لجريدة عمان:
2025-03-07@02:23:51 GMT

أهم تمارين الكتابة عندي

تاريخ النشر: 24th, April 2024 GMT

أهم تمارين الكتابة عندي

ترجمة: أحمد شافعي

«اكتب عبارة تراها كريهة، عبارة لا يمكن أن تقولها أبدا».

كان الذهول يرتسم على وجوه طلبتي، لكنهم يتعاونون، مدركين أنني لن أجمع منهم هذا التمرين، وأن ما يكتبونه سوف يبقى شخصيا ما لم يروا هم إشراك الآخرين فيه. فكل ما كان مطلوبا منهم هو المشاركة.

كانوا في صمت يمضون في تدوين كلمات قلائل. وإلى هنا لا بأس، فلم نكن بعد بلغنا الطلب الصعب: اقضِ عشر دقائق في كتابة مونولوج بضمير المتكلم تقوله شخصية خيالية هي التي تنطق هذه العبارة المزعجة.

وهذا الجزء من التمرين يستنفر في العادة نظرات متوترة، وحينما يحدث ذلك أذكِّر طلبتي بأن جملهم لا تمثلهم وأن حديثهم بصوت أشخاص آخرين يمثل مهارة أساسية من مهارات الروائيين. وأوضح أن الجملة المزعجة لا بد أن تظهر في المونولوج ولا ينبغي اختزالها ولا ينبغي أن يشعر الطلبة أنهم يطلبون المغفرة أو يتحملون المسؤولية. فالمطلوب ببساطة هو أن تأتي لحظة في ثنايا المونولوج -وإن تكن سطرا عابرا- يمكن أن نشعر فيها بالتعاطف مع صاحب المونولوج. فلعل صاحبه امرأة يعتريها القلق على حفيد مرض، ولعله رجل يسيطر عليه حب تركه يفلت من بين يديه، ولعله امرأة يؤرقها البحث عن سبيل للحفاظ على بقاء تجارتها ودفع أجور العاملين لديها، وفي حال أداء التمرين على النحو الصحيح فإنه يسدد لكمة مزدوجة: نفورا من سلوك أو رؤية مقرونا باعتراف بالمشترك الإنساني.

على مدار أكثر من عقدين أقوم بتدريس تنويعات من هذا التمرين على الكتابة الروائية. طبقته في جامعات ومدارس متوسطة وورش كتابة خاصة، مع أطفال في السابعة وشيوخ في السبعين. لكن في السنين الأخيرة، بات التعرض لهذا التمرين، وللوثبة الخيالية التي يرمي إلى تعليمها، مختزلا في وخزة إبرة، فمع ازدياد الغضب في الحوار العام في بلدنا، بت ألحظ أن تعامل الطلبة مع التمرين ازداد هشاشة، بغض النظر عن ميولهم إلى اليمين أو إلى اليسار.

في كل فصل دراسي أتساءل عما لو أن المنفذ الذي نسمح به لتمثلنا للآخرين قد ضاق ضيقا بالغا فما بات يتيح رؤية كاملة لإخواننا في الإنسانية. لعل بعض الأزمنة تبلغ من البغض أو الألم ما يجعل الناس ينغلقون ببساطة على أنفسهم في صوامعهم. مؤكد أنني أيضا شعرت بالانسحاب إلى نفسي، وثمة أزمنة تكون فيها الوثبة إلى زوايا الآخرين في النظر أقرب إلى المحال.

ولكن هذه الوثبة هي وظيفة الكاتب، ولا معنى للاكتفاء بنصفها فقط. فالأدب القصصي الجيد يقوم بحيلة سحرية ذات قوة عبثية: يجعلنا نهتم. فمن خلال الاستجابة لمتاعب شخصيات مخترعة - من قبيل آخاب أو أمارانتا أو سيث أو ستيفنز أو زووي أو زوربا ـ قد نذرف الدمع أو نطلق الضحكات أو تتواثب قلوبنا. هؤلاء الأشخاص يستثمروننا نحن القراء وهذا أمر مختلف تماما عن موافقتهم الرأي أو حتى الإعجاب بهم. وفي الأدب حين يبلغ أفضل حالاته تكون الشخصيات شديدة الحيوية، معقدة، متناقضة، بل ومثيرة للغضب ومع ذلك نمضي معها مبتعدين عن تصوراتنا المسبقة وفي بعض الأحيان لا نرجع.

وتمثُّل الآخر، وهو العضلة التي يرمي هذا التمرين إلى تدريبها، شرط مسبق للأدب القادر على معاركة العالم الحقيقي، فهو يتيح لنا على الصفحة أن نلمح علامات الإنسانية، وخارج الصفحة يمكن أن يعلمنا كيف نجري حوارًا مع أغرب الغرباء، وأن نبلي أحسن البلاء في ظل الاختلاف، بل إن بوسعه أن يؤثر في خيارات حياة أو موت نتخذها غريزيا في أوقات الأزمات، وهذا الضرب من التمثل والتعاطف لا علاقة له بأن نكون لطفاء، وما هو للمطمئنين إلا أمان ما يعرفون.

وحتى في حدود أمان الصفحة، ثمة غواية إلى أن تجتنب تحدي التمثل، بدلا من شيطنة الأشرار وتقديس الأبطال، لكن ذلك يحدث عندما تخمل الإبرة في البوصلة الأخلاقية. فحينئذ نبحر إبحار العميان، واثقين أننا نعرف كيف هم الأشرار، وأنهم ليسوا إيانا، وإذن فنحن آمنون من خطر الوقوع في الخطأ.

أما أفضل كتابنا في المقابل فيصورون البشر بكامل تعقيدهم. هذا ما تفعله جيش جين في قصة قصيرة بعنوان «من الأيرلندي؟» وما يفعله روهينتن ميتري في رواية «التوازن الهش». سطرا بعد سطر، يضيء أمثال أولئك الكتاب العوالم الداخلية للشخصيات المؤذية، وهذا يختلف عن الصفح عنهم. فلا أحد يقول مطلقا: إن توني موريسن تصفح عن تشولي بريدلاف الذي يغتصب ابنته في «العين الأكثر زرقة». ولكن ما تفعله موريسن بدلا من ذلك هو أجرأ ما رأيته في الكتابة من أفعال الفهم الأخلاقي والعاطفي.

في التمرين الدراسي، قد تكون العبارات المزعجة التي يدونها طلبتي شخصية (لن تصبح كاتبا أبدا ... أنت قبيحة) أو دينية أو سياسية. كتب طالب ذات مرة عبارة تدين الإجهاض فيما كتب طالب في الجهة المقابلة من الطاولة عبارة تدافع عنه. في بعض الأحيان تظهر التنميطات، والتشنيعات، وأي شيء يود الطلبة أن يتعاملوا معه. وبالطبع، من المزعج أن تضع نفسك في موضع غيرك ممن تنفر من أقوالهم أو أفعالهم. ولذلك فإن طلبتي عند كتابة هذه المونولوجات وهم من الخريجين الجامعيين الذين يعرفون ما معنى «ضمير المتكلم»، يراوغون ويكتبون بضمير الغائب، فيلجؤون إلى المسافة في «قال» بدلا من «قلت».

لكن في حال احتمالهم تحديات ضمير المتكلم، قد يحدث في بعض الأحيان شيء ما. يهتزون ويتلهفون على التوسع في ما كتبوه. وأرفع رأسي بينما أرتب أوراق ملحوظاتي فإذا بي أرى طالبا يتمهل بعد انتهاء الجلسة وإذني لهم بالذهاب وقد ارتسم على وجهه تعبير تحفز وإذا به يقول: إن التمرين أشعره بشيء كان يحتاج إلى أن يشعر به.

على مدار السنين، أصبحت عبارات طلبتي أشد سياسية واصطلاحية (البائسون ...الحساسون)، فحلت العبارات الرسمية محل لغة التجربة الشخصية، فعدَّلت التمرين. تخوفا من أن أكون مفرطة في التفاؤل بدموية الفخ، جعلت التمرين صامتا تماما، بحيث لا يسمع طالب عبارات غيره المزعجة أو يخشى من إصدار حكم عليه. ومن يريد عرض مونولوجه عليّ يمكنه أن يبقى بعد الحصة بدلا من أن يقرأها على المجموعة. ثم أضفت بعد ذلك تنبيها آخرا: إذا وجدت عبارتك المزعجة مهينة أكثر مما يجب بحيث لا تتخيل قائلها إنسانا مكتمل الإنسانية، فاختر عبارة أقل إزعاجا. ثم زدت نطاق المعايير ضيقا: لا سياسة. والحصص الافتراضية في فترة الوباء جعلت القبول بالمخاطرة أصعب، فأرجأت التمرين إلى وقت متأخر من الفصل الدراسي حتى يكون الطلبة أكثر ارتياحا.

حدث بعد إحدى الجلسات أن تمهلت طالبة في غرفة الاجتماع الافتراضية. كانت قد عجزت عن تمثل صاحب المونولوج بسبب تبنيه موقفا سياسيا تحتقره، واستاءت من عجزها ذلك، وأعجبتني أمانتها، فقد أنشأت صورة كاريكاتورية وعرفت ذلك، وأغلبنا يفعلون ولا يعرفون.

على مدى سنين كنت أؤدي التمرين مع طلبتي. في بعض الأيام لم تكن تخطر لي فكرة. لكن حينما كانت الأمور تسير على نحو طيب، كنت أجد التجربة مثيرة للقلق. ويتبين أن الشق الصعب ليس التمثل نفسه ولكن ما يترتب عليه، وهو فكرة قاتلة مفادها أن من أقدِّر مخاوفهم أو مباهجهم أو ظرفهم قد يكونون هم أنفسهم لا مبالين تماما بأعز مفاهيمي عن العالم.

ثم يعلو رنين نهاية الدقائق العشر وأعيد نفسي من جديد إلى عمل الفصل الدراسي، جافلة من اتساع العالم لكنني أكثر فضولا تجاه من فيه من الناس، وأنا أثق في فضولي، فأي خيار أفضل منه لأي منا؟ وفي أمان قاعة الدرس أظل أحاول أن أرد للأدب ما يعطيني الأدب إياه: تلك الحيلة السحرية البسيطة القوية التي يمكن أن يؤديها أي منا، طالما كان مستعدا للمخاطرة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا التمرین یمکن أن بدلا من فی بعض

إقرأ أيضاً:

الكاتب عمرو دنقل لـ "البوابة نيوز": الرواية تستوعب إبداعي.. وأميل للفلسفة .. ولا أستطيع الكتابة فى شهر رمضان.. ولكنى أقرأ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

 

_ إهدار آلاف المواهب والعقول المفكرة أبرز أزمات الأدب فى مصر

_ الاهتمام بآراء أصحاب الخبرة أهم نصائحى لشباب الكتاب

عمرو دنقل.. كاتب وروائي مصري من مواليد محافظة سوهاج، صدرت له روايتان هما “نادى الأربعين” فى عام 2022، ورواية “فيلا القاضى” فى عام 2023، ورغم أن ثقافة الجوائز ليست ضمن أولوياته، إلا أن روايته الثانية "فيلا القاضى"، رشُحت للقائمة القصيرة بجائزة طه حسين للرواية المنشورة 2024، الرواية الأكثر نضجًا بالنسبة له؛ وأشاد كبار الكتاب بكتاباته. التقته “البوابة نيوز” وكان هذا الحوار. 

 

الكاتب عمرو دنقل 

■ حدثنا عن طقوسك ككاتب فى شهر رمضان؟

شهر رمضان مختلف بكل تأكيد عن باقي شهور السنة، أتوقف عن الكتابة بشكل تام في هذا الشهر، ما لا أستطيع التوقف عنه هو القراءة، أو بمعنى أدق لا قدرة لي على ذلك. أما الكتابة فيستلزم إتمامها بعض الاشتراطات على الأقل بالنسبة لي قد لا تتوفر في الشهر الكريم. أول هذه الشروط عدم الارتباط بأي موعد أو طقس يومي وهذا لا يمكن توافره في رمضان. لو استدعى الكاتب الفكرة وشرع في الكتابة وألزمه أحد الأشخاص الانتهاء في وقت محدد لن يكتب حرفا واحدا.

■ ماذا يقرأ عمرو دنقل فى وقت فراغه؟

لا يوجد وقت فراغ عند الكاتب، أو أي شخص مهتم بمن حوله، الكاتب في عملية مراقبة دائمة لسلوكيات البشر، قد يكون ذلك عبر الورق أو من خلال المعاملات اليومية.. لذا يمكن أن نغير صيغة السؤال لتكون أكثر دقة. تأتي الرواية عندي في المقام الأول، لا أتقيد بجنسية أو جنس الروائي، كل من يكتب للإنسان وعن الإنسان جدير بالقراءة. أميل للكتابة الفلسفية، لو خُيرت بينها وبين أنواع الكتابة الأخرى، أحب أيضا قراءة ما يكتب عن الواقع، ثم تأتي بعد ذلك باقي أقسام الأعمال الروائية، أعمال الفنتازيا والخيال العلمي تبقى بالنسبة لي في نهاية قائمة اختياراتي.

■ روايتك الأخيرة رُشحت للقائمة القصيرة بجائزة طه حسين للرواية المنشورة.. حدثنا عنها؟

فيلا القاضي تجربتي الثانية في العمل الروائي، بلا شك تمثل لي الكثير، العمل الأول قد تتسرب فيه بقصد أو بغير قصد جزء من السيرة الذاتية للكاتب، لذا كانت فيلا القاضي العمل الذي تحررت فيه من عمرو دنقل الإنسان، هذه الحرية هي بوابة نجاح النص، رشحت الرواية للقائمة القصيرة، لم تفز بالمركز الأول كما اعتقد البعض، بيد أن ترشح العمل الثاني لي لجائزة كان في حد ذاته جائزة كبيرة لم أتوقع الحصول عليها بعد ٣ سنوات فقط من دخولي عالم الأدب.

■ فى رأيك ما هى أبرز أزمات الأدب فى مصر؟

أزمات عالم الأدب في مصر كثيرة، الحديث عن ذلك سيتفرع إلى الكثير من المشكلات التي تؤثر على الأدباء بشكل مباشر وغير مباشر، هذه النقطة تحديدا معقدة ومتشابكة، منها ما يخص المجتمع المصري بشكل عام ويمس بالتبعية المهتمين بالشأن الثقافي، ومنها ما يخص عالم الأدب من داخله، أظن أن أبرز هذه المشكلات هي المشكلة المادية، قلما تجد كاتب في مصر متفرغ تماما لإبداعه. هل تعلمين ماذا يعني ذلك؟ يعني إهدار آلاف المواهب والعقول المفكرة.

■ بعد هذه التجارب فى عالم الأدب.. ما النصائح التى تود أن تقدمها للمقبلين على هذا المجال من الشباب؟

للأسف، ما أنصح به أي كاتب جديد قد لا يروق للبعض، ولكنها وجهة نظري الشخصية من خلال التجربة. عزيزي المبدع، إن كنت تمتلك موهبة عظيمة وقلم استثنائي، لن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام لو اعتمدت على ذلك فقط!! لابد من الدعاية والتواصل والانتشار والظهور المستمر حتى تتمكن من الحصول على ما تستحق.

هناك نقطة أخرى مهمة، قبل نشر العمل الأول لا تهتم برأي المحبين، أصحاب الخبرة فقط هم من سيوجهونك إلى الطريق، إن توفر للكاتب مثل هؤلاء فهو ذو حظ عظيم.

■ بلوجر وأنفلونسر كثيرون اقتحموا عالم الكتابة الفترة الأخيرة.. ما تعليقك؟

لا يمكن لأي شخص الحجر على أذواق الناس، فليتقدم كل من يجد في نفسه قدرة على الكتابة، الاستمرار هو الفيصل. 

كما أن ذلك متوقع في مجتمعات ينقصها الكثير في الشأن الثقافي، البلوجر يراه البعض نجماً ولذلك ينال الكثير من الثناء والإطراء على ما يكتب. لكن السؤال الأهم. ممن ينال ذلك؟ أظن أن المرحلة العمرية عنصر مهم في تفسير هذه الظاهرة.. هل سيستمر هذا الإعجاب مع مرور الوقت والنضج؟؟؟ سؤال آخر مهم!

■ من نادى الأربعين لـ “فيلا القاضى”.. الفاصل بينهما عام ماذا عن كواليس هذا الانتقال الأدبى؟

الفاصل الزمني بين نادي الأربعين وفيلا القاضي عام كامل، تخلله قراءات كثيرة، ندوات أدبية، لقاءات، محاورات، كل ذلك لا ريب أنه أضاف للنص الأخير.

482640614_2078768322572158_3441719077123128685_n

مقالات مشابهة

  • هجرة الصاوى تكشف لـ"البوابة نيوز" عن التحديات التى تواجه الكتابة للأطفال
  • تيم حسن في مرمى الانتقادات بسبب عبارة عم الرسول (فيديو)
  • الكاتب عمرو دنقل لـ "البوابة نيوز": الرواية تستوعب إبداعي.. وأميل للفلسفة .. ولا أستطيع الكتابة فى شهر رمضان.. ولكنى أقرأ
  • أطعمة تراثية حمصية في رمضان تعيد للذاكرة عبق الماضي الجميل ‏
  • “بيت الطاعة” الأمريكي..
  • عمرو دنقل لـ "البوابة نيوز": لا أستطيع الكتابة فى شهر رمضان.. لكني أقرأ
  • شمس الكويتية: غيرت رقمي الجديد لحد يعزم نفسه عندي مالي خلق.. فيديو
  • "أُمية" تقاضي مدرستها: تخرجت بمرتبة الشرف ولا تعرف القراءة أو الكتابة
  • محيي إسماعيل: لا يوجد أى ممثل قدم العقد النفسية من بعدي.. وأنا عندي جنون العظمة
  • عندي غزالة .. رامز جلال يجبر إمام عاشور على الغناء إيلون مصر