ظاهرة بيع شقق سكنية بلا قروض: احذروا خداعكم
تاريخ النشر: 28th, May 2024 GMT
على رغم غياب القروض السكنيّة للسنة الخامسة على التوالي، تتجه أنظار اللبنانيين إلى القطاع العقاري، فتراهم يسألون دومًا عن العقارات وأسعارها، خصوصًا أنّ الحاجة إلى تملّك شقق، تزداد لدى الفئات الشابة، كما أنّ حملة "الفريش دولار" يتحيّنون فرصًا قد لا تتكرر في أسعار محروقة. لوحظ، في الآونة الأخيرة، كثرة الإعلانات التسويقيّة المروّجة لبيع شقق ومنازل، عبر منصّات التواصل الاجتماعي، بعضها اشترط الدفع نقدًا، واللافت أنّ البعض الآخر عرض بيع شقق بالتقسيط مع دفعة أولى، ليتجاوز هؤلاء المطوّرون العقاريون مسألة عدم إعطاء قروض مصرفيّة سكنيّة، فيقبلون بالبيع لقاء دفعة أولى وأقساط شهرية.
البيع رائج على الخريطة
رئيس نقابة الوسطاء والاستشاريين العقاريين في لبنان وليد موسى، لفت في حديث لـ "لبنان 24" إلى لجوء المطوّر العقاري والشركات العقارية إلى إيجاد حلول آنيّة تمكّنهم من البيع، بظل الجمود الحاصل، كعرض بيع العقارات بالتقسيط، ما يجذب الشاري. ولكن تبقى مسألة مدّة التقسيط، وما إذا كانت تناسب القدرة الشرائيّة للشاري، لاسيّما وأنّ تقصير المّدة يرفع من حجم المبالغ الشهريّة. "العملية الأكثر رواجًا هي في الشقق قيد الإنشاء، إي بيع الشقق على الخريطة، بحيث يعرض المطوّر تقسيطها على مدى خمس سنوات، فتبدأ عملية التقسيط الشهري بالتوازي مع عملية البناء، وبعد انقضاء ثلاث سنوات يسلّم المطوّر الشقة إلى الشاري من دون تسجيلها، فيكون قد تقاضى ما يوازي كلفة البناء تقريبًا، وفي السنتين المتبقّيتين يتقاضى أرباحه. هذه المشاريع تحصل فعلًا، وتجذب فقط المقتدرين أصحاب الفريش دولار، الراغبين في الشراء، ولكنّها لا تناسب الغالبية العظمى من اللبنانيين المقيمين، لأنّ الأقساط الشهريّة تبقى مرتفعة جدًا، مقارنة مع الرواتب والقدرة الشرائيّة. من هنا لا يمكن لهذه المشاريع أن تحرّك السوق العقاري".
موسى: لضمانات تحمي الشاري
الشراء عبر هذه المشاريع ليس آمنًا، يوضح موسى، والشاري الذي يتجرّأ على الإقبال للتملك وفق هذه العملية، يكون على معرفة شخصيّة بالمطوّر ولديه ثقة به، ولديه قبول بالمخاطرة "خصوصًا أنّ هناك العديد من الحالات المشابهة، حيث اشترى لبنانيون عقارات على الخريطة قبل الأزمة، ثم توقّفت ورش البناء خلال الأزمة، ولا زالت إلى يومنا هذا، وضاعت أموال الناس واستثماراتهم وحقوقهم، ولم يتمّ إيجاد حلّ لهذه المعضلة. من هنا نشدّد على أهمية تنظيم قانون تطوير العقار بفرض ضمانات، عبر إلزام المطوّر بتأمين يحمي الشاري في حال التعثّر، أو عبر حسابات escrow account يدفع من خلالها الشاري إلى المصرف، ولا يتمّ تحويل المبلغ إلى المطوّر قبل التسليم، وهذه الضمانات بحاجة إلى قطاع مصرفي سليم".
الأمين العام لجمعية منشئي تجار الأبنية في لبنان المهندس أحمد ممتاز نبّه في اتصال مع "لبنان 24" الراغبين بالشراء عبر هذه المشاريع، إلى آلية التنفيذ، ونصحهم بربط الدفعات بإنجاز مراحل البناء.
ممتاز: السوق العقاري يتحرّك والاستثمار ينتظر التسوية
يتعذّر معرفة حجم البيوعات العقارية، بفعل إقفال الدوائر العقارية، وقد أظهرت دراسة للدولية للمعلومات ارتفاعًا في تملّك غير اللبنانيين بمساحة 39 مليون متر مربع، حيث ارتفعت النسبة في نهاية العام 2023 إلى 39,358,879 مترًا مربعًا أي بمقدار 681,023 مترًا مربعًا ونسبة 1.76.
السوق العقاري شهد حركة في الآونة الأخيرة، مقارنةً مع السنوات الأولى للأزمة، بظل الحاجة إلى السكن، ولكن ليس بالأسعار التي كانت عليه قبل الأزمة يلفت ممتاز "وهنا لا نتحدث عن الطبقة الوسطى وما دون، التي تنتظر معاودة القروض السكنيّة والمصرفيّة. أمّا القروض الممنوحة من مصرف الإسكان فلن تشكّل حلًّا لهم، بظل تراجع القدرة الشرائيّة للمواطنين". مشيرًا في الوقت نفسه إلى أنّ نسبة مشاريع البناء في سنوات الأزمة لم تتجاوز الـ 10%. أمّا مرحلة الاستثمار في القطاع العقاري فلا زالت بحاجة إلى وقت.
يعوّل ممتاز على انعكاس أيّ انفراج على السوق العقاري "الذي أثبت أنّه قاعدة استثمارية مهمة" متحدّثًا عن مرحلة انتظار ما ستؤول إليه الأوضع في المنطقة خلال الشهرين المقبلين، وما إذا كانت ستتبلور التسوية الموعودة، إن لجهة نهاية الحرب أو انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة، وصولًا إلى حلول للأزمة المصرفيّة وإعادة ترميم الثقة مع المودعين.
الأسعار بحسب المناطق
تتفاوت الأسعار وفق توصيف المناطق وقاطنيها بين مقتدرين وذوي الدخل المحدود، يلفت موسى، وقد ارتفعت الأسعار بنسبة 25% في مناطق معينة،وبقيت على انخفاضها بنسبة 50% في مناطق أخرى.
من جهته يوصّف ممتاز السوق العقاري بغير التناسق في جغرافية لبنان، بحيث تختلف الأسعار بين المناطق وفق عوامل عدّة، أمنيّة وغيرها، كما وتختلف في المنطقة نفسها من بناية إلى أخرى. وقع عاودت الأسعار ارتفاعها عما كانت عليه، ووصلت في بعض المناطق إلى 25% لاسيّما في مشاريع في الواجهة البحرية لبيروت ومدن أخرى.
الإيجارات ترتفع 50%
الجمود في القطاع العقاري، وتراجع عمليات البناء والبيع، انعكس ارتفاعًا في بدلات الإيجار، يلفت ممتاز، حيث ارتفعت بنسة 50%، لاسيّما في بيروت ومدن وبلدات شمالية، كجبيل وجونيه وغيرهما، وساهم الضغط السكاني، نتيجة نزوح الأهالي من الجنوب، فضلًا عن مشابه من قبل نازحين سوريين، في زيادة الإقبال على استئجار الشقق.
المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: القطاع العقاری السوق العقاری هذه المشاریع المطو ر
إقرأ أيضاً:
التَّصحيح البُولاقي ظاهرةٌ تراثيةٌ في خدمة المخطُوط الإِسلامي
عَرَفَ القارئ العربي بواكير الطِّباعة والكتاب المصفُوف على الآلاتِ، وذلك من خلال المدِّ الحضاريِّ والذي ابتدأ في عددٍ من الأقطار العربيَّة، وتُسجل القاهرةُ في ذلك نشوءًا مبكرًا خَدَمَ صناعة ونَشْر الكتاب الإسلامي التُّراثي بمختلف تخصُّصاته؛ فبعد أن اندحرَ الفرنسيُّون، وقد جلبوا معهم عددًا من الآلاتِ، والتي أسَّسوا بها المطبعة الأهلية سنة 1798م، ولم يكن من شأنِ هذه المطبعةِ إلا نشر الأوامر والمراسيم ونزرًا قليلا من الكتب العربيَّة.
فبعد هذا الاندحار الفرنسيِّ؛ مرَّت فترةٌ من الزمن، زهاء عشرين سنة، وليس في مصر طباعة ولا مطبعة، حتى أُنشأت المطبعة الأهليَّة؛ وذلك في سنة ١٨١٩م، ثم نُقلت هذه المطبعةُ إلى بُولاق، على ضِفاف النِّيل؛ فعُرفت بمطبعة بولاق، أو المطبعة الأميريَّة؛ ومن هنا بدأت حكايةُ الطِّباعة العربية والتَّصحيح والتَّحقيق التُّراثي.
لقد أسهمت المطبعة البولاقيَّة، وقد تصدَّرت مشهد الطباعة والنَّشر حينَها: فعكفت على إخراج أُمهات الكتب، وإبرازِ جليل المصادر؛ حتى بثَّت من ذلك، خلال الفترة من ۱۲۸۹هـ إلى آخر ربيع الأول ١٢٩٥هـ: من النُّسخ ما بلغَ (٣٦١٨١٥)، وكان قبلَ ذلك مطبوعا لغاية سنة ١٢٨٤ه (٢٤٢،٧٥)؛ فبلغَ إجمالُ ما صدر من النُّسخ (المجلَّدات) لغاية سنة ١٢٩٥ه (٦٠٣٨٩٠)؛ وهو رقمٌ مهابٌ؛ خاصةً إذا ما عُطِفَ على ضعف الوسائل الطباعيَّة في تلك الأيَّام، والاعتماد على الجَمْع اليدوي، وهو يمثل عائقًا كبيرا في سرعة الإنجاز.
وقد فسَّر هذا الشَّغف الإصداري، والسعيَ الدَّؤوب من مطبعة بُولاق وما آخاها؛ الشيخُ عبد السلام هارون رحمه الله، عندما قال: “ولقد كانت فكرة إحياء التراث والنَّشاط فيه فكرة قومية، قبل أن تكون فكرة علمية؛ فإنَّ طغيان الثقافة الأوربية والنُّفوذ التركي وضغطه، كان يأخذ بِمَخْنِقِ العرب في بلادهم؛ فأرادوا أن يخرجوا إلى متنفَّس يحسون فيه بكيانهم المستمد من كيان أسلافهم، في الوقت الذي ألفُوا فيه الغُرَبَاء من الأوربيين يتسابقون وينبشون كنوز الثقافة العربيَّة؛ فانطلقوا في هذه السَّبيل، ينشرون ويُحيون؛ إذ كانوا يرون أنهم أحق بهذا العمل النَّبيل وأجدر”.
ومن نفائس التُّراث الذي بعثته هذه المطبعة البُولاقية، وسابقت به الوقتَ حتى يكون بين يدي القارئِ العربي: لسان العرب، وتفسير الطبري، وفتح الباري، والأغاني، والكتاب لسيبويه، والأم للإمام الشَّافعي، ومنهاج السنة النبوية الشيخ الإسلام ابن تيميَّة، والصحاح للجوهري، وشرح الحماسة للتبريزي، وشرح مقامات الحريري لأبي العباس الشُّريشي، وصبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي، ووفيات الأعيان لابن خلِّكان، وقلائد العقيان للفتح ابن خاقان، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقَّري؛ رحمهم الله.
وقد أسَّست المطبعةُ البولاقيةُ لعُرفٍ طباعيٍّ، وتقليدٍ مأمومٍ في المنشورِ العربي وقتَها، بل هو أبعدُ وأعمقُ من ذلك؛ فهو عبارةٌ عن ظاهرةٍ تراثيةٍ، تُسجل الأحرف الأولى لعملية التحقيق المعاصر في المهادِ العربي؛ إن هذه الظاهرة المحدَثة على صفحاتِ ومصفوفاتِ المنشُور العربي، وعلى يد العلماء والمراجعين في مطبعة بولاق: هي ما يُسمَّى، وتُصدَّر به تلك المطبوعات: بالتَّصحيح؛ والذي تولَّد وتخلَّق من خلاله الكتابُ الإسلامي من رحم مخطوطته التراثيَّة، وعلى يد أَبناء وعُلماء الجامع الأزهر.
إنَّ هذا التقليدَ العلميَّ في صيانة ورعاية التراث العربي والإسلامي، مَهَرَت فيه مطبعةُ بُولاق، وقدَّمت من خلاله ضمانةً للقارئ والباحث والمستفيد، يستطيع من خلالها أن يأمنَ ويركنَ إلى هذه المطبوعات، وأن يهُون عليه ذلك الخطبُ التَّاريخي؛ والذي ودَّع فيه أنقَ وعبقَ المخطوط التُّراثي، واستقبل فجرًا جديدًا من منشوراتٍ، تُخبر عن هذه المخطُوطات، وتحكي مودعَها؛ ولولا أن أُسلمت هذه المسؤوليةُ إلى هذه اليدِ الخبيرةِ والبصيرةِ: لكانت تلك النقلةُ عسرةً أشرةً على عُلماء ومُتعلمي تلك الحقبة.
لقد بلغ أمرُ المهارة بهذه الصنعة، والتي اختطَّتها مطبعةُ بُولاق: أن ضمَّت إلى جَنَبَاتها كبارَ المصحِّحين، وأعلام المدقِّقين والمراجعين؛ ومن أولئك الرُّواد، والذين تهادت أسماؤُهم على الأغلفةِ والصَّفحات الأولى من منشورات تلك الفترة:
أولًا: الشَّيخ محمد بن عبد الرحمن؛ المعروف بقطة العدوي، المتوفَّى سنة ۱۲۸۱هـ، كانت له عناية بالنَّحو، ومن مؤلفاته المطبوعة: فتح الجليل بشرح شواهد ابن عقيل، ونسخَ بعض الكتب بخطِّه، وبعضُها محفوظٌ بدار الكتب المصريَّة.
ثانيًا: الشيخ نصر الهوريني؛ من علماء الأدب واللغة بالأزهر، صحَّح كثيرًا من كتب العلم والأدب والتاريخ واللغة، وصنَّف كتبا كثيرة؛ منها: المطالع النَّصرية للمطابع المصرية، في أصول الكتابة والإملاء، وشرح ديباجة القاموس المحيط، تُوفي -رحمه الله- سنة ١٢٩١هـ.
ثمَّ توالى العطاءُ الطباعي بعد ذلك، والذي لا تزال روحُ مطبعة بُولاق تسري فيه؛ ومن أبرز هذه المطابع الأهليَّة، والتي راج فيها هذا المصطلح التُّراثي، (عُنِيَ بتصحيحه): جمعية المعارف، واسمها: المطبعة الوهبيَّة؛ ومن أنذر ما طبعته: كتاب الفتح الوهبي على تاريخ أبي نصر العتبي، وهو كما يقول الشَّيخ عبد السلام هارون رحمه الله: “من أعجب كتب التَّاريخ”، والمطبعة الأزهريَّة المصريَّة؛ ومما أخرجته: كتاب الكامل في التاريخ لعزِّ الدِّين ابن الأثير، سنة ۱۳۰۱هـ، وبهامشه: كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، والمطبعة العثمانيَّة؛ والتي طُبع بها:
كتاب النِّهاية في غريب الحديث لابن الأثير، سنة ١٣١١هـ، طبعةً متقنةً مضبوطةً بالشكل الكامل، ومطبعة الجماليَّة، الكائنة بحي الغوريَّة؛ ومن مطبوعاتها: كتاب الروض الأنف للسُّهيلي، سنة 1332هـ، والمطبعة الميمنيَّة، وصاحبها أحمد الحلبى، وقد نشرت هذه المطبعة كثيرًا من عيون التراث؛ منها: مسند الإمام أحمد بن حنبل ، سنة ١٣١٣هـ، وبهامشه: کتاب منتخب کنز العمَّال لعلاء الدِّين التَّقي الهندي.
وقد كان أولئك الذين أشرفُوا على طَبع هذه الموسُوعات، وتأسيس مصطلح (التَّصحيح) فيها عملًا ونهجًا وظيفيًّا، كانت هذه الطبقةُ من مشايخ وعلماء الأزهر؛ فتجلَّى في مُخرجهم مشهدٌ محمودٌ، من الأمانةِ والحصافةِ والغيرةِ على تراث الأمةِ؛ ومِن هذه الأسماء التي مَهَرَت بهذه الصنعةِ، وسُوِّد بها غلافُ الكتاب العربي والإسلامي: محمد الحسيني، وطه محمود، ومحمد عبد رب الرسول، ومحمد قاسم، ومحمد الزهري الغمراوي، وعبد الغنى محمود؛ وقد صدر قبل أيامٍ، دراسةٌ بعنوان: أعلام المصحِّحين بالقسم الأدبي في مطبعة بولاق ودار الكتب المصرية تاريخ وتراجم؛ أرجو أن تفيدَ في هذا الحقل التَّاريخي.
ومن الطرائف الإخباريَّة في هذا البابِ، والتي يحكيها الدُّكتور محمود الطناحي: أنَّ كتاب تيسير الوصول إلى جامع الأصول، لابن الدَّيبع الشَّيباني؛ قد صدرَ سنة ١٣٣٠هـ، عن مطبعة الجماليَّة، وقد عني بتصحيحه ومراجعة أصوله الخطية: الشَّيخ محمد هارون، وكيل مشيخة علماء الإسكندريَّة، وهو والد المحقِّق المعروف عبد السلام محمد هارون، رحمهم الله؛ أقول: فأعمال الوالد تحكي مرحلة التَّصحيح في خدمة المخطوط الإسلامي، وأعمال الولدِ تحكي الحقبة التَّالية، وهي أعمال التَّحقيق، والتي بقيت منهجًا متبعًا في منظومةِ إخراج الكتاب التُّراثي.
غير أن ممَّا يُرصدُ من منهجيَّة هذا التَّصحيح البُولاقي: أنَّه لا يذهبُ بعيدًا في عملية التَّحقيق المتعَارف عليها، وإنما يتحسَّس مِن ذلك الحدَّ الأدنى من الثقةِ بالنصِّ المخطُوط، وأن يُعمد إلى أصلٍ واحد، ويراجعَ عليه الكتاب، ويمارس المصحِّح هذه العمليَّة التوثيقية في صمتٍ ومجانبةٍ للهوامش الحاكية للفروقِ والتَّصحيفاتِ والأسقاطِ والآفاتِ، فضلا عن الهوامش المجليَّة للغَريب والأَعلام والمحالِّ والطَّوائف وما جرى على هذا النَّحو.
وأريدُ أن أُعلِّق على هذا الصَّنيع البُولاقي بالمقرَّرات التَّالية:
أولًا: لا أجدُ في هذا الصنيعِ مأخذًا على أعلام هذه الطَّبقةِ، ورُواد هذا النَّمط التراثي؛ فهكذا تبدأ الصناعةُ العلميةُ، وهكذا تكونُ الدفقةُ الأُولى من المعارف والحِرف، وفي ضميمةٍ أُخرى، أراها شافعًا لا يُرد: أن المقاصدَ التي اختُطَّت في هذه الحقبةِ، والواجبَ الثقافيَّ الذي أُلقي على عاهن الرَّاعي للكتاب العَربي والإِسلامي؛ ليُملي في غير عذرٍ، ويدعُو في غيرِ أَخَرةٍ: أن يُبَثَّ هذا التُّراث، بل ويُكاثر من سَواده وحُضوره، حتَّى تُغالب ثقافتُنا ما استُورد من ثقافاتٍ أُجنبيَّة، ولكن مع الحدِّ الأدنى من الثِّقة بنصِّ الكتاب، وهو ما مثَّله الدَّور والصَّنيع التَّصحيحي.
ثانيًا: شَهِدَ التَّصحيح البُولاقي تطوُّرا في عمليَّة إخراجِ النُّصوص التُّراثية، ولم يقف على النَّمط الاقتصاديِّ الذي افتتح به مسيرتَه؛ ومما يسجلهُ المراقبُ في مطبوعاتِ هذه الفترةِ، أنها لَقِيَتْ في بعضِ أنحائِها ازدهارًا منهجيًّا يُحفل به؛ فمن ذلك: ما جاء في آخر كتاب لسان العرب، المطبوع في مطبعة بُولاق، سنة ١٣٠٠ه – ١٣٠٨هـ؛ حيث ذكر مصحِّحه الشيخ محمد الحسيني، أنَّ هذه الطبعة اعتمدت على نسخةٍ بخطِّ ابن منظور نفسه، كانت في وقف السُّلطان برسباي بن شعبان، ونسخةٍ أُخرى أُحضرت من مكتبة راغب باشا، باستانبول، ومنه: ما ذكره الشيخ محمد الزهري الغمراوي، في آخر الطبعة الميمنية، من مسند الإمام أحمد بن حنبل، من الاعتماد على نسخةٍ مخطوطةٍ، بخزانة السَّادات الوفائيَّة بمصر.
ثالثًا: أرى وبعد تقديري لهذه الحقبةِ من رِعاية وصِيانة المخطوط التُّراثي، أنَّ هذه الصنعةَ وهذا التَّصحيحَ البُولاقي يُنزل منزلة الضَّرورة مِن منهجيَّة وإجراءات خِدمة المخطوطاتِ، وأنَّه من المحلِّ والظَّرف والإمكانياتِ والأدواتِ التي لا تجيزُ القياسَ عليها والاستنانَ بها؛ بل حقُّ العلمِ ومسؤوليَّة التراثِ وأمانةُ الكلمةِ، تستدعي المجاوزةَ مِن هذا النَّهج الاضطراريِّ إلى أَكمل المناهج وأَزهاها وأَبهاها؛ وما ينطقُ عن أنَّ تراثَ هذه الأُمة الإسلاميَّة يتجلَّى فيه إعجاز الحفظِ الربَّاني.
وهُنا أختمُ بدعوةٍ خاصَّةٍ، إلى زُملاء الحقل الأكاديميِّ، وبمختلف التخصُّصات التي تخدم التُّراث العَربي والإِسلامي: ألَّا يُرَدَّ طلابُ الدراساتِ العُليا عن أن يُوظفوا أطروحاتهم العلميَّة في تجويدِ عمليَّة إخراج مكنون المخطوطات، والرَّفع من مستوى الثقة بنُصُوصها، والفتش في الخزائنِ والمكتباتِ والأوقافِ عن أُصُول تُراثنا وشواهد حَضَارتنا، وألَّا تُصرف وجوه الدَّراسين عن هذا المَعين بكلمةِ: تمَّت طباعتُه.