها مطاعم كُبرى وصُغرى، يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون
وإذا كانت "أعرق" المطاعم قد انساقت -بدرجة أو بأخرى- وراء تفكيك الخصوصيَّة الثقافيَّة، وإقحام عناصر ومكونات مُفسدة -لا يُقبَل بها قبولا مُطلقا في بيئتها الخاصَّة- وقد بلغت بهم الجرأة على العبث تقديم تراكيب ومُخترعات تُداعب "ذائقة" الجمهور السائلة الفاسدة، حتى أنهم لم يعودوا يقدمون طعاما تقليديّا ولا بلديّا بالمدلول المفهوم من اللفظة؛ فما بالك بالمطاعم الأحدث نشأة، والأقل اكتراثا بهذه التقاليد الثقافيَّة!
وبعبارة أخرى، فإذا كان رب البيت بالدف ضاربا؛ فماذا تتوقَّع من أهل بيت هذا كبيرهم؟! وهل بعد هذا نعجب من كثرة المطاعم السوريَّة في مصر، التي أسسها مصريون مُفسدون، أرادوا استغلال موجة إقبال المصريين على المطاعم السوريَّة؛ فأفسدوها ودمروا ثوابتها ومعايير جودتها، وباعوا قمامتهم بأسعار زهيدة لجمهور مُغيَّب؟!
إن انتشار المطاعم الرديئة ليس مسؤوليَّة الذائقة الجمعيَّة الفاسدة وحدها، وقد أفضنا الحديث عنها في مقالنا السابق؛ وإنما هو كذلك مسؤولية يتحمَّل قسط عظيم من وزرها مطاعم كُبرى وصُغرى، يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الطعام الثقافة مصر المطاعم مصر مطاعم الطعام الثقافة اذواق مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة على المطاعم ة الثقافی ة التی ت من جهة ومن ثم
إقرأ أيضاً:
ابتكار خارق.. تطوير تقنية جديدة لاكتشاف بقايا المبيدات في الأطعمة
توصلت نتائج دراسة أجراها علماء روس من جامعة تومسك الحكومية في روسيا، لتطوير تقنية جديدة لاكتشاف بقايا المبيدات الحشرية في الأطعمة.
وتتلخص التقنية بتطوير جهاز استشعار كهروكيميائي فائق الحساسية قابل لإعادة الاستخدام لتحديد مبيد الـ"كاربوسلفان" في المنتجات الغذائية.
ووفقا للعلماء، فإن المستشعر أكثر حساسية بعشر مرات من نظائره الموجودة بالنسبة لمادة تشكل خطرا على الحياة والصحة.
الـ"كاربوسلفان" هو مادة كيميائية تستخدم في الزراعة لمكافحة الآفات الحشرية مثل خنفساء كولورادو للبطاطا، وهو ينتمي إلى فئة المبيدات الحشرية وفعال للغاية لكنه سام أيضًا للإنسان.
وقالت إيلينا دوروزكو، المؤلفة المشاركة في البحث، والأستاذة المشاركة في قسم الهندسة الكيميائية في جامعة تومسك الحكومية: "تكمن خصوصية المستشعر في استخدام مواد غير مكلفة وحجم مصغر وسرعة الحصول على النتائج. يكتشف المستشعر وجود مبيد الكاربوسولفان بتركيز أقل 10 مرات مما يمكن أن تفعله الأجهزة المماثلة الموجودة".
ووفقا لدوروزكو، يمكن أن تجد هذه التقنية تطبيقا في العديد من الصناعات الدوائية والغذائية.
وأوضح المؤلف المشارك في البحث، المهندس في قسم الهندسة الكيميائية في جامعة تومسك، شكيب محمد: "يسمح لك المستشعر الكهروكيميائي بالحصول على معلومات حول وجود الكاربوسولفان في المواد الخام وفي المنتج النهائي، الذي ينتهي به الأمر على طاولات المستهلكين، على سبيل المثال، يمكن أن يكون هذا طعامًا للأطفال يعتمد على الخضار والفواكه، بالإضافة إلى ذلك، في هذا الصدد، إذا وصلت تركيزات كبيرة من المبيدات الحشرية إلى التربة أو الماء، سيتمكن المتخصصون من تتبع متى يبدأ التراكم في تلك الثمار التي لم يتم قطفها من الفرع بعد".
المستشعر عبارة عن ركيزة بلاستيكية مرنة تبلغ مساحتها 46 مم مربع، مع نمط موصل كهربائيًا من أكسيد الغرافين المخفض بالليزر مع جزيئات الفضة النانوية. يتم تطبيق عينات الطعام المحضرة على المستشعر ووضعها في خلية كهروكيميائية متصلة بمنظم الجهد. وتحت تأثير جهد معين، يسجل المستشعر تيارًا يتناسب مع تركيز مبيد كاربوسولفان.
وبحسب الدراسة المنشورة في مجلة "ساينس دايريكت"، فإن علما جامعة تومسك يقومون "بتدريب" المستشعر لاكتشاف نوعين أو ثلاثة أنواع من المبيدات الحشرية في وقت واحد.