نظام التعددية القطبية ليس نظام الثنائية القطبية.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 6th, April 2024 GMT
الكتاب: نظرية عالم متعدد الأقطاب
الكاتب: ألكسندر دوغين، ترجمة د.ثائرزين الدين،د.فريدحاتم الشحف
الناشر: دار سؤال للنشر و التوزيع،واستفهام للنشر و التوزيع،بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2023.
(571 صفحة من القطع الكبير)
إن العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي انتهت في عام 1945، هو عالم انتهت فيه لعبة التوازن الأوروبي، وبرزت فيه قوتان امتلكتا قدرات وإمكانات ضخمة وكونية الطابع، هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأسستا نظاماً عالمياً جديداً، هو العالم الثنائي القطبية، حيث سعت كل من الامبراطورية الأميركية الصاعد نجمها في فضاء السياسية العالمية، والاتحاد السوفييتي "الاشتراكي"، إلى سد فراغ القوة، الذي تركه الاستعمار الأوروبي الآفل.
كما أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، شهد صراعاً إيديولوجياً حادّاً، بين الاشتراكية والرأسمالية، وتوترات إيديولوجية حول القضية القومية، بحيث أصبح للإيديولوجيا ،أي كانت طبيعتها ،حضوراً قوياً في الصراعات الدولية المعاصرة، والأزمات الإقليمية، فضلاً عن أنها تحولت إلى قوة محركة وفاعلة تسير الأحداث السياسية المهمة، وحتى الدول في إطار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فالرأسمالية في الغرب هي رسالة الديمقراطية المسماة بالليبرالية وذات النزعة الفردية، والرسالة في الشرق هي رسالة الديمقراطية الاستبدادية والاشتراكية.
وهكذا، تشكل بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، نظام الثنائية القطبية في العالم، ويُطلق عليه أيضاً اسم: نظام يالطا. استمر هذا النظام شكلياً، في الإصرار على الاعتراف بالسيادة المطلقة للدول جميعاً، وأسست الأمم المتحدة على هذا المبدأ، استمراراً لعمل عصبة الأمم. ومع ذلك، من الناحية العملية، ظهر مركزان عالميان لصنع القرار في العالم - الولايات المتحدة، واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية. مثلت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي نظامين سياسيين واقتصاديين: الرأسمالية العالمية والاشتراكية العالمية، وبالتالي النظام الاستراتيجي. واستندت القطبية الثنائية إلى ازدواجية أيديولوجية ـ الليبرالية ضد الماركسية.
هذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكس جوهرياً أزمة العولمة الرأسمالية الجديدة، يقوم على الثورة التكنولوجية الهائلة التي تعتمد على المعرفة المكثفة، وتشكل المراكز الرأسمالية الغربية قاعدتها الأساسية، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.قام العالم ثنائي القطب على التكافؤ الاقتصادي والعسكري الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، على أساس التماثل، مقارنة بإمكانات كل من المعسكرين المتعارضين. ولم يكن في الوقت نفسه لدى أي دولة أخرى تنتمي إلى هذا المعسكر أو ذاك قوة بالمستوى نفسه، حتى ولو من بعيد، يمكن مقارنتها بقوة موسكو أو واشنطن وبالتالي كانت هناك دولتان عظميان مهيمنتان على المستوى العالمي، محاطتان بكوكبة من الدول المتحالفة (شبه التابعة بالمعنى الاستراتيجي). السيادة الوطنية المعترف بها شكلياً بالنسبة لهذه الدول في مثل هذا النموذج فقدت تدريجياً أهميتها. ففي المقام الأول إن أي بلد يعتمد على السياسة العالمية للدولة المهيمنة، التي ينتمي إلى منطقة نفوذها، لذلك فهو لم يكن مستقلاً، والصراعات الإقليمية (كقاعدة، كانت تدور في منطقة العالم الثالث) التي سرعان ما كانت تتطوّر إلى مواجهة بين الدولتين العظميين، اللتين تحاولان إعادة توزيع ميزان النفوذ العالمي على "المناطق المتنازع عليها". وهذا ما يفسر النزاعات في كوريا، وفيتنام، وأنغولا، وأفغانستان وهلمج.
يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين،"وفي هذا العالم ثنائي القطب كانت ثمة قوة ثالثة أيضاً ـ حركة عدم الانحياز. وقد ضمت عدداً من دول العالم الثالث، التي رفضت الخيار الوحيد إما لصالح الرأسمالية، أو الاشتراكية، مفضّلة المناورة بين المصالح المتناقضة للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. نجح البعض إلى حد ما، ولكن إمكانية عدم الانحياز نفسها تفترض وجود قطبين تحديداً، ينبغي الموازنة بينهما بطريقة أو بأخرى.
وفي الوقت نفسه فإنّ "دول عدم الانحياز" لم تكن قادرة بأي حال من الأحوال على إنشاء "قطب ثالث"، وتنازلت في المعايير الأساسية للقوى العظمى، وكانت مشتتة وغير موحدة فيما بينها، ولا تجمعها أي منصة اجتماعية واقتصادية مشتركة. قسم العالم بأكمله إلى الغرب الرأسمالي (العالم الأول the West)، والشرق الاشتراكي (العالم الثاني)، و"بقية الدول" (the Rest، العالم الثالث)، وكانت "بقية الدول" هي "الضواحي" (الأطراف) بكل ما في الكلمة من معنى، حيث اصطدمت فيها بشكل دوري مصالح القوى العظمى. كان الصراعُ بين القوى العظمى نفسها، وبسبب التكافؤ في القوى، مستبعداً تقريباً (بسبب ما يمكن أن يحدث من التدمير المتبادل المؤكد بعضها لبعض من جراء استخدام الأسلحة النووية). كانت دول (الضواحي) المحيط (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية) بمنزلة المنطقة المفضّلة لإجراء مراجعة جزئية يختبر فيها ميزان القوى"(ص31).
عقب نهاية الحرب الباردة، انهار النظام ثنائي القطب، بعد (انهيار أحد القطبين انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991). ما يطلق عليه اسم "النظام الدولي الجديد"، هو النظام الأمريكي القائم بالفعل، حيث أعلنت الولايات المتحدة في عام 1990 أنها حققت الانتصار بقولها: "بأن الحرب الباردة قد انتهت.. لقد فزنا فيها". وهذا النظام الدولي ذو القطب الواحد بزعامة الولايات المتحدة، والذي يعكس جوهرياً أزمة العولمة الرأسمالية الجديدة، يقوم على الثورة التكنولوجية الهائلة التي تعتمد على المعرفة المكثفة، وتشكل المراكز الرأسمالية الغربية قاعدتها الأساسية، والتي سوف يكون لها إسقاطاتها الفكرية والاجتماعية والسياسية في تغيير الوجه المادي للعالم.
خصائص نظام أحادية القطبية
لكنَّ هذا النظام الدولي تتحكم فيه الأيديولوجية الليبرالية الأمريكية الجديدة، التي انبثقت عن الثورة المحافظة المضادة للمكاسب الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي تحققت على يد الأيديولوجية الليبرالية الكلاسيكية، هذه الثورة المحافظة المضادة متسمة بنزعة رجعية شديدة الصلافة والعداء للأقليات وحقوق الطبقات الشعبية، وللحركات النقابية، والشعبية، وللثقافة الليبرالية والتقدمية، وبعداء شديد للعالم الثالث يقوم على تدميره بالحد الأقصى من العنف، لكي تسحب من هذا العالم النزعة الإنسانية، ونزعة التقدم.
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي، على الأقل مؤقتاً، بنت إستراتيجية أطلسية مطابقة لرؤيتها لهذا النظام الدولي، والتي تقوم على استعادة السيطرة على أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإقامة حكومات متعاونة مع الغرب، وخوض معارك تصفية ضد قوى حركة التحرر الوطني العربية بمساعدة القوى الرجعية، وبناء قوات التدخل السريع، وإعدادها لعمليات واسعة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وحشدها القوة العسكرية للحرب والتهديد بالحرب في المنطقة العربية، من خلال إقامة تحالف إستراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وتوقيع اتفاقية لإقامة منطقة التجارة الحرة بين الكيان الصهيوني وواشنطن، واستخدام خيار العنف الأقصى المدمر لأحداث تغييرات في العالم العربي، وحسم المعركة فيه لمصلحتها، وعلى حساب مصالح الشعوب، في سبيل إخضاع مخازن النفط الأساسية لسيطرتها، بعد أن أصبح النفط أهم سلعة إستراتيجية مهمة للإنتاج الصناعي في الدول الرأسمالية الغربية، فضلاً عن خوف الولايات المتحدة من أن يتم توظيف عامل النفط في بناء قوة جديدة في الوطن العربي، قد تهدد المصالح الحيوية الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لهذا السبب أو ذاك.
اقترح المحافظون الجدد الأمريكيون، الصياغة الأكثر دقة لنظرية أحادية القطب، فأكدوا على دور الولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد، وأعلنوا في بعض الأحيان صراحة أن الولايات المتحدة هي "الإمبراطورية الجديدة" (ر. كابلان)، "الدولة الجيدة المهيمنة عالمياً" و كريستول ر. کاغان)، وتوقع حلول "القرن الأمريكي" مشروع القرن الأمريكي الجديد). أي إن أحادية القطب اكتسبت أساساً نظرياً عند المحافظين الجدد. نظر إلى النظام العالمي المستقبلي، على أنه بناء يتمحور حول أمريكا، حيث تقع الولايات المتحدة في الصميم في دور الحكم العالمي وتجسد مبادئ «الحرية والديمقراطية»، وتنظم حول هذا المركز كوكبة من الدول الأخرى، وتعيد إنتاج النموذج الأمريكي بدرجات متفاوتة من الدقة. تختلف في الجغرافيا وفي درجة التشابه مع الولايات المتحدة:
الدائرة المقربة ـ الدول الأوروبية واليابان،ثم البلدان الليبرالية التي تتطور بقوة في آسيا،ثم الدول الأخرى جميعها.إنَّ كل الأحزمة الموجودة حول أمريكا العالمية وعلى مدارات مختلفة، مدرجة في عملية "الدمقرطة" و"الأمركة"، ونشر القيم الأمريكية يسير جنباً إلى جنب مع تنفيذ المصالح الأمريكية العملية، وتوسيع منطقة السيطرة الأمريكية المباشرة على النطاق العالمي.
يُعبر عن القطبية الأحادية على المستوى الاستراتيجي، بالدور المركزي للولايات المتحدة في حلف الناتو، علاوة على ذلك، في التفوق غير المتكافئ للقدرة العسكرية المشتركة لدول الناتو على جميع القوى الأخرى في العالم. ويتفوق الغرب بموازاة ذلك، على الدول غير الغربية الأخرى من حيث الإمكانات الاقتصادية ومستوى تطور التقنيات العالية، وهلمج. والأهم أنَّ الغرب هو المصفوفة التي يتطور فيها تاريخياً ويترسخ نظام القيم والمعايير، الذي يعد اليوم معياراً عالمياً لجميع البلدان الأخرى في العالم. ويمكن أن يطلق عليه تسمية: هيمنة فكرية عالمية، من ناحية، فهو يخدم البنية التحتية التقنية للتحكم العالمي، ومن ناحية أخرى، يقف في مركز النموذج الكوكبي المهيمن الهيمنة المادية تسير جنباً إلى جنب مع الهيمنة الروحية، والفكرية، والمعرفية، والثقافية، والمعلوماتية.
منذ أن فرضت الولايات المتحدة هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي، على الأقل مؤقتاً، بنت إستراتيجية أطلسية مطابقة لرؤيتها لهذا النظام الدولي، والتي تقوم على استعادة السيطرة على أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وإقامة حكومات متعاونة مع الغرب، وخوض معارك تصفية ضد قوى حركة التحرر الوطني العربية بمساعدة القوى الرجعية،كان انهيار الاتحاد السوفييتي يعني في الوقت نفسه، اختفاء إحدى القوى العظمى المتناظرة، ومعسكر أيديولوجي ضخم بأكمله. لقد كان يمثل نهاية واحدة من القوى العظمى المهيمنة عالمياً. تغير هيكل النظام العالمي نوعياً بالكامل منذ تلك اللحظة وبشكل لا رجعة فيه. القطب المتبقي في هذه الحالة، هو قطب برئاسة الولايات المتحدة، وعلى أساس الأيديولوجية الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية - وقد استمر كظاهرة وأخذ يوسع نظامه الاجتماعي والسياسي (الديمقراطية، السوق، أيديولوجية حقوق الإنسان) على النطاق العالمي. هذا ما يسمى عالم أحادي القطب؛ النظام العالمي أحادي القطب. يوجد في مثل هذا العالم، مركز واحد لصنع القرار للقضايا العالمية الكبرى. وجد الغرب ونواته (المجتمع الأوروبي الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة) نفسيهما في دور المهيمن الوحيد المتبقي وأصبحت مساحة الكوكب بأكملها، في ظل هذه الظروف هي تقسيم ثلاثي المناطق (موصوفة بالتفصيل في النظرية الماركسية الجديدة لواليرستين):
المنطقة الأساسية ("الشمال الغني"، "المركز").
منطقة محيط العالم ("الجنوب الفقير"، "المحيط").
منطقة وسيطة ("شبه محيطيّة"، وتشمل الدول ذات التطور النشط على طريق رأسمالية الدول الكبرى: الصين، والهند، والبرازيل، وبعض دول منطقة المحيط الهادئ، وكذلك روسيا المصابة بالقصور الذاتي، والتي تحتفظ بإمكانيات استراتيجية واقتصادية وطاقية كبيرة).
تسترشد النخبة السياسية الأمريكية على وجه التحديد، من حيث المبدأ، بمقاربة الهيمنة الواعية هذه، ويتحدث المحافظون الجدد عن ذلك بوضوح وشفافية، بينما تطبيق هذا المشروع على المدى المتوسط والطويل، وما إذا كانت الولايات المتحدة وحدها تستطيع تحمل عبء الإمبراطورية العالمية الكونية. لقد أدت المشاكل على مسار هذه الهيمنة الأمريكية المباشرة والمفتوحة، والتي بدت وكأنها أمر واقع في يفضل ممثلو الحركات السياسية والأيديولوجية الأخرى التعبيرات الأكثر انسيابية. وحتى نقاد العالم أحادي القطب في الولايات المتحدة لا يشككون في مبدأ "عالمية" القيم الأمريكية. والسعي إلى تحقيقها على المستوى العالمي. تركز الاعتراضات على التسعينيات، إلى دفع بعض المحللين الأمريكيين (س. كراو ثامر نفسه، الذي قدم هذا المفهوم) للتحدث عن نهاية لحظة أحادية القطب.
ولكن، على الرغم من كل شيء، فإنّ أحادية القطب بالذات، وبأشكالها الصريحة أو المحجبة ـ هذه أو تلك هي نموذج للنظام العالمي، الذي أصبح حقيقة واقعة بعد عام 1991، وما زال حتى يومنا هذا.
يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين :"تتعايش أحادية القطب في الممارسة العملية، مع الحفاظ الاسمي على نظام وستفاليا، وبقايا دول العالم ثنائي القطب المعطلة ذاتياً. ولا تزال سيادة جميع الدول القومية معترفاً بها قانونياً، ولا يزال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يعكس جزئياً ميزان القوى المطابق لحقائق الحرب الباردة. وتوافقاً مع ذلك، فإن الهيمنة الأمريكية أحادية القطب، موجودة في وقت واحد مع عدد من المؤسسات الدولية التي تعبر عن توازن القوى في العصور والدورات الأخرى في تاريخ العلاقات الدولية. إن التناقضات بين الوضع الفعلي والشرعي تذكر بنفسها باستمرار - على وجه الخصوص - في أعمال التدخل المباشر للولايات المتحدة أو التحالفات الغربية في دول ذات سيادة (في بعض الأحيان تتجاوز حق النقض لمثل هذه الإجراءات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة). في حالات مثل غزو القوات الأمريكية العراق عام 2003، نرى مثالاً لانتهاك مبدأ سيادة الدولة المستقلة، من جانب واحد، (تجاهل النموذج الوستفالياي)، ورفض أخذ موقف روسيا (ف. بوتين) بعين الاعتبار في مجلس الأمن الدولي، وحتى عدم اهتمام واشنطن باحتجاجات الشركاء الأوروبيين في حلف الناتو (فرنسا، ج. شيراك. وألمانيا، ج. شرودر).
يُصر أكثر أنصار أحادية القطبية (على سبيل المثال الجمهوري ج. ماكين) على جعل النظام الدولي يتماشى مع توازن القوى الحقيقي ويقترحون إنشاء نموذج مختلف بدلاً من الأمم المتحدة - عصبة الديمقراطيات، حيث يكون الموقف المهيمن للولايات المتحدة، أي تثبيت القطبية الأحادية، من الناحية القانونية. إن صياغة مثل هذا المشروع قانونياً في هيكل العلاقات الدولية للهيمنة الأمريكية لما بعد يالطا، وإضفاء الشرعية على العالم أحادي القطب، والوضع المهيمن للإمبراطورية الأمريكية أمور تمثل أحد الاتجاهات الممكنة لتطور النظام السياسي العالمي"(صص 35 ـ 36).
التعددية القطبية لا تتوافق مع عالم أحادي القطب
من خلال بلورته لنظرية عالم متعدد الأقطاب، يعتقد الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين أنَّ عالم متعدد الأقطاب ليس عالماً ثنائي القطب (كما عرفناه في النصف الثاني من القرن العشرين)، حيث لا توجد منذ ذلك الحين قوة واحدة في العالم اليوم قادرة على ذلك بمفردها، أي المواجهة الاستراتيجية لقوة الولايات المتحدة ودول الناتو، وإلى جانب ذلك، لا توجد أيديولوجية واحدة عامة وواضحة يمكنها توحيد جزء كبير من الإنسانية في مواجهة أيديولوجية حازمة مع أيديولوجية الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية و"حقوق الإنسان"، التي تقوم على أساسها هذه المرة الهيمنة الأمريكية الجديدة. لا روسيا الحديثة، ولا الصين ولا الهند ولا أي دولة أخرى، يمكن أن تطمح وحدها في ظل هذه الظروف، إلى مركز القطب الثاني. إنَّ استعادة القطبية الثنائية أمر مستحيل، إما لأسباب أيديولوجية (نهاية جاذبية الماركسية الواسعة)، أو للإمكانات الاستراتيجية والموارد العسكرية الفنية المتراكمة (الولايات المتحدة ودول الناتو على مدى الثلاثين عاماً الماضية تصدرت القيادة حتى إن منافسة متكافئة معها في المجالات العسكرية - الاستراتيجية والاقتصادية والتقنية غير ممكنة لأي دولة في العالم).
من الواضح أن النظام العالمي متعدد الأقطاب لا يختلف فحسب عن أحادي القطب، بل هو نقيضه المباشر، الأحادية القطبية تعني هيمنة مركز واحد لصنع القرار، أما تعددية الأقطاب فتصر على وجود مراكز عدة، وعدم امتلاك أي منها الحق الحصري، ويهدف ذلك إلى مراعاة مواقف الآخرين. وبالتالي فإن التعددية القطبية هي بديل منطقي مباشر للأحادية القطبية لا يمكن أن يكون هناك حل وسط بينهما: وفقاً القوانين المنطق، إما أن يكون العالم أحادي القطب أو متعدد الأقطاب. وخلال ذلك، ليس من المهم كيفية إضفاء الطابع القانوني أو الحقوقي، على هذا النموذج أو ذاك، ولكن كيف يمكن لهذا النموذج أن يكون أمراً واقعاً. كان الدبلوماسيون خلال حقبة الحرب الباردة، والسياسيون مترددين في قبول القطبية الثنائية، والتي كانت مع ذلك حقيقة واضحة. لذلك، من الضروري فصل اللغة الدبلوماسية عن الواقع الملموس. إن العالم أحادي القطب هو الترتيب الفعلي للنظام العالمي اليوم. ولا يسع المرء إلا أن يجادل، فيما إذا كان هذا جيداً أم سيئاً، سواء كان هذا فجر مثل هذا النظام أو، على العكس من ذلك هو غروبه هل سيستمر لفترة طويلة، أو على العكس من ذلك، سينتهي بسرعة. لكن الحقيقة تبقى. نحن نعيش في عالم أحادي القطب. لا تزال لحظة أحادية القطب مستمرة (على الرغم من أن بعض المحللين مقتنعون بأنها تقترب من نهايتها بالفعل).
عالم متعدد الأقطاب لا يُعد غير قطبي
اقترح النقاد الأمريكيون للأحادية القطبية المتشددة، ولا سيما المنافسون الأيديولوجيون للمحافظين الجدد المتمركزين في مجلس العلاقات الخارجية، مصطلحاً آخر بدلاً من الأحادية القطبية عالم لا قطبي (non-polarity). اعتمد هذا المفهوم على حقيقة أن عمليات العولمة ستستمر في الظهور، وسيوسع النموذج الغربي للنظام العالمي وجوده بين جميع دول وشعوب الأرض. وهكذا، ستستمر الهيمنة الفكرية والقيمية للغرب سيكون العالم المعولم عالماً لليبرالية والديمقراطية والسوق الحرة وحقوق الإنسان. لكن دور الولايات المتحدة كقوة وطنية ورائد العولمة، حسب مؤيدي هذه النظرية، سيتقلص بدل الهيمنة الأمريكية المباشرة، ستبدأ في التبلور الحكومة العالمية، التي سيشارك فيها ممثلو مختلف البلدان المتضامنون مع القيم المشتركة، والساعون لإنشاء فضاء اجتماعي وسياسي، واقتصادي واحد، على أراضي الكوكب بأسره. نحن مرة أخرى، نتعامل هنا مع نظير لـ «نهاية التاريخ» لفوكوياما، مفسر بمصطلحات مختلفة فحسب.
سوف يقوم العالم غير القطبي على أساس تعاون الدول الديمقراطية (بصمت). لكن يجب تدريجياً، إشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل ـ المنظمات غير الحكومية، والحركات الاجتماعية، وجماعات المواطنين المنفصلة ومجتمعات الإنترنت، وما إلى ذلك.
إن الممارسة الرئيسية في بناء عالم غير قطبي، تتمثل في تبديد مستوى صنع القرار من مركز واحد اليوم واشنطن إلى عديد من المراكز ذات المستوى الأدنى ـ وصولاً إلى الاستفتاءات الكوكبية، عبر الإنترنت حول أهم الأحداث والإجراءات للبشرية جمعاء، وسيحل الاقتصاد محل السياسة، وستزيل المنافسة في السوق جميع حواجز البلدان الجمركية. وسوف يتحول الأمن من مسألة دول، إلى مسألة تخص المواطنين أنفسهم. وسيحل عصر الديمقراطية العالمية.
سوف يقوم العالم غير القطبي على أساس تعاون الدول الديمقراطية (بصمت). لكن يجب تدريجياً، إشراك الجهات الفاعلة غير الحكومية في عملية التشكيل ـ المنظمات غير الحكومية، والحركات الاجتماعية، وجماعات المواطنين المنفصلة ومجتمعات الإنترنت، وما إلى ذلك.تتوافق هذه النظرية بشكل أساسي مع نظرية العولمة، وتُقَدَّمُ كمرحلة يجب أن تحل محل العالم أحادي القطب. ولكن فقط بشرط أن يصبح النموذج الاجتماعي، والسياسي والقيمي والتكنولوجي، والاقتصادي (الديمقراطية الليبرالية) الذي تروج له الولايات المتحدة والدول الغربية اليوم ظاهرة عالمية، وتختفي الحاجة إلى حماية صارمة للمثل الديمقراطية والليبرالية من قبل الولايات المتحدة نفسها - يجب أن تكون جميع الأنظمة التي تقاوم الغرب والدمقرطة والأمركة، بحلول العالم غير القطبي، قد قضي عليها. ويجب أن تصبح النخبة في جميع البلدان متجانسة، ورأسمالية، وليبرالية، وديمقراطية ـ باختصار، "غربية"، بغض النظر عن أصولها التاريخية والجغرافية والدينية والوطنية.
إن مشروع عالم غير قطبي، مدعوم من عدد من المجموعات السياسية، والمالية المؤثرة ـ بدءاً من عائلة روتشيلد إلى جورج سوروس وصناديقه. هذا المشروع لعالم غير قطبي موجه نحو المستقبل. يُنظر إليه على أنه التكوين العالمي الذي يجب أن يأتي ليحل محل أحادية القطبية، وكأنه يأتي بعدها، وهو ليس بديلاً بقدر ما هو استمرار لها. وستصبح هذه الاستمرارية ممكنة فقط عندما ينتقل مركز الثقل في المجتمع، من التركيبة الحالية لتحالف مستويين من الهيمنة - المادي (المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، والاقتصاد والموارد الغربية) والروحي (المعايير والإجراءات والقيم) - المجرد الهيمنة الثقافية، وستنخفض أهمية الهيمنة المادية تدريجياً. هذا هو مجتمع المعلومات العالمي، حيث ستنشر العمليات الرئيسية للهيمنة في مجال العقل، من خلال التحكم في العقول، والتحكم في الوعي، وبرمجة العالم الافتراضي.
إن العالم متعدد الأقطاب، لا يتوافق بأي حال من الأحوال مع مشروع العالم غير القطبي، لأنه لا يقبل أسس اللحظة أحادية القطب كمقدمة للنظام العالمي المستقبلي، ولا الهيمنة الفكرية للغرب، ولا عالمية قيمه، ولا تشتت مستوى صنع القرار على التعددية الكوكبية، دون الأخذ بالحسبان انتماءها الثقافي والحضاري. يفترض العالم غير القطبي، أن النموذج الأمريكي لبوتقة الانصهار، سوف يمتد إلى العالم كله. ونتيجة لذلك، ستمحى جميع الاختلافات بين الشعوب والثقافات، وستتحول البشرية الموحدة، إلى مجتمع مدني عالمي بلا حدود. إن التعددية القطبية تعتبر أن مراكز صنع القرار، يجب أن تكون على مستوى عال بما فيه الكفاية (ولكن ليس في حالة واحدة - كما هي الحال اليوم في عالم أحادي القطب)، بل يجب الحفاظ على الخصائص الثقافية لكل حضارة معينة وتقويتها (ولا تذوب في مجموعة عالمية واحدة).
إقرأ أيضا: العالم ينتقل من القطبية الأحادية إلى التعددية القطبية.. قراءة في كتاب
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب لبنان لبنان كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عالم متعدد الأقطاب الهیمنة الأمریکیة الاتحاد السوفییتی هذا النظام الدولی التعددیة القطبیة الولایات المتحدة للولایات المتحدة النظام العالمی للنظام العالمی ألکسندر دوغین الحرب الباردة القوى العظمى غیر الحکومیة ثنائی القطب المتحدة فی فی العالم على أساس یمکن أن مثل هذا یجب أن
إقرأ أيضاً:
إسرائيل من الفكرة إلى الدولة.. هل إلى زوال؟ قراءة كتاب
الكتاب: إسرائيل من الفكرة إلى الدولة هل إلى زوال؟الكاتبان: وليد أنطوان الشوملي، خضر عيسى هواش .
الناشر: دار تدوين للنشر والتوزيع، عمان، 2024م
عدد الصفحات: 138 صفحة.
قامت الصهيونية المسيحية بدور بارز في استمرار وجود دولة الاحتلال الإسرائيلي، فهي تشكل أحد أعمدة بقاء هذه الدولة، وليس غريباً أن الصهيونية المسيحية استندت على مفاهيم دينية مغالطة في تحريفها للكتاب المقدس" الإنجيل"، ومنها انطلقت في وضع فرضيات لمعاداة الشعب الفلسطيني ومحاربته داخل أرضه، وعلى أساسها قامت مؤسسات وجمعيات أمريكية في دعم دولة إسرائيل، فكانت الصهيونية المسيحية المحرك لأي عملية ديمقراطية انتخابية داخل الولايات المتحدة ولها دور واضح داخل الحزب الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية
هذه الدراسة المهمة تقدم رؤية فكرية وسياسية لمعضلة إسرائيل الوجودية كما أشار الدكتورة أحمد رفيق عوض في تقديمه لها" إن المؤلفين في هذا الكتاب يثبتان أن العقل الأوروبي تهود أو تم احتلاله، وبالتالي تم إجبار أوروبا على البحث عن جذورها اليهودية في عملية غسيل دماغ فريدة في التاريخ "، إن المؤلفين أرادا أن يقولا بعالي الصوت أن المسيحية النقية كما فهمها أهل الشرق بريئة كل البراءة من ادعاءات الصهيونية المسيحية وتفسيراتها، وأن الصهيونية المسيحية هي فهم متطرف وقراءة مهووسة، وتفسير حرفي للمسيح، ولما دعا إليه.
يبحث الفصل الأول: في المسيحية الصهيونية" الأرض الموعودة"، الجذور والخلفيات اللاهوتية والتاريخية لقيام حركة الإصلاح اللوثري باجتراح المسيحية الصهيونية، التي سبقت الصهيونية اليهودية، والدول الأوروبية الاستعمارية، وتسببت باستعمار فلسطين ونكبة شعبنا، فقد قامت الصهيونية بتفسير النصوص التوراتية/ أي العهد القديم المتعلقة بالمشيح اليهودي، وقراءته قراءة أخروية خلاصيه، تدعي فيها أن هذا الكتاب تنبأ بقدوم المسيح بن مريم، الذي سيعود إلى الأرض ليقيم حكماً ألفياً تسبقه إقامة دولة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وينبه المؤلفان أن المشيح المذكور في العهد القديم ليس هو المسيح ابن مريم الذي يؤمن به كل من المسيحيين والمسلمين وفقاً لعقيدة وتراث كل ديانة.
تعود بذور المسيحية الصهيونية إلى نشوء الحركة "البيوريتانية " التطهيرية التي نشأت بعد سنوات من انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية في روما عام 1517م، عندما تمرد ملك إنجلترا هنري الثاني على الكنيسة البابوية الأم، وتأسيس كنيسة إنجلترا عام 1534م، كما قام جون كالفن بتأسيس المذهب الذي يحمل اسمه، وذلك لخلافه مع المذهب اللوثري حول بعض القضايا العقائدية، وفي بعض التفسيرات اللاهوتية، " شكل هذان المذهبان البيوريتاني والكالفني الحاضنة للمعتقدات الدينية، التي تقول أن اليهود هم شعب يهوه النوعي، وهم شعب الله المختار، بالتالي هذا الشعب بحاجة لوطن"، فقد قام أتباع هذه المذهبين بتفسير النصوص التناخية أي التوراتية كي تتلاءم مع رغباتهم ومع طموحات اليهود باستعمار فلسطين، بالتالي فقد ربط هؤلاء الايمان المسيحي بعودة السيد المسيح بضرورة إعادة تجميع اليهود في فلسطين، وتأسيس دولة لهم حتى يظهر المسيح من جديد، وهو ما شكل حسب زعمهم السردية التوراتية عملية ربط اليهود بأرض فلسطين فيما بعد أساساً في إيجاد جماعة متخيلة( قومية من دين)، وهي حالة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني (ص11).
تعود بذور المسيحية الصهيونية إلى نشوء الحركة "البيوريتانية " التطهيرية التي نشأت بعد سنوات من انشقاق مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية في روما عام 1517م، عندما تمرد ملك إنجلترا هنري الثاني على الكنيسة البابوية الأم، وتأسيس كنيسة إنجلترا عام 1534م،قامت المسيحية الصهيونية بعملية تزاوج بين الأسطورة والدين؛ لتشكل قاعدة انطلاق للغرب الاستعماري باستثمارها من أجل تمرير مشروعه، وفكرة الاستعماري الاستيطاني في فلسطين بالسلاح الذي شكل رأس المال حاضنته الرئيسية ومن أجل ربط المكتشفات الأركيولوجية بالوجود اليهودي القديم المزعوم في فلسطين، ساهم المسيحيون الصهاينة بإنشاء صندوق استكشاف فلسطين عام 1865م، الذي قام بعملية مسح شاملة للأراضي الفلسطينية، وبناءً عليها حددت المواقع الاستيطانية لتأخذ بعد ديني عند الأحزاب اليهودية المتدنية، وبما يخلق سردية إسرائيلية تم من خلالها استنطاق الأثار الفلسطينية برواية إسرائيلية مزيفة.
دارت أحداث الفصل الثاني حول خفايا الصهيونية المسيحية من مؤتمر بازل1897م إلى النكبة عام 1948م، فبحث الكتابين في المجريات التاريخية للدول الأوروبية المسيحية الاستعمارية وتأييدها للحركة الصهيونية اليهودية، فالنكبة من صنع وإنتاج الدول الاستعمارية الأوروبية وحركتيها المسيحية الصهيونية، واليهودية الصهيونية.
في 12 يونيوعام 1895م كتب ثيودور هرتسل في مذكراته اليومية حول اغتصاب فلسطين" عندما نحتل الأرض، سنحقق فوائد فورية للدولة ستستقبلنا، ويجب علينا أن نصادر بسلاسة الممتلكات الخاصة القائمة على العقارات المخصصة لنا، سنحاول إحياء روح السكان الفقراء الذين يعيشون عبر الحدود من خلال توفير فرص لهم في البلدان المجاورة، مع حرمانهم من أي عمل في بلدنا" (ص35).
أعلن الصهاينة الأوائل صراحة وجوب طرد السكان الأصليين من أجل تحقيق أهدافهم، فقد كتب ذات مرة مدير الصندوق القومي اليهودي جوزيف فايتس:" يجب أن تكون الأمور واضحة من حيث أنه ليس هناك متسع في البلاد لكلا الشعبين، فإذا غادرها العرب ستتع البلاد لنا حينها، والحل الوحيد هو أرض إسرائيل بدون عرب، ولا يوجد مجال للتنازلات هناك، وليس هناك من طريقة إلا نقل جميع العرب إلى الدول المجاورة إلا القليل منهم" (ص36).
عام 1905 ـ 1907م، انعقد مؤتمر كامبل بنرمان، أهم حدث مفصلي في تاريخ القضية الفلسطينية، الذي وضع حجر الأساس لتفكيك المنطقة، وتأسيس دولة إسرائيل، كمقدمة لوعد بلفور الذي صدر عام 1917م، ليكمل هذا الأخير الضلع الثالث من مثلث المؤامرة المشؤوم الذي بدأ بالمؤتمر الصهيوني الأول ومؤتمر بنرمان، الذي عقد سراً في لندن واستمرت مناقشاته حتى عام 1907م، وأهم ما جاء فيه" يشكل البحر الأبيض المتوسط الشريان الحيوي للاستعمار، وهو الجسر الذي يربط الشرق بالغرب، كما أنه الممر الطبيعي إلى القارتين الأسيوية والإفريقية، وملتقى الطرق العالمية"، قسم المؤتمرون دول العالم إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى ـ دول الحضارة الغربية المسيحية التي تشمل دول أوروبا، وأمريكا الشمالية، وأستراليا، ويجب علينا دعمها بشتى الوسائل.
الفئة الثانية ـ دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ولكن لا يوجد بيننا وبينها تصادم حضاري وتشمل أمريكا اللاتينية واليابان وكوريا وغيرها، التي يجب احتواؤها ودعمها بالقدر الذي لا ينعكس عليها سلباً.
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري، وتشكل تهديداً وهذه الدول بالتحديد العربية والإسلامية، ولكنها تمتلك من المواد الخام ما يجعله قوة هائلة علماً أنها تسطيع خنق العالم كله من خلال تحكمها بمضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس، وجبل طارق(ص39).
الفصل الثالث في العلاقة بين اليهودية والصهيونية الإسرائيلية التي طرحها في الفصل الثالث، تناول الكاتب العلاقة الوثيقة ما بين الديانة اليهودية، والصهيونية ودولة إسرائيل، تلك العلاقة ذات المركبات الثلاثة، هي واحدة في الجوهر تستند إلى الديانة اليهودية، وأساطيرها التي تحدثت عن اليهود شعب الله المختار، وأرض الميعاد في التناخ/ العهد القديم .
رفض الكاتبان الفصل بين التام بين ما هو يهودي، وما هو صهيوني، أو الإسرائيلي، لوجود تداخل بين الأبعاد الثلاثة التي تشكل هوية العديد من الإسرائيليين أو اليهود في كافة أرجاء العالم، فسمات الشخصية اليهودية عبر التاريخ عبارة بين الدين والرواية التوراتية التي تخلو من الأسطورة التي تمثل امتداداً وامتلاكاً للأساطير البابلية، والمصرية، والكنعانية التي يرجع تاريخها لأكثر من خمسة آلاف عام.
الشخصية اليهودية حسب سيغموند فرويد، وهو أول من اهتم في تحليل الشخصية اليهودية، ووسم اليهود بأنهم مصابون بمرض البارانويا اليهودية أي جنون العظمة الذي يرجع أساسه إلى اعتقادهم أنهم شعب الله المختار، ويؤكد أن النازية لم تكن السبب بإصابتهم بذلك المرض، إلا أنها أيقظت فيهم تلك البارانويا المكبوتة في ظل أجواء الذل والهوان التي كان يعيشها" استندت التعاليم اليهودية إلى فكرة التعالي على الأغيار، أي كل من هو غير يهودي وفقاً للشريعة اليهودية، واعتبارهم درجة من البشر أدنى منهم، وهذه النظرة الفوقية ترتكز على عاملين أساسيين، أولهما التنشئة الدينية وثانيهما الأسرية"(ص68).
التنشئة الأسرية فإن الطفل يولد وينشأ بشكل عام في ظل نظام أسري يتسم بمزيج من التراث الديني والأساطير والبطولات الوهمية، والنظرة الفوقية على الآخر بغض النظر عن دينه، أو عرقه، أو جنسه، وبالتالي تنغرس في عقله فكرة أن الله دائماً يقف إلى جانبه في صراعه مع الآخر، ولكنه سرعان ما تنقلب الآية، ويصطدم بالواقع الأليم في اللحظة التي يخرج فيها من الجيتو، ويجد نفسه محتقراً من العامة على عكس القيم التي نشأ عليها داخل ذلك الجيتو، من هنا تنشأ حالة الانفصام النفسي التي قد تؤدي إلى حالة من التمرد وتأخذ الطابع العنفي.
إن التحديات الوجودية لدولة الاحتلال متعددة لدولة قامت على القتل والسلب وتشريد الشعب الفلسطيني، لذلك فصلها الشوملي وهواش في الفصل الرابع بالبحث في التحديات الوجودية والمصيرية لإسرائيل كما عرضتها مؤتمرات هرتسيليا، التي تعد أهم المؤتمرات التي تبحث في إسرائيل والتحديات الوجودية التي تواجهها، النابعة من ثلاثة أركان ومسببات، الأول: كونها دولة يهودية ثيوقراطية تؤمن أن اليهود الذين يعيشون فيها هم شعب الله المختار، وأن لهم الحق في القيام بأية ممارسة ضد الشعب الفلسطيني إلى درجة الإبادة كما يحصل في غزة اليوم، الثاني: كونها دولة استعمارية يسري عليها كل تراث مقاومة الاستعمار على مر التاريخ، الثالث: الدعم الأوروبي والأمريكي الاستعماري، الذي هو الآخر بات يعاني من تحديات بنيوية داخلية، وخارجية مع روسيا والصين وإيران.
تعد دولة الاحتلال من أكثر الدول في العالم، إنتاجاً في الأدبيات العلمية والعلوم والمعارف، وكلها تحمل عناوين التحدي الوجودي والمصيري وما شابهها؛ لأنها تدرك أنها كيان استعماري يقوم على الأراضي والحقوق العربية، يتحدى الإرادة والمصالح العربية، وتكتسب هذه الأديبات العقلية ـ الأمنية العسكرية بالأساس، فمؤتمر هرتسيليا للمناعة القومية، يضم مجموعة كبيرة من الخبراء والمختصين العسكريين والأمنيين في العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، أما نتائج مثل تلك المؤتمرات تتعلق بصياغة سياسات وقرارات استراتيجية تعالج التحديات الوجودية للكيان الصهيوني، كالمسألة الديمغرافية والحرب على الإرهاب والهوية والاقتصاد والبحث العلمي، والعلاقة مع دول المحيط العربي وإيران، وكذلك الاستراتيجيات العسكرية والأمنية، ومثل هذه النتائج غير ملزمة من الناحية الرسمية؛ إلا أنها تعبر تعبيراً فعليا عن القضايا التي تبحثها وتصل في النهاية إلى مراكز اتخاذ القرار في الدولة(ص78).
تقف إسرائيل عند نهاية مجريات حرب طوفان الأقصى في مواجهة خمس جبهات دون أن تتمكن من حسم المعركة على أي منها، أو تعلن انتصارها وتنهي الحرب، أو تقبل إيقافها تحسباً مما يأتي، ويؤكد الكاتبان أن إسرائيل خسرت حربها بالتأكيد على هذه الجبهات..ناقشت تلك المؤتمرات قضايا متعددة تتعلق بالتحديات الوجودية، أبرزها البحث في السياسات الأمنية والدفاعية لدولة الكيان الصهيوني، وكذلك التحديات التي تواجه ذلك الكيان، ومصير الدولة خاصة في ظل النمو الديمغرافي العربي داخل ما يسمى الخط الأخضر، الذي سيشكل خطراً داهماً على هوية الدولة، هذه القضية تجمع حولها المستوطنين اليهود من اليسار إلى اليمين كافة، وتؤرقهم جميعاً" تطرح وثائق هرتسليا هذه القضية في كل مؤتمر دون استثناء من بابين مختلفين المشكلة الأولى: تتعلق باليهود الحريديم، والثانية: تتمثل بالخطر الذي يشكله كل عرب فلسطين بدون استثناء، ويضع المؤتمر القضيتين في سلة واحدة، ويشير إلى أن هناك أربعة ملايين نسمة منغمسة في التكنولوجيا الغربية مقابل مليونين من اليهود المتشددين الحريديم، والعرب، والعمال الأجانب الذين يعيشون في مجتمع يشابه مجتمعات العالم الثالث، وأحد الفروق بين هاتين المجموعتين ديمغرافي، حيث أن معدل المواليد لدى العرب في إسرائيل( الحريديم) من بين أعلى معدلات الولادة في العالم" (ص80)، بل أن إسرائيل تقول للعالم أجمع أن إسرائيل والتحديات التي تواجهها تخص كل يهود العالم، ولا تخص أصحاب البلاد الأصليين من عرب فلسطين.
هل ستربح إسرائيل الحرب القادمة؟
في أول تصريح لرئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو استعار فيه عبارة من العهد القديم عن حرب اليهود على العماليق، وكأن خطة إبادة غزة كانت معدة سلفاً والآن جاء دور تنفيذها، فهذه الخطة الإجرامية لإفناء العرب في غزة، رغم جذورها الدينية ما تزال تلقى التأييد والدعم من حكام أمريكا وأوروبا المسيحيين الذين لم يستنكروا ولو بكلمة واحدة تهديد وزير المالية الإسرائيلي بتسليئل سموتريتش بتجويع ميلوني فلسطين في غزة لإبادتهم!
تقف إسرائيل عند نهاية مجريات حرب طوفان الأقصى في مواجهة خمس جبهات دون أن تتمكن من حسم المعركة على أي منها، أو تعلن انتصارها وتنهي الحرب، أو تقبل إيقافها تحسباً مما يأتي، ويؤكد الكاتبان أن إسرائيل خسرت حربها بالتأكيد على هذه الجبهات:
الأولى ـ انفض عقد الأمن والأمان الذي صاغته مع يهودها منذ النكبة عام 1948م؛ لأنها لم تتمكن من حمايتهم من طوفان الأقصى.
الثانية ـ بات الجليل الأعلى والغربي منطقة عازلة للمقاومة التي تسببت بنزوح أكثر من 100 ألف مستعمر منه وانتقال حياتهم إلى المجهول.
الثالثة ـ تدمير الاقتصاد الزراعي في إسرائيل الذي كان قوامه منطقة النقب الغربي "الذي يعرف إسرائيليا بغلاف غزة"، إضافة لمئات المنشآت الإنتاجية والاقتصادية الأخرى.
الرابعة ـ نزوح حوالي 550 ألف مستعمر إلى الخارج.
الخامسة ـ فقدان إسرائيل الكثير من مقومات دعمها الدولي بين أبناء الشبيبة والمثقفين، ومؤسسات حقوق الإنسان المختلفة في العالم.
هنا توقفت إسرائيل عن الصعود على درجات السلم التي وضعته معياراً لتقدمها ومنعتها، وفي النقطة التي توقفت فيها عن الصعود، لم تعد قادرة على حسم الأمر مع محاور المقاومة من خلال خمس جبهات مرشحة بالازدياد في العالمين العربي والإسلامي بكل ما يعني الأمر من تطور وتصاعد المقاومة، على الرغم من توقيع اتفاقيات منفردة للتهدئة في لبنان وقطاع غزة.
أما يوم القيامة بالمنظور الإسرائيلي في حرب طوفان الأقصى، فتلعب رؤية يوم القيامة هذه دوراً مركزياً لإسرائيل والولايات المتحدة وروسيا وإيران، ولا تترك أي مجال لأي شخص آخر، وعلى الرغم من أن مهمة اليهود هي التجمع ثم الموت، إلا أنه ينظر إلى الفلسطينيين على أنهم عقبة في طريقهم"، على هذا النحو نشرت مجلة " رولينج ستون" رسالة موقعة من 2000واعظ من الكنيسة المعمدانية الجنوبية ضمت 13 مليون أمريكي في عضويتها، رفضوا فيها الدعوات الأمريكية لكبح جماح الجيش الإسرائيلي، واعتبروا لإسرائيل الحق في الرد على هجوم السابع من أكتوبر(ص123).
لم تعد مسألة المساعدات لإسرائيل تثير القلق بين الإنجيليين بفضل الصعود السريع المفاجئ لمايك جونسون وهو مشروع مجهول من ولاية لويزيانا تم انتخابه رئيساً لمجلس النواب، ورئيسا للهيئة التشريعية الأمريكية، تم انتخاب جونسون في أكتوبر كمرشح وسط بين أعضاء الفصيل الجمهوري على وجه التحديد لأنه غير معروف لعامة الناس، حيث بدأ الكشف عن ماضيه فقط بعد انتخابه، وتم الكشف عن أنه عمل سابقاً كمحامي لمنظمات مسيحية تعمل ضد حقوق المرأة والمثليين؛ لمدة عشرين عاماً( ص127)
نعم لقد فسر الصهاينة المسيحيون الهجوم على غزة أنه حدث يبشر بعودة المسيح الوشيكة، وتشرح هذه الزمانية كيف أن النبوءات المسيحية الصهيونية ترى ما يحدث في غزة من الفظائع الإنسانية، على أنه طبيعي وأنه قدر محتوم.
أمام إسرائيل تحديات عسكرية وأمنية وخارجية من جهة وتحديات داخلية نتيجة اتساع الفجوات الاجتماعية والسياسية، وقيام الحكومة الإسرائيلية الحالية بإجراء تعديلات قضائية من شأنها أن تطيح بالعلاقات المجتمعية السابقة، بات تعامل إسرائيل مع هذه التحديات هو الذي سيحدد مصيرها الذي لم يعد ثابتاً أو مضموناً .
ختاماً إن القارئ لهذه الدراسة النوعية في تطرقها لقضية غاية في الحساسية والتشابك، كونها تحتاج جرأة في الطرح والتحليل والنقد المتين المبني على أسس وقواعد منطقية، والشواهد التاريخية والسياسية يدرك أن الكتابين قد كسرا حواجز الصمت إزاء موضوع الصهيونية المسيحية وخباياها، وقدما تفاصيل دقيقة، ونفدا قضايا ذات إشكاليات دينية وتاريخية وسياسية بدراستهما هذه، لذلك فإنني أدعو نفسي وكل متخصص للاطلاع والقراءة بإمعان لكل ثنايا صفحات" إسرائيل من الفكرة إلى الدولة.. أما إلى زوال؟