(1)هذ الكتاب المرجع المهم واحد من آثار المستشرق البريطاني الشهير إدوارد وليم لين التي أتحفنا بها في القرن التاسع عشر، وتمثل خلاصة ممتازة وأصيلة لخبرته الواسعة في معايشة ودراسة المجتمعات العربية، وخاصة «المصرية» منها، في القرن التاسع عشر.

إدوارد وليم لين هو صاحب الكتاب ذائع الصيت «المصريون المحدثون عاداتهم وتقاليدهم» (أفضل ترجماته -من وجهة نظري- التي أنجزها عدلي طاهر نور) الذي حمل حصيلة مشاهدات وتدوين وتسجيل أمين ودقيق لكل ما رآه وعاينه على أرض مصر خلال الفترة التي قضاها فيها في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ وقد ظل هذا الكتاب يحظى ببريق وجاذبية لم تتيسر لكتاب آخر غيره في هذه الدائرة التي تناولها في وصف شعب من الشعوب، وتتبع تفاصيله ودقائقه بمثل هذا الحصر والاستقصاء الذي قام به لين.

وقد لقيت أعمال لين اهتمام المترجمين والباحثين والدارسين على اختلاف تخصصاتهم (في الأدب والفولكلور والتاريخ وتاريخ العصور الوسطى.. إلخ)، فترجموا وحققوا وحرروا عددا من أهم كتبه وأوفرها مادة وأغزرها صورا للوحات مرسومة بخط اليد تكاد تكون آية في دقة النقل وبراعة التصوير.

هذه الطبعة من جمع وتحرير «ستانلي لين بول»، وهو حفيد شقيقة إدوارد وليم لين، وقد ترجم فصولا منه وقدم لها المؤرخ القدير الدكتور علي حسني الخربوطلي وصدرت عن (المكتبة الثقافية) عام 1960.

(2)

وطوال الفترة من 1960 حتى 2022 لم تترجم فصول الكتاب بأكملها حتى اضطلع الباحث التاريخي والمترجم ماجد محمد فتحي بترجمة الكتاب كاملًا، وبالتقديم له والتعليق عليه، وصدر أخيرًا عن مكتبة الآداب العريقة بالقاهرة.

يعرف ماجد فتحي، في تقديم ترجمته للكتاب، بأهمية الكتاب خصوصًا أن مؤلفه هو عميد مدرسة الاستشراق البريطاني في القرن التاسع عشر، إدوارد وليم لين (1801-1873) والرجل الذي ترجم نصنا السردي الأكبر «ألف ليلة وليلة» إلى الإنجليزية، فكان صنيعه للثقافة الأنجلو سكسونية يضارع ما قدمه أنطوان جالان للفرانكفونية بترجمته ألف ليلة وليلة إلى الفرنسية.

ثم يزيد أن هذا الكتاب «المجتمع العربي في العصور الوسطى» ضمن منظومة أعمال لين الشهيرة، قد قام على جمعه وتحريره وإعداده للنشر، حفيدُ شقيقته، المستشرقُ الشهير بدوره (ربما الأشهر في الثقافة العربية بعد أن ترجمت جل أعماله إليها) ستانلي لين بول، ونشره في لندن أواخر القرن التاسع عشر.

ونظرًا لأهميته في مجال الدراسات الاستشراقية لآداب وعادات وتقاليد العرب في العصور الوسطى، وما تضمنه من تحليل ذلك المستشرق الرائد لطرائف «ألف ليلة وليلة»، فقد تصدى الباحث والمترجم «ماجد فتحي» لترجمته كاملا والتقديم بين يديه والتعليق عليه.

أما مؤلف الكتاب؛ فهو إدوارد وليم لين المستشرق الإنجليزي الشهير الذي ترجم كتاب (ألف ليلة وليلة) إلى الإنجليزية، وقدم للمكتبة التاريخية مؤلفات غاية في الأهمية تتصل بالشرق العربي الإسلامي والمجتمعات العربية خاصة في القرن التاسع عشر، فضلا على قاموسه الكبير من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية.

ولد لين في قرية هيرفورد الإنجليزية، والتحق بجامعة كمبردج، لكنه لم يكمل تعليمه الجامعي بها، وانصرف بدلا من ذلك إلى الدراسات الشرقية؛ فسافر إلى مصر عام 1825م، حيث أقام ثلاثة أعوام درس فيها طبيعة مصر الجغرافية وتاريخها، وتأمل في حياة أهلها الاجتماعية والاقتصادية، فخرج من ذلك بكتاب ضخم كان سببًا في شهرته عنوانه «طباع المصريين المحدثين وعاداتهم» صدرت ترجمته العربية تحت عنوان «المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم» من ترجمة عدلي طاهر نور لم ينشره إلا عام 1836م. وقد نفدت الطبعة الأولى من الكتاب في أسبوعين فقط، ثم طبعت منه خمس طبعات أثناء حياة لين. ثم انصرف لين بعد ذلك إلى ترجمة (ألف ليلة وليلة)، ما بين عامي 1838م و1840م، فجاءت ترجمته دقيقة إذا قيست بالترجمات الأوروبية السابقة.(3)

وهذه الترجمة التي اضطلع بها لين تكاد لا تنفصل عن موضوع كتابه هذا الذي نتناوله في هذه الحلقة من «مرفأ قراءة»، ذلك أنه عندما انتهى من ترجمته لـ«ألف ليلة وليلة» رأى لين أنه من الضروري إضافة هوامش للعمل تشرح ما قد يخفى على القارئ الغربي من أشكال الحياة العربية التي قد ترد في الكتاب. بعد ذلك قام حفيد شقيقته «ستانلي لين بول» بجمع هذه الهوامش في الكتاب الذي بين يدينا. واختار له عنوان «الحياة العربية في زمن ألف ليلة وليلة» (أو بحسب الترجمة التي اشتهرت وذاعت «المجتمع العربي في العصور الوسطى ـ دراسات في ألف ليلة وليلة»).

ومع أن ستانلي لين بول اختار عنوان الكتاب بنفسه، إلا أنه يعترف أن هذه الهوامش مبنية بشكلٍ أساسي على مشاهدات شقيق جدته «صوفيا» إدوارد لين في القاهرة. أي أنه لم يبن -كما كان البعض يظن- على بحث تاريخي مستقص للأحوال الاجتماعية في زمن «ألف ليلة وليلة»، كما أنه لم يمتد ليشمل باقي الأقطار التي جمعت منها القصص المتضمنة في الكتاب، وإنما اقتصر إلى حد كبير على الأحوال الاجتماعية في القاهرة في القرن التاسع عشر.وإن كان في الوقت نفسه يرجع للعديد من القصص من زمن هارون الرشيد على اعتبار أنه الزمن الأكثر ارتباطًا بألف ليلة وليلة. وبغض النظر عن الدقة التاريخية للمعلومات الواردة في هذه الهوامش، فإنها تشكل في نهاية الأمر نافذة على الرؤية الغربية الاستشراقية التقليدية للمجتمع العربي.

(4)

ولعل بسبب قيمة ومركزية دراسات لين وهوامشه وملاحظاته في حركة الاستشراق الغربي، هي الدافع الذي جعل إدوارد سعيد يخصه باهتمام كبير في كتابه التأسيسي «الاستشراق ـ المفاهيم الغربية للشرق»، وربما لا تنطبق عبارة إدوارد سعيد الشهيرة القائلة بأن «الشرق صناعة غربية» على شيء مثلما تنطبق على المكانة التي احتلتها «ألف ليلة وليلة» وشغلتها في المخيال الأوروبي فقد تجاوزت كونها عملًا أدبيا «خياليا» أو «متخيلا» لتصبح في أحوال كثيرة مصدرًا رئيسيا لتشكيل نظرة الغرب إلى الشرق.

بل لتتحول عند الكثيرين لنص يمكن استخدامه كمرجع لعادات وتقاليد وتفكير المجتمعات الشرقية وهو ما فعله إدوارد لين في كتابه هذا بالضبط. إلى درجة أن كاتبا شهيرا مثل الأرجنتيني «خورخي لويس بورخس» يكاد يكون تأثره الشديد بالأدب الشرقي اقتصر إلى حد كبير على «ألف ليلة وليلة» لا غيرها.

ولكن النقطة الجدلية هنا ليست تأثير هذا العمل في العقليات المختلفة بوصفه عملا أدبيا فقط، ولكن امتداد هذا التأثير ليشكل مرآة افتراضية للمجتمع العربي.

(5)

على كل حال، فإن هذه الملاحظات لا تنتقص أبدا من قيمة الكتاب ولا أهميته، ولا ضرورته، لا أقول للمؤرخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والفولكلور فقط إنما أيضا للأدباء والكتاب والمبدعين من حيث هو ذخيرة حية لأنماط من البشر والعادات والتقاليد والسلوك الإنساني والاجتماعي والثقافي التي سادت في ظل فترات تاريخية اتسمت بخصوصية نوعية في العصور الوسطى الإسلامية، وقبل الانتقال إلى العصور الحديثة والتعرض لسلسلة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي جرت منذ نهاية القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر، وصولا إلى القرن العشرين.

يقع الكتاب في أحد عشر فصلًا تدور حول: الدين، والجن والشياطين، والأولياء، والسحر، والكونيات، والأدب، والولائم واللهو، والطفولة والتعليم، والنساء، والرق، وطقوس الوفاة. وذيَّله مؤلفه بقائمة المصادر العربية التي اعتمد عليها لين في كتابة هذه التعليقات، ومعظم هذه المصادر كان مخطوطًا ولم يُطبع حتى وفاة لين.

وقد رأى ستانلي لين بول أن يحرر هذا الكتاب محافظةً منه على القيمة الأدبية والتاريخية لتعليقات ويليام لين عن وصف المجتمع العربي في العصور الوسطى، بإدراجها مبوَّبة ومرتَّبة في هذا الكتاب، خاصةً أنه رأى أن القاهرة ودمشق وبغداد كانت على وشك التحول للطراز الأوروبي في الكثير من مظاهرها، فأشفق أن يضيع ما رآه ولامسه شقيقُ جدته وليام لين من روح «ألف ليلة وليلة» أثناء إقامته في القاهرة لدراسة طبائع المصريين في عصر محمد علي باشا، وآثر تسجيله، فكانت نتيجة ذلك تحريره لهذا الكتاب..

إيهاب الملاح باحث مصري في الأدب والتراث والثقافة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی القرن التاسع عشر ألف لیلة ولیلة هذا الکتاب لین فی

إقرأ أيضاً:

رئيس جامعة القاهرة يشهد انطلاق القاموس العصري للشباب العربي بمعرض الكتاب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

شهدت قاعة "مؤسسات"، ندوة "قاموس القاهرة العصري للشباب العربي"، في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56، الذي يُعقد بمركز المعارض الدولية بالتجمع الخامس، ومن المقرر أن يستمر المعرض حتى يوم 5 فبراير المقبل.

جاءت الندوة؛ بحضور الدكتور محمد سامي، رئيس جامعة القاهرة، والدكتور أحمد بلبولة، عميد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والدكتور عبد الوهاب رضا، عميد كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي بجامعة القاهرة، والدكتور صفوت علي، وكيل كلية دار العلوم، والدكتور حافظ شمس الدين، عضو مجمع اللغة العربية، والدكتورة أسماء أحمد، مدرس مساعد كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي، والدكتور أحمد الشيمي، المدير التنفيذي لقاموس القاهرة للشباب العربي، والذي أدار الندوة.

وفي بداية الندوة، قال الدكتور أحمد الشيمي: "إن قاموس القاهرة العصري للشباب العربي هو تجسيد لرؤية الدولة المصرية وتنفيذها على أرض الواقع، كاستجابة لمبادرة بداية جديدة التي أطلقها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، والتي تستهدف بناء الإنسان من خلال وضع استراتيجية وطنية مقدسة تلبي احتياجات اللغة العربية في مصر والوطن العربي".

ومن جانبه، قال الدكتور محمد سامي: "يسعدني ويشرفني الحضور معكم اليوم؛ في تدشين مشروع قاموس القاهرة العصري للشباب العربي؛ هذا القاموس يعكس رؤية جامعة القاهرة في دمج التراث والمستجدات التكنولوجية، ويلبي استراتيجيات المبادرات الرئاسية التي تعمل على تعزيز الهوية الثقافية المصرية والعربية بشكل عام"؛ ويأتي تلبيةً لاستراتيجية وزير التعليم العالي والبحث العلمي؛ التي تم تقديمها في مارس 2023؛ وقال: "القاموس مبني على التكامل والتعاون، حيث يظهر التكامل من خلال التعاون بين كلية دار العلوم، أحد أعرق كليات جامعة القاهرة، وبين كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي، وهي إحدى الكليات الحديثة؛ لذا، فإن المشروع يثمر عن قاموس مفيد للشباب العربي لتعلم اللغة العربية؛ واستخدام أدواتها بشكل صحيح، ويؤكد القاموس على أن دور جامعة القاهرة هو إعلاء القيمة العربية".

من ناحيته، قال الدكتور عبد الوهاب رضا، عميد كلية الحاسبات والذكاء الاصطناعي: "إن أسلافنا ابتكروا الأدوات التي ساهمت في وصول اللغة العربية إلينا بسهولة ويسر"؛ والذكاء الاصطناعي أصبح أداة رئيسة لخدمة اللغة العربية، من خلال معالجة الكلام والأدوات الطبيعية وتحليل الأنماط"؛ وتساءل عبد الوهاب رضا: "ما هي علوم الحاسب؟ هي علوم الخوارزميات التي كتبت باللغة العربية، ولذلك نحن حريصون على توظيف الذكاء الاصطناعي لخدمة اللغة العربية بهدف الوصول إلى دقة عالية في فهمها".

فيما قال الدكتور أحمد بلبولة: "في البداية، أود أن أوضح أن صناعة المعاجم نشأت في مصر، وأن هذا القاموس جاء تلبيةً للمبادرة الرئيسية "بداية جديدة"؛ فقد قام القاموس على تعزيز مشاريع الثقافة والمعرفة والهوية"؛ وأن القاموس يملأ فجوة هائلة في مصر والوطن العربي، وهي الفجوة الثقافية وليس المعرفية، مما جعله مدخلًا ثقافيًا، مشيرًا إلى مثال تعريف الهوية من وجهة نظر الأديب نجيب محفوظ، وذلك لتعزيز قوة مصر الناعمة؛ وتابع بلبولة قائلاً: "المعجم يحتوي على 10 آلاف مصطلح ويضم مصطلحات مرتبطة بالجمهورية الجديدة، مثل مصطلح متحف الحضارات".

وفي السياق ذاته، قال صفوت علي: "هذا القاموس هو قاموس العاصمة والجامعة في وقت واحد؛ في الوقت الذي يتجه فيه العالم نحو الاستثمار المعرفي والثقافي، كان لمصر دورًا قويًا في تطوير القواميس العالمية"؛ وأشار إلى أن القاموس موجه للشباب ويكتبه الشباب، مضيفًا: "بمناسبة وجودنا في معرض الكتاب؛ ونحن نرى مئات الشباب، فإن تدشين هذا القاموس أصبح واجبًا حتميًا"، وتابع قائلاً: "القاموس يتضمن المداخل والمفاهيم التي شكلت العقلية الثقافية العربية على مدار تاريخها".

كما أوضح الدكتور حافظ شمس الدين؛ أن هذا التدشين يخص الشباب؛ ويصدر عن جامعة القاهرة؛ والجهود التي بذلت تعكس مدى الإرادة والتصميم والعزيمة لكي تكون اللغة العربية في دائرة الضوء؛ وأن اللغة العربية تمر بمرحلة صعبة، معربًا عن اعتقاده بأن هذا المعجم سيكون "حجرًا ثمينًا" في خدمة اللغة العربية.

وفي ختام الندوة، عرضت الدكتورة أسماء أحمد؛ تفاصيل المشروع؛ وكيفية تنفيذه، حيث شرحت منهجية المشروع باستخدام الذكاء الاصطناعي؛ وتعزيز التعليم الرقمي في مصر؛ وتشجيع الثقافة الرقمية بين الشباب؛ كما تحدثت عن التوصيف العشري للقاموس، موضحة طريقة الترتيب، والعموم والخصوص، وعدد اللغات؛ وأعمار المستخدمين؛  وأكدت أن القاموس سيصدر في نسختين، ورقية؛ وإلكترونية، من خلال تطبيق يمكن تحميله على الهواتف الذكية.
 

مقالات مشابهة

  • الحكومة: حزمة الحماية الاجتماعية التي يجرى إعدادها تغطي فئات المجتمع (فيديو)
  • محمود حميدة في معرض الكتاب: الفن.. الثقافة.. وتأثير المجتمع
  • بالصور.. جنين تحت النار
  • متحف المخطوطات بمعرض الكتاب.. معلم ثقافي يبرز جهود الأزهر في حفظ التراث العربي والإسلامي
  • جامعة القاهرة تطلق قاموسًا عصريًا للشباب العربي بمعرض الكتاب
  • دار الإفتاء تعقد ندوة حول دعم حقوق ذوي الهمم في بمعرض الكتاب
  • جناح الأزهر بمعرض الكتاب يحتفي بذوي الهمم عبر مبادرة "كلنا واحد
  • جناح الأزهر بمعرض الكتاب يحتفي بذوي الهمم عبر مبادرة “كلنا واحد”
  • انطلاق "قاموس القاهرة العصري للشباب العربي" بمعرض الكتاب
  • رئيس جامعة القاهرة يشهد انطلاق القاموس العصري للشباب العربي بمعرض الكتاب