طاهر عمر

للنخب السودانية مكنزمات دفاع لا تقل في وصفها بأن تجعل من المثقف السوداني كالسلحفاة بدرقتها تستطيع أن تحمي نفسها بالإنكفاء على نفسها
و الإنكفاء على النفس له إنعكاسات سلبية كبيرة على أقل تقدير تمنع الإنفتاح على أفق تطور البشرية و الإستفادة من ظاهرة المجتمع البشري في مجابهته للمصاعب التي تواجهه و كيفية تنظيم إجزاءه الى أن وصل لمفاهيم تكاد تكون مشتركة يجابه بها ظاهرة مجتمع بشري في أي مكان و أي زمان و بالتالي أصبحت معادلة الحرية و العدالة هي إيقاع ينظم صراع الفرد مع مجتمعه و عليه تكون مسيرتها بحث عن نقطة التوازن.


إنكفاء النخب السودانية على أنفسهم يتجسد في إرتكازهم على نقاط ضعف إلا أنها أقرب للعقل الجمعي الكاسد و نسبة لغياب الشخصيات التاريخية و هي التي تتحدى تاريخ الخوف و تفتح باب تاريخ الذهنيات و تستطيع أن تحدث قطيعة مع التراث مثلما حدث نتيجة لفكرة الإصلاح الديني و لذلك يعتبر مارتن لوثر شخصية تاريخية. طريقة تفكيره جعلته يفارق مزاج مجتمع تقليدي و يفتح طريق جديد و يؤسس للقطيعة مع التراث و لحسن حظه أي مارتن لوثر كانت رغبة البرجوازية الصغيرة في زمنه صادفت بأنها تريد أن تنفك من التراث القديم و هذا ما جعل مسيرة الإصلاح الديني في زمن مارتن لوثر يبداء مسيرته الى أن وصل الى التحول في المفاهيم فيما يتعلق اليوم بفكرة الدولة و فكرة ممارسة السلطة في مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
و حتى نربط ما ذكرته أي التطور الذي حدث منذ الإصلاح الديني و كيف بذر بذور النزعة الإنسانية أي ثقة الإنسان في مقدرات عقله البشري و الإبتعاد عن فكرة دولة الإرادة الإلهية و هنا نقطة ضعف النخب السودانية و في نفس الوقت مهارتها في الإحتفاظ بنقطة الضعف هذه أي أن النخب السودانية بمجرد أن تطلب منها أن تنزع نزعة إنسانية نتج عنها مجد العقلانية و إبداع العقل البشري و مجابهته للمشكل الذي يواجه الإنسان في ظاهرة المجتمع البشري وفقا لقدرته كعقل بشري سرعان ما تتجه بكل نشاط و سرعة و أقصد النخب السودانية الى درعها أي درقة السلحفاة لا لكي تحارب بل لكي تنكفي على نفسها متعللة بأن تاريخ أوروبا تاريخ خاص بها و لا ينطبق على تاريخنا الخاص بنا متناسين أن تاريخ أوروبا قد أصبح مختصر تاريخ الإنسانية أي قد أصبح ممر إلزامي و ها هي الصين تلحق بتاريخ أوروبا و يستوعب رئيسها عام 1978 بأن نمط الإنتاج الرأسمالي هو أسرع إنقاذ لحالة الصين.
و يقال أنه في شبابه كان من ضمن وفد قد ذهب الى فرنسا و عندما سأله والده عشية مغادرته الى فرنسا ماذا تريد من ذهابك لفرنسا فكانت إجابته لكي نتعلم الحكمة و المعرفة من أجل إنقاذ الصين و قبله فعلت النمور الأسيوية مستفيدة من فكرة الإقتصاد و المجتمع المستفادة من تطور الفكر الاوروبي. إنكفاء النخب السودانية على نفسها جعلها متأخرة فكريا بنصف قرن من الزمن و بالتالي عجز ميزان فكر النخب السودانية ظاهر في أنها قد أصبحت لاحقة للأحداث خلال القرن الأخير.
عندما نقول نخب سودانية لاحقة للأحداث خلال قرن يمكن أن نقول قد بداء مع ضعف إدراك النخب السودانية بسبب منهج ضعيف نالوا عبره تعليم يؤهلهم لوظائف دنيا أيام الإستعمار و لم يؤهلهم لتحليل ظاهرة المجتمع البشري كما نجده في فكر ماكس فيبر و فكرة عقلانية الرأسمالية و دوره في توازن المجتمع عبر الإقتصاد و فكرة المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد و عليه تصبح فكرة الدولة و مواثيق حقوق الإنسان نهاية واضحة للفكر الديني و هذا ما عجز عن إدراكه عقل النخب السودانية خلال القرن الأخير أي قبل قيام مؤتمر الخريجيين بأكثر من عقد من الزمن.
في حقبة مؤتمر الخريجيين لم تكن النخب السودانية أحسن حال فكري مما سبقهم لأنهم أيضا كانوا لاحقيين للأحداث. مثلا لم يدرك أتباع مؤتمر الخريجيين بأن حقبتهم كانت لحظة إضطراب فكري و أرجحة بين نهاية ليبرالية تقليدية و بداية ليبرالية حديثة إحتاجت الى فلسفة تاريخ حديثة ما زالت حلقة مفقودة في الفكر السوداني الى اليوم مثل الحلقة المفقودة لدارون و هذه الحلقة المفقودة وسط الفكر السوداني تظهر في تخبط النخب السودانية في كتاباتهم و ضعفها على صعيدي الفلسفة السياسية و الفلسفة الإقتصادية. نلمسه في إعتقاد أغلب النخب السودانية في الإشتراكية حتى غير أتباع اليسار السوداني و هذا سببه ضعفهم في إدراك فلسفة التاريخ الحديثة و معادلة الحرية و العدالة و فيها قد أصبح الفكر الليبرالي الديمقراطي أقرب الطرق لإزدهار المجتمعات الحديثة إقتصاديا و أقربها الى توسيع الطبقة الوسطى و توسيع دائرة الإزدهار المادي.
و لكن على العكس نجد أن أغلب النخب السودانية أقرب الى تصديق فكرة نهاية التاريخ و نهاية الصراع الطبقي كفكرة لاهوتية سببها أن العقل السوداني لا يعرف غير مرتع الفكر اللاهوتي الديني و بالتالي أقرب لتصديق الفكر المطلق سواء في الفكر الديني الإسلامي أو في فكر الشيوعية كدين بشري و أبعد عن إدراك النسبي و العقلاني و بالتالي نجد الفكر السوداني مطمئن للوثوقيات و الحتميات و محاط بالخوف من النقد و الشك و هذا يجعل أغلب النخب السودانية ترجع الى درقة السلحفاة و بأننا لنا تاريخنا الخاص بنا و لا يستوعب المثقف التقليدي السوداني لماذا إستوعبت الصين أهمية نمط الإنتاج الرأسمالي و لقّحت به إقتصادها و فتح على إزدهار الصين الإقتصادي الآن.
بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين قامت الأحزاب السودانية من أقصاء يسارها الرث الى أقصى يمينها الغائص في وحل الفكر الديني و أيضا كانت لاحقة للأحداث. قيام الأحزاب السودانية تزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية و أغلب أتباعها أي أتباع المرشد و الامام و الختم في سياجاتهم الدوغمائية و هي أبعد ما تكون عن مفهوم الدولة كمفهوم حديث علاقة الفرد فيها بالدولة مباشرة و منتصرة للعقل و الفرد و الحرية و الفرد فيها متوشح بفكر عقل الأنوار و لا يرضى أن يفكر بدلا عنه الامام و لا يفكر بدلا عنه المرشد أو الختم و كذلك لا تفكر بدلا عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي و لهذا الى اللحظة نجد أحزابنا السودانية لاحقة للاحداث و لم تستوعب التحول في المفاهيم بعد إنتشار أفكار فلسفة التاريخ الحديثة نتاج سؤال ما التنوير؟
في الإستقلال 1956 جاءت النخب السودانية بنفس عجز ميزان مدفوعاتها الفكري لكي تجابه ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة و ظهر عجز ميزان مدفوعاتها الفكري في أنها الى الآن يتحدثون عن دولة ما بعد الإستعمار بفكر نخب لم يشغلهم غير عقل الهووي الصاخب و بالتالي ساد فكر الهويات و غاب فكر الحريات الى اليوم في وقت في العالم المتقدم يعالج مشاكل مجتمع ما بعد الثورة الصناعية و ليس مجتمع ما بعد الإستعمار و به تعلل النخب السودانية ضعفها الفكري بأنها ضحية إقتصاد التبعية و كله تبرير للعجز و ترسيخ لعجز ريادات وطنية غير واعية.
و بالمناسبة من أكبر معوقات التنمية الإقتصادية و الإجتماعية سيطرة الريادات الوطنية غير الواعية على دفة الأمور و لا ينتج عنها إلا فكر يسد كل منافذ الخروج من الأزمات كطرح الحزب الشيوعي السوداني اليوم أي التغيير الجذري و حقيقة يوضح طرحهم أوهام المثقف التراجيدي كما تحدث عنه عالم الإجتماع التونسي الطاهر لبيب بأن المثقف التراجيدي يطرح فكرة هو ذاته نفسه يدرك إستحالة إنزالها على أرض الواقع و من أراد التحقق عليه أن يتمعن في طرح الشيوعي السوداني و محاولة إعطاء نفسه الشرعية للقيادة بسبب سجون أتباعه او قتل قياداته في محاولاتهم الإنقلابية الفاشلة أو نزولهم تحت الأرض أو تشريدهم في المنافي.
المهم في الأمر الحرب العبثية الآن بين الجيش الكيزاني و صنيعته الدعم السريع كأداة موت و طرح الشيوعي السوداني التعجيزي في تغييره الجذري و لا مبالاته بعذابات السودانيين كلها مؤشرات تدل على أن المجتمع السوداني القديم و فكره في طريقه للإندثار و قد تطول معاناة الشعب السوداني أو تقصر أي قد تطول أزمنة الحرب أو تقصر و لكن كلها لا تفتح إلا على شئ واحد بعد المعناة و دفع الدم و العرق و الدموع أن لا حل غير عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و هذا يفتح باب نهاية وثوقيات و حتميات النخب السودانية في نومها العميق في سياجاتها الدوغمائية سواء كانت في يسار الفكر السوداني الرث أو يمينه الغارق في وحل الفكر الديني.
كما ذكرت في عنوان المقال أن النخب السودانية متأخرة بنصف قرن و نوضحه لك أيها القارئ عندما أيقنت الصين عام 1978 من نمط الإنتاج الرأسمالي و أدخلته لإنعاش إقتصادها كان العالم يعيش آخر خيوط أشعة ديناميكية الكينزية و كانت أفكار النيوليبرالية على الأبواب بسبب إنتخاب تاتشر و ريغان أما في العالم العربي و الإسلامي التقليدي فكان هناك إستعداد لإستقبال الخمينية و كانت الطامة الكبرى و لا تذكّر إلا بذكرى تأسيس جماعة الأخوان المسلميين عام 1929 أيام الكساد الإقتصادي العظيم و لك أن تتخيل كيف يفكر العالم المتقدم في التغيير الذي يفضي الى الإزدهار المادي؟ و العالم العربي و الإسلامي يفكر في دولة الإرادة الإلهية و ما بين قيام و تأسيس جماعة الأخوان المسلميين و الخمينية نصف قرن بالتمام و الكمال.
المضحك لو قارنا تأخر الشيوعي السوداني عن الصين في فهمها لأهمية نمط الإنتاج الرأسمالي و إصرار الشيوعي السوداني على شيوعية تقليدية لا يتبعها إلا شيوعيي العالم الثالث تجد من يقول لك أن الحزب الشيوعي السوداني حزب له تجربة سياسية و عليه يستحق أن يترك في إيمانه بنسخته المتكلسة لا لسبب إلا لأنه له تاريخ سياسي أفقده قياداته سواء بالقتل او النزول تحت الارض أو السجون أو تشريدهم في المنافي و نحن نقول لهم كانت الكنيسة حاكمة لأوروبا لالف عام هل تترك لترجع من جديد بحروبها الطائفية؟ لذلك لا يترك الحزب الشيوعي السوداني على هواه حتى لا يورطنا في شمولية بغيضة.
لذلك أن السجون و التشريد و النزول تحت الارض و القتل لقيادات الحزب الشيوعي السوداني لا تعطيه شرعية قيادة الشعب السوداني لأنه أي الحزب الشيوعي السوداني نائم نوم عميق في سياجاته الدوغمائية و كالسائر في نومه بتوهمه أنه قد دفع فاتورة التضحية و ما على الشعب إلا الإنصياع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني لتفكر بدلا عنه و يأتي السؤال ما الفرق بين تفكير اللجنة المركزية للحزب الشوعي السوداني بدلا عن الشعب و بين تفكير الفقية الولي بدلا عن الامة؟ و من هنا يجب الحذر من الاحزاب التي لا تنتج غير نظم شمولية و ما أبغض الشيوعية كنظام شمولي لا تقل بشاعته عن النازية و الفاشية و لمن يريد المزيد عن شمولية الشيوعية و النازية و الفاشية عليه بقراءة كتب حنا أرنت.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی السودانی النخب السودانیة الفکر السودانی بدلا عن ما بعد

إقرأ أيضاً:

الخطاب الديني في سلطنة عمان.. تعزيز للتسامح والاعتدال والتقارب

يعزز الخطاب الديني في سلطنة عمان، العديد من المفاهيم ذا الصلة بالإنسانية والتسامح والاعتدال، وينمي في النفوس روح المحبة والتقارب والخير، ومحاسبة النفس والعودة إلى تقويم الذات وتصحيح الجوانب التي قد يشوبها انحراف عن المسار القويم للإنسانية السمحة والمعتدلة.

وعرف الخطاب الديني في عمان بالاعتدال والدعوة دائما إلى التسامح وقبول الآخر، ويتجلى ذلك في المفاهيم والمحاور التي يتبناها الخطاب الديني في كل مراحلة، خاصة في شهر رمضان الذي يلزم فيه الناس المساجد ومتابعة الخطب والمحاضرات الدينية.

وأكد عدد من المختصين على أن نهج الخطاب الديني في سلطنة عمان نهج التسامح والدعوة إلى التقارب ونبذ أوجه الشقاق أو الفتن، والدعوة بالهدوء واللطف وتقبل آراء الآخرين، مؤكدين على ضرورة تجديد الخطاب الديني ومواضيعه لتتناسب ومتطلبات المرحلة وتطور الوسائل.

رقي الخطاب الديني

وقال الباحث بدر بن سالم العبري: إن التّسامح والعمل الاجتماعيّ مفهومان مطلقان من حيث الزّمنيّة، ولا يمكن حصرهما في شهر ما كرمضان، ولكن في الوقت ذاته رمضان فرصة للتّذكير بهما وبأهميّتهما، فهناك فارق بين التّذكير وبين ما انغرس في العقل الجمعيّ من تصوّر أنّه يسامح في رمضان، فإذا انقضى قطع وآذى، فهناك من ينظر إلى رمضان لذاته، وكأنّ رمضان هو الّذي يثيب ويمنع، ويعفو ويعاقب، بيد أنّ الأصل في المنظور إلى مَن كتب علينا الصّيام، أي الله جلّ جلاله.

وأضاف: تأتي أهميّة الخطاب الدّينيّ في تصحيح المفاهيم، وفي مراجعة العديد من القضايا الاجتماعيّة في رمضان من خلال مفاهيم القرآن الكبرى، خاصّة وأنّ العديد من النّاس لصيقة المسجد في رمضان، ولديهم من الفراغ ما يملأونه بالاستماع إلى الخطاب الدّينيّ، فلا ينبغي أن يقتصر هذا الخطاب على المواعظ المكرّرة، والكلام الّذي يُكرّر كلّ عام، وخصوصا أنّ مثل هذه المواعظ حاضرة اليوم بشكل طبيعيّ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، ولا يكاد تخفى على أحد.

وأكد العبري على الحاجة إلى أن يكون هناك رقيّ في الخطاب الدّينيّ ذاته، يتناسب والمرحلة الّتي نعيشها، ليس على مستوى الأدوات المستخدمة في الخطاب، أو طريقة الخطاب ذاته، فنحن بحاجة إلى تجديد ورقيّ الخطاب بحيث يتناسب والمرحلة الزّمنيّة الّتي نعيشها، ويكون منفتحا على جميع الأجواء الثّقافيّة والفكريّة والمعرفيّة المعاصرة، ولا يكون محصورا في اتّجاه وخطاب تقليديّ متكرّر، فكلّما اتّسعت أجواء الخطاب؛ ساهم ذلك في رقيّ الخطاب الدّينيّ ذاته.

وأوضح العبري أن قضيّة التّعايش والتّسامح اليوم لم تعد منحصرة عند أدبيات وأخلاقيات سلوكيّة طبيعيّة في المجتمع، كقضايا حقوق الجوار وابن السّبيل، وإعادة تكرار لروايات وقصص حدثت في واقع ظرفيّ غير واقعنا، بل أصبحت قضيّة تطرح من زوايا متعدّدة، فهي قضيّة فلسفيّة في الابتداء، متعلّقة بقيم الذّات الإنسانيّة المطلقة، كالكرامة والمساواة والعدل، كما أصبحت قضيّة إجرائيّة متعلّقة بالمواطنة من حيث نظام الحكم الأساسيّ، ومصاديقه التّشريعيّة في القوانين، كما أصبحت حالة اجتماعيّة ونفسيّة متعلّقة بالاجتماع البشريّ، وفي الوقت ذاته لما يمرّ به العالم اليوم من حالات انغلاقيّة وتكفيريّة متطرّفة تؤثر في استقرار الدّول والاجتماع البشّريّ، فأصبحت مرتبطة بالجوانب السّياسيّة والأمنيّة، وعليه ينبغي على الخطاب الدّينيّ أن لا يكون منحصرا في زاوية ضيّقة في طرح الخطاب، بل ينبغي أن يتفاعل مع الاتّجاهات الأخرى، وهذا يرفع من قيمة الخطاب المسجديّ في رمضان، ويتفاعل إيجابا مع تطوّر المجتمعات البشريّة، والتّداخل المعرفيّ والثّقافيّ.

وأكد العبري على انه ينبغي أن لا يكون الخطاب الدّينيّ كلاسيكيّا لا يتعدّى إعادة ما ذكر في ظرفيّات لها ما يناسبها من خطاب، وإن كانت قيمته باقيّة في مطلقيّة البر والإحسان والتّعاون المجتمعيّ، ولكن ينبغي أن تكون مصاديقه وفق زمننا، لهذا حضور الجانب الاقتصاديّ والقانونيّ وتوعية النّاس بهما أصبح ضرورة اليوم، كما ينبغي أن يكون استثمار أعمال البر بما يتناسب في تدوير المال تدويرا استثماريّا، عن طريق الوقف، أو المساهمة في خلق وظائف تساهم في استمراريّة استقرار الأسر المحتاجة، وتتحول بذاتها إلى أسر منتجة، كذلك إحياء الإنسان اليوم بالمساهمة في تعليمه ورقيّه ثقافيّا وصحيّا أولى من إسراف الإنفاق في بناء المساجد وتزيينها، وهذا يحتاج إلى خلق وعي عن طريق الخطاب الدّينيّ، الّذي ينفتح على واقع العصر، ويتماشى معه.

تأثير القيم

من جانبها أكدت الدكتورة صابرة بنت سيف بن أحمد الحراصية متخصصة في علم النفس التربوي على أن شهر رمضان بروحانيته الخاصة، فتُقبل النفوس على العبادة، وتُضاعف الأعمال الصالحة، ويجد الخطاب الديني تأثيرًا أعمق في قلوب الناس. ومع دخول هذا الشهر المبارك، نلاحظ كثافة في حلق الذكر والمناشط الدينية والمسابقات القرآنية التي تُنظمها المؤسسات الدينية والجماعات المسجدية والتربويون والمجتمع بمختلف فئاته، إلى جانب الجهود التي يبذلها الدعاة والأئمة لتعزيز الوعي الديني واستثمار الأجواء الرمضانية في توجيه الناس نحو الخير. كما يبرز رمضان كفترة تزدهر فيها الأنشطة المجتمعية التي تُعزز قيم العطاء والتعاون، مثل المبادرات التطوعية لخدمة المحتاجين، وبرامج دعم الأسر المتعففة، والمشاريع الشبابية التي تهدف إلى نشر الوعي بالقيم الإسلامية بأساليب إبداعية، مما يعكس تزايد الإقبال على التفاعل المباشر مع الخطاب الديني والمجتمعي خلال هذه الفترة.

وأشارت الحراصية إلى انه في المقابل، يلاحظ أن الإقبال على حضور المحاضرات والدروس الدينية خارج رمضان يكون أقل مقارنةً بهذا الشهر الفضيل، وهو أمر طبيعي نظرًا لما يميز رمضان من أجواء إيمانية خاصة، حيث تتضاعف فيه الأجور، ويكون الناس أكثر حرصًا على استثمار وقتهم في العبادات والطاعات. ومع ذلك، فإن التغيرات التي طرأت على وسائل تلقي المعرفة، وتنوع أساليب الخطاب الديني، ساهمت أيضًا في تراجع الحضور في غير رمضان، مع بحث البعض عن بدائل تلائم إيقاع حياتهم المتسارع. فقد أتاح انتشار البرامج التلفزيونية، ومقاطع الفيديو القصيرة، والمدونات الصوتية (البودكاست)، ومنصات التواصل الاجتماعي للناس فرصة الوصول إلى المحتوى الديني في أي وقت ومن أي مكان، مما جعل البعض يفضلون هذه الوسائل المرنة على الحضور الفعلي للمحاضرات في المساجد. إلى جانب ذلك، فإن التجديد في أساليب الطرح الديني، ولجوء بعض الدعاة إلى استخدام لغة تحليلية أو فلسفية قد لا تكون قريبة من الجمهور العام، ساهم في إحداث فجوة بين بعض الأفراد والخطاب الديني التقليدي. وفي المقابل، هناك من يطرح القضايا الدينية بأسلوب بسيط جدًا لا يتناسب مع احتياجات المجتمع المتغيرة، أو يعيد تناول موضوعات قد لا تلامس الواقع الحالي ولا تعالج التحديات التي يواجهها الأفراد، مما يجعل بعض الفئات، خاصة الشباب، يشعرون بعدم ارتباط هذا الخطاب بقضاياهم اليومية. هذا التنوع في الأساليب، رغم أنه يعكس اجتهاد الدعاة في توصيل الرسالة الدينية، إلا أنه يؤكد الحاجة إلى خطاب ديني متوازن يجمع بين العمق والوضوح، وبين الأصالة ومواكبة العصر، بحيث يكون قريبًا من هموم الناس، ويعالج قضاياهم بأسلوب يجذبهم ولا ينفرهم.

وبينت الدكتورة الحراصية انه وسط هذه التحديات، يظل رمضان فرصة لإعادة التفاعل المباشر مع الخطاب الديني، حيث يكون الناس أكثر إقبالًا على التوجيه والاستماع إلى المواعظ، وأكثر انفتاحًا على القيم الإسلامية التي تتجلى بوضوح في هذا الشهر.

ولا تقتصر أجواء رمضان الروحانية على المسلمين فحسب، بل تمتد لتشمل غيرهم ممن يعيشون في المجتمعات الإسلامية، حيث يتفاعلون مع قيم الشهر الفضيل، ويشاركون في مظاهره الروحانية والاجتماعية، مثل موائد الإفطار الجماعية، وحضور الفعاليات الرمضانية، والتجمعات التي تعكس روح الشهر وقيمه. ومن خلال هذه التجربة المباشرة، يجد البعض فرصة للتعرف على الإسلام عن قرب، وهو ما يعزز فهمه الصحيح بعيدًا عن الصور النمطية، وقد يكون منطلقًا لطرح التساؤلات حوله بل واعتناقه لدى بعضهم.

وأكدت أن تأثير القيم يزداد حين يكون التسامح والتعايش جزءًا أصيلًا من الهُوية المجتمعية، كما هو الحال في سلطنة عمان، التي تُعد نموذجًا متفردًا في ترسيخ مبادئ الاحترام المتبادل والانفتاح الواعي على مختلف الثقافات والمذاهب. فعلى الرغم من أن التسامح والانفتاح نهج ثابت في السلطنة، إلا أن مظاهره تبرز بشكل أوضح خلال رمضان، حيث تتجلى روح التآخي في تعاملات الناس، ويتشارك الجميع أجواء الشهر الفضيل، مما يمنح غير المسلمين فرصة فريدة لمعايشة قيم الإسلام في صورتها الحقيقية. وتنعكس هذه القيم أيضًا في الخطاب الديني العماني، الذي يتميز بالوسطية والمرونة، بعيدًا عن الغلو أو التشدد، مما أسهم في تعزيز ثقافة الحوار ونشر روح الألفة بين أفراد المجتمع. ويظهر ذلك جليًا في المساجد والمجالس الدينية، حيث يتم تناول القضايا بأسلوب يعزز الأخلاق الفاضلة، ويحث على الرحمة والتعاون.

وأوضحت الحراصية أن الخطاب الديني له دور في تقويم السلوك إلى جانب دوره في تعزيز التكافل، خاصة في ظل التحديات التي يفرضها العصر الحديث وانتشار المغريات المتنوعة. فمع التطور التكنولوجي الهائل والانفتاح الثقافي عبر الإنترنت، أصبح الشباب معرضين لمؤثرات عديدة، قد تؤثر على أنماط تفكيرهم وسلوكياتهم. هنا يظهر أثر الخطاب الديني في ترسيخ القيم وضبط السلوكيات، حيث يساعد في توعية الأفراد بخطورة الانسياق وراء المؤثرات السلبية، ويوجههم إلى كيفية التفاعل الواعي مع مستجدات العصر دون التفريط في المبادئ الإسلامية. وتشير الدراسات في علم النفس والسلوك إلى أن الخطاب الديني الذي يعتمد على أسلوب الإقناع والحوار بدلاً من الخطاب الوعظي التقليدي، يكون أكثر فاعلية في التأثير على الأفراد وتحفيزهم نحو التغيير الإيجابي. فعندما يقدم الدين كمنهج حياة شامل، وليس مجرد قائمة أوامر ونواهٍ، يصبح أكثر جاذبية، خاصة لدى الشباب الذين يحتاجون إلى فهم أعمق لكيفية الموازنة بين التقدم الحضاري والثوابت الدينية.

وقالت إن كل هذه الجهود تؤكد أن الخطاب الديني المتزن، حين يُقدَّم بروح المحبة والرحمة، يكون أكثر تأثيرًا في القلوب، وأقدر على بناء مجتمع أكثر ترابطًا وانسجامًا، حيث تتجسد القيم الإسلامية في أفعال ملموسة تعود بالنفع على الجميع.

أساليب الخطاب

من جانبه قال حمد بن هلال الخصيبي: إن شهر رمضان يعد فرصة ذهبية لتعزيز قيم التسامح والتعاون بين أفراد المجتمع، حيث يكتسب الخطاب الديني أهمية خاصة في توجيه الناس نحو معاني الرحمة والإحسان والتكافل، فالخطب والمواعظ الدينية التي تُلقى في المساجد أو تُبث عبر وسائل الإعلام تسهم بشكل مباشر في ترسيخ القيم الإسلامية السمحة، وتعزيز روح المحبة والتعاون بين الناس.

وأكد الخصيبي أن الخطب الدينية خلال الشهر الفضيل ترسيخ مفهوم التسامح، وهو أحد المبادئ الأساسية في الإسلام، من خلال الدعوة إلى العفو والتجاوز عن الأخطاء، ونبذ الخلافات، وتقوية أواصر الأخوة بين الأفراد، كما يشجع الخطاب الديني على التعاون بين أفراد المجتمع، سواء من خلال العمل الخيري، أو تقديم العون للمحتاجين، أو حتى في أبسط صور التعاون داخل الأسرة والمحيط الاجتماعي.

وأشار إلى أن التكافل الاجتماعي من أبرز القيم التي يعززها الخطاب الديني في رمضان، حيث يُحث المسلمين على إخراج الزكاة والصدقات، والمشاركة في إفطار الصائمين، ودعم الأسر المحتاجة. وتعتبر هذه الأعمال تطبيقًا عمليًا لمبادئ التعاون والمساعدة، مما يسهم في تقوية التماسك المجتمعي وتقليل الفجوة بين الفئات المختلفة.

وأوضح الخصيبي أنه ينبغي تطوير الخطاب الديني ليكون أكثر قربًا من واقع الناس، من خلال استخدام أسلوب بسيط وسهل للفهم، والاستشهاد بقصص واقعية تُلهم الأفراد وتحثهم على التحلي بالقيم الإيجابية. كما يمكن توظيف وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر الرسائل الدينية الداعية إلى التسامح والتعاون، مما يساعد في الوصول إلى شريحة أوسع من المجتمع.

تعزيز المحتوى

وقال سعيد بن عبدالله العزري متخصص في الإعلام والاتصال: إن الخطاب الديني في شهر رمضان يضفي روحانيّة تنسجم مع قدسيّة الشهر؛ حيث تتجلى فيه أسمى قيم الإيمان والتقوى، إلى جانب كونه فرصة لتعزيز أواصر التسامح والتعاون بين أفراد المجتمع، وتهذيب النفس من العادات السلبيّة، ليساهم الخطاب كأداة فاعلة في حث الهمم نحو ذلك؛ فتأثير الخطاب على الجمهور كبير وواضح على مداه الطويل بأي منصة اتصاليّة كانت (رقميّة أو تقليديّة) بما يحقق تأثيرًا في اتجاهات الجمهور إزاء قضايا محددة.

وأكد العزري أن ما تبثه وسائل الإعلام في سلطنة عُمان خلال شهر رمضان المبارك من خطاب ديني يساهم في تعزيز القيم نحو التكاتف بين أفراد المجتمع والتعاون، وهو أمرٌ محمود ويظهر من خلال ما تعرضه المنصات الإعلاميّة مسموعة أو مرئيّة أو مكتوبة للمبادرات القائمة في خدمة المجتمع وتعزيز روح التآلف بينهم، يقابله تفنيد موضوعيّ وشرعيّ لأحكام يواجهها المسلم والصائم على حد سواء، والجيد في خطابنا الديني أنه مواكب ومساير للتغيرات الفكريّة التي لا ينأى مجتمعنا العُماني عنها بنفسه في هذا العالم متعدد الثقافات.

موضحا أن ما يقدمه الإعلام العُماني من خطاب متزن ومتنوع خلال شهر رمضان له محلُّ الرضا، يقابله تطلعٌ بتكثيف المحتوى بأفكار مبدعة تقدم الرسائل والقيم الإيجابية بقالب يلامس مختلف شرائح الجمهور لتحقق تأثيرها الفاعل، لتستنبط تجارب وممارسات قدّمت على مستوى الوطن العربي في الإعلام وحقق نجاحُها تأثيرًا طويل الأمد.

مقالات مشابهة

  • على مائدة الفكر
  • جمعة: سيدنا عمر بن الخطاب كان سابق عصره وهو أول من أسس فكرة الديوان
  • فرجاني ساسي: فكرة اللعب بقميص الأهلي غير واردة بالنسبة لي
  • "الشبهات المعاصرة حول السنة النبوية".. محور ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين
  • الليلة.. الأهلي يواجه الزمالك بنصف نهائي دوري الكرة الطائرة
  • أمير طعيمة: أنا في حتة لوحدي.. وضد فكرة رقم واحد
  • وزير التربية: دعم النخب والكفاءات في مجال الرياضيات
  • الخطاب الديني في سلطنة عمان.. تعزيز للتسامح والاعتدال والتقارب
  • التأطير العقدي للعمل.. ضمان التوافق بين الفكر والسلوك في الإسلام
  • هل حقاً تراجع ترامب عن فكرة التهجير؟