بول أوستر .. لماذا لا تزال رواياته البوليسية ما بعد الحداثة مهمة ؟
تاريخ النشر: 29th, May 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
لم أرَ بول أوستر شخصيًا إلا مرة واحدة. كان منحنيًا يلتقط قصاصة جريدة من رصيف في برودواي قرب جامعة كولومبيا. اعتدل وتفحص الورقة عن كثب، ودسها في جيبه، ومضى في طريقه. ما زلت لا أعرف هل كانت تلك القصاصة قد وقعت منه أم أنه صادفها في طريقه. فلم أكن منتبها إليه، لأنني لم أتبين أن الشخص الذي كنت أنظر إليه إنما هو بول أوستر، الروائي والشاعر الأمريكي المشهور الذي يحظى باحتفاء كبير لأعماله ذات المزيج الفريد من السريالية الأوروبية وما بعد الحداثة الأمريكية.
يمكن القول إنني مدين له بهذا النوع من التساؤلات، للألغاز الميتافيزيقية والانعطافات المحيرة في روايات له من قبيل «قصر القمر» (1989) التي يكتشف فيها يتيم شبيه بالمصادفة بأوستر والده المفقود، و«اللوياثان» (1992) التي يسرد رجل فيها مصادفات أفضت بصديق له إلى وفاة مروعة. وأدين بهذا بصفة خاصة إلى «ثلاثية نيويورك» وهي المعالجة الأسلوبية الفلسفية الميتافيزيقية للرواية البوليسية. فالجزء الأول منها، وهو «مدينة الزجاج (1985)، يكشف لغزا قد يكون في واقع الأمر من نسج خيال بطل الرواية دانيال كوين، مؤلف الروايات البوليسية الذي تحول إلى محقق خاص يصادف عددًا من الشخصيات تحمل اسم بول أوستر وثنائيًّا مؤلفًا من أب وابنه كلاهما يدعى بيتر ستيلمان. وفي الجزء الثاني من الثلاثية، أي في رواية «أشباح» (1986)، يكلف رجل اسمه وايت [أي أبيض] محققًا خاصًا اسمه بلو [أي أزرق] بمراقبة رجل اسمه بلاك [أي أسود]، ليتبين أن الثلاثة واحد. وفي «الغرفة الموصدة» (1987)، وهي آخر أجزاء الثلاثية، يختفي كاتب اسمه فانشو مطلقا بذلك قصة بوليسية وتأملًا ذاتيًا يداعب مجازات النماذج الأولى من هذا النوع الروائي.
سيطر عليّ التفكير في قيام أوستر بدس تلك القصاصة الصحفية في جيبه، فربما كنت بذلك أحمل الراية بعد كوين الذي لا يتحول في «مدينة الزجاج» إلى محقق خاص إلا بتلقيه اتصالًا هاتفيًا خاطئًا أجراه شخص متصورًا كوين شخصًا آخر. يجد كوين نفسه يجوب شوارع الجانب الغربي الأعلى من منهاتن متعقبًا بيتر ستيلمان الأب الذي بلغ تطرف آرائه في اللغة حد أنه عمد إلى تربية ابنه في معزل عن الكلمات. يبدو ستيلمان في سيره في الشوارع كمن يخط حروفا عملاقة من بنايات المدينة الزجاجية عبر حركته مكوِّنا كلمة شفرية لجمهور مجهول ولا يمكن في الحقيقة تخيله أصلا. أو هذا ما يتصوره كوين، الذي يفكر أنه ربما لم ير تلك الحروف «إلا لأنه أراد أن يراها».
برواياته عالية الأسلوبية شبه الفلسفية، نال أوستر ثناء كبيرا، إذ أشاد به نقاد معتبرين أنه معلم جديد من معلمي الرواية البوليسية الأمريكية ما بعد الحداثية. ولبعض الوقت من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حينما فاز ضمن تكريماته الكثيرة بجائزة Prix Médicis étranger من فرنسا، بات أوستر من أشهر روائيي ما بعد الحداثة في هذا البلد. ولم يكن هذا فقط بسبب أناقة رواياته، ولكن أيضا بسبب ما رآه النقاد من سهولة في غزواته الميتاسردية التي لم يستعص تتبعها قط ـ على العكس من توماس بينشن. وفي القرن الحادي والعشرين، مع ازدياد الألفة بنوع الرواية البوليسية التجريبية، بليت الجدة، وأصبحت سهولة أسلوب أوستر أشبه بعيب قاتل، مصداقا لما رآه منتقدوه لديه من ولع بالكليشيه، ومن الخفة، وافتقار إلى الإبداعية الحقيقية، وشتى الانتقادات التي حفلت بها سنة 2009 مراجعة نقدية لا تنسى كتبها جيمس وود في ذي نيويوركر.
أعترف -شأن جيمس وود- أنني أجد شيئًا من حوار أوستر غير مقبول، وأرى بعض آرائه الفلسفية (في طبيعة اللغة على سبيل المثال) أولية للغاية. ولكن الإسهامات التي قدمها للأدب الأمريكي تبقى برغم ذلك حقيقية، وجوهرية. فقد علمتنا أعمال أوستر أن أفعال كتابة الرواية وأفعال حل الجرائم قد يكونان من دم واحد، وأن الكلمة ومفتاح اللغز قد يكونان رمزين من طبيعة واحدة. لقد أدرك مبكرا أن القصة البوليسية -أكثر من أي نوع أدبي جماهيري آخر- تتيح فرصا فريدة للروائي الرامي إلى استنطاق قالب الرواية نفسه وملاعبته. (ويفسر هذا سبب كون الجوانب الفلسفية لاهتمامه اللغوي أقل أهمية من رؤيته لأن المشكلات المتأصلة في اللغة قد تكون مصدرًا لتوتر سردي).
تمثل الحبكة البوليسية النشاطين الأساسيين في فنون الأدب -أي القراءة والكتابة- وكذلك النشاطين الأساسيين في التحقيق البوليسي نفسه. فالمحقق البوليسي، أي الباحث في الآثار المتبقية من لغز (قد يكون جريمةً، أو رحيلًا مفاجئًا، أو مؤامرة) هو في آن واحد قارئ وكاتب. ومفتاح اللغز علامة، يقرأها المحقق، وقصة الجريمة قصة يكتبها بحلها. ولقد كان ممارسو هذا النوع الأدبي الأوائل ينزعون إلى إبراز المحقق بوصفه قارئًا. وانظروا في قدرة شيرلوك هولمز على «قراءة» القضية من انبعاج في قبعة على سبيل المثال. والمهم في كل قصة هو القراءة الصحيحة لمفاتيح اللغز، أما كتابة الجريمة -عن طريق واطسن- فيسيرة بالمقارنة. وفي النهاية، يصبح كل شيء في مكانه.
أما أوستر فهو مهتم بمشكلة المحقق بوصفه كاتبا. فقد «يقرأ» كوين ويحسن القراءة، وهو ينجح بالفعل في فك شيفرة كتابة ستيلمان العملاقة في شوارع منهاتن، لكنه حينما يبدأ في الكتابة تتهاوى الأشياء. يجري إبراز أفعال استخراج معنى مفتاح اللغز وربطه بشبكة مؤامرة أكبر باعتباره أمرًا اعتباطيًا، فالمفتاح قد يكون ببساطة عديم المعنى، أو إشارة خاوية، والمؤامرة غير موجودة، والأمر كله محض إسقاط. يُعتقد خطأ أن كوين -مؤلف الروايات البوليسية الذي يكتب باسم مستعار هو وليم ويلسن (وهو اسم الراوي في قصة «وليم ويلسن» لإدجار آلن بو)- هو «بول أوستر» الكاتب الذي يُعتقد هو نفسه خطأ أنه محقق. ومغزى هذا الفيض الجارف من الهويات الخاطئة يضاعف من سؤال الدافع في كل أعمال أوستر: كاتب أم محقق، ما الفارق؟ فلا يقتصر الأمر على أن الروائي يرى نفسه في المحقق، ولكن المحقق أيضا يرى نفسه في الروائي. يقول كوين: إن «الكاتب والمحقق عمليًا قد يحل أحدهما محل الآخر».
لم يكن أوستر أول من يعثر على منجم إمكانيات التجريب الأدبي في الرواية البوليسية. فرواية «الكلب الجاري» (1978) لدون ديليلو سبقت الثلاثية بقرابة عقد. كما أن توماس بينشن -ولعله المثال الأشهر في هذا الصدد- قد استكشف الرابط بين ما يعرف بأسلوب البارانويا في السياسة الأمريكية والاتفاقات التآمرية في الأدب البوليسي. غير أن أوستر أصلحُ -جماليًا- للمقارنة مع بطله صمويل بيكيت الذي كانت ثلاثية رواياته بوليسية بقدر ما هي أدبية. رواية «مولوي» (1951) لبيكيت رواية من قسمين (الأول عن مولوي والثاني عن محقق خاص اسمه موران) وربما كانت أول رواية في القرن العشرين تركز على الطبيعة الكتابية والإمكانات الميتاسردية في التحقيق البوليسي. (وجاءت بعد مولوي روايتان لتشكلا معها ثلاثية، شبيهة بثلاثية نيويورك). عندما يتم تكليف موران من قبل رئيسه بـ«تولي أمر مولوي» فإنه يشرع في سعي يتحول من خلاله في ما يبدو إلى مولوي، بل ويزداد ضعفًا مع بحث بيكيت في التناقضات القائمة بين دافع المحقق إلى إضفاء معنى على كل شيء والمخاتلة المتأصلة في عملية صنع المعنى.
وبالمثل يدور اللغز الأساسي في «مدينة الزجاج» حول أزمة المعنى التي تتجسد في بيتر ستيلمان الابن، الذي يتحدث بفهم معيب للغة. ووالده، البروفيسور، هو سبب علته. يعيش بيتر في المعادل الأمريكي لما عاشه مولوي، إذ أغلق عليه والده غرفة معتمة على مدى طفولته فأصبحت اللغة غريبة تمامًا عليه وبدأ أخيرًا يتعلم كيف ينتجها. يقول لكوين: «هذا هو ما يسمى التكلم. أعتقد أن هذا هو المصطلح. عندما تخرج الكلمات، تطير في الهواء، تعيش للحظة، وتموت. غريب، أليس كذلك؟». بيتر هو أول إبداعات أوستر التي تجهر بهمٍّ سوف يحرك الكثير من أعماله التالية، وهو أن الكلمة ومعناها لا يرتبطان إلا بالصدفة.
سعي كوين إلى اكتشاف ما جرى بالضبط لبيتر هو في الوقت نفسه بحث في مأزق اللغة ما بعد الحداثي النمطي. كيف نثق في اللغة وما من علاقة أصيلة للكلمات بالأشياء التي تعنيها؟ لقد كتب أوستر في سن العشرين أن «اللغة ليست خبرة، وإنما هي وسيلة لتنظيم الخبرات». وواصل قائلا: إن «الشعور بالغربة تجاه اللغة هو فقدانك جسمك». وبيتر ضحية لهذه الفجوة بين الخبرة (أو الحياة) واللغة، ضحية أب لم يستطع أن يتسامح مع تعريف ابنه باللغة طالما بقيت هذه الفجوة قائمة. فالأب يسيطر عليه اعتقاد بأن اللغة عالقة في حالة قصوى من اللامعنى: «باتت الأسماء منفكة الصلة بالأشياء، وتدهورت الكلمات إلى مجموعة علامات اعتباطية». يخترع «لغة تقول على الأقل ما يجب أن نقوله. لأن كلماتنا لم تعد متوافقة مع العالم».
بالنسبة لبعض النقاد، كان بحث أوستر في لغز العلامة من خلال رواية بوليسية لا يعدو كثيرا لعبة ضحلة. لكن أوستر بالنسبة لآخرين، وأنا منهم، هو الذي عثر في مشكلة لغز اللغة على وسيلة لدفع حدود الرواية البوليسية، وبالتبعية، الرواية بصفة عامة. ومن خلال الإصرار على أن الكتابة قد تكون شكلا من أشكال التفكير التآمري، طوّر أوستر المنعطف الميتاسردي في الأدب الأمريكي وسمح باتباع نهج أبسط في التعامل مع القالب الذي نادرا ما وجد أنصارا في حقبة نشر سيطرت عليها الواقعية في السنوات الفاصلة. يجب أن نتذكر أوستر بوصفه التجريبي الذي تجاسر على التفكير في أن الرواية لا تزال قادرة على أن تكون جديدة.
بن ليبمان مؤلف كتاب «العزلة الثالثة» الذي يصدر قريبا عن مطبعة داندرم، ويقيم في باريس.
نشر هذا المقال في ذي ييل رفيو إثر وفاة بول أوستر في الثلاثين من ابريل 2024
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بول أوستر ما بعد
إقرأ أيضاً:
اسم (بلة) الشائع في وسط السودان وكيف يكتب؟
سألت الأخ الدكتور علي عبد الله الحسين من جامعة القرآن الكريم عن اسم (بلة) الشائع في وسط السودان وكيف يكتب؟ بالهاء مثل سيبويه وابن سيده أم بالهاء المؤنثة، فأجاب مشكورا بهذا الرد الضافي:
رحلة مع بلة السودانية
سألني بعض الأساتذة الأفاضل سؤالا علميا عن رسم آخر حرف في كلمة (بلة)، هل ترسم بالهاء أم بالتاء؟ ومن هنا بدأت الرحلة فاستعنت بسؤال بعض الزملاء عن أصل الكلمة واشتقاقها، فجاءتني إجابات متعددة منها: أنها قد تكون وفدت إلينا في السودان من كلمة (بلو) وهي من لهجة الهوسا أو الفولان في نيجريا، وأفادني البعض بأنها تعني عندهم (المعين)، وإن ( بلو) هو اسم الابن الأكبر لعثمان بن محمد فُودي الملقب بالفقيه أمير المؤمنين، شيخ الإسلام، المجاهد الذي تصدى لمشكلات بلاد الهوسا نصرة للإسلام.
المهم شعرت بالحاجة إلى معرفة أصل الكلمة، وهل لها صلة بنيجريا حقيقة، أم أنها من تراثنا السوداني ذي الجذور العربية والإسلامية. وبدات أتصفح بعض المواقع من خلال شبكة الانترنت، فوجدت أن لها ذكرا في التراث السوداني، وأن لها أصلا في اللغة العربية كما أن لها امتدادا في التاريخ الإسلامي.
بعض الاستعمالات السائدة في اللسان السوداني يستشهدون فيها بموقف لـ (بلة) صارت مضرب مثل، فيقولون: (يحلك الحلا بلة)، أو (يحلك الحلا بلة من القيد والمذلة).
وتنتشر تأويلات السودانيين وتفسيراتهم لـ(بلة) هذا، ويحكون عنه حكاوي لطيفة عن حله من القيد والمذلة. والكثيرون يتساءلون: من بلة هذا؟ ومن هو الذي حل بلة؟ وما هي المذلة التي ذل فيها بلة ثم انحل؟
وواحدة من حكاوي السودانيين نذكرها لطرافتها دون أن نقلل من قيمة غيرها من الحكاوي المنسوجة حول بلة، يقال إن بلة هذا عاش في عهد الخليفه عبدالله التعايشي، وكان رجلا معلوم السيرة معروفا بمقدرته على الكلام الجميل، ومعروفا لدى الخليفة، ولمكانته هذه طلب منه بعضهم أن يكلم الخليفة ليطلق سراح أحد المسجونين الكرام والمقربين من المهدي، فذهب بلة للخليفة في بيته فألفاه مستلقيا على (عنقريب) يلتف حوله حُماتُه وبعض المقربين، وكلهم جلوس على الأرض. يبدأ المشهد بدخول بلة على الخليفة، وهو يلقي عليه التحية ثم مباشرة يفاتحه في الموضوع.
وفجأة تغير وجه الخليفة وانتفض من رقدته وظهر الغضب على وجهه وخاطب من حوله في استنكار ورفض لما قاله بلة: “بلة قال شنو؟” وهي إشارة إلى أن بلة أدخل نفسه فيما لا تحمد عقباه، ولم يستطع أي من الحاضرين أن ينطق بكلمة لمهابة الخليفة وحساسية الموقف، ومرت لحظات والجميع واجم صامت إلا من نظرات حذرة وعيون شاخصة، وما قطع الوجوم والصمت إلا سؤال آخر من الخليفة توجه به إلى بلة ذاته: “قلت شنو يا بله؟” وأظهر بلة ثباتا وثقة تخفي ما بداخله من خوف العاقبة، ثم أجاب الخليفة قائلا: يا سيدي الخليفة، جيت أقول ليك أُمي بتسلم عليك. فانفجر الخليفة ضاحكا، وانحل بلة من موقف كاد يودي بحياته وأصبح موقفه هذا مثلا يقال لكل من قابلته مصيبة عويصة لا يعرف كيف يخرج منها.
والتراث السوداني مكتنز بأخوات بلة، وأخواتها أسماء لها اصولها في اللغة، فهم يسمون (البلولة)، وهي في اللغة من الثياب المبتلة، ويسمون: (بليل)، وهي في اللغة من البَلِيل مِنَ الرِّيَاحِ، وهي الرياح البَارِدَةُ مَعَ نَدىً، ويسمون الرجل (بَلَّال)، بفتح الباء وتشديد اللام، وإذا أنثت (بَلَّال) سميت به الأنثى فيقولون (بَلَّالة)، وأصولها من البَلَّة، ومن معانيها الغنى بعد الفقر، أو الرياح المبتلة، وكذلك من معانيها الخير، والعافية.
وبعض السودانيين يؤكد على أن اسمه (بَلَّال) بالتشديد.
وإن كانت للأسماء خصوصية فيمكن أن يقال إن التسمية بـ (بلة) من مفردات السودانيين، وكثير من الأسماء السودانية ينفردون بها فلا تراها إلا عندهم، وتقل عند غيرهم إن لم نقل تنعدم.
في عهد الرسالة روي إن العباس رضي الله عنه وهو صاحب السقاية في الحرم المكي الشريف كان يقول عن ماء زمزم: “لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حلّ وبل” أي: لا أحل ماء زمزم لمغتسل أن يغتسل به، فهو لمن يريد أن يشربه (حل وبِل)، ومعنى: (حل)، أي حلال، وأما (بل) التي هي محل الشاهد فهي تروى بكسر الباء كما تروى بفتحها، ومعناها أنها بللٌ لحرارة القلب أو حرارة الجسد من العطش، وقيل إن معناها في لغة حمير: مباح، وقيل: معناها شفاء من المرض.
وما رويته عن العباس رضي الله عنه روي كذلك عن ابنه عبدالله وروي عن عبد المطلب بن هاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسمى بشيبة الحمد.
وتستبحر المصادر اللغوية في كلمة (بلة) فهي في اللغة من البل، يقال: بِلَّةُ و بَلَلُ وبِلالُ وبُلالَةُ: النُّدْوَةُ. ومنها يظهر معنى التسمية ببلال، فبِلال: الماء، وكلُّ ما يُبَلُّ به الحَلْقُ. ومن معاني بِلَّةُ: الخَيْرُ والرِزْقُ. والبلل: العافية.
وعلى هذا فالاستعمال السوداني له أصل وجذر في اللغة العربية مثله ومثل كثير من ألفاظ السودانيين التي أُخذت من العربية الفصيحة ثم سُودنت لتصبح صناعة سودانية مائة المائة لونا وطعما ورائحة.
ورد في منشور صفحة جمعية التراث والثقافة السودانية محاولة لتأصيل (البلال)، حيث جاء في الصفحة أن البلال اسم من أسماء (الخيش)، والخيش كما هو معروف في الزمان السابق أنه مصنوع من نبات القِنَّب، ومع تطور الحياة صار يصنع من المواد البلاستيكية، لعمل الأكياس والجوالات الكبيرة، وما جاء في الصفحة بنصه: “أصل التعبير مستوحي من الخيش المبلول والمستخدم لتليين السعف ليسهل ضفره، وهو الـمَعِين المعيشي الأول في الزمن البعيد القريب لسيدةٍ ترملت أو فقدت عائل أسرتها لأي سبب فكانت تقوم بضفر السَعَف، علي مختلف منتجاته وتسويقه, ومن هنا أتي اسم البلال: أي الخيش الذي يساعد في بل السعف ويوازيه (المترار) وهو آلة غزل القطن يدويا. وكثيرا ما ترد إحدي النساء علي أخرى أرادت ألاّ تخضع لإرادة أحد وشقت طريقها بنفسها، وهي خالية اليدين. فتردعها قائلة: مقوية راسك في شنو ..بلالك ولا مترارك ..أي إنك معتمدة علي الآخرين أو الهبات في إعاشتك.
والتغني للبلال أي الولد الذي كبر وشد أزره، وقام مقام بلال والدته في إعالة أسرته، وبدأت بعده الإحساس بالراحة وإناخة ناقة الهم في إعاشة الأسرة، فهو هنا عمادها وسندها، أو تغنيه الحبيبة بذات المعنى، إذ أنه سيوفر لها مملكتها الخاصة وكينونة تزيدها عزة علي جمالها:
بلال انا وين انا يا بلالة
وهو البفك شبكي وحلالا
بلالي اسمعني ان صحت وندهت
وهو البشيلني كان في الهم حتلت
الليلة وين مقنع كاشفتي
امانة في وانا ما هملت”.
انتهى من صفحة الجمعية.
وتتناثر كلمة (بَلَّال) في العديد من ألحان الطرب التراثية السودانية سواء كانت باللغة العربية الفصحى أو العامية السودانية، واستعمالها في الطرب السوداني له عدة دلالات، فيستعمل خطابا للمحبوبة، ويستعمل للدلالة على الكرم والشجاعة، ويستعمل لغير ذلك من المعاني الكثيرة.
ومن ذلك مثلا ما في أغنية عائشة الفلاتية:(يا بلال تزورنى مرة يا حنان تزورني مرة) وهو خطاب للمحبوب.
ومما ورد في المدح ما يتغنى به العديد من المطربين:
البلال بلال يا بلالي انا
دخري الحوبه سار يا بلالي انا
يا تمساح راس بروس يا بلالي انا
ما بيمرق يكوس يا بلالي انا
ما قايم بروس يا بلالي انا
ما بياكل المكوس…
عثمان أبوزيد
إنضم لقناة النيلين على واتساب