د. حسن القصبي يكتب: «وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ»
تاريخ النشر: 4th, April 2024 GMT
«وَرَحْمَتى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ» إن المتأمل فى الآية الكريمة يجد أنها شاملة جامعة لكل جوانب الحياة، الرحمة التى جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليست مقصورة على رقة القلب فى المواقف الإنسانية، ولكنها تشمل العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والأوامر والنواهى والقصص والمواعظ والأمثال. وما ذلك إلا لهداية البشر لما فيه خير لهم، وتصحيح المفاهيم، وبيان علاقة المخلوق بالخالق جل وعلا.
فتظهر الرحمة فى العبادات من خلال تيسرها أداء ووقتاً، وجعلها فى قدرة كل عبد«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، فالعبادات قائمة على التيسر على قدر الاستطاعة دون تفريط، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، كما جعل الله سبحانه وتعالى عقب كل عبادة كبرى سنناً تجبر ما كان من تقصير أثناء القيام بها، فجعل للفريضة سنناً تعقبها، وجعل لرمضان ستة من شوال، وجعل للزكاة صدقات، فإذا نظرنا إلى جانب المعاملات وجدنا أنها قائمة على الحقوق والواجبات يصاحبها الرحمة، ولذلك لم يأمر الله عز وجل فى القرآن بالعدل فقط وإنما أمر بالعدل والإحسان، الذى يظهر فيه الرحمة فى أبهى صورها لأن كثيراً من المعاملات قائمة على الرحمة، كما فى معاملة الأبناء والآباء، والأزواج والزوجات، والجيران، والأصحاب، والأصهار، وصاحب العمل ومن تحت يديه. حتى فى معاملة الآخر نرى قمة الرحمة من النبى محمد صلى الله عليه وسلم إجباره اليهودى، وإذا نظرنا إلى الأخلاق فما وصل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى القلوب والعقول إلا بهذه الرحمة، وصدق ربنا سبحانه وتعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ»، وتظهر الرحمة فى الأوامر والنواهى فمن أحبك دلك على كل خير ونهاك عن كل شر، ومن مظاهر الرحمة تصحيح المفاهيم المغلوطة التى زينها البعض فى نفوس الشباب كإطلاق البدعة على كل أمر لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم، فيبين لنا النبى صلى الله عليه وسلم روابطها فى قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وعلى العموم فإن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم أصلها رحمة للبشرية كلها «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، فالرحيم سبحانه أرسل لنا نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا القصص الوارد فى القرآن الكريم وجدنا أنه قمة الرحمة، حيث علمنا ربنا جلّ وعلا من خلال القرآن الكريم فى قصصه، والوارد فيه قصص الأنبياء جميعاً، قصة سيدنا موسى وعيسى ولوط ويونس، قصص الأنبياء جميعاً، الأمثال التى تعلمنا كيف نهتدى فى حياتنا، كيف نسير فى هذه الحياة، كيف نتعامل مع بعضنا البعض، كيف نعايش المِحن ونمر عليها ونتمسك عندها، وكيف نأخذ المنح الإلهية، كل ذلك ورد فى قصص القرآن الكريم، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، فكأن ما ورد فى القصص هذا لا نقرأه على أنه سرد، وإنما هو رحمةٌ من الله جلّ وعلا، رأينا ذلك فى ضرب الأمثال، المثل يقرب الصورة إلى الأذهان، الله يقرب إلينا الصور الجميلة كصورة الجنة «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى»، يضرب الله لنا الأمثلة فيما هو محبب إلى النفوس حتى نشتاق إليها وحتى نعمل لها وذلك رحمة من الله عز وجلّ.
ويضرب الله لنا الأمثال فى القرآن الكريم أيضاً لجزاء مَن عمل سيئة حتى نبتعد عنها ولا نقترفها، وذلك رحمة من الله عز وجلّ، فكأن الرحمة شاملة لكل مناحى الحياة، شاملة لكل أمر من أمور حياتنا، والذى طبق لنا ذلك عملياً على أرض الواقع هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، طبق لنا ذلك كله فى كل المجالات حتى تحقق فيه على أرض الواقع «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، فمن أراد جانباً من جوانب الرحمة ما عليه إلا أن يفتش فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، فى الجانب الذى يريده، سيجد موقفاً عملياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى جانب الرحمة، فى كل الجوانب تجد الرحمة لأن الله عز وجلّ أرسله رحمة، ليس إرسال الأنبياء إلا رحمات من الله عز وجلّ، وختم الرحمة بخير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الرحمة النعمة التى أرسلها الله إلينا.. اسأل الله أن يرزقنا الرحمة فى الدنيا والآخرة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الرحمة اللين اليسر جوانب الحياة النبى صلى الله علیه وسلم محمد صلى الله علیه وسلم القرآن الکریم الله عز وجل الرحمة فى من الله أ ن ه ار
إقرأ أيضاً:
العطاء المبرور
د. سليمان بن خليفة المعمري
يقال إنَّ العطاء هو أقصر الطرق لحصول المرء على السعادة والرضا النفسي، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا" (رواه البخاري)، وقد حضَّ الإسلام أتباعه على العطاء والإنفاق الحسن يقول الله عز وجل "وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا" (المزمل: 20).
الآية الكريمة تؤكد على أنّ الأجر العظيم والخير العميم إنما هو فيما يسديه الإنسان من عطاء ومعروف وإحسان للآخرين، وأنّ ما يقدمه من زكاة وصدقات هو في حقيقته يقدمه لنفسه ويدخره لآخرته عند رب كريم لا تضيع عنده الودائع؛ بل يجازي المحسنين بالإحسان إحسانا ويكافئ بالمعروف أجرا كبيرا وغفرانا.
ولقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة لأتباع هذا الدين الحنيف ينفق في سبيل الله إنفاق من لا يخشى الفقر، وكان صلى الله عليه وسلم مثالا في الجود والكرم فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة"، وقد تربى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الخلق النبيل واعتادوا هذا النهج الكريم فكانوا يسارعون في الخيرات وينفقون أموالهم في وجوه البر سرا وجهرا، فها هو الصديق رضي الله عنه ينفق جميع أمواله لتجهيز جيش المسلمين لغزوة تبوك، ويتبرع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، ويضرب الصحابي الجليل عثمان بن عفان المثل والأسوة في البذل والسخاء فقد "جاء إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بألفِ دينارٍ في كُمِّه –حينَ جهز جيشَ العسرةِ– فنثَرها في حِجرِه، فرأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقلِّبُها في حِجرِه، ويقولُ: ما ضَرَّ عثمانَ ما عمِل بعدَ اليَومِ، مرتينِ"( رواه الترمذي).
وقد سار المسلمون على هذه السيرة الحسنة فتصدقوا بفضول أموالهم وأوقفوا الكثير من الأوقاف في وجوه الخير، وأعانوا كل محتاج ووقفوا مع كل مغرم أو معوز مستلهمين الوصايا الربانية الكريمة في هذا الشأن ومستحضرين عقبى ما يقدمونه من عون إنساني مستذكرين حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"(أخرجه مسلم)، والواقع أنّ انتشار ثقافة العطاء في المجتمع وسيادة روح التعاون بين أفراده من شأنه أن يسهم في رفاهية وخير المجتمع، فبالإضافة إلى ما يحصده المعطي من بركة ونماء في حاله وماله جزاء ما يقدمه من صدقات وتبرعات فإنّ العطاء يذهب السخائم من قلوب الفقراء والمعدمين تجاه الأغنياء والموسرين ويزرع المحبة والألفة بين أفراد المجتمع المسلم، ويسهم في تجاوز تحديات وصعوبات الحياة والوصول إلى الاستقرار المنشود.
إلا إنّه وحتى يكون العطاء مبرورا مشكورا محققا لمقاصده النبيلة وأهدافه وغاياته الإنسانية السامية فإنه يجب أن يخلو من كل ما من شأنه المس بكرامة الإنسان واهدار ماء وجهه أو الإساءة إليه عبر ما قد يمارسه البعض من تصوير ونشر وابتذال عبر وسائل التواصل الاجتماعي حينما يقدمون أية معونة أو مساعدة لمتضرر أو محتاج، مما قد يجرح مشاعره ويؤذي نفسيته، فيصبح عطاءً مقرونا بالمن والأذى وصدق الله العظيم حيث قال في محكم كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ "( البقرة، 264)، فعلى المتصدق أو المعطي أن يحترم آدمية الإنسان الذي يتصدق عليه وأن يعلم أن ما يعطيه له من مال إنما هو من مال الله الذي استخلفه فيه وأنه هو أحوج لأجر العطاء والصدقة من الشخص المتصدق عليه، وعليه أن ينفق برضا نفس وطيب خاطر وأن يتوخى كل ما من شأنه احباط العمل وذهاب أجر العطاء، ولله در الشاعر حين قال:
إن التصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا
أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتجْتهُمْ بانوا
داوي عَليْلكَ بالمِسْكين ِتطعِمُهُ
البَذلُ يُنجيكَ مِنْ سُقم ٍ وَنِيرانُ
يا مُنفِقا ً خلفا ً أُعْطِيتَ مَنزِلة ً
يا مُمْسِكا ًتلفا ًتلقى وَخُسْرانُ
لا تخذِلنَّ لآتٍ رادَ مَسْألة ً
جَلَّ الذي ساقهُ كافاكَ إحْسانُ