الكتاب: نظرية عالم متعدد الأقطاب
الكاتب: ألكسندر دوغين،ترجمة د.ثائرزين الدين،د.فريدحاتم الشحف
الناشر: دار سؤال للنشر و التوزيع،واستفهام للنشر و التوزيع،بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2023.
(571 صفحة من القطع الكبير)


في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، تأسس النظام الدولي ثنائي القطبية، بزعامة كل من الولايات المتحدة الأمريكية قائدة المعسكر الغربي الذي يمثل النظام العالمي الرأسمالي الليبرالي، والاتحاد السوفييتي الذي كان يمثل المعسكر الاشتراكي، لكنَّ إثر انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية عام (1991) تمَّ تكريس انتصار النظام الرأسمالي العالمي الليبرالي، فأصبحتْ "أمريكا" هي القوة الأكبر بلا منازعٍ في ظل النظام الدولي أحادي القطبية، كما عملتْ علي ترويج نموذجها السياسي والاقتصادي والثقافي في جميع أنحاء العالم فيما أصبح يعرف بالعولمة الرأسمالية الليبرالية الأمريكية المتوحشة.



فكثر الحديث عن نهاية التاريخ وعصر الإيديولوجيات، وأنَّ مرحلة جديدةَ بدأتْ، تتمَيَّزُ بالبراغماتية وغياب التعصب الأيديولوجي، وسيادة العقلانية القانونية، وكان الانتشار الساحق لكتاب "نهاية التاريخ وخاتم البشر" The End of History and" last Man (1992) ""للياباني المتأمرك ـ كما يصفه البعض ـ "فرانسيس فوكوياما" Francis Fukuyama ، دورٌ كبيرٌ في الترويج للنظام الدولي الأمريكي.

وتتلخصً أطروحة فوكوياما في أنَّ تحقيق الديمقراطية الليبرالية قد أنهي مسار التاريخ وأكمله، وأنَّ الغرب الليبرالي يحتل القمة النهائية في الصرح التاريخي العالمي، وذلك من حيث فهمه للتاريخ بوصفة عمليةً ديالكتيكيةً غائيةً. ومن هنا يعتقد "فوكوياما" بأنَّ الديمقراطيةَ الليبراليةَ ستكون الحلقة الأخيرة للأيديولوجيا الإنسانية، والشكل النهائي لأنظمة الحكم في العالم؛ وهي بهذا تعتبر بمثابة نهاية للتاريخ باعتبار أنَّ الديمقراطية الليبرالية كنظام للحكم خالية من التناقض الذي كان موجودًا في الأنظمة الأخرى.. وهكذا يغلق "فوكوياما" باب التاريخ ويعلن نهايته الأبدية التي لن يظهر في أفقها أي مؤشر جديد.

عندما تنبأ البروفيسور فرانسيس فوكوياما في أطروحته: (نهاية التاريخ) في أواخر القرن الماضي، وقال إنَّ الديمقراطية الرأسمالية هي النموذج النهائي للتطور البشري الإيديولوجي للإنسانية وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ، فإنَّه لم يكن يدرك أنَّ هذا الطرح الإيديولوجي أيضًا لم ينطلق من رؤى واستقراءاتٍ عميقةٍ في التاريخ والصيغ والنماذج البشرية، وأنَّه ربما سيفاجأ بما حدث للنظام المالي الرأسمالي في الولايات المتحدة الذي أعتبره نهاية النهايات لكل الفلسفات والأفكار الإنسانية، وأصبحت الاقتصاديات العالمية تعيش زوابعه السلبية وأثرها على الأمم في عيشها واستقرارها، آخرها الأزمة المالية التي عصفت بالغرب في سنة 2008 وتداعياتها، والأزمة العالمية الناجمة عن انتشار جائحة كوفيد 19، والإسقاطات المدمرة للحرب الروسية في أوكرانيا 2022، بوصفها حربًا ضد النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الإمبريالية الأمريكية،، وذراعها اليمنى (الناتو)، وقد شكلتْ زلزالاً ضرب بنية النظام الدولي الأمريكي أُحَادِي القطبية.

في عام 1974، أصدر والرشتاين الجزء الأول من أطروحته الشهيرة: النظام العالمي الجديد (The Modern World-System،1974،1980،1989) والتـي وضع فيها عديد المقاربات النظرية؛ حيث يُؤَكِّدُ فالرشتاين بأنَّ من أهمِ هياكلِ النظامِ العالميِّ الحاليِّ، "تراتبـية القوة "(Power Hierarchy) بين المركز والأطراف، حيث إنَّ المراكزَ القويةَ والغنيةَ تُهَيْمِنُ وتَسْتَغِلُ ضعفَ وفقرَ الدول في الأطراف وتلعبُ التكنولوجيا دوراً رئيساً في تحديد مستوى هل تكون الدولة مركزاً أم طرفاً، وأنَّ الإمبريالية بمعنى سيطرة دول المراكز على دول الأطراف الضعيفة.لذلك فالهيمنة (Hegemony) تعنـي وجود دولة في المراكز تسيطر مرحليا على البقية، والقوى المهيمنة، تعمل على إبقاء توازنٍ للقوى وتفرض التجارة الحرة، مادام ذلك في مصلحتها، وأن الهيمنة مرحلية، نتيجة لصراع الطبقات وانتشار عوائد التكنولوجيا.

لذلك يرى فالرشتاين أنَّ النظام العالمي يقترب الآن من نهايته، نظراً لما يواجهه من أزماتٍ، حيث يواجه النظام العالمي الآن آثار أزمتين متزامنتين؛ وباء كوفيد ـ 19، ثم الحرب الروسية ـ الأوكرانية واللتين تُعَدَّانِ من أقوى الأزمات العالمية منذ الحرب العالمية الثانية والأشدَّ تأثيراً، فإنَّ كل المؤشرات والإرهاصات على الساحة الدولية تُؤَشِّرُ لبزوغ فجر نظامٍ دوليٍّ جديدٍ مخالفٍ لبداية النظام الدولي بمؤتمر فيينا عام 1815م عندما أبرمتْ إنجلترا وألمانيا وروسيا والنمسا حلفًا يتيحُ لهم التدخل في شؤون الدول الأخرى، بينما تقول أدبيات أخرى إنَّ  تَدَاوُلَ المفهوم كان قبل ذلك في ظل اتفاقيات ويستفاليا (1644 ـ 1648م) التي أنهتْ حرب الثلاثين سنة التـي مزقت أوروبا وتصارعت فيها دولها، حيث التوجه نحو عالمٍ مُتَعَدِدِ الأقطابِ مع تراجع للهيمنة الأمريكية لمصلحة كل من الصين وروسيا، خاصة الصين التـي أسست استراتيجيتها للمنافسة في ترتيب النظام الدولي وفقاً لما يطلق عليه (استراتيجية الصعود السلمي)، والتـي تعني الانتقال التدريجي إلى مرتبة لاعبٍ أساسيٍّ في العلاقات الدولية ولكنَّ دون تهديد أمن واستقرار النظام الدولي، أو عبـر التسلل الناعم لمفاصل النظام الدولي. وبدأتْ بتفعيل هذه الاستراتيجية على صعيد السياسة الخارجية الصينية منذ أكتوبر عام 2003.

في هذا الكتاب الجديد المعنون على النحو التالي: "نظرية عالم متعدد الأقطاب" يتألف من ثلاثة أقسامٍ، وحوالي ستةَ عشرَ فصلاً، والصادر عن دار سؤال للنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، في نهاية عام 2023، للمفكر ألكسندر جليفيتش دوغين، وهو فيلسوف سوفييتي وروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم وشخصية عامة، وهو مؤرخ وأستاذ جامعي وهو رئيس قسم علم الاجتماع للعلاقات الدولية في كلية علم الاجتماع بجامعة موسكو الحكومية، وهو المستشار السياسي والعسكري للكرملين، وهو زعيم الحركة الأوراسية الدولية، وفيلسوف القومية الروسية المتطرفة والذي يعتبره البعض في الغرب "أخطر فيلسوف في العالم"، فقد ورد اسمه في قائمة العقوبات الأمريكية عقب احتلال الروس لشبه جزيرة القرم.

لا يمكن على المستوى الفردي، لأي دولة عربية بل وعلى نطاق أوسع إسلامية، أن تدعي أنها بمفردها تشكل قطباً. لقد فهم ذلك جيداً القوميون العرب، وأيديولوجية البعث، وفي عهد عبد الناصر. وهذه ضرورة العالم متعدد الأقطاب.يتألف هذا الكتاب من ثلاثة أقسام، في الأول منهم ثمة افتراض وتأسيس لمفهوم التعددية القطبية بالاستناد إلى اللغة والمصطلحات ونظرية العلاقات الدولية. وتتطلب التعددية القطبية في الوقت نفسه نظرية أخرى تختلف عن جميع النظريات الموجودة ـ الليبرالية، والواقعية، والماركسية، ومجموعة واسعة من نظريات ما بعد الوضعية. ويمكن في الوقت نفسه، أن يكون لـ (نظرية عالم متعدد الأقطاب) علائقُ مشتركة مع كل منها. لذلك، فإن وصف نظرية عالم متعدد الأقطاب، بمصطلحات نظريات العلاقات الدولية سيعطي صورة أكثر اكتمالاً لجوهرها.

القسم الثاني مكرس للجغرافيا السياسية (الجيوسياسة) للعالم متعدد الأقطاب. توصف هنا التعددية القطبية في نظام إحداثيات مختلف ـ جيوسياسي صارم هذه المرة.

في القسم الثالث مكرس للجوانب الجغرافية و الحضارية لما بعد الحداثة، فهو يعالج الدولة - الحضارة التي تختلف عن الدولة ـ القومية بالمعنى البرجوازي. إنها شيء أكبر. هي نتاج تكامل دول مختلفة تنتمي إلى حضارة مشتركة. إن توحيد إمكانات شعوب أفريقيا كلها فيما بينها وأمريكا اللاتينية كلها، وكذلك أوروبا كلها، وشمال شرق أوراسيا كلها، يمكن كلاً منها من اكتساب الإمكانات الكافية للعمل كقطب كامل.

وهذا ينطبق بشكل مباشر على العالم العربي. لا يمكن على المستوى الفردي، لأي دولة عربية بل وعلى نطاق أوسع إسلامية، أن تدعي أنها بمفردها تشكل قطباً. لقد فهم ذلك جيداً القوميون العرب، وأيديولوجية البعث، وفي عهد عبد الناصر. وهذه ضرورة العالم متعدد الأقطاب.

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين: "عندما نتحدث عن عالم متعدد الأقطاب اليوم، فمن الواضح أننا بحاجة إلى تجاوز حدود ليس المثنوية الجيوسياسية نفسها، ولكن ما وراء حدود عزو المعنى النموذجي للبحر واليابسة إلى وحدات سياسية معينة. وفي كل الأحوال تظل قوة البحر كما كانت في الحرب الباردة في عالم ثنائي القطب). علاوة على ذلك، تُعدُّ هذه القوة البحرية نفسها، هي القوة المهيمنة الوحيدة على نطاق عالمي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.

لكن التعددية القطبية التي تحل محل القطبية الأحادية، وتتجلى بوضوح اليوم في العملية العسكرية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، والتقارب بين روسيا والصين، وهما قطبان صاعدان، لا تُعد هذه المرة استعادة لقوة اليابسة متمثلة بروسيا وحدها ـ أي قلب أوراسيا البرية وفق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية. هذا يتطلب منا ضرورة تقديم مفهوم "توزّع هارتلاند/ قلب الأرض".

ثمة هارتلاند روسي وأوراسي، لكنه لا يستطيع أن يثبت نفسه بمفرده بوصفه قوة Land Power اليابسة.

من الواضح أنه من الممكن اليوم الحديث عن "هارتلاند صيني". فنلحظُ أنَّ سياسة شي جين بينغ تهدف إلى تأكيد الصين كدولة ـ حضارة، والدفاع عن سيادتها الكاملة، وهنا تتجلّى سياسة الصين باعتبارها حضارة اليابسة وكقارة، وليس كمنطقة ساحلية في سياق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.

يمكن أن يمتد مفهوم هارتلاند إلى الهند القطب الرابع شبه الكامل.

ثم يأتي بعد ذلك هارتلاند الإسلامي، قوّة اليابسة الإسلامية (نستطيع أن نرى أمثلة على السيادة المتزايدة والمستقلة عن الغرب وحضارة البحر، في سياسات الدول الإسلامية مثل إيران وتركيا، وباكستان وإندونيسيا، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، ومصر، إلخ.) وعليه فمن المهم جداً أن ينشر كتاب نظرية عالم متعدد الأقطاب حالياً باللغة العربية كونه يمثل سلاحاً مفاهيمياً للمرحلة الأخيرة من نضال العالم الإسلامي من أجل الاستقلال عن العمليات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية.

يمكننا الحديث عن توزع هارتلاند فيما يتعلق بأفريقيا، مع الأخذ في الاعتبار (مشاريع عموم أفريقيا) وأمريكا اللاتينية ـ وتُعد البرازيل والأرجنتين هما مفتاح الجزء الجنوبي من القارة الأمريكية، والمكسيك مفتاح أمريكا الوسطى.

يمكن نقل هذه الحالة إلى أوروبا القارية أيضاً، مع الأخذ بعين الاعتبار تراجع دعاة العولمة المرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالولايات المتحدة على وجه التحديد.

من الواضح أنه من الممكن اليوم الحديث عن "هارتلاند صيني". فنلحظُ أنَّ سياسة شي جين بينغ تهدف إلى تأكيد الصين كدولة ـ حضارة، والدفاع عن سيادتها الكاملة، وهنا تتجلّى سياسة الصين باعتبارها حضارة اليابسة وكقارة، وليس كمنطقة ساحلية في سياق الجغرافيا السياسية الكلاسيكية.وأخيراً، فإن الولايات المتحدة نفسها، وفي حال وصول الواقعيين والوطنيين (مثل ترامب أو غيره من الجمهوريين) إلى السلطة، قد يتشكل تماماً هارتلاند الأمريكي. عندما يحدث هذا سينتهي بناء عالم متعدد الأقطاب. نحن ما زلنا في الوقت الحالي في الطور الأول. ومن هنا يأتي الصراع المتصاعد مع نخبة العولمة، الممثلة بوضوح في إدارة جو بايدن، التي لا تريد أن تعترف طواعية بتوديع نموذج أحادية القطب وهيمنته.

إن توزّع هارتلاند، هو ضرورة للنموذج الجيوسياسي الجديد، والجيوسياسة متعددة الأقطاب.

في نظرية التعددية القطبية تترابط الحضارات فيما بينها باعتبارها الهوية الثقافية للمجتمعات (غالباً ما ترتبط بالدين والتقاليد) والتوجه الجيوسياسي، وكذلك عامل الفضاء الكبير. ومن هنا فإن النتيجة الرئيسة في نظرية عالم متعدد الأقطاب هي ظهور فاعل جديد في العلاقات الدولية. يعرف هذا الفاعل العالم الصيني جانغ فييفي بشكل دقيق على أنه "الدولة ـ الحضارة". وقد استخدم فلاديمير بوتين هذا المصطلح في خطاباته، ودخلت النسخة الجديدة من المفهوم الروسي إلى السياسة الخارجية.

إنني أتفهم تماماً مدى حساسية هذه القضية بالنسبة لكل دولة إسلامية. لكن أفق التكامل الإسلامي، يجب أن يؤخذ في الاعتبار على أي حال - فهذا هو المفتاح لأن تصبح قطباً متكاملاً"(صص 19-20  من المقدمة).

في تعريف مفهوم التعددية القطبية

لغاية الآن لا توجد نظرية كاملة ونهائية لعالم متعدد الأقطاب، من وجهة نظر علمية بحتة. ولا يمكن العثور عليها بين النظريات والنماذج الكلاسيكية للعلاقات الدولية. ومن العبث أيضاً، البحث عنها في أحدث نظريات ما بعد الوضعية. إنَّها لم تتشكل بصورة نهائية، حتى في أكثر المجالات ارتباطاً بالأمر وأهمية؛ وهو مجال الدراسات الجيوسياسية، حيث يُفهم بصراحة وفي كثير من الأحيان، ما يبقى خلف الكواليس في العلاقات الدولية، أو ما يفسر بشكل متحيز كثيراً.

ومع ذلك تكثر الأعمال المكرسة للسياسة الخارجية، والسياسة العالمية، والجغرافيا السياسية، ولاسيما تلك التي تتناول العلاقات الدولية، وتُعالج موضوع التعددية القطبية. يحاول عدد متزايد من المؤلفين فهم التعددية القطبية ووصفها، كنموذج، أو ظاهرة، أو سابقة، أو احتمال.

لامس مجموعة من الباحثين، هم اختصاصيو العلاقات الدولية بطريقة أو بأخرى، موضوعات التعددية القطبية مثل ديفيد كامبف (في مقال بعنوان: "ظهور عالم متعدد الأقطاب")، ومؤرخ جامعة ييل بول كينيدي (في كتاب بعنوان: "صعود القوى العظمى وسقوطها")، والجيوسياسي ديل والتون (في كتاب: "الجغرافيا السياسية والقوى العظمى في القرن الحادي والعشرين التعددية القطبية والثورة في منظور استراتيجي")، والعالم السياسي الأمريكي ديليب هيرو (في كتاب: "ما بعد الإمبراطورية. ولادة عالم متعدد الأقطاب")، وآخرون.

ولعل أكثر من اقترب ـ في دراسة هذا الموضوع ـ من فهم جوهر التعددية القطبية هو المتخصص البريطاني في العلاقات الدولية: فابيو بيتيتو، الذي حاول بناء نظام جاد ومسوغ، بديل جديد لعالم أحادي القطب على أساس مفاهيم كارل شميث القانونية والفلسفية.

لقد ذكر صحفيون ورجال سياسة مؤثرون مراراً "النظام العالمي متعدد الأقطاب"، في أحاديثهم ونصوصهم. فقد وصفت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، الولايات المتحدة في البداية بأنَّها "أمة لا غنى عنها"، وفي 2 فبرايرعام 2000، قالت إنَّ الولايات المتحدة لا تريد "إنشاء عالم أحادي القطب وفرضه"، وإنَّ التكامل الاقتصادي قد خلق بالفعل "عالماً محدداً، يمكن حتى تسميته متعدد الأقطاب".

وفي 26 يناير /كانون الثاني عام 2007 كان ثمة حديث مباشر في افتتاحية نيويورك تايمز عن "ظهور عالم متعدد الأقطاب" يضم في عداده الصين، التي "تشغل الآن مقعداً موازياً إلى الطاولة، مع مراكز القوة الأخرى، مثل بروكسل أو طوكيو". وفي 20 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008، يشير تقرير "الاتجاهات العالمية لعام 2025" الصادر عن مجلس الاستخبارات القومي الأمريكي، إلى ظهور متوقع "لنظام عالمي متعدد الأقطاب" في غضون عقدين من الزمن.

نظر كثيرون منذ عام 2009، إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، على أنه نذير "عصر متعدد الأقطاب"، معتقدين أنه سيعطي الأولوية في السياسة الخارجية الأمريكية اليوم أكثر من أي وقت مضى القيام بخطوة نحو بدء إعداد كامل لنظرية عالم متعدد الأقطاب، وفقاً للمتطلبات الأساسية للمنهج العلمي الأكاديمي.

لا تتوافق التعددية القطبية مع النموذج الوطني لتنظيم العالم،وفقاً لمنطق نظام وستفاليا.

يقول الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين:"يجب وقبل الشروع في بناء نظرية عالم متعدد الأقطاب عن كثب، تحديد المنطقة المفاهيمية التي هي قيد الدراسة بدقة. سننظر إلى القيام بذلك، في المفاهيم الأساسية ونحدد تلك الأشكال من البناء العالمي المعولم، التي هي بالتأكيد ليست متعددة الأقطاب، وبالتالي ستكون التعددية بالنسبة لها هي البديل.

في نظرية التعددية القطبية تترابط الحضارات فيما بينها باعتبارها الهوية الثقافية للمجتمعات (غالباً ما ترتبط بالدين والتقاليد) والتوجه الجيوسياسي، وكذلك عامل الفضاء الكبير."لنبدأ بنظام وستفاليا، الذي يعترف بالسيادة المطلقة للدولة القومية، والذي بُنيَ على أساسه المجال القانوني للعلاقات الدولية بأكمله. هذا النظام، الذي تبلور بعد عام 1648 (نهاية الحرب التي استمرت 30 عاماً في أوروبا)، ومر بمراحل كثيرة من تشكيله، وعكس بدرجة أو بأخرى، الواقع الموضوعي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. لقد ولد من رحم رفض مزاعم إمبراطوريات العصور الوسطى بالعالمية و"الرسالة الإلهية"، وتوافق مع الإصلاحات البرجوازية في المجتمعات الأوروبية واستند إلى الموقف القائل بأن الدولة القومية هي الوحيدة التي تتمتع بأعلى سيادة، وخارجها لا يوجد مثيل آخر له الحق القانوني في التدخل في السياسة الداخلية لهذه الدولة - بغض النظر عن الأهداف والمهمات (الدينية أو السياسية أو غير ذلك) التي قد يسترشد بها. ومنذ منتصف القرن السابع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، حدد هذا المبدأ السياسة الأوروبية سلفاً، وبالتالي، نُقِلَ، مع بعض التعديلات، إلى بقية دول العالم.

تعلق نظام وستفاليا في البداية بالدول الأوروبية فحسب، وعُدَّت مستعمراتها تابعة لها فقط، ولم يكن لديها ما يكفي من السياسة والإمكانات الاقتصادية من أجل المطالبة بالسيادة المستقلة. ومنذ بداية القرن العشرين امتد ميثاق وستفاليا ليشمل المستعمرات السابقة، بعد انتهاء الاستعمار نفسه.

يفترض هذا النموذج الوستفالي المساواة القانونية الكاملة لجميع الدول ذات السيادة، فيما بينها. وهناك في مثل هذا النموذج كثير من أقطاب صنع القرار في السياسة الخارجية في العالم، بعدد الدول ذات السيادة. هذه القاعدة (كما هي مدونة) وبشكل تلقائي لا تزال سارية، ويُبنى عليها القانون الدولي كله"(ص28).

من وجهة نظر ألكسندر دوغين يختلف العالم متعدد الأقطاب عن النظام الوستفالي الكلاسيكي في أنه لا يعترف بدولة قومية منفصلة ذات سيادة قانونية ورسمية، بأنها قطب كامل متكامل. هذا يعني أن عدد الأقطاب في عالم متعدد الأقطاب، يجب أن يكون أقل بكثير من عدد الدول القومية المعترف بها (والأكثر من ذلك غير المعترف بها). إن الغالبية العظمى من هذه الدول اليوم غير قادرة على ضمان أمنها، أو ازدهارها بمفردها، في مواجهة صراع ممكن نظرياً مع الدولة المهيمنة (الدور الذي تؤديه بالتأكيد في عالمنا الولايات المتحدة). وبالتالي، فهي تلك الغالبية من الدول تعتمد سياسياً واقتصادياً على سلطة خارجية، وكونها تابعة، لا يمكنها أن تكون مراكز لإرادة مستقلة، وذات سيادة حقيقية، في القضايا العالمية للنظام العالمي.

ويعتقد ألكسندر دوغين أنَّ التعددية القطبية ليست نظاماً للعلاقات الدولية، يصر على اعتبار المساواة القانونية للدول القومية هي الحالة الفعلية للأوضاع. إنها واجهة فحسب الصورة للعالم مختلفة تماماً، تستند إلى توازن حقيقي، وليس اسمي للقوى والإمكانات الاستراتيجية. تعمل التعددية القطبية مع الوضع الذي لا يوجد بحكم القانون، بقدر ما هو في الواقع، وتستند إلى بيان عدم المساواة الأساسية بين الدول الوطنية، في النموذج الحديث والثابت تجريبياً للعالم. علاوة على ذلك، فإن هيكل هذا التفاوت يتمثل في أن القوى الثانوية والثالثية، غير قادرة على الدفاع عن سيادتها، في مواجهة تحد خارجي محتمل من قوة مهيمنة، في أي تكوين تكتلي عابر. وبالتالي، فإن هذه السيادة هي اليوم وهم قانوني.

يتبع...

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب لبنان لبنان كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی العلاقات الدولیة الجغرافیا السیاسیة التعددیة القطبیة للعلاقات الدولیة السیاسة الخارجیة الولایات المتحدة النظام العالمی ألکسندر دوغین النظام الدولی نهایة التاریخ فیما بینها د الأقطاب الحدیث عن لا یمکن فی کتاب ما بعد

إقرأ أيضاً:

إسرائيل والمأزق متعدد الجبهات

سرايا - منذ معركة طوفان الأقصى التي شنتها المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/ تشرين الأول وشن إسرائيل حربا مدمرة على قطاع غزة بات الحديث عن مأزق إسرائيلي متعدد الجوانب، ولكن ما يظهر على السطح أن إسرائيل ماضية في عدوانها على قطاع غزة ولن تقدم تنازلات مؤلمة للمقاومة لوقف الحرب، كما أنها تستعد لشن حرب على لبنان لردع حزب الله وإجباره على الانسحاب خلف نهر الليطاني لضمان أمن شمال إسرائيل حسب قولها.

فهل ما يظهر من تصميم لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته يعبر عن حقيقة ما يجري وما يثار بشأن المأزق الإسرائيلي المتعدد الجبهات؟

شنت إسرائيل حربها على غزة تحت شعار "معركة الاستقلال الثانية" أو "معركة وجود" وبالتالي فهي مسكونة بـ"رعب الفشل" وفقا للدكتور محسن صالح مدير مركز الزيتونة للدراسات.

كما يرى معهد راند للدراسات أن إسرائيل تعاملت مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من منطلق فرض القوة الكافية وليس المفرطة لردع الحركة، وقد عبر عن ذلك محلل إسرائيلي تابع لوزارة الدفاع قائلا " نرغب في تكسير عظامهم دون سحقهم"، إلا ان معركة طوفان الأقصى غيرت تلك الاستراتيجية.

إلا أن مسار الحرب ونتائجها لم تكن كما تصور نتنياهو وحكومته حتى بات العديد من القادة العسكريين السابقين والسياسيين يحذرون من نتائج الحرب على إسرائيل.
فقد أكد رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت في مقابلة مع القناة الـ 12 الإسرائيلية على أن الحديث عن النصر الكامل على حركة حماس "غير واقعي"، كما باتت الخسائر التي يتعرض لها جيش الاحتلال في غزة بسبب ضربات المقاومة تشكل هاجسا لقادة الجيش.

وفي هذا الشأن يقول ألون بن دافيد في صحيفة معاريف إن كل الخطط العملياتية لجيش الاحتلال قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول كانت حول حرب تستمر لأسابيع معدودة، ولم يتوقع أحد أن تستمر لعام أو عامين، والجيش لم يستعد لذلك من ناحية قوات الاحتياط وكذلك بأعداد الآليات، حيث قتل 666 جنديا، وأصيب 3922 واحتاج 11 ألف جندي إلى الدعم النفسي منذ بداية الحرب.

ووفقا لبن ديفيد فإن هناك 500 آلية مصفحة تضررت منذ بداية الحرب، العشرات منها تدمرت بشكل كامل.

لذا بات التقدم المحدود الذي يحرزه جيش الاحتلال في غزة وفي تفكيك قدرات حماس، يثير الشكوك داخل القيادة العسكرية العليا بشأن إمكانية تحقيق الأهداف الرئيسية للحرب في الأمد القريب.

وأثار مسار الحرب وتصور نهايتها خلافا بين نتنياهو والجيش ظهر للعلن إثر تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي من أن حماس فكرة لا يمكن القضاء عليها وأن "الاعتقاد أن بالإمكان تدمير حركة حماس وإخفاؤها هو ذر للرماد في عيون الإسرائيليين".

كما بات اليوم التالي للحرب الهاجس الذي يؤرق جيش الاحتلال، إذ يفرض الجيش الاحتلال المباشر للقطاع ولا يريد أن يتموضع في مواقع قد تعرضه لحرب استنزاف من قبل المقاومة في قطاع غزة.

فهل يتحول قطاع غز إلى ثقب أسود يكبد جيش الاحتلال مزيدا من الخسائر فيما يستمر نتنياهو بالقول إن "وقف الحرب قبل تحقيق الأهداف سيرسل رسالة ضعف"؟

سعى الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى استباق تفجر الوضع بالضفة الغربية وفق استراتيجية "جز العشب" كي لا تثور جبهة الضفة أثناء الحرب على غزة، فعمل على اعتقال الشخصيات التي يمكن أن تشكل حالة ثورة بالضفة أو تقوم بعمليات عسكرية، كما لجأ لاغتيال أي مقاوم ليبلغ عدد الشهداء أكثر من 550 شهيدا، فيما بلغ عدد المعتقلين نحو 9325.

ورغم ما تبدو عليه جبهة الضفة من شبه هدوء، فهناك في الواقع حرب مستعرة، ورغم كل جهود الاحتلال مازالت المقاومة تتقدم. إذ لم تسفر سياسة الاحتلال عن القضاء على العمل المقاوم في الضفة أو إضعافه، بل انتشر نشاط المقاومة إلى عدة مدن، ليتم بين الحين والآخر الإعلان عن تشكيل خلايا عسكرية كان آخرها إعلان سرايا القدس – مجموعات طمون عن "انطلاق عملها الجهادي" يوم 25 من الشهر الجاري.

وتعد قلقيلية مثلا بارزا لتطور العمل المقاوم، فقد أخذت المقاومة هناك بداية "الطابع الفردي" مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسارع المقاومون بعدها لتشكيل "مجموعات ليوث المجد" التابعة لكتائب شهداء الأقصى والمحسوبة على حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).

وبعد أشهر، تشكلت "كتيبة قلقيلية- سرايا القدس" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ورغم خفوت وميضها بداية، فإنها عادت وأعلنت في بيان لها، مطلع الشهر الجاري، إطلاق أول أعمالها المقاومة بتفجير عبوة ناسفة بقوة تابعة للاحتلال اقتحمت المدينة.

وبعد نجاحات محدودة للاحتلال في منطقة نابلس والقضاء على العمل المقاوم هناك لفترة وجيزة، عادت عمليات المقاومة إليها خلال الفترة الماضية، وترافق ذلك مع عمليات للمقاومة في طوباس وطولكرم كما عادت جنين للصدارة بعد عملية تفجير مركبة نمر ومقتل ضابط وإصابة 16 جنديا.

وتظهر عمليات المقاومة بالضفة أن أداء المقاومين يتطور ويأخذ منحنى مختلفا عما كان عليه سابقا، كما استطاعت المقاومة تطوير خبرات قادرة على التعامل مع المتفجرات، وذلك حسب ما يقول محللون.

فقد ذكر موقع والا الإسرائيلي أن الفصائل الفلسطينية المسلحة بالضفة عملت بذكاء وخدعت قوات الجيش الإسرائيلي. لذا يعتقد العديد من المراقبين أن عمل المقاومة في الضفة سيشهد مزيدا من التطور والانتشار ما قد يسبب تشتتا لقوات الاحتلال التي تعاني بسبب حرب غزة والمناورات في جنوب لبنان.

لبنان.. نار تحت الرماد
ما إن بدأ العدوان الإسرائيلي على غزة حتى دخل حزب الله لمساندة القطاع بفتح جبهة في شمال إسرائيل لإشغال جيش الاحتلال، وعلى الرغم من حرص الطرفين على عدم خوض حرب مفتوحة إلا أن استمرار إطلاق النار وارتفاع وتيرته بات ينذر باحتمالية حرب وشيكة بين الجانبين.

ويرى حزب الله أنه أدخل "العدو في حرب استنزاف مستمرة وهو يعترف بأنه في مأزق استراتيجي"، وذلك وفقا لما يقوله نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب علي دعموش.

فقد تمكن حزب الله من خلال إطلاق الصواريخ على شمال إسرائيل من تهجير نحو 70 ألف إسرائيلي وإفراغ مدن من سكانها حتى بات المعلقون الإسرائيليون يرون أن الشمال بات "تحت رحمة حزب الله".

وقد أثبت موقف حزب الله أن إسرائيل خسرت معادلة الردع مع الحزب، وأن عليها خلق حالة جديدة تمنع حزب الله من التمادي في استهداف الشمال وإظهار قدرتها للجمهور الإسرائيلي على حمايته من الإخطار التي تواجهه، وهو الأمر الذي دفع صحيفة تايمز أوف إسرائيل للقول إن ما يحدث في الشمال كشف عمق المأزق الإسرائيلي، وضيق الخيارات وصعوبتها وفداحة أثمانها، مهما كانت.

ويرى المحلل السياسي للقناة الـ 13 الإسرائيلية أن «الإذلال من طرف حزب الله بات أكبر مما يمكننا احتماله"، لذا كان على القيادة الإسرائيلية العمل على إثبات قدرتها على إدارة حرب على جبهتين وهو ما تمثل في تصريحات بعض المسؤولين هناك خاصة وزير الدفاع يوآف غالانت الذي هدد بإرجاع لبنان إلى العصر الحجري، وعلى الرغم من تلك المواقف التصعيدية والتهديدات من قبل مسؤولين إسرائيليين، إلا أنهم يذيلون تصريحاتهم بالخيار السياسي أو الديبلوماسي.

ووفقا لما يقوله المحللون الإسرائيليون فلا توجد رؤية واضحة لدى الحكومة الإسرائيلية حول أهداف الحرب المحتملة وكيفية تحقيقها، وهو ما يخلق معضلة إسرائيلية مضاعفة، لذا يمكن القول أن ما يثني إسرائيل – حتى الآن – عن التحرّك بشكل كبير ضد لبنان، هو قلقها الشديد مما سيكون عليه ردّ المقاومة بعد ذلك، ومن غياب الثقة بالقدرة على تحقيق أهداف هذه الحرب.

ووفقا لصحيفة معاريف الإسرائيلية فقد بعث ضابط كبير في قوات الاحتياط التابعة لسلاح الجو خلال الأيام الماضية برسالة لأعضاء هيئة الأركان طلب خلالها منهم التوضيح للمستويات السياسية أن الجيش غير مستعد لحرب طويلة في لبنان، وأن الذهاب لحرب كهذه حاليا سيؤدي إلى كارثة استراتيجية أكبر من 7 أكتوبر.

هذا الأمر دفع بعض المسؤولين العسكريين للقول "سيتعين علينا تدمير قدرات حزب الله – لكن ليس هناك عجلة، دعونا نفعل ذلك عندما يكون ذلك مناسباً لإسرائيل بدلاً من الانجرار إليه".

فحزب الله يطرح عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل طوفان الأقصى، وأنه سيلتزم بوقف إطلاق النار بمجرد وقفه في غزة.

فالمأزق الإسرائيلي بلا أي أفق، ما قد يكون قابلا لإطالة أمد حرب الاستنزاف، بانتظار معجزة إقليمية تسهم في تغيير الواقع أو إرساء تفاهمات أكبر، يكون انعكاسها أقوى من القدرة على تجنبها، كما يرى البروفيسور أماتسيا برعم مدير دائرة دراسات الشرق الأوسط والإسلام في جامعة حيفا.

"الحزن وانعدام الأمل يخيمان على الجميع والكآبة تعم الأجواء.. جميعهم منهكون لم يسبق لي أن رأيت الإسرائيليين كئيبين كما هم اليوم" هكذا استهل الكاتب في صحيفة واشنطن بوست ماكس بوث مقاله في الصحيفة يوم 25 من الشهر الجاري.

وذكر المقال أن 37% فقط من الإسرائيليين متفائلون بشأن مستقبل إسرائيل وذلك خلال استطلاع للرأي في مايو/ أيار الماضي، فقد بات الإسرائيليون يشعرون أنهم في حرب أبدية.

وما يمر به المجتمع الإسرائيلي دفع رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت، إلى دعوة مواطنيه إلى عدم مغادرة إسرائيل، التي تمر بأصعب أوقاتها منذ عام 1948. ووجه لهم نداء بعنوان "لا تغادروا البلاد"، مشيرا إلى أنهم يمرون "بأصعب فترة منذ حرب الاستقلال (نكبة 1948)، مقاطعة دولية، تضرر الردع، 120 إسرائيليا في الأسر، آلاف العائلات الثكلى، الجليل (شمال إسرائيل) مهجور، آلاف المهجرين، وزراء لا يهتمون إلا بأنفسهم، فقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز". واستدرك "هذا صحيح بالكامل، لكن من المؤكد أننا قادرون، وسوف نخرج من هذه الحفرة".

ويقدر عدد الإسرائيليين الذين خرجوا بعد الحرب بأكثر من نصف مليون شخص وفقا لموقع زمان إسرائيل الإخباري. اما الداخل فيوجد أكثر من 100 ألف إسرائيلي مشردين وفقا للكاتبة الإسرائيلية داليا شيندلين، في مقال في صحيفة الغارديان البريطانية الشهر الماضي.

وتؤكد شيندلين أن الحرب تؤثر سلبا على دخل الناس وصحتهم العقلية، وفي كل يوم تفقد أسر إسرائيلية أبناءها في الحرب من أجل "النصر الكامل" الذي لا يتحقق أبدا.

ويرى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي يشهد انقساما حادا، ويتألف المجتمع حاليا من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة.

وينبع هذا الصدع من الخلافات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية، وإن كان هذا الأمر موضوعا للنقاش النظري بين التيارات الدينية والعلمانية، فقد أصبح الآن صراعا حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها، وهذا الأمر لا يُحاربُ في وسائل الإعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.

ووفقا لبابيه يمكن تسمية أحد المعسكرين بـ"دولة إسرائيل"، والتي تضم أشخاصا أكثر علمانية وليبرالية، ومعظمهم، من اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة وأحفادهم، الذين أدوا دورا فعالا في تأسيس الدولة في عام 1948 وظلوا مسيطرين عليها حتى نهاية القرن الماضي، والمعسكر الآخر هو "دولة يهودا" التي نشأت بين مستوطني الضفة الغربية المحتلة. وتتمتع بمستويات متزايدة من الدعم داخل إسرائيل وتشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت فوز نتنياهو في الانتخابات.

كما يتزايد نفوذ هذه الطبقة في المستويات العليا في الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن، وهي تريد أن تصبح إسرائيل دولة دينية تمتد على كامل فلسطين التاريخية.

ومع استمرار الحرب فان هذه الانقسامات ستستمر وقد تتسع ولا يعتقد أن وقف الحرب قد ينهي بل على العكس ممكن أن تكون نتائج الحرب سببا في اتساع الخرق في المجتمع الإسرائيلي وزيادة انقسامه، وفقا للمحللين.

يرى الدبلوماسي الإسرائيلي ألون ليل أن إسرائيل خسرت الردع الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به في أعقاب الحرب على قطاع غزة، ووفقا للدبلوماسي فإن بعض الدول كانت لها خلافات مع إسرائيل ولم تجرؤ على الحديث عن ذلك سابقا ولكنها باتت الآن في الجانب المعاكس لإسرائيل.

فلم يسبق لإسرائيل قبل طوفان الأقصى أن تعرضت للضغط الدولي الكبير الذي تتعرض له الآن من عدة جبهات بسبب حربها الدموية على غزة، إذ باتت إسرائيل في عزلة خارجية، حيث تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية.

وانضم بنيامين نتنياهو إلى صفوف زعماء العالم الذين يوصفون بالمنبوذين دوليا عندما أصبح هدفا للمحكمة الجنائية الدولية، التي يسعى المدعي العام فيها كريم خان إلى إصدار مذكرة اعتقال ضده وضد وزير دفاعه غالانت لاتهامها بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.

كما شهدت الفترة الماضية احتجاجات عمت العديد من الجامعات في العالم خاصة أميركا وأوروبا تطالب بقطع صلات تلك الجامعات مع إسرائيل وشركاتها ونجحت بعض تلك الاحتجاجات في تحقيق مطالبها، كما يعتبرما تعرضت له المشاركة الإسرائيلية في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجين) من صيحات استهجان مؤشرا على الانزعاج من إسرائيل وسياساتها حتى في الأوساط الثقافية.


مقالات مشابهة

  • ورطة الكيان الصهيوني بغزة
  • فصيلة نادرة من الأرانب تظهر في الأماكن القطبية فقط.. ما قصتها؟
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «4- 5»
  • عضو منظمة التحرير: كل ما يحدث حاليًا مقدمات لحرب عالمية ثالثة (فيديو)
  • عضو «التحرير الفلسطينية»: أحداث غزة مقدمة لحرب عالمية ثالثة
  • الإرهاب الأمريكي الإسرائيلي
  • سحر باريس.. عالم موازي في سراديب موت تحت أقدامك وانبهار أعلى برج إيفل
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (4/5)
  • اسبانيا تطلب رسميا الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل
  • إسرائيل والمأزق متعدد الجبهات