تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
إن الحديث عن «منهج التفكير العلمي» يقتضى التوقف قليلًا أمام مصطلح «العلم Science»، إذ ثمَّـة صعوبة فى تعريف هذا المصطلح، فلو قلنا: «إن العلم نشاط إنساني»، فلن نجد خلافًا حول ذلك. أما إذا أكملنا العبارة وقلنا: «إن العلم نشاط إنسانى يهدف إلى كذا...» هنا يظهر خلاف له بداية وليست له نهاية، وسوف تفترق وجهات النظر حول تحديد هذا الهدف: هل الهدف من وراء هذا النشاط الإنسانى مجرد المعرفة؟ سواء أكانت الإجابة بالنفى أم بالإيجاب، فإن السؤال سيظل قائمًا: المعرفة من أجل ماذا؟ تكاد تكون الإجابة عن هذا السؤال محسومة فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية: معرفة الطبيعة من أجل التحكم فيها وترويضها لخدمة الإنسان، ولكن هل تصلح هذه الإجابة إذا كان السؤال متعلقًا بالعلوم الإنسانية؟
أيًا ما كان الموقف الذى يتبناه الباحث فى هذا المجال، فإنه بالتأكيد موقف يؤثر فى الأداة أو الطريقة أو الوسيلة التى يجمع بها مادته.
ولما كانت النتائج العملية للتطبيقات العلمية تتم الآن بصورة رائعة، لذا فإنه حين تُذْكَر كلمة «علم» أمامنا فإننا نميل - فى أغلب الأحيان- إلى قصر هذه الكلمة على التقنيات الحديثة كالسيارات والطائرات والصواريخ وسفن الفضاء والهواتف المحمولة والكمبيوتر... إلخ. غير أن هذا، فى واقع الأمر، خطأ بالغ، لأن العلوم التطبيقية التى تنتج تلك التقنيات الحديثة إنما تستند فى الأساس إلى العلوم البحتة، والتى بدونها ما كان من الممكن أن تقوم العلوم التطبيقية. وإذا أردنا تعريف «التكنولوجيا»، فإننا نقول: «إنها الأدوات أو الوسائل التى تُسْـتَخدم لأغراض عملية تطبيقية، والتى يستعين بها الإنسان فى عمله لإكمال قواه وقدراته، وتلبية تلك الاحتياجات التى تظهر فى إطار ظروفه الاجتماعية ومرحلته التاريخية الخاصة».
أما إذا نظرنا إلى لفظ «علم» من حيث اشتقاقه اللغوى، فسنجد أنه ترجمة للكلمة الإنجليزية «Science» المشتقة من الفعل اللاتينى: Scire «أن يعرف to know». ولم تتم صياغته إلا فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ليدل على ذلك النسق المعرفى النامى حديثًا، وعلى وجه الخصوص الطبيعة والكيمياء بمنهجهما الصارم وطابعهما المحكم، ثم توالى اجتياح العلم لمجالات شتى، أتت كلها وفقًا لهذا المصطلح «Science» ولكن لم يُوْضَع له مقابل فى اللغة العربية إلا مصطلح «علم» العريق جدًا والمترامى النطاق فى ثقافتنا، حيث يدل على أى نشاط معرفى، وأى درس عقلى على وجه الإطلاق.
وكلمة «العلم» فى اللغة العربية تحمل معنيين مختلفين، الأول: معنى واسع يرادف «المعرفة»، ومن ذلك قوله تعالى: «وَقُل رَّبِّ زِدنيِ عِلمًا». (طه - ١١٤)، أى زدنى معرفةً، أيًا كان ميدان هذه المعرفة. ونحن نقول فى حياتنا اليومية: «لا علم لى بهذا الموضوع»، أى لا أعرف عنه شيئًا. والثانى: معنى ضيق هو الذى يرادف العلم التجريبى Science على نحو ما يتمثل فى «علم الفيزياء» و«علم الكيمياء»... إلخ. وهو ضرب من المعرفة المنظمة التى تستهدف الكشف عن أسرار الظواهر الطبيعية، بالوصول إلى القوانين التى تتحكم فى مسارها، ومن ثمَّ تمكننا من السيطرة على الطبيعة لصالح الإنسان. والجدير بالذكر أن بعض الفقهاء - كابن تيمية وابن حنبل – قد رأى أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة..إلخ، بل إن وسائل إعلامنا ما زالت، حتى هذه اللحظة، تقدم الدعاة ورجال الدين على أنهم «العلماء» بألف لام التعريف. غير أن هذه المحاولة من جانب الإعلام والإعلاميين لا تزيد على كونها تضليلًا إعلاميًا، وتغييبًا للعقول!.
والعلم إذا أُخِذَ بمعنى فضفاض، كان يـدل على ما نعرفـه، وعلى مجموع المعـرفة البشـرية بأسرها. غير أن تعريف العلم بأنه كل المعرفة لن يكون تعريفًا صالحًا، فمن الواضح أن هناك أنواعًا مختلفة من المعرفة. هذه الأنواع تختلف تبعًا لطريقة اكتساب المعرفة، وكذلك تبعًا لإطار التجربة التى تندرج فيه. فما نعرفه عن الفنون، والأدب، والقانون، والدين، والخبرة الفنية، يكون كل منه ذخيرة من المعلومات المستقلة المتفاوتة، غير أن هذه المعلومات لا صلة لها بما نُطلق عليه عادةً اسم العلم.
مفهوم «المعرفة» إذن ليس مرادفًا لمفهوم «العلم». فالمعرفة أوسع حدودًا ومدلولًا، وأكثر شمولًا وامتدادًا من العلم، والمعرفة فى شمولها تتضمن معارف علمية ومعارف غير علمية. ولذا يمكن القول بأن كل علم معرفة، وليست كل معرفة علمًا. وتقوم التفرقة بين النوعين على أساس قواعد المنهج وأساليب التفكير التى تتبع فى تحصيل المعارف. فإذا أتبع الباحث قواعد المنهج العلمى فى التعرف على الأشياء والكشف عن الظواهر، فإن المعرفة تصبح حينئذ معرفة علمية.
وقد جرى العرف على إطلاق «العلم» على نوع خاص من المعرفة، هو النوع الذى يبحث عن القوانين العامة التى تربط بين مجموعة من الحقائق الخاصة. وبالتدريج قلّ النظر إلى العلم على أنه معرفة، وقوى النظر إليه من حيث هو قوة للتحكم فى الطبيعة. وقد أدرك الإنسان منذ قديم الزمان ما للعلم من أهمية عظيمة فى حياته، ولاحظ أنه لولاه لما استطاع أن يحيا على المستوى الحضارى الذى يبتغيه ويطمح إليه. وأثر العلم بارز فى شتى نواحى الحياة الزراعية والصناعية وفى وسائل المواصلات والترفيه وما إلى ذلك. والواقع أن كل ما يتعلق بالحياة التى نعيشها قد تأثر بالعلم، ومن ثمّ يمكننا القول بأن «العلم» نوعان: علم نظرى يحاول تفسير الظواهر وبيان القوانين التى تحكمها كالفيزياء والرياضة، وعلم عملى يرمى إلى تطبيق القوانين النظرية على الوقائع والحالات الجزئية.
كما أن التفكير العلمى ليس حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث فى ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة فى النظر إلى الأمور تعتمد أساسًا على العقل والبرهان المقنع - بالتجربة أو الدليل - العلم هو أولًا وأخيرًا منهج فى التفكير، ولا يمكن أن نتصور وجود علم بلا منهج. فكل العلوم لها مناهجها، بل إنها تتقدم باستخدام مناهج جديدة. وإذا كنا ننظر إلى العلم باعتباره منهجًا، فإننا ننظر إليه على هذا النحو بغض النظر عن الموضوعات التى ندرسها بذلك المنهج، فليس العلم موقوفًا على نوع الحقائق التى يبحثها العلماء. لأن الحقائق التى يبحثونها مختلفة، ورغم اختلاف موضوعاتهم فنحن نطلق عليهم جميعًا وصف «علماء»، والذى جعلهم يستحقون هذا الوصف هو منهجهم الذى اعتمدوا عليه فى البحث لا مادتهم التى يبحثونها.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: القوانین التى منهج ا غیر أن
إقرأ أيضاً:
سامح فايز يكتب: «متاهة القراءة» والبحث عن سر المعرفة
قبل عشر سنوات قدمت موضوعا عن الكتب الأكثر مبيعا في جريدة القاهرة، كان موضوعي الورقي الثقافي الأول، فاقتنيت عدد الصحيفة كمن يقتني قطعة من الذهب.
توقعت أنّني قدمت شيئا مهما عن الكتب والقراءة، كان مجرد توقع، لكنه ذهب أدراج الرياح بمجرد أن فتحت الجريدة على الصفحة الثالثة لأجد موضوعا عن الكتب للأكاديمي والروائي دكتور زين عبدالهادي.
كانت تلك هي المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى قلمه، وأدهشني حينها حجم المعلومات والأرقام والبيانات المتعلقة بعملية القراءة، لدرجة أنّ كتابي «حكايات عن القراءة» الفائز بجائزة ساويرس فرع النقد عام 2020 اعتمد في بنائه على دراسات قدمها دكتور زين عبدالهادي.
للغَرابة، تختفي المعلومات تقريبا عن كل ما يتعلق بعملية القراءة وصنع الكتب في مصر والوطن العربي، إلا من بعض كتابات قليلة جدا، في المقدمة منها ما قدمه دكتور زين عبدالهادي، تحديدا تقريره المهم عن حالة النشر والقراءة في مصر والعالم العربي المنشور عام 2010 والمحدَّث بنسخة أخرى عام 2016.
لم يتوقف دكتور زين عبدالهادي عن العطاء في منطقة القراءة وصناعة الكتب عند تلك المرحلة، بل أسعدني بخبر مشاركته بكتاب جديد عن دار الهالة للنشر تحت عنوان «متاهة القراءة - سيرة القراءة بين النقد والأنثروبولوجيا».
وكالعادة، يتطرق الأكاديمي المرموق إلى مناطق في عالم القراءة هو باحثها الأول، مجاهدا في ساحة شديدة الأهمية تتعلق بما يبني عالمنا المعرفي والعقلي بذلك الغذاء الثقافي الذي يحدد مصائرنا.
في كتاب «متاهة القراءة» يتناول المؤلف، بعين الأكاديمي في مضمار علوم المكتبات وتاريخ المعرفة، القراءة من زاوية الأنثروبولوجيا، طارحا سؤال: كيف تحدد تصورات القارئ الشخصية وكيف تشكل القراءة شخصيته؟ متعمقا بشكل أكبر في المسألة، مستفيدا من الأنثروبولوجيا (علم دراسة الإنسان) والأنثروبولوجيا الثقافية المنشغلة بدراسة كيفية تشكل الوعي الثقافي للإنسان عموما.
وباعتبار أنثروبولوجيا القراءة فرعا من الأنثروبولوجيا الثقافية، يسعى المؤلف سعيا حثيثا لسبر أغوار عالم الوعي وتشكيل معرفة الإنسان.
لكن تظل أهمية كتاب «متاهة القراءة» بالنسبة لي في الجزء التطبيقي الذي اشتغل عليه المؤلف سعيا خلف تفكيك مصطلح أنثروبولوجيا القراءة، وهو سيرته الذاتية مع القراءة وكيف أثرت في تكوينه المعرفي والأكاديمي؛ وهي مسألة شديدة الأهمية لو تعرفنا إلى المسيرة الأكاديمية للمؤلف.
الدكتور زين عبدالهادي هو أحد أبرز المثقفين والأكاديميين في الوطن العربي. حصل على الدكتوراه في علم المكتبات والمعلومات، وتركزت أبحاثه حول تأثير المعرفة والقراءة على بناء الهوية الإنسانية وتشكيل المستقبل.
شغل عدة مناصب أكاديمية وإدارية رفيعة، منها: رئيس دار الكتب والوثائق القومية الأسبق، أستاذ في قسم المكتبات والمعلومات بجامعة حلوان، رئيس تحرير سابق لمجلة عالم الكتاب الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، مستشار ثقافي في العديد من الهيئات والمؤسسات الثقافية المحلية والعربية والدولية، إضافة إلى أنه المشرف العام على مكتبات مدينة الثقافة والفنون بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وفي كتاب «متاهة القراءة» يسعى المؤلف للإجابة عن سؤال القراءة من خلال سيرته الذاتية وتطور عملية القراءة لديه بين الطفولة والشباب وسن النضج، مستخدما الأدوات العلمية في تحليل حجم التأثير وتشكيل عالمه الثقافي والمعرفي وكيف تؤثر قراءات كل مرحلة في استقباله للعالم. يقدم سعيا جديدا في ذلك المضمار المعرفي، مازجا للمرة الأولى بين النقد والأنثروبولوجيا، موظفا أركيولوجيا القراءة في تلك العملية، ويُقصد بها آثار القراءة من حواشٍ وهوامش، تلك التي يتركها القارئ على الكتاب المقروء، في محاولة من المؤلف لفهم عملية القراءة وماهيتها.
في النهاية، أعد ذلك العمل أحد أبرز الأعمال المشاركة في الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأسعد شخصيا باقتنائه مع إطلاق الدورة الخميس 23 يناير في أرض المعارض بالتجمع الخامس، ذلك العيد السنوي الذي ينتظره كل قارئ!