ترجمة : قاسم مكي -

قبل خمس سنوات أعد خبيران من صندوق النقد الدولي هما رضا شريف وفؤاد حسنوف ورقة بعنوان ساخر قليلا هو «عودة السياسة التي يجب ألا تُسمَّى: مبادئ السياسة الصناعية».

ذلك يشير إلى أن التدخل الإستراتيجي بالسياسات (في الاقتصاد) «رغم اعتباره على نطاق واسع سببا رئيسيا وراء المعجزة الاقتصادية في شرق آسيا» لديه سمعة سيئة وسط واضعي السياسات والأكاديميين.

فعلا كان ذلك كذلك إلى درجة أن عبارة السياسة الصناعية بداية من السبعينيات نادرا ما كانت تُذكر في الأوساط المحترمة أو بواسطة صندوق النقد الدولي.

لكن ذلك لم يعد كذلك. ففي الشهر الماضي ذكر الصندوق أنه رصد ما لا يقل عن 2500 إجراء يتعلق بالسياسة الصناعية حول العالم في السنة الماضية فقط. (السياسة الصناعية حسب بعض التعريفات تعني التدخل المنظَّم من الحكومة لتوجيه الاقتصاد في مسار معين بتشجيع الاستثمار في صناعات محددة من خلال نظام ضرائب ودعم وحوافز- المترجم). ولاحظ الصندوق أن «أكثر من ثلثي الإجراءات التي رصدها كانت مشوِّهة للتجارة لأنها في الغالب تحيَّزت ضد المصالح التجارية الأجنبية».

بل ما هو أكثر لفتا للانتباه أن السياسات الصناعية أصبحت «أكثر انتشارًا في بلدان الاقتصادات الصاعدة» منها في الاقتصادات المتقدمة. ففي الفترة بين 2009 و2022 تم رصد 7000 دعم في البلدان النامية وأقل قليلا من 6000 دعم في البلدان المتقدمة.

لكن الارتفاع الذي حدث في العام الماضي كانت وراءه «الاقتصادات الكبيرة حيث شكلت الصين وبلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ما يقارب نصف كل الإجراءات الجديدة الخاصة بالسياسة الاقتصادية».

يمكن مشاهدة ذلك التحول ليس فقط في البيانات ولكن في الأقوال أيضا. ففي الشهر الماضي تحسَّر ماريو دراغي الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي من أن أوروبا «تفتقر إلى إستراتيجية للكيفية التي تحمي بها صناعاتها التقليدية» من المنافسة غير العادلة بسبب «عدم تماثل الإجراءات والدعومات والسياسات التجارية». ودعا الاتحاد الأوروبي إلى الرد بالسياسة الصناعية.

في بريطانيا يردد حزب العمال المعارض هذه الأطروحات داعيًا إلى «صفقة جديدة» ومروِّجًا لما يدعوه «الاقتصاد الأمني». وفي الولايات المتحدة يريد دونالد ترامب رسومًا جمركية ضخمة فيما دعا جو بايدن إلى فرض رسوم جمركية في قطاعات كصناعة الصلب. كما أن قانون خفض التضخم الذي استحدثه مثال آخر للسياسة الصناعية.

لكن أي أحد يتأمل ذلك العدد اللافت (من التدخلات الحكومية) الذي ورد في تقرير صندوق النقد الدولي عليه أن يتذكر نقطة حاسمة في أهميتها ويجب أن تكون واضحة لكن كثيرا ما يتم تجاهلها وهي أن السياسة الصناعية يمكن أن تعني أشياء مختلفة. فكما أبلغ الاقتصاديان شريف وحسنوف حلقة دراسية في معهد بينيت بجامعة كمبردج مؤخرًا هنالك اختلاف مهم بين السياسات التي تحاول إيجاد النمو بحماية الشركات المحلية من المنافسة الأجنبية والسياسات التي تساعد تلك الشركات على المنافسة بكفاءة أفضل على المسرح العالمي.

اتبعت بلدان نامية عديدة في السنوات الأخيرة بما فيها الهند الإستراتيجية الأولى «إحلال الواردات». وهي أيضا السياسة الصناعية نفسها التي فضلها ترامب وتدور في بال بعض الساسة الأوروبيين، مثلا في حالة ألواح الخلايا الشمسية الصينية. لكن هذه المقاربة هي التي منحت السياسة الصناعية سمعة سيئة.

يحاجج شريف وحسنوف بناء على بيانات وفيرة أن نماذج سياسة إحلال الواردات تقوض النمو في الأجل الطويل. فهي توجد صناعات مُدَلَّلة بأكثر مما يلزم وغير كفؤة.

بالمقارنة النوع الثاني من السياسة الصناعية يهدف بدلًا من ذلك إلى جعل الصناعات أكثر تنافسية في الخارج من خلال نموذج يتجه إلى التصدير وفي ذات الوقت أقل انشغالا بالواردات. هذه المقاربة هي التي قادت إلى معجزة شرق آسيا وهي التي تحقق النمو المستدام، وفقا للبيانات.

الاختلاف في المقاربتين تجسده الحظوظ المتباينة لسيارة بروتون الماليزية وهيونداي الكورية الجنوبية. فالأولى تم تطويرها وسط سياسات إحلال الواردات ولم تُقلِع أبدا. والثانية ازدهرت على قاعدة استراتيجية تتجه نحو التصدير.

قد يردُّ ساخر بأن السياسات نادرًا ما تكون واضحةً على نحو ما قد توحي به حكاية المصير المتباين لهاتين السيارتين. من الصعب لأية شركة أن تشكل حضورًا على المسرح العالمي إذا كان منافسوها الرئيسيون يحصلون على دعم مُغَالَى فيه داخل أسواق مغلقة كما دللت على ذلك متاعب شركات صناعة ألواح الخلايا الشمسية الأوروبية التي حاولت منافسة نظيراتها الصينية. ومن الصعب أيضا أن يقال للبلدان بأن عليها استهداف النمو الذي تحركه الصادرات في عالم تتشظَّى فيه التجارة وتتصاعد الحمائية.

على أية حال في حين تنجح الإستراتيجيات الموجهة نحو التصدير بالنسبة للبلدان الصغيرة والمتوسطة الحجم مثل كوريا الجنوبية إلا أنها قد تبدو أقل أهمية للبلدان العملاقة مثل أمريكا.

ثم هنالك سؤال أكثر جذرية حول التغير الاقتصادي. ففي حين «ركزت السياسة الصناعية تقليديًا على الصناعة التحويلية»، كما تورد ورقة رصينة نشرها في العام الماضي الاقتصاديون ريكا يوهاس وناثان لين وداني رودريك، إلا أن قطاع الخدمات هو الذي يهيمن الآن. وهكذا «ستتطلع الحكومات في الغالب إلى ما وراء الصناعة التحويلية عندما تفكر في سياسات صناعية تعزز الإنتاجية في المستقبل».

يعتقد كل من شريف وحسنوف أن مؤسسات مثل وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة في الولايات المتحدة (داربا) تعطي فكرة عن إجراءات تعزيز الابتكار في هذا المجال. وتستشهد ورقة يوناس ولين ورودريك بتدريب العاملين وائتمان الصادرات. لكن هذا يحتاج إلى سياسة كلية (شاملة) دعونا نَقُل أن أمريكا تفتقدها.

في كلا الحالين النقطة الأساسية هي أن الساسة الغربيين طالما يسعدهم الآن وباطِّراد النطق بعبارة «السياسة الصناعية» التي كانت محرَّمة يوما ما سيلزمهم تحديد ما يقصدونه. هل الهدف هو استبعاد المنافسين من المسرح المحلي عبر (فرض) الرسوم الجمركية؟ أم الهدف جعل المنتجين المحليين أكثر تنافسية وابتكارًا على الصعيد العالمي وأفضل قدرة على المنافسة؟ أم هو شيء آخر؟ المستثمرون والأسواق بحاجة إلى أجوبة واضحة. كما يحتاج اليها أيضا، وهذا أهم، الناخبون.

جيليان تيت محررة وكاتبة رأي في الفاينانشال تايمز

عن الفاينانشال تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسة الصناعیة

إقرأ أيضاً:

أزمة الثقة في السياسة الأمريكية

 

 

ناصر بن حمد العبري

 

تتجه الأنظار نحو البيت الأبيض الأمريكي؛ حيث باتت نتائج الانتخابات تعكس توجهات جديدة في السياسة الأمريكية تجاه قضايا المسلمين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

هذه القضية، التي تُعد جوهر القضايا العربية، لا تزال تعاني من عدم وجود حلول فعالة، مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع المأساوية في غزة والأراضي الفلسطينية. المجازر التي تُرتكب بحق المدنيين تثير استنكارًا واسعًا في العالم العربي والإسلامي، بينما تواصل الولايات المتحدة تزويد الكيان الصهيوني بالأسلحة والمعدات العسكرية، مما يعكس انحيازًا واضحًا ويزيد من حدة الانتقادات الموجهة لها.

لقد فقدت أمريكا مصداقيتها في نظر العديد من الدول والشعوب، حيث أصبحت تُعتبر طرفًا غير محايد في الصراع الفلسطيني. هذا التوجه الأمريكي لا يقتصر على فقدان الثقة من قبل الفلسطينيين فحسب؛ بل يمتد ليشمل حلفاءها التقليديين في المنطقة، الذين بدأوا يشعرون بخيبة أمل تجاه السياسات الأمريكية التي لا تعكس القيم الإنسانية التي تدعي الولايات المتحدة الدفاع عنها.

في خضم هذه الأزمات، تتجه أنظار العالم العربي والإسلامي نحو جمهورية الصين، التي أصبحت تحتل مكانة خاصة من الاحترام والتقدير في قلوب الشعوب العربية. الصين، التي تتبنى سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، تقدم نموذجًا بديلًا للسياسة الدولية، مما يجعلها خيارًا محتملًا للعديد من الدول التي تبحث عن شراكات جديدة.

إن فقدان أمريكا لمصداقيتها في المنطقة ليس مجرد أزمة سياسية؛ بل هو تحول جذري في موازين القوى العالمية. ومع تزايد الاستياء من السياسات الأمريكية، قد نشهد تغيرات كبيرة في التحالفات الدولية، حيث تسعى الدول العربية والإسلامية إلى بناء علاقات استراتيجية مع قوى جديدة، مثل الصين، التي تقدم بديلًا جذابًا عن الهيمنة الغربية.

 

في الختام.. يبدو أن الأحداث الجارية في غزة والأراضي الفلسطينية قد تكون نقطة تحول في العلاقات الدولية؛ حيث تتجه الأنظار نحو قوى جديدة تسعى لتحقيق الاستقرار والعدالة في المنطقة، وهذه الديناميكيات الجديدة قد تؤدي إلى إعادة تشكيل النظام الدولي؛ مما يفتح آفاقًا جديدة للتعاون والشراكة بين الدول العربية والإسلامية والدول الكبرى التي تسعى لتحقيق مصالحها بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية.

 

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • بوريل: لا يمكن استمرار الحماية الأمريكية دائماً
  • ما الذي سيتغير مع عودة ترامب؟ مآلات طوفان الأقصى واتجاهات السياسة الأمريكية
  • عمرو خليل: لا يمكن لإسرائيل أن تستمر في عدوانها المتمادي على غزة ولبنان
  • روسيا تعتزم زيادة الصادرات الصناعية إلى الهند لـ 8 مليارات بحلول 2030
  • أكثر المدن التركية التي يعاني رجالها من قصر القامة
  • رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي: أخاطبكم باسم لبنان للتعبير عن هول الكارثة التي نعيشها هذه الأيام جراء العدوان الإسرائيلي الذي نشر الموت والدمار في انتهاك صارخ للقانون الدولي
  • أزمة الثقة في السياسة الأمريكية
  • كيف يمكن للحليب أن يهدد النساء بخطر الإصابة بالقاتل الصامت؟
  • ترامب والسيسي.. حكايات السياسة والكيمياء
  • فؤاد حسين مشيداً بكاظم الساهر: الفن قوة ناعمة في السياسة الخارجية للعراق