طاهر عمر

للنخب السودانية مكنزمات دفاع لا تقل في وصفها بأن تجعل من المثقف السوداني كالسلحفاة بدرقتها تستطيع أن تحمي نفسها بالإنكفاء على نفسها
و الإنكفاء على النفس له إنعكاسات سلبية كبيرة على أقل تقدير تمنع الإنفتاح على أفق تطور البشرية و الإستفادة من ظاهرة المجتمع البشري في مجابهته للمصاعب التي تواجهه و كيفية تنظيم إجزاءه الى أن وصل لمفاهيم تكاد تكون مشتركة يجابه بها ظاهرة مجتمع بشري في أي مكان و أي زمان و بالتالي أصبحت معادلة الحرية و العدالة هي إيقاع ينظم صراع الفرد مع مجتمعه و عليه تكون مسيرتها بحث عن نقطة التوازن.


إنكفاء النخب السودانية على أنفسهم يتجسد في إرتكازهم على نقاط ضعف إلا أنها أقرب للعقل الجمعي الكاسد و نسبة لغياب الشخصيات التاريخية و هي التي تتحدى تاريخ الخوف و تفتح باب تاريخ الذهنيات و تستطيع أن تحدث قطيعة مع التراث مثلما حدث نتيجة لفكرة الإصلاح الديني و لذلك يعتبر مارتن لوثر شخصية تاريخية. طريقة تفكيره جعلته يفارق مزاج مجتمع تقليدي و يفتح طريق جديد و يؤسس للقطيعة مع التراث و لحسن حظه أي مارتن لوثر كانت رغبة البرجوازية الصغيرة في زمنه صادفت بأنها تريد أن تنفك من التراث القديم و هذا ما جعل مسيرة الإصلاح الديني في زمن مارتن لوثر يبداء مسيرته الى أن وصل الى التحول في المفاهيم فيما يتعلق اليوم بفكرة الدولة و فكرة ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
و حتى نربط ما ذكرته أي التطور الذي حدث منذ الإصلاح الديني و كيف بذر بذور النزعة الإنسانية أي ثقة الإنسان في مقدرات عقله البشري و الإبتعاد عن فكرة دولة الإرادة الإلهية و هنا نقطة ضعف النخب السودانية و في نفس الوقت مهارتها في الإحتفاظ بنقطة الضعف هذه أي أن النخب السودانية بمجرد أن تطلب منها أن تنزع نزعة إنسانية نتج عنها مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و مجابهته للمشكل الذي يواجه الإنسان في ظاهرة المجتمع البشري وفقا لقدرته كعقل بشري سرعان ما تتجه بكل نشاط و سرعة و أقصد النخب السودانية الى درعها أي درقة السلحفاة لا لكي تحارب بل لكي تنكفي على نفسها متعللة بأن تاريخ أوروبا تاريخ خاص بها و لا ينطبق على تاريخنا الخاص بنا متناسين أن تاريخ أوروبا قد أصبح مختصر تاريخ الإنسانية أي قد أصبح ممر إلزامي و ها هي الصين تلحق بتاريخ أوروبا و يستوعب رئيسها عام 1978 بأن نمط الإنتاج الرأسمالي هو أسرع إنقاذ لحالة الصين.
و يقال أنه في شبابه كان من ضمن وفد قد ذهب الى فرنسا و عندما سأله والده عشية مغادرته الى فرنسا ماذا تريد من ذهابك لفرنسا فكانت إجابته لكي نتعلم الحكمة و المعرفة من أجل إنقاذ الصين و قبله فعلت النمور الأسيوية مستفيدة من فكرة الإقتصاد و المجتمع المستفادة من تطور الفكر الاوروبي. إنكفاء النخب السودانية على نفسها جعلها متأخرة فكريا بنصف قرن من الزمن و بالتالي عجز ميزان فكر النخب السودانية ظاهر في أنها قد أصبحت لاحقة للأحداث خلال القرن الأخير.
عندما نقول نخب سودانية لاحقة للأحداث خلال قرن يمكن أن نقول قد بداء مع ضعف إدراك النخب السودانية بسبب منهج ضعيف نالوا عبره تعليم يؤهلهم لوظائف دنيا أيام الإستعمار و لم يؤهلهم لتحليل ظاهرة المجتمع البشري كما نجده في فكر ماكس فيبر و فكرة عقلانية الرأسمالية و دوره في توازن المجتمع عبر الإقتصاد و فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و عليه تصبح فكرة الدولة و مواثيق حقوق الإنسان نهاية واضحة للفكر الديني و هذا ما عجز عن إدراكه عقل النخب السودانية خلال القرن الأخير أي قبل قيام مؤتمر الخريجيين بأكثر من عقد من الزمن.
في حقبة مؤتمر الخريجيين لم تكن النخب السودانية أحسن حال فكري مما سبقهم لأنهم أيضا كانوا لاحقيين للأحداث. مثلا لم يدرك أتباع مؤتمر الخريجيين بأن حقبتهم كانت لحظة إضطراب فكري و أرجحة بين نهاية ليبرالية تقليدية و بداية ليبرالية حديثة إحتاجت الى فلسفة تاريخ حديثة ما زالت حلقة مفقودة في الفكر السوداني الى اليوم مثل الحلقة المفقودة لدارون و هذه الحلقة المفقودة وسط الفكر السوداني تظهر في تخبط النخب السودانية في كتاباتهم و ضعفها على صعيدي الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية. نلمسه في إعتقاد أغلب النخب السودانية في الإشتراكية حتى غير أتباع اليسار السوداني و هذا سببه ضعفهم في إدراك فلسفة التاريخ الحديثة و معادلة الحرية و العدالة و فيها قد أصبح الفكر الليبرالي الديمقراطي أقرب الطرق لإزدهار المجتمعات الحديثة إقتصاديا و أقربها الى توسيع الطبقة الوسطى و توسيع دائرة الإزدهار المادي.
و لكن على العكس نجد أن أغلب النخب السودانية أقرب الى تصديق فكرة نهاية التاريخ و نهاية الصراع الطبقي كفكرة لاهوتية سببها أن العقل السوداني لا يعرف غير مرتع الفكر اللاهوتي الديني و بالتالي أقرب لتصديق الفكر المطلق سواء في الفكر الديني الإسلامي أو في فكر الشيوعية كدين بشري و أبعد عن إدراك النسبي و العقلاني و بالتالي نجد الفكر السوداني مطمئن للوثوقيات و الحتميات و محاط بالخوف من النقد و الشك و هذا يجعل أغلب النخب السودانية ترجع الى درقة السلحفاة و بأننا لنا تاريخنا الخاص بنا و لا يستوعب المثقف التقليدي السوداني لماذا إستوعبت الصين أهمية نمط الإنتاج الرأسمالي و لقّحت به إقتصادها و فتح على إزدهار الصين الإقتصادي الآن.
بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين قامت الأحزاب السودانية من أقصاء يسارها الرث الى أقصى يمينها الغائص في وحل الفكر الديني و أيضا كانت لاحقة للأحداث. قيام الأحزاب السودانية تزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية و أغلب أتباعها أي أتباع المرشد و الامام و الختم في سياجاتهم الدوغمائية و هي أبعد ما تكون عن مفهوم الدولة كمفهوم حديث علاقة الفرد فيها بالدولة مباشرة و منتصرة للعقل و الفرد و الحرية و الفرد فيها متوشح بفكر عقل الأنوار و لا يرضى أن يفكر بدلا عنه الامام و لا يفكر بدلا عنه المرشد أو الختم و كذلك لا تفكر بدلا عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي و لهذا الى اللحظة نجد أحزابنا السودانية لاحقة للاحداث و لم تستوعب التحول في المفاهيم بعد إنتشار أفكار فلسفة التاريخ الحديثة نتاج سؤال ما التنوير؟
في الإستقلال 1956 جاءت النخب السودانية بنفس عجز ميزان مدفوعاتها الفكري لكي تجابه ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة و ظهر عجز ميزان مدفوعاتها الفكري في أنها الى الآن يتحدثون عن دولة ما بعد الإستعمار بفكر نخب لم يشغلهم غير عقل الهووي الصاخب و بالتالي ساد فكر الهويات و غاب فكر الحريات الى اليوم في وقت في العالم المتقدم يعالج مشاكل مجتمع ما بعد الثورة الصناعية و ليس مجتمع ما بعد الإستعمار و به تعلل النخب السودانية ضعفها الفكري بأنها ضحية إقتصاد التبعية و كله تبرير للعجز و ترسيخ لعجز ريادات وطنية غير واعية.
و بالمناسبة من أكبر معوقات التنمية الإقتصادية و الإجتماعية سيطرة الريادات الوطنية غير الواعية على دفة الأمور و لا ينتج عنها إلا فكر يسد كل منافذ الخروج من الأزمات كطرح الحزب الشيوعي السوداني اليوم أي التغيير الجذري و حقيقة يوضح طرحهم أوهام المثقف التراجيدي كما تحدث عنه عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب بأن المثقف التراجيدي يطرح فكرة هو ذاته نفسه يدرك إستحالة إنزالها على أرض الواقع و من أراد التحقق عليه أن يتمعن في طرح الشيوعي السوداني و محاولة إعطاء نفسه الشرعية للقيادة بسبب سجون أتباعه او قتل قياداته في محاولاتهم الإنقلابية الفاشلة أو نزولهم تحت الأرض أو تشريدهم في المنافي.
المهم في الأمر الحرب العبثية الآن بين الجيش الكيزاني و صنيعته الدعم السريع كأداة موت و طرح الشيوعي السوداني التعجيزي في تغييره الجذري و لا مبالاته بعذابات السودانيين كلها مؤشرات تدل على أن المجتمع السوداني القديم و فكره في طريقه للإندثار و قد تطول معاناة الشعب السوداني أو تقصر أي قد تطول أزمنة الحرب أو تقصر و لكن كلها لا تفتح إلا على شئ واحد بعد المعناة و دفع الدم و العرق و الدموع أن لا حل غير عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و هذا يفتح باب نهاية وثوقيات و حتميات النخب السودانية في نومها العميق في سياجاتها الدوغمائية سواء كانت في يسار الفكر السوداني الرث أو يمينه الغارق في وحل الفكر الديني.
كما ذكرت في عنوان المقال أن النخب السودانية متأخرة بنصف قرن و نوضحه لك أيها القارئ عندما أيقنت الصين عام 1978 من نمط الإنتاج الرأسمالي و أدخلته لإنعاش إقتصادها كان العالم يعيش آخر خيوط أشعة ديناميكية الكينزية و كانت أفكار النيوليبرالية على الأبواب بسبب إنتخاب تاتشر و ريغان أما في العالم العربي و الإسلامي التقليدي فكان هناك إستعداد لإستقبال الخمينية و كانت الطامة الكبرى و لا تذكّر إلا بذكرى تأسيس جماعة الأخوان المسلميين عام 1929 أيام الكساد الإقتصادي العظيم و لك أن تتخيل كيف يفكر العالم المتقدم في التغيير الذي يفضي الى الإزدهار المادي؟ و العالم العربي و الإسلامي يفكر في دولة الإرادة الإلهية و ما بين قيام و تأسيس جماعة الأخوان المسلميين و الخمينية نصف قرن بالتمام و الكمال.
المضحك لو قارنا تأخر الشيوعي السوداني عن الصين في فهمها لأهمية نمط الإنتاج الرأسمالي و إصرار الشيوعي السوداني على شيوعية تقليدية لا يتبعها إلا شيوعيي العالم الثالث تجد من يقول لك أن الحزب الشيوعي السوداني حزب له تجربة سياسية و عليه يستحق أن يترك في إيمانه بنسخته المتكلسة لا لسبب إلا لأنه له تاريخ سياسي أفقده قياداته سواء بالقتل او النزول تحت الارض أو السجون أو تشريدهم في المنافي و نحن نقول لهم كانت الكنيسة حاكمة لأوروبا لالف عام هل تترك لترجع من جديد بحروبها الطائفية؟ لذلك لا يترك الحزب الشيوعي السوداني على هواه حتى لا يورطنا في شمولية بغيضة.
لذلك أن السجون و التشريد و النزول تحت الارض و القتل لقيادات الحزب الشيوعي السوداني لا تعطيه شرعية قيادة الشعب السوداني لأنه أي الحزب الشيوعي السوداني نائم نوم عميق في سياجاته الدوغمائية و كالسائر في نومه بتوهمه أنه قد دفع فاتورة التضحية و ما على الشعب إلا الإنصياع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني لتفكر بدلا عنه و يأتي السؤال ما الفرق بين تفكير اللجنة المركزية للحزب الشوعي السوداني بدلا عن الشعب و بين تفكير الفقية الولي بدلا عن الامة؟ و من هنا يجب الحذر من الاحزاب التي لا تنتج غير نظم شمولية و ما أبغض الشيوعية كنظام شمولي لا تقل بشاعته عن النازية و الفاشية و لمن يريد المزيد عن شمولية الشيوعية و النازية و الفاشية عليه بقراءة كتب حنا أرنت.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی النخب السودانیة الفکر السودانی بدلا عن ما بعد

إقرأ أيضاً:

الخطاب الديني: رؤية حضارية واستراتيجية.. مشاتل التغيير (16)

لو أردنا تحديد المقصود بالخطاب الديني فنيا وإجرائيا؛ فهو كل خطاب عامّ "صدر عن مصدر ديني فيما يتعلق بالحياة العامة وإصلاحها"، أو "صَدَرَ عن مصدر غير ديني لكن في موضوعات ذات تعلّق بالدين وتصوّره وتصور دوره في الحياة العامة المعاصرة"؛ أي أن الخطاب الديني هو -بالأساس- خطاب عام يميَّز عن سائر الخطابات إما بمصدره وإما بموضوعه ومتعلقاته.

ويتعلق بالتعريف الأولي تلك المحددات النظرية للخطاب ألا وهي؛ مخاطِب، ومخاطَب، ونص الخطاب، وسياق الخطاب. وفي نص الخطاب ثمة مرجعية، ومنهج، ومضمون. والمخاطِب أو منتج الخطاب -أيّا كان شخصه أو هيئته- يتحول في الدراسة العلمية إلى "حالة فكرية" معبرّة عن توجّهٍ -يضيق أو يتسع- يهمُّنا خطابُه (مرجعيته ومضمونه ومنهجيته) وسياقُه المفسِّر، وسياقه المتأثر بخطابه والمتفاعل معه، كما يهمنا خطابُه كرسالة اتصالية توجَّه إلى مخاطَب غالبا هو بين: عام (الجمهور)، أو خاص (فئة مؤيدة/ فئة معارضة). ورأسُ الأمر عندنا في ترتيب المسألة هو "القضايا/ الموضوعات"، ومحوره الناظم هو التطور عبر القرنين، وعماده بيانُ مستقطبات الخطاب الديني مرجعية ومنهاجا وسياقا.

ومن أهم المبادئ العامة لتجديد الخطاب:

أ- ضرورة التمييز بين النص التأسيس (القرآن والسُّنة الصحيحة)، والنصوص الأخرى المتولدة عنهما أو حولهما، وتتجلَّى أهمية هذا التمييز في اختلاف آليات تجديد كل من هذين النوعين من النصوص؛ فبينما يقتصر التجديد في النص التأسيس على إعادة التذكير به، وتثبيته، ودحض الشبهات التي تثور حوله، وتقديم شروحات جديدة له؛ فإن التجديد في بقية النصوص المتولدة عنه أو حوله يتسع إلى الأخذ منها والرد، والقبول والرفض، والاقتصار على معرفة العبرة، والدروس المستفادة التي كشفت عنها الممارسة الاجتماعية عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، دون التقيد بهذه الممارسة أو تلك، ناهيك عن السعي لإعادة إنتاجها في الواقع الراهن مرة أخرى.

ب- المحافظة على ثوابت الخطاب الديني وأصوله، مع استيعاب متغيرات الواقع ومستجداته؛ بحيث يصبح الخطاب الجديد مواكبا لروح العصر، ورافدا من روافد الإصلاح والنهضة. وهذا يقتضي التمكن من معرفة الواقع وتحدياته بقدر التمكن من النصوص التأسيسية، ومعرفة أحكامها ودلالاتها، وطرائق فهمها، وتنزيلها على الواقع المعيش.

ج- تنقية التراث من الأفكار السلبية، والممارسات التي تناقض تعاليم الدين وأحكامه ومبادئه؛ ذلك لأن القضاء على هذه الرواسب أمر ضروري لتهيئة البيئة المناسبة لعملية تجديد الخطاب الديني، وتخليصه من عوامل القصور والعجز عن ممارسة دوره بفاعلية. وضمن سياق القراءات الإيجابية للتراث؛ قراءات الاعتبار والاستثمار.

د- تحقيق التوازن بين المكونات الأساسية للخطاب الديني على النحو الذي يتسق مع أوزانها النسبية في الحياة الواقعية الراهنة، وبخاصة فيما بين الجوانب الاعتقادية والعبادية، وجوانب المعاملات والعادات. ويضرب البعض مثالا على ذلك بباب فقه الطهارة الذي احتل حيزا كبيرا في الفقه القديم، نظرا إلى اعتبارات عملية كانت خاصة بصعوبة توافر المياه، وكيفية الحصول عليها، وأولوية استخدامها، وغير ذلك من المسائل التي أصبحت جزءا من الماضي بعد أن تطورت شبكات المياه، وتيسَّرت وسائل الحصول عليها، ومن ثم فإن الأمر لم يعد يتطلب الإسهاب الفقهي في هذا الباب كما كان في السابق.

هـ- أن ينصرف التجديد إلى القول والعمل؛ بمعنى: توجيه جانب من جهود التجديد إلى النماذج والأساليب والنظم التطبيقية، وألا تنحصر هذه الجهود في مستوى التنظير والتأصيل الفكري فحسب.

أما عن آليات تجديد الخطاب الديني:

أولها: أن يصلح من شأن التعليم الديني.

ثانيها: تطوير الإعلام الديني المرئي والمسموع والمقروء، بما في ذلك الدراما الإذاعية والدراما التلفزيونية.

ثالثها: تبسيط لغة الخطاب، وهذه نقطة مهمة جدا، حتى يكون مفهوما للجميع؛ وعلى مقدمي الخطاب أن يراعوا الجمهور المستهدف وأن يقدموا خطابهم باللغة التي تناسب المقام والمقال.

رابعها: حُسن إعداد الدعاة، والاهتمام بالتدريب المستمر لهم أثناء العمل، بهدف خلق داعية عصري يفهم روح العصر، ويتعامل مع متغيراته، ويفهم ظروف المجتمع وكيف ينزل الحكم على أوضاع المجتمع وعلى الواقع، حتى لا يكون كلامه مفارقا للواقع فينصرف الناس عما يقول.

خامسها: ضرورة وضوح رؤية إسلامية (حضارية ذاتية) شاملة لعناصر التجدُّد الحضاري الذاتي ومرجعيته والسنن الحاكمة له، وضرورة الجمع بين الوعي العميق بها، والسعي سعيا غير قاصر ولا جزئيّا ولا ذا علة بما يتبدى في البنية التقويمية للخطاب الديني وأطره، لنفرق بين تجديد حقيقي قوامه الذات الحضارية ومكانة التجدد فيها، وتجديد زائف على قاعدة من استبدال الأسس الحضارية للأمة، والرضا بموقف الذيلية تجاه الآخر (الغرب).

سادسا: من الضروري أن يتضمن الخطاب الديني المجدد إبرازا لتأكيد الإسلام على دور الاجتهاد الشامل المرتبط بفقه الحكم وفقه الواقع وفقه التنزيل، واستحضار الرؤية الإسلام للعقل والعلم بصورة متضافرة، يعني أن الخطاب الإسلامي المجدد عليه أن يوضح المعاني الكامنة بالنصوص فيما يتعلق بأضلاع مثلث العقل والعلم والعمل؛ القول الثابت والعلم النافع والعمل الصالح.

سابعا: من الضروري أن يعتمد الخطاب الديني المجدد على النظر البصير والإقناع المنير، إذ كان الإسلام قد أكد على التعقل والتفكر والتدبر. ويُعد الجمع بين العقل والنقل من أهم الآليات التي يعتمدها البشر في إقامة الحجة والاتجاه إلى المستقبل.

شروط التجديد:

هناك مجموعة من الشروط التي ينبغي أن تضبط تجديد الخطاب الديني وهي:

الأول في ضرورة قراءة تراث السابقين وفرزه بالكامل لاستخراج ما هو صالح منه سواء بحكم كونه خاطئا منذ البداية، أو بحكم انتهاء صلاحيته الزمنية التي وجدت في زمانها.

ويتحدد الشرط الثاني لتجديد الخطاب الديني في ضرورة إعادة تأمل أو قراءة النصوص المرجعية للجماعة.

ويتصل الشرط الثالث لنجاح التجديد أو الإحياء بضرورة تبصر الخبرة بأوضاع المجتمعات وظروف الحياة ومتغيراتها. من الضروري أن يتضمن تجديد الخطاب الديني تصورات واقعية للتعامل مع الأوضاع المتباينة في المجتمع والفئات المختلفة في إطاره، تعاملات تعكس ألوان الطيف جميعا، ولا تختزل الوجود الإسلامي -على ما تذهب بعض الجماعات المتطرفة- في دار الحرب ودار السلام ولا التقاء بينهما، بل عداء مستحكم إلى أن تقوم الساعة.

الشرط الرابع يتضمن ضرورة أن يؤكد التجديد على إبراز قبول المضامين الدينية لمبدأ التنوع والاختلاف، وهو ما يعني أن عملية التجديد يثريها الحوار والجدل، وإذا كان الله قد خلق الحقائق كلية بطبيعتها، فإن إدراكنا البشرى لها جزئي في طبيعته.

ويتعلق الشرط الخامس بمستويات تجديد مضمون الخطاب الديني؛ إذ لا يكفي لحركة التجديد أن تطور الأفكار والمبادئ الدينية من خلال إعادة قراءتها لكي تساعد على إعادة العلاقة العضوية بين القراءات الدينية المعاصرة والأوضاع الحاضرة لواقع المجتمعات، ولا يكفي أن تؤدي حركة التجديد أو الإحياء دورها في تعميق حالة التدين العامة في المجتمع؛ عليها أن تقدم بناء معرفيا متماسكا وقابل للتحقق في الواقع.

موضوعات التجديد:

أ- موضوع الهوية: وهو من الموضوعات الكلية ذات الطابع المركزي في سياق التحدي الحضاري. ويعتبر هذا الموضوع هو الأهم من منظور البحث التاريخي في خبرة التجديد على مدى القرنين الماضيين.

ب- موضوع علاقة الديني بالسياسي.

ج- موضوع التنمية ومشكلاتها، وكيف يتناولها الخطاب الديني، وإلى أي مدى يمكن أن يسهم في إنجاز تلك التنمية المنشودة.

د- موضوع العمل الاجتماعي المدني والأهلي المؤسسي من منظور إسلامي، وضرورة توافر الحرية للعمل المدني واستقلاليته في الإدارة والتمويل.

هـ- تجديد لغة الخطاب الديني وأساليبه بما يضمن الإقناع والتأثير.

و- موضوع الأسرة والمرأة، والنموذج الأساسي لدورها وموقعها في المجتمع من منظور الرؤية الإسلامية.

قضايا التجديد:

أ- الخلفية النظرية للتجديد؛ بمعنى هل تأتي الدعوة لتجديد الخطاب الديني امتدادا لمدارس تجديدية أصيلة في المجتمع، ولمناقشات وحوارات فكرية حول إسهام الدين في عمليات التطور الاجتماعي بهدف تفعيل هذا الإسهام؟ أم تأتي على خلفية أخرى تتعلق بالجدل الدائر منذ فترة حول علاقة الدين بالدولة والمجتمع.. من منظور تحديثي ينزع إلى تحجيم دور الدين في الحياة العامة؟

ب- الخلفية العملية لدعوى التجديد: هل هذه الدعوى رد فعل -كما يرى البعض- للضغوطات الخارجية التي تصاعدت في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، وما أدت إليه من إملاءات على أغلب النظم الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية ومنها مصر؟ أم أن دعوى التجديد -كما يرى البعض الآخر- تأتي كتطور تلقائي للفكر الديني وسعيه لاستيعاب تحديات الواقع ومتطلباته الراهنة والمستقبلية؟ وهناك رأى ثالث يؤكد أنصاره على أن التجديد يجب أن يكون جزءا من عملية أشمل تستهدف التجديد الحضاري العام للأمة، وليس فقط مجرد الاستجابة لضغوطات خارجية.

الخطاب الديني وخطاب الأزمة:

يتصف الخطاب الديني بمجموعة من الخصائص التي تفت في عضده وتجعله في أزمة دائمة وفيما يلي نشير إلى أبرز هذه الخصائص:

أولا: يتوجه الخطاب الديني نحو الماضي ويسرف في العودة إليه، ولا يكاد يحفل بالمستقبل.

ثانيا: إنه خطاب فيه كثير من الإفراط والتفريط، أي الإفراط في أمور العقيدة والعبادات والتفريط البيُن في أمور المعاملات، وفي شئون الدنيا.

ثالثا: إنه خطاب يحتفي بالنقول أكثر من التدبر والاجتهاد التنزيلي، ويقفون على خلافات جانبية وهامشية ويتركون تدبر الأصول فهما وتأصيلا وتنزيلا.

فالأصل هنا هو "التجدد الحضاري الذاتي النابع"، والفرع الذي وجب إلحاقه بالأصل وردّه إليه ردّا جميلا هو "تجديد الخطاب الديني"، حتى نحرر مفهومه ولا نتبع كل صيحة من هنا أو هناك، أو أي مفهوم له يُراد أن يُرسَّخ تحت مطارق المدافع، والحملات المختلفة.

إنه الخطاب الذي يحرك معاني المقاومة والممانعة، ويؤسس لنفسية "العزَّة"، في خطاب تتحرك فيه كل فعاليات الأمة، ويواجه كافة تحديات الواقع ومشكلاته. هذا هو تجديد الخطاب (الديني) الذي نعرف، وليس حالة تختزل فيها عملية الإصلاح أو التجديد في أشكال زائفة كممارسات تحسينية.

التجديد في الرؤية الإسلامية سُنَّة مستمرة؛ تستصحب الثوابت العقيدية، وتراعي التغيرات الجارية في الواقع، وأن عملية التجديد تتطلب تحقيق التوازن بين ما أطلق عليه الإمام محمد عبده "الهدايات الأربع" وهي: الوجدان، والحواس، والعقل، والدين؛ فإذا ما تحقق هذا التوازن، كان بالإمكان إنتاج خطاب ديني متجدد وفعال وإيجابي.

إن تبصر هذه الرؤى بعمق وبصيرة؛ يجعل هذه المشاتل النظرية في التصور والإدراك أولى عتبات الوعي بالتغيير والإصلاح والنهوض، وهي مقدمات وشروط لازمة لمشارف ومسالك السعي النهضوي المبصر والبصير؛ والساعي الى التدبير والتغيير والتأثير.

x.com/Saif_abdelfatah

مقالات مشابهة

  • الخطاب الديني: رؤية حضارية واستراتيجية.. مشاتل التغيير (16)
  • أصوات فكرية تطرح أسئلة الموازنة بين الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي
  • تاريخ مواجهات أرسنال وسان جيرمان قبل لقائهما بنصف نهائي أبطال أوروبا
  • الحزب الشيوعي يجري حراكا سياسيا لتشكيل تحالف انتخابي لمواجهة قوى القتل والسرقات والطائفية
  • الشيوعي العراقي.. حراك لتشكيل تحالف انتخابي كبير لمواجهة القوى التقليدية
  • بين فوضى السلاح وتيه العقل السياسي
  • عبدالله: سيذكر التاريخ أن البابا فرنسيس شكل ثورة انسانية تجديدية في الفكر الديني
  • شاهد بالفيديو.. مواطنون سودانيون يحاصرون رئيس حزب المؤتمر السوداني إبراهيم الشيخ بهتافات معادية ويرفضون دخوله مباني السفارة السودانية بالقاهرة
  • نتنياهو: إقامة دولة فلسطينية فكرة سخيفة
  • محافظ مطروح يشيد بالدور الهام لدار الإفتاء في نشر الفكر الصحيح