مقتطفات من تراث قبائل جبال النوبة وجنوب كردفان
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
(الجزء الثاني)
ترويها الاستاذة جليلة كوكو
حررها عادل سيد أحمد
المحرر:
- تواصلت في الايام الفائتة مع الاستاذة الفاضلة جليلة كوكو بغرض التعاون في عرض احاجي من النوبة وجنوب كردفان، وقد اجتهدت الاستاذة في البحث عن تلك الاحاجي، وقد افادتني بعد ايام من البحث ان ما توصلت اليه سيكون حديثا عن تراث تلك القبائل تقدمها هدية وعيدية للقراء، ويشتمل الحديث على ظواهر تراثية منها الرقص والصراع والقنيص (القنص) والالعاب.
وها انا اورد ما جادت به الاستاذة مبوبا وفقا لترتيب تسجيلاتها الصوتية على الواتساب:
13
المريسة:
والمريسة عبارة عن غذاء متكامل لشعب جبال النوبة، ونتفق عليها كطعام وشراب دسم يطفئ قيظ الحر ويذهب العطش، وهي ليست للسكر أو البيع من أجل المال في جبال النوبة، وهي شراب الضيافة مثلها مثل اي عصير في أي منطقة،
كيف تصنع المريسة؟
المريسة مصنوعة من عجين الذرة، سواء كانت من محاصيل الجبراكة الملونة ذات الحبة الصغيرة، أو نوع آخر من الذرة وحبتها كبيرة، صفراء أو خضراء تسمى (كرقي)، وايضا نصنع منها المريسة وتسمى (نيالي) أو (كالي). حيث تقوم النساء بتحضير الزريعة وهي من الذرة المبلولة، توضع داخل أنواع معينة من الأزيار وتترك لمدة أربعة أيام حتى تنبت شعيرات، وعندها يتم استخراجها ووضعها على سطح جوال، أو نوع من الحجارة، تترك حتى تجف وبعد ذلك يتم سحنها، ويكون طعمها حلوا، وتخزن في ازيار لانها تستخدم طوال السنة، وايضا يتم خلط الزريعة مع العجينة التي تحمص على النار حتى تصبح بنيه اللون ومتفككة (تسمى كنقار في الشمال- المحرر)، وهي ابمسؤولة عن التخمير، وايضا يتم تخزينها في نوع آخر من الأزيار. وعندما تريد النساء صنع المريسة يتم خلط كمية من العجينة المحمصة والزريعة بالماء، وتترك في ازيار كبيرة تحفظ إلى اطول مدة،وهي لا تتلف ولا تتعفن.
وعند النفير أو الذهاب إلى الزراعة، تاخد المرأة معها كمية محدودة تكفي العدد الذي سوف يعمل في النفير، ومعها نساء أخريات يجلبن الماء، وتوضع عليها تلك العجينة، ويكون لها طعم مميز، وتتم تصفيتها بصفايات تصنع مسبقا من خشب القنا المشرح ومربوط بطريقة معينة في شكل مصفاة، مثلث الشكل تسمي( تيسي) أو مصفاة من القماش الخفيف.
وعندما يتم تصفية عصير المريسة، يتبقى المشك، أو تفل العجين...
وتعطى للدجاج أو الأغنام، وهي مغذية، أيضا، لكل الحيوانات.
في حالة الجوعومن الممكن خلط العجينة بقليل من الماء وتؤكل عادي بدون تصفية.
وهي تشبع الجوعان، وتروي ظمأ العطشان في المزارع أو الغابات، أو في أي عمل شاق يصعب فيه حمل أنواع اخرى من الطعام، كما انها تعطى للاطفال ايضا.
14
ومن المشروبات الاخرى، غير المريسة، والتي يشربها الناس في جبال النوبة، عصير التبلدي (القنقليز)، وعصير الكركدي لان الكركدي من المحاصيل الاساسية التي تزرع في جبال النوبة، وهو يزرع في فواصل (تقانت في الشمال- المحرر) مزارع الفول، وهناك ايضا عصير الخروب، وشجرته منتشرة هناك، فياخذ الناس ثمرتها وتسحن ثم تشرب، وبعض الناس ياكلونها قبل ان تنضج، وهي ثمرة حلوة جدا، وهناك الحميض وهو يشبه الليمون، وشجرته صغيرة وتشبه شجرة الليمون، ايضا يؤكل او يعصر، وسمي الحميض لحموضته، ايضا هناك اللالوب (ثمرة الهجليج)، ايضا الناس يصنعون منه عصير، وهناك بعض اشجار اللالوب تنتج ثمرة حلوة جدا، فيتم فرزه ويغمر في الماء فيبتل لينتج عصيرا يشرب في العادة او تصنع منه عصيدة، وكيفية صنع هذه العصيدة تكون باضافة الدكوة (زبدة الفول السوداني- المحرر) والدقيق لعصير اللالوب، فتصير عصيدة شهية تسمى (ميتين اندروه)، وهي تقدم للضيوف المميزين او في المناسبات المهمة، ولا تجيد صنعها كل النساء: عصير اللالوب مضاف اليه الدكوة وقبضة سمسم، او الدكوة ومعها دقيق. وهناك ثمرة الدليب، وتعامل مثل اللالوب ولكنها تشبه المانجو واليافها كثيرة، بيد انها لا توجد في كل المناطق.
ولدينا من المشروبات انواع تصنع من الثمار الغابية، وهي كثيرة ومتنوعة، بعضها يعصر والآخر يبل في الماء ويشرب، وفي العادة يتناولها الاطفال الصغار كعلاج، فمثلا التبلدي لآلام البطن، وكثير من تلك الثمار يعالج امراضا مختلفة.
15
الأكلات الشعبية:
من الأكلات الشعبية والمهمة في جبال النوبة البليلة بانواعها، في مناطقنا تصنع البليلة من اللوبيا البيضاء تضاف إليها دكوة السمسم أو الفول، وأحيانا عيش الريف المجفف بعد غليه على النار. وأيضا اللوبيا بالقرع العسلي المجفف مع الدكوة. بالإضافة إلى بليلة المليين، أو عيش الزراعة (الكرقي)، بالدكوة او بدونها.
وللأطفال اللوبيا بالقرع والدكوة فقط دون إضافة عيش الريف.
والقرع العسلي وجبة دسمة خاصة للاطفال، بالدكوة او باللبن أو بعيش الريف، ولكن لا يتم طبخ القرع كملاح.
وأيضا من الوجبات الاساسية عندنا، وخاصة للضيافة، هي السمك المجفف، ويتم وضعه في الماء فوق النار بعد نزع شوكه، ثم تضاف اليه دكوة الفول او السمسم وتقدم ساخنة.
وهناك الموليتة، او الموليتة بالدكوة، والموليتة عشبة خريفية، وتقوم النساء بقطفها، وتنظيفها ومن ثم تقطيعها مثل السلطة، وتصاف اليها الدكوة، وتقدم للضيف أو كل الاسرة.
وأيضا هناك ملاح السمك (كجيك)، بالعصيدة.
وهناك ملاح الشرموط المجفف من لحم الصيد، سوى كانت الصيدة غزالة أو زرافة او نعامة او دجاجة وادي، ويصنع منها ملاح التقلية بالعصيدة.
وهناك وجبة خاصة للضيافة: عصير اللالوب مضاف إليه الدكوة والدقيق وتصبح عصيدة لها قوام، ويصب عليها عسل النحل الأصلي ثم تقدم للضيف، وتسمى (متينه منضره).
وتتبارى نساء النوبة في الأعياد واوان الاسبار في صنع اشكال والوان من الطعام والبلايل، لتقديمها في الضره (وهو المكان المخصص لجلوس الرجال في الحي).
أيضا هناك طبيخ السمك والدجاج، والسمك يتوفر في خيران جبال النوبة في فصل الخريف، فيأتي مع مياه تلك الخيران، فيخرج كل الناس للصيد، خاصة الاسماك اللاحمة والكبيرة، حيث يتم تقطيعها الى شرائح وتحفظ الى قدوم فصل الصيف.
ايضا هناك الدكوة بالعسل وهي غذاء شهي للشباب وخاصة المصارعين، ومعه شراب اللبن او الرائب، او عصيدة الدكوة باللبن الساخن أو الرائب.لا يهتم الناس بأكل الكسرة او الرهيفة، وفي اغلب الاحيان تصنع ملاح اللوبيا بالويكة او الدكوة بالويكة أو الخدرة (الخضرة) وكلها تؤكل بالعصيدة.
16
رقصة الكيسى:
وتكون دائما في الشتاء او في ديسمبر بعد انتهاء موسم حصاد الجباريك، وانتهاء رقصة البخسة، والناس يكونوا في انتظار حصاد العيش من المزارع الكبيرة (ومحاصيل الحواشات او المزارع الكبيرة يكون شتويا).
والكيسى رقصة جماعية، وتصطف النساء في صف والرجال في صف اخر متقابلين، ويتحركوا نحو بعضهم البعض: النساء نحو الرجال، والرجال نحو النساء وهن يغنين ويشجعهن الرجال، ويلبسوا الكشكوش، وفيها ايقاع عنيف ولكنه حلو وجميل.
ويختار الرجل امراة من صف النساء لترجع وترقص معه، واخر يختار بنت وهكذا.
فدائما في رقصة الكيسى، يكون وقت الناس فراغ، ليس عندهم ما يشغلهم، فيذهب الناس لجمع محصول اللوبيا، ومحصول اللوبيا يكون في الغالب مزروعا في الحواشات الكبيرة، او يذهبوا فيلتقطوا الويكة، والويكة عندنا تنبت في الخلاء لوحدها وليس هناك من يزرعها.
والجو يكون بارد جدا، وفي هذا البرد القارس يرقص الناس رقصة الكيسى، ويطبخون اللوبيا فيطعمونها.
ويتواصل الرقص حتى نضج المحاصيل، حينها يذهبون في النفير للحصاد.
17
الحصاد
في الزراعة البعيدة يزرع اهل الجبال محاصيل السمسم والذرة، وعندما تنضج هذه المحاصيل، يبتني المزارع راكوبة (كوخ)، ويرحل ليسكن في هذه الراكوبة داخل الحواشة ليكون قريبا من زراعته.
ويتم الحصاد بواسطة النفير (مجموعة من المتطوعين- المحرر)، فالمزارع يدعو اهل الحي لذلك النفير، ويجهز المرايس والعصائد والاطعمة الاخرى، فيذهب الناس اليه في الحواشة فيقطعوا معه العيش ويجمعوه في اكوام، ثم يختاروا مكانا فيبلطوه وفيه يدق العيش، بواسطة عصي مربوعة من اطرافها تسمى (فنقدي)، وتضرب قناديل الذرة بتلك العصي بطريقة معينة فلا تنكسر الحبوب، فقط (تحت) تنفصل عن القناديل.
والنساء تصطف بالقرب من العاملين وتغني لهم، والعاملون نفسهم يهزجون اثناء العمل باغاني الحصاد بطريقة جميلة وحماسية، والنساء يزغردن حتى اكتمال العمل بفصل كل حبوب الذرة عن تلك القناديل.
بعد ذلك تجمع القناديل الفارغة من الحبوب ثم تبدا عملية نظافة العيش، والنساء هن من يضرين (النظافة بالهز في الهواء- المحرر)، فينفضن منه الشرا ( العوالق في الذرة)، ثم تجمع الحبوب في جوالات حيث يرحل بواسطة (الريكة)، ليخزن في النهاية في (السويبة) المخصصة اصلا للعيش.
ودائما ما يكون هذا العمل جماعيا، ولا يتقاضى فيه احد اجرا، ولكن يمكن ان يهدي المزارع صابون، او زيت (للبنات)، تحفيزا للمشاركات والمشاركين، حسب الامكانات.
ولكن يكتفي المزارع العادي بتوفير الاكل والشراب كما سلف وصفه، والناس تكون فرحة وتغني وترجع في نهاية اليوم.
وفي كل يوم يستمر العمل في حواشة شخص اخر وهكذا الى نهاية موسم الحصاد، وذلك قبل ظهور الدقاقات والتركترات وعموما آلات الزراعة.
واي نشاط يتم عن طريق النفير وهو العمل الجماعي.
18
الأعياد:
عندنا، في جبال النوبة، أعياد كثيرة، تقريبا عيد لكل شيء.
فمثلا عندنا عيد الحصاد، عيد الاسبار (النقارة)، عيد القنيص (الصيد- المحرر) أيضا يسمى عيد.
وطبعا هناك الأعياد الخاصة بالمسلمين: عيدا الفطر المبارك وعيد الاضحى.
طبعا ليس هناك خبائز في عيد رمضان، ولكن يجهز الناس الفول المحمص، وبعض المأكولات الشهية ومنها: العصيدة وملاح اللوبيا أو ملاح الفول نفسه ويصنع منه ملاح جميل جدا، أو ملاح شرموط أو ملاح سمك، وهي الأطعمة التي تصنع صباح العيد.
ويخرج الناس إلى النقعة (الفسحة)، أو الأماكن التي اعتادوا أن يفطروا فيها الرجال بعد عودتهم من الصلاة.
والأطفال يلبسوا، في الماضي لم تكن هناك ملابس وإنما القرباب، ويتزينون بالسكسك.
والسكسك عندنا أعلى قيمة من الذهب، فلابد أن يحضره العريس مع الشيلة، وتكون كميته كبيرة فيغطي كامل جسد العروس من رأسها الى قدميها.
وفي العيد يزان الاطفال الصغار ايضا بالسكسك، ولكن بكمية أقل من الفتيات، فقط في أعناقهم وحجول (جمع حجل) في أرجلهم.
أما الفتيات فيلبسن كامل زينتهن وسكسكها، وحجلها، وتمسك بعصا مطرزة بالسكسك.
وغالبا ما يرقص الناس رقصة النقارة أو رقصة الكيسى، وهي كلها من ألعاب أو رقصات الأعياد.
عيد الضحية طبعا معروف، يذبح الناس الضأن ويفرحوا ويرقصوا.
اما المسيحيين فهم فهم قليلون في منطقتنا، ولكن عندنا أقدم كنيسة في السودان هناك وهي كنيسة منطقة كاتشا، وهم يذهبون الى الكنيسة حيث يمارسون فيها طقوسهم الاحتفالية.
19
خطف الفتيات
عندنا هناك عملية خطف الفتيات.
وتبدا القصة عندما تقارب عملية الزواج الاكتمال، ويكون المهر قد تم دفعه، وتم تجهيز البيت الجديد وتم تحضير الفتاة نفسها للزواج.
ويكون هناك بيت مخصص تنام فيه بنات الحلة ( الحي) كلهن مع بعض، ويقمن ويقعدن في شكل مجموعات، فتحزن العروس لأنها لا تريد مفارقة صاحباتها، فتتخفى، وتترك النوم معهن، فيجيء خطيبها ولا يجدها، ولهذا السبب يخطفها لأنها ترفض عملية الزواج وتريد أن تستمر برفقة الصاحبات ترقص وتلبس السكسك فيبدو لها أنها ستفقد هذه الميزات، ولذلك تتهرب من خطيبها، ومن أهل بيتها، ولا تنام في مكان معين لكي لا يجدها احد.
وعادة ما تتم عملية الخطف بالليل.
ثم يرجعها في تفس الليلة أو في اليوم التالي لبيت والدتها أو عمتها، ويحذرهم بألا تذهب خطيبته لبيت البنات مرة اخرى لأنهن يحرضنها.
20
الولادة
نتحدث عن الولادة في الزمن الماضي طبعا لأن الوضع الآن تغير مع المصنوعات والملابس وهكذا...
ففي ذلك الزمن، وهو زمن جميل جدا، كانت المرأة عندما توشك على الوضوع، يجهز لها الزوج غرفة خاصة فيها سرير يسمى (الدرنقل)، وفي العامية يسمى (سكديه)، وهو مصنوع من الخشب وبالتحديد من القنا، وينظف القنا حتى يصير املس جدا، ويربط بشرائح من جلد البقر في الاطراف وفي المنتصف، ويتم وضع السكديه فوق خشب مرصوص كبير الحجم.
بعد ذلك يذهب الزوج الى الخلاء ليحضر اللحاء الداخلي لشجرة الخروب، وهو خفيف ومرن، ويفندكوه (يدق في الفندك) بطريقة احترافية فتزيد مرونته، ويصبح صالحا لصنع حفاظات للنفساء، وهو يوقف النزيف ويقيها من الالتهابات.
أما الطفل فتجهز له فرشة من جلد الماعز لأن جلد الماعز يكون مرنا وليس به روائح عكس جلد الضان، فهو ذو رائحة وبه صوف كثير يتأذى منه الطفل، فيفضلون جلد الماعز وخصوصا أن ماعز جبال النوبة لها جلد ناعم جدا ومع ذلك يبطن، ويدق مع إضافة الزيت والملح إلى أن يصبح مرنا للغاية كفرشة الاسفنج تماما.
وفي حالة أن الأم ليس لديها لبن، تخصص للطفل معزة معينة، ويسقى من لبنها لأن لبن الماعز خفيف وأشبه بلبن الأم الطبيعي.
طبعا عندما يخرج الطفل من بطن أمه يجيء ومعه الحبل السري، وبعد قطعه يتم وضع الرماد حول الجزء المتبقى إلى أن يسقط، وما أن يسقط ينظف منه الرماد.
والرماد مادة حافظة تمنع الالتهابات.
بعد ذلك يوضع (التنقلو) بواسطة قشة في مكان الجرح.
والتنقلو عبارة عن حجر جيري أحمر، موجودة في اماكن معينة في الجبال، يحفر الناس الارض لاستخراجها واستخدامها في مداوة الجروح، وهي علاج شافي جدا.
ويحضر التنقلو في الصدف.
وتحضر صدفة كبيرة، تنظف جيدا، ويصب فيها زيت السمسم، ثم يضاف اليه التنقلو الذي تم تسخينه بغليه في النار، ثم يؤخذ بواسطة قشة ويوضع في مكان الجرح، إلى أن يطيب، وهو فعال إذ تلتئم الجروح في خمسة أو ستة أيام، وليس أكثر.
والتنقلو مادة جيدة جدا لعلاج الجروح.
وهذا تقريبا ما يخص المرأة والطفل في جبال النوبة.
21
ألعاب الأطفال:
لعب الاطفال عندنا في جبال النوبة يكون محصورا في لعبة الحالة (الصج أو أم الحفر في الشمال- المحرر)، ويجمع فيها الأطفال كمية من الحجارة، ويتحلقون في شكل دوائر، ويمسك الطفل بالمضراب فيقذفه إلى أعلى وقبل أن يقع المضراب يجب أن يخطف الطفل حصى ثم يمسك بالمضراب، وإذا وقع منه ذلك المضراب فهو خاسر، أما إذا نجح في أخذ آخر حصى فهو ربحان، ويحضر الأطفال حجارة أخرى للبدء من جديد، ويستمر اللعب ويضع الفائز حجارته في كوم، وعادةً ما يستطيع جمع كمية كبيرة من الحصى.
والأطفال هناك لا يلعبون الكرة، ولا يذهبون بعيدا، لأن الأطفال في عمر ستة أو سبعة سنين يكونون مسئولين عن اخوانهم الصغار في عمر سنة أو الرضع، لأن الأمهات يكن مشغولات وغالبا ما يذهبن إلى الزراعة أو يجلبن الحطب أو الماء (من مسافات بعيدة)، أو تكون الام في الجبراكة: تحس القش أو أي أعمال اخرى هناك.
ومعظم الأطفال يحملون معهم وجبة للصغار: مديدة أو ما شابهها.
أما لعبة الجي جي فهي مشتركة يلعبها الاطفال كما يلعبها أيضا الصبيان.
ولأن الجبال رسوبية، فإن سطحها يكون مغطى بالاشجار الظليلة، وهنا يجلس الأطفال والمسنون في حلقات كل على حدة، ولكن تأتى بعض الحبوبات لحلقات الأطفال وهم يلعبون، لتحجيهم وتحكي لهم بعض الحكايات الشعبية.
وتمرح بعض الحيوانات تحت هذه الظلال أيضا، وهناك مساحات واسعة فوق سطوح تلك الجبال تسع حتى الأبقار، ويتسلق البقر الجبال بمهارة تشبه مهارة متسلقي الجبال المحترفين من بني البشر، وعادةُ ما تتسلق في خط سير واحد وراء بعضها البعض، ويكون منظرها جميلا جدا.
أيضا الاغنام: الخراف والماعز، ومعروف طبعا أن أحجامها تكون صغيرة وجلودها ملساء ليس فيها صوف كثير، وتشبه أرجلها أرجل الغزلان، ويتقافزون ططق... طق!
وتصعد السخلان بسهولة إلى أعلى قمة في الجبل، والجبل نفسه يكون مسطحا، وتتسع قمته لأكثر من خمسة أو ستة بيوت، وهذا شيء جيد، لأن الجبال تتراءى وكانها قفارا لا يقطنها احد. ولكنك ما أن تصل إلى هناك حتى تجد ميدانا كبيرا لرقصة النقارة، وتجد أماكن للسبر، وتجد أشجارا ومساحات للعب الاطفال وبيوت، وكراكير.
فهي إذن ليست جبال جرداء بل فيها كل ما ذكر.
22
علاقة الإنسان بالطبيعة
في جبال النوبة يعتمد الإنسان على الطبيعة: الأرض، الجبال والسماء، وتنبع أهمية الأرض من الزراعة ومن معيشة الناس في الصيد والغابات وكذا.
ومع الرشاش عند بداية هطول المطر في أبريل من كل عام، وتنزل مرة أو مرتين يبدأ الناس في الاستعداد للموسم الجديد، فيبنون زرائب بفواصل من شوك السدر للجباريك، تكون فيها المساحات محددة، وكل شخص يعرف حدود أرضه.
وتسمى هذه الفواصل ب (دقني)، ولا يتعدى أحد على الدقني الخاص بشخص آخر، وتكون معلمة بالحجارة ايضا، ولا يحاول أحد تحريك حجارة جاره، لأنها موروثة ومتعارف عليها. فأي شخص يعرف الدقني الخاص بالجباريك والحواشات الكبيرة التي يزرع فيها السمسم والفول والذرة التابعة له.
للفول مكان خاص يسمى (اولوتو) وهو يقع مباشرة تحت الجبال.
وتعتمد الزراعة هناك اعتمادا كليا على الأمطار، ومعظم المساكن كانت فوق الجبال لتفادي السيول وأيضا خوفا من الحيوانات والحشرات، فأغلب البيوت كانت فوق الجبال وهي عبارة عن قطاطي الجزء الأسفل منها من (اللبن) أو الطين الأخضر، وفوق معروشة بالقش، ويصدف أن تكون عالية وتعادل ثالث طابق في العمارات الإسمنتية، يتسلق الناس الجبل إليه بطريق صاعد يشبه السلالم، وعندما تكون فيه ترى كل المساحات تحت الجبل.
ولا يوجد لدينا بحر في جبال النوبة، ولكن هناك الخيران، الخور الصغير اسمه (اري) وهو ساهل يمكن عبوره، والخور الكبير اسمه (اوتو) وهو يفيض في الخريف ويجلب ماء كثيرا، ولا يمكن عبوره إلا سباحة، والشباب يتعلمون فيه السباحة فعلا، وهذا الخور يجلب معه خيرات كثيرة جدا: الفئران، الجقر الكبير، الأسماك وبعضها يكون كبيرا جدا. منها البلطي والقرموط وأنواع اخرى، ويحدث هذا الفيضان في أغسطس، ويفرح الناس ولكنهم يحذرون الأطفال من الاقتراب من الاوتو لأن تياره قوي وهو يجرف أي شيء يقع في طريقه.
واوتو تعني بحر، ولكنه يجف في نهاية الخريف ويتحول إلى اري، أو يصير في شكل مجرى صغير، في فبراير بنهاية الخريف مباشرة.
وفي الجبال تزرع الجباريك وهي زراعة المدرجات، ودائما ما يزرع التبش واللوبيا الحلوة، عيش الريف، العيش الحلو وهو صالح للأكل كالتسالي وهو كالعنب، طعمه حلو جدا وفيه كمية كبيرة من اللبن، فعندما تمضغ حبة العيش الحلو يطلع لك لبن كالحليب فعلا، حلو جدا ولذلك يسمونه العيش الحلو، وهو ينتج عادة في الجباريك، ويكون هناك أنواع من التبش منها التبش أب شوك والتبش العادي، والبطيخ البلدي الأبيض ذا الحبة السوداء ويكون صغير الحجم، كما تزرع البامية أيضا.
وأنواع من الخضروات كلها تزرع في الخريف.
والقرع العسلي مهم لأنه يجفف ويتم أكله في الصيف، والصيف هناك جاف لا يهطل فيه المطر، ولا يجد الناس ما يأكلوه إلا ما جففوه من وقت الخريف.
والموليتة لا تنبت في الجباريك وإنما في المزارع والحواشات البعيدة.
كل هذا يأكله الناس هناك كوجبات أساسية في الخريف.
23
بيوت النوبة:
يتكون البيت في جبال النوبة من ستة أو سبعة غرف تقريبا، الغرفة الأولى للأم والثانية للفتيات، والثالثة ديوان فيه مقعدان (درنقل) ويكون في مدخل البيت، ويصلح لاستقبال الضيوف ثم بعدها يدخلون إلى الداخل، الغرفة الرابعة تكون سويبة فيها سويبتين واحدة للعيش والأخرى للمحاصيل الزراعية، أما الغرفة الخامسة فتكون المطبخ، الغرفة السادسة تكون للسخلان (صغار الماعز)، وغرفة أخرى للدجاج.
غرفة المطبخ فيها قسمين: قسم توضع فيه المحاصيل الجافة وتسمى التيراب وهي الحبوب الجيدة الصالحة للزراعة من عيش الريف والذرة الحلوة والفول، ويتم ربطهم مع بعضهم البعض ويحفظونها بقناديلها أو قشورها لحين موسم الخريف، وهناك قرعات صغيرة لحفظ حبوب التبش وبذور الفول الجيد وحب القرع الجيد، وتضع معهما المحراكة، وهناك محراكتين واحدة لطحن الذرة والدقيق والثانية للدكوة وهي التي يعجن فيها السمسم والفول، وتكونان منفصلتين، ولكنهما في نفس المطبخ.
أما المطبخ الثاني فهو للطبيخ وتحضير الطعام، وفيه الأزيار لحفظ وتبريد الماء وتسمى (نادو فلا) و (سورملي) وهي الحلة (الوعاء) الكبيرة وهي مخصصة للعصيدة وأخرى للملاح.
وللماء تخصص قرعة كبيرة للرجال تسمى (تابا) وتوضع نظيفة ومعها كأس صغير ولا يمسه أحد إلا رجل البيت أو الضيوف، وهناك بخسة مخصصة للمديدة أو المريسة.
وفي المطبخ توجد أرفف تجفف فيها كل هذه الاشياء وأيضا الأطباق. وتخصص قرعة كبيرة لرجل البيت، وأخرى للشباب.
ولرجل البيت مساعدين في الرعي من سن 12 واقل يرعون البهائم، ومن سن 18 فما فوق لرعي الأبقار، يسكنون معه في البيت ولهم أطباقهم وقرعاتهم وكؤوسهم، عندما يعودون من السرحة يكون كل واحد فيهم عارف الأواني التي تخصه، ولا يستخدم أواني غيره للعصيدة أو الملاح أو الشرب، وكذلك الفتيات.
ويهتم النوبة بأن يأكل الرجال مع بعض والشباب مع أقرانهم وكذلك النساء والشابات، وهو نوع من الترابط الأسري والكرم المحمود.
ولو ذهب أحد إلى بيت خالته أو عمته فيسمح له الاكل في اواني الشباب إن كان شابا أو أواني الشابات إن كانت شابة، ولا يسأله أحد أو يلومه، لأنهم يعتبرون أسرة لك ولا تثريب عليك إن أكلت عندهم ما يطيب لك.
أيضا إن احتجت لتيراب فيمكنك أن تاخذ من تيرابهم أو تيراب الجيران، ويسمى التيراب (تويو)؟ و(تويوميمقلي) تعني تيراب العيش، و(تويوموتقورو) تعني تيراب العيش الملبن الكبير، و(تويومديكة) تيراب التبش، و(تويوميمرقيه) تيراب السمسم و(تويومووكبوه) تيراب الفول... وهكذا.
وكل أنواع التيرتب تكون محفوظة في بخس صغيرة مغطاة بعيدا عن الفئران والحشرات وهي لا تعفن ولا يدخلها الدود.
ويكون البيت في شكل دائرة، والسويبات عبارة عن غرف صغيرة عميقة وعالية وتكون فيها فتحة فوقانية ومن الداخل يوضع سلم للدخول والخروج من السويبة، لتناول المحاصيل المحفوظة فيها.
ولا يدخل السويبة أي شخص، فقط رجل البيت أو من يستعين بهم من الأولاد. ويستحيل على النساء أو الشابات دخول السويبة.
تضاف إلى الغرف الراكوبة، وفيها تجفف المحاصيل الزراعية، مثل الفول والسمسم والويكة، وباقي العصيدة أيضا يجفف ويبل للاستخدام مرة اخرى.
والراكوبة مكان مريح للمقيل وشراب الجبنة، وتكون الراكوبة عادة قريبة من المطبخ حيث الطعام والماء.
وأيضا تحفظ أواني المياه في ازيار تجلب بها المياه من الآبار تسمى (توفلا)، وهناك الزير الثابت داخل البيت، وأحيانا تستخدم البخسة الكبيرة في جلب الماء وبعضها يسع عدة جوالين، وتغطى فوهة الزير بقطعة من القرع، والفوهة نفسها تكون صغيرة، وتوضع قرعات صغيرة فوق الزير يعبئ بها الناس الماء من الزير، بعضها يكون معلق فوق ونظيف.
ويكون هناك زير معروف مخصص للأطفال، ويكون منخفضا والثاني يكون عاليا للناس الكبار، يشرب أحدهم ويعلق القرعة، لأن الناس هناك يهتمون بالنظافة اهتماما غير عادي، فهم لا يريدون للأواني أن تتسخ أو يعبث بها الأطفال.
ويصنع الناس أليافا من أنواع معينة من الشجر أو حنقوق عيش الريف الجاف، يستخدمونها في غسل ونظافة الأزيار، ويعلق الليف في مكان عال حتى لا يقع على الارض، ولا يلمسونه إلا في يوم غسيل الزير.
بالنسبة للدجاج، فيضعون له الماء في زير مكسور (قحف)، وهو مخصص للدجاج كما للسخلان أيضا وتكون تلك الحيوانات الصغيرة داخل البيت خوفا عليها من الثعالب والثعابين الكبيرة، لكن البهائم الكبيرة تخصص لها زرائب خارج البيت.
amsidahmed@outlook.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی جبال النوبة عبارة عن بعد ذلک فی مکان فی شکل
إقرأ أيضاً:
في جبال الألب.. اكتشاف عالم بيئي متكامل عمره 280 مليون عام (صور)
اكتشفت امرأة كانت تتجول في جبال الألب الإيطالية جزءا من نظام بيئي عمره 280 مليون عام، يحتوي على آثار أقدام وأحافير نباتية وحتى بصمات قطرات المطر حسبما ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وكانت كلوديا ستيفنسن تسير خلف زوجها في منتزه جبال فالتيلينا أوروب في لومباردي في عام 2023 عندما خطت على صخرة تشبه لوحا من الأسمنت.
وقالت ستيفنسن للصحيفة: "لاحظت بعد ذلك هذه التصاميم الدائرية الغريبة ذات الخطوط المتموجة ألقيت نظرة فاحصة وأدركت أنها آثار أقدام".
وحلل العلماء الصخرة ووجدوا أن آثار الأقدام تنتمي إلى زواحف ما قبل التاريخ، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت هناك أدلة أخرى بخلاف "الصخرة صفر" (بمعنى صخرة البداية أو الصخرة التي تم اكتشاف الآثار عليها لأول مرة) التي تحدثت عنها ستيفنسن، مختبئة في هذه المرتفعات الألبية.
وزار الخبراء الموقع بعد ذلك عدة مرات ووجدوا أدلة على وجود نظام بيئي كامل يعود تاريخه إلى فترة العصر البرمي (منذ 299 مليون إلى 252 مليون سنة مضت).
وتميز العصر البرمي بمناخ سريع الاحترار وبلغ ذروته في حدث انقراض يُعرف باسم "الموت العظيم"، والذي قضى على 90% من أنواع الحياة الأرض.
وتتكون آثار هذا النظام البيئي من آثار أقدام متحجرة للزواحف والبرمائيات والحشرات والمفصليات التي غالبا ما تتجمع لتشكل "مسارات" (بمعنى الآثار المتتالية)، وفقا لورقة بحثية.
وإلى جانب هذه "المسارات"، وجد العلماء آثارا قديمة لبذور وأوراق وسيقان النباتات، بالإضافة إلى بصمات قطرات المطر وأمواج المياه التي لامست شواطئ بحيرة ما قبل التاريخ.
وعثر على دليل على هذا النظام البيئي القديم على ارتفاع يصل إلى 3 آلاف متر (9850 قدما) في الجبال، وأسفل في قاع الأودية، حيث أدت الانهيارات الأرضية إلى ترسب صخور تحمل حفريات على مر العصور.
يعود الفضل في الحفاظ المدهش لهذا النظام البيئي إلى قربه السابق من المياه.
ويوضح أوسونيو رونشي، عالم الحفريات بجامعة بافيا في إيطاليا، الذي فحص الحفريات، في البيان: "لقد تم صنع آثار الأقدام عندما كانت هذه الأحجار الرملية والطينية ما تزال رملا وطينا مشبعة بالمياه على حواف الأنهار والبحيرات، والتي كانت تجف بشكل دوري، وفقا للمواسم. وقد أدت شمس الصيف إلى تجفيف تلك الأسطح، ما أدى إلى تصلبها لدرجة أن عودة المياه الجديدة لم تمحو آثار الأقدام، بل على العكس من ذلك، غطتها بطين جديد، ما شكل طبقة واقية".
ووفقا للبيان، حافظت الحبيبات الدقيقة لهذا الرمل والطين على أدق التفاصيل، بما في ذلك علامات المخالب والأنماط التي خلفتها بطون الحيوانات أثناء حركتها.
وقال العلماء إن الآثار تأتي من خمسة أنواع مختلفة من الحيوانات على الأقل، بعضها ربما وصل إلى حجم تنانين كومودو الحديثة (Varanus komodoensis)، حيث بلغ طولها ما بين 2 إلى 3 أمتار (6.5 و10 أقدام).
وقال كريستيانو دال ساسو، عالم الحفريات الفقارية في متحف التاريخ الطبيعي في ميلانو، والذي كان أول خبير يتم الاتصال به بشأن الاكتشاف، في بيان: "في ذلك الوقت، لم تكن الديناصورات موجودة بعد، ولكن الحيوانات المسؤولة عن أكبر آثار الأقدام التي وجدت هنا لا بد أنها كانت ذات حجم كبير".