«كليلة ودمنة».. طبعة تاريخية من «كتاب العالَم»
تاريخ النشر: 30th, April 2024 GMT
إيهاب الملاح
أخبار ذات صلة تقديم الطبعة العربية من كتاب الرئيس الصيني «مبادرة الحزام والطريق» في «أبوظبي للكتاب» إطلاق برنامج مصر «ضيف الشرف» في معرض «أبوظبي الدولي للكتاب» معرض أبوظبي الدولي للكتاب تابع التغطية كاملةواحدة من المفاجآت السعيدة التي أعلن عنها معرض أبوظبي للكتاب، في دورته الثالثة والثلاثين خلال الفترة من 29 أبريل الجاري إلى 5 مايو 2024، اختيار كتاب «كليلة ودمنة» لعبد الله بن المقفع، كتابَ المعرض المحتفى به، بوصفه أحد أبرز الكتب في التراث الإنساني التي أثرت في مسيرة الثقافة والأدب في التاريخ.
1
وقد أسعدني الحظ بالمشاركة في إحدى الجلسات أمس التي ترأسها الإعلامي «حسن الشاذلي» تحت عنوان (كتاب «كليلة ودمنة» من المخطوطات إلى القراءات الحديثة)، بحضور كلّ من د. محمد سليمان رئيس قطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية، والمؤلفة والباحثة شهرزاد العربي. وأشير هنا إلى أهم المحاور وأكثرها جاذبية وإثارة، وهو الجانب الفني الذي ارتبط بـ «كليلة ودمنة» وإثارته للمخيلة المبدعة في رسم عشرات اللوحات المستلهمة من قصصه وحكاياته قديماً وحديثاً، فضلاً على إخراج نسخة «محققة»، مُقابلة على ما وصلنا من مخطوطات الكتاب عبر القرون، والمقارنة بينها والمضاهاة بين نصوصها، وصولاً إلى النسخة الأكثر اكتمالاً وتماماً من هذا الأثر الإنساني الجليل.
ومن هنا تأتي قيمة هذه الطبعة «التاريخية» الممتازة التي أخرجتها دار المعارف المصرية في مطالع أربعينيات القرن الماضي، بمناسبة الاحتفال بخمسينية الدار العريقة. وبحسب النص الذي سجله المرحوم شفيق متري مدير الدار آنذاك، فقد «صدر عن الدار طبعة محققة فاخرة من كتاب «كليلة ودمنة»، وثَّق مصادرها، وحقَّق نصها الدكتور عبد الوهاب عزام، وقدَّمها إلى القراء الدكتور طه حسين تقديماً هو دراسة قيمة تُقرأ لذاتها».
فما سياق ظهور هذه الطبعة؟ ولماذا توصف بـ «التاريخية» وبأنها «الطبعة الأتم والأكمل» بين الطبعات التي لا حصر لها ولا عدد من طبعات «كليلة ودمنة»؟
2
كان شفيق متري صاحب مطبعة المعارف المصرية ومكتبتها (التي أصبح اسمها رسمياً دار المعارف بعد تأميمها عام 1963)، قد نظَّم حفلاً باهراً في منتصف العام 1941، بمناسبة العيد الذهبي لتأسيس المطبعة ومكتبتها (أي مرور خمسين عاماً على تأسيسها عام 1941)، دعا إليه لفيفاً من الوزراء والأدباء والمفكرين. وتفيدنا المصادر التاريخية بأن هذا الحفل كان من أيام دار المعارف المشهودة مع الدكتور العميد، إذ أعلن خلال ذلك الاحتفال عن صدور طبعة فخمة ممتازة من الكتاب التراثي الشهير «كليلة ودمنة» تهديها (دار المعارف) إلى قرائها في مصر والعالم العربي كله.
وقد توفر لهذه الطبعة ما لم يتوفر لطبعةٍ أخرى قبلها (وأظن أنه لم يتوفر لطبعةٍ أخرى بعدها)، متناً وإخراجاً فنياً، إذ تعاقدت الدار مع واحد من أشهر الرسامين المعروفين في العالم آنذاك، وهو رومان ستريكالفسكي، لرسم ثلاث عشرة لوحة مخصوصة للكتاب تم توزيعها كفواصل بين فصول الكتاب وحكاياته، وتأطير صفحاته رسما، بالإضافة إلى تصميم غلافه ورسم لوحة أخرى خصيصاً له.
أما النص ذاته، فقد عكف على إخراجه وتحقيقه والمقارنة بين نسخ مخطوطاته عميد الدراسات الشرقية في وقته، الدكتور عبد الوهاب عزام، يشاركه التقديم بين يدي هذه الطبعة الدكتور طه حسين.
3
وقد لخص الدكتور طه حسين في مقدمته القيمة الإنسانية الكبرى للكتاب، باعتباره أثراً من آثار الإنسانية الخالدة تجمعت فيه عبر العصور خلاصات الحكمة والتهذيب والنقل والتعريب، إلى أن استقرت في صورتها العربية المكتملة التي قدر لها أن تكون هي الأصل الذي تنتقل منه بعد ذلك من بيئة إلى بيئة ومن شعب إلى شعب ومن أمة إلى أمة حتى جعلتها «جزءاً من التراث الإنساني الخالد».
ثم يضيف إلى ما سبق من مزايا هذه الطبعة (طبعة دار المعارف 1941) مزية أخرى تتلخص في أنها تقدِّم رمزاً آخر صادقاً دقيقاً لمعنى آخر سامٍ جليل، نحبه أشد الحب ونطمح إليه أشد الطموح، وهو هذا التعاون المنتج بين قديمنا العربي القيم، ونشاطنا العصري الخصب.
هذا الجهد الذي أنفقه ابن المقفع في نقل «كليلة ودمنة» إلى العربية، وهذه الجهود التي أنفقها المسلمون بعده في درس الكتاب وتصحيحه وتنقيحه، والاستفادة منه والانتفاع به، لم تذهب سدى، بل لم تنقطع، ولم تقف عند حد محتوم، ولكنها اتصلت بين الأجيال يضيف إليها كل جيل ما قصّرت عنه الأجيال الأخرى، حتى وصلت إلينا، فلم نعرض عنها ولم نزهد فيها ولم نأخذها كما هي في قناعة وكسل وفتور، وإنما أقبلنا عليها مشغوفين بها، راغبين فيها، وأخذنا نضيف إليها ما عندنا كما أضاف إليها الذين سبقونا ما كان عندهم.
ثم يقارن الدكتور طه حسين بين فضل طبعة دار المعارف هذه - في تمامها واعتمادها على أقدم النسخ وأصحها - والطبعات السابقة عليها، دون أن يبخس حقها، وهو يشدد على أن الجهد القيم الذي بذله الدكتور عبد الوهاب عزام لم يقف عند الحد الذي وصل إليه الأب لويس شيخو صاحب الطبعة التي أخرج فيها للناس أقدم نسخة ظفر بها من مخطوطات كليلة ودمنة، (ويثني الدكتور طه على جهوده ويحمدها، ويصفها بأنها جهود مشكورة)، لكنه يزيد على ذلك قائلاً: «ولكن زميلي الدكتور عبد الوهاب عزام يضيف إليه (أي إلى جهد الأب لويس شيخو) جهداً جديداً قيماً فينشر نسخة جديدة أقدم من نسخة الأب شيخو بأكثر من قرن من الزمان، ويمكن التاريخ الأدبي والنقد الأدبي من أن يعيدا نظرهما في هذا النص القديم، ويستخلصا منه نتائج جديدة لها قيمتها وخطرها، ومن المحقق أن هذا الجهد الذي بذله الدكتور عبد الوهاب عزام لن يقف عند هذا الحد ولن ينتهي إلى هذه الغاية.
فقد كان يريد، وكانت مطبعة المعارف ومكتبتها تريد معه، جمع أكثر عدد ممكن من النسخ المخطوطة لهذا الكتاب ومعارضتها والموازنة بينها واستخراج أصح نص ممكن من هذه المعارضة والموازنة، فحالة الحرب بينهما وبين ما كان يريدان، ولكنها لم تمنعهما من أن يقدما إلى الناس أقدم نص لهذا الكتاب عرف إلى الآن».
4
ولا يمكن أن نختتم الحديث عن هذه الطبعة بكل ما توافر لها من عناصر التميز والفرادة، متناً وإخراجاً، دون أن نشير إلى المقدمة الرصينة القيمة للدكتور عبد الوهاب عزام الذي استقصى جهده في الإحاطة بنسخ ومخطوطات كليلة ودمنة وقدم لها وصفاً تفصيلياً مقارناً بينها، ومشيراً إلى الفروقات والتفاوتات بينها، وصولاً إلى إعداد النسخة الأحدث التي تجمع بين مزايا كل هذه النسخ وتثبت الفروق بينها.
ولا يكتفي المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام بهذا الجهد «الفيلولوجي» العظيم، لكنه يضيف إلى ذلك دراسة عميقة للكتاب، وأصوله وتراجمه، وأثره في التراث الإنساني لا غنى عنها لأي دارس أو باحث مهتم بهذا الأثر، فضلاً على القارئ الشغوف المتطلع لمزيد من المعرفة والدراية بكليلة ودمنة..
ورغم أن هذه الدراسة قد مضى عليها حتى وقتنا هذا ثلاثة وثمانون عاماً كاملة، فإنها ما زالت تحتفظ بقيمتها كأساسٍ للدراسات والكتب التي عرضت لهذا الأثر النفيس في العقود التالية.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: معرض أبوظبي الدولي للكتاب معرض أبوظبي للكتاب الإمارات كليلة ودمنة التراث الإنسانی الدکتور طه حسین دار المعارف کلیلة ودمنة هذه الطبعة
إقرأ أيضاً:
الحلقة الاولى من كتاب ( عدسات على الطريق)
بقلم : حسين الذكر ..
تجاوزت الساعة حدودها المقررة ، والشمس على عجل تجري نحو الغروب . الباص لم يصل بعد ، والمحطة بدأت تختنق بزحام مختلف شرائح أبناء الشعب ممن تجمعهم الضرورة كل يوم تقريبا حتى تآلفت وجوه بعضهم . وفيما تغلغل اليأس بقلوب المتجمعين ، تصاعدت وتيرة الهمس والشك والتسائل ،حتى سادت الفوضى وتفجر الموقف ، سباباً وتهكماً داخلياً مع إفرازات مشوبة بأنواع الغضب النفسي ،الذي لاتسمح الظروف العامة باطلاق آهاته صراحة . في هذه الأثناء وصلت سيارة صغيرة من نوع قديم وبدن متآكل وشكل هرم تتصاعد من فتحاته المتعددة أعمدة الدخان وتسيل منها بقع الزيت ، دالة على عمرها الطويل في الخدمة .. ترجل منها رجل عجوز تجاوز سن التقاعد ، يرتدي بدلة عمل قذرة جداً وعلى رأسه قبعة ، يتصبب منه العرق ، ويحمل بيديه قلماً ودفتراً، وتتصاعد من فمه كتل دخان السكائر ،كانها كورة قير محترق ،لاتفرق بينه وبين سيارته ولاتعلم أيهما أقدم خدمة في مصلحة نقل الركاب. ما أن لحظوه ، حتى هرولوا نحوه وأحاطوه ثم أغروقوه بكم هائل من الاسئلة المتشنجة والمتوترة .كما حاول البعض أن يصب جام غضبه عليه ،عادين إياه رمزاً وظيفياً بسيطاً يمكن ملاسنته بقوة وبصورة أخف خطراً من بقية المسؤولين .
ــ أين حافلات نقل الركاب ؟ومن المسؤول عن تأخرها ؟
ــ إنكم تتلاعبون بسير الخطوط لمصلحتكم الخاصة ومنافعكم الشخصية !
ــ سنبلغ عنكم أعلى السلطات !
ــ إحترموا الناس ، يا أخي ، فلنا عوائل وقد أقلقوا علينا الآن !
ــ حركوا أنفسكم ، إنشغلوا قليلاً بخدمة المواطن ، أين اجراءاتكم التي تدعون !؟والكثير من هذه الاسئلة التي لايخلو بعضها من الخشونة الواضحة والاساءة المتعمدة .
بعدما ضاق الرجل بهم ذرعاً ، رمى بنفسه ، خارج حدود الجمهرة .ونادى بأعلى صوته : ياسادة إرحموني وآرحمو انفسكم ! إنني أقدر معاناتكم ،وآعلموا أن ماحصل ، لم يكن في الحسبان ، وخارج نطاق السيطرة ، وانتم تعلمون ، بأن على هذا الخط تعمل حافلتان فقط – بسبب الحصار الظالم – ويقودها أمهر وأخلص سواقنا العاملين بجد واخلاص بلا كلل أو ملل ، إلا أن احداهن تعرضت لحادث سير مفاجيء مما اضطرنا إدخال الحافلة الى ورشة التصليح ، اما الاخرى ، فقد كلفت من قبل الجهات العاليا بواجب رسمي ، مدة يوم واحد فقط ،وسنتجاوز ماحصل ، بأسرع وقت ، وقد جئتكم معبراً عن أسفي وأسف السادة المسؤولين ، فتدبروا أمركم هذا اليوم .
بعد طول انتظار ، والصبر على ما لايطيقون ، أُبلغوا، بما لايسر ، وبدأوا ينسلون من المحطة تباعا ، وهم ينظرون اليه شزراً ، كما تمتم بعضهم بكلمات غير مفهومة ، إلا إنها بكل تاكيد غير مستحسنة ، إذ انهم ، لم يقتنعوا ، بهذه التبريرات التي سمعوها وسمعوها مراراًرمن قبل . فتحرك الجمع الغاضب وتفرق الحشد المتشنج ، كل بطريقته الخاصة ، البعض استأجر باص اجرة خاص ، وآخرون بحثوا عن خط قريب من مناطقهم ، فيما آنصرف الاخرون لجهات مختلفة ، حتى بدت المحطة بعد قليل ، خالية شبه مهجورة ، وبدأ الظلام يغزوها رويداً رويدا .