في عالمٍ تحكمه الصورة والضوء، يتوه الإنسان في معرفة الطريق الذي يسلكه، وتتبدى له بعض الأشواك زهرا، والأدغال المهلكة بستانا، والضباع كلابا؛ فعصر الصورة خلّاب يخلب العقول والأبصار، فتتسلل إلى الروح أدرانه، حتى تبتلعها فيغدو المرء في تيه لا ينقذه منه إلَّاهُ.
وما كان من الممكن إصلاحه بخطوات بسيطة بالأمس، يصبح شيئًا معقدًا متشابكًا اليوم، مما قد يستدعي العزلة الحقيقية ليستعيد المرء عافيته النفسية، وسلامته العقلية، وروحه المستلبة.
فكما أن لعصر الصورة مكتسبات عديدة، ليس أقلها أنها تبعث الهمة على فعل ما ينبغي فعله لينهض الإنسان بنفسه ومحيطه؛ فكذلك فيها ما يغري المرء بسلوك المنحدرات التي لم يعتد سلوكها، وخوض المستنقعات ليجتلب منها زهرة بريّة قد لا يجدها في خضم ذلك كله... فما العمل؟
«ماذا يجب أن تفعل حين لا تعلم ماذا تفعل؟ تحرَّ الصدق». هكذا يتحدث المعالج النفسي جوردان بيترسون في كتابه الشهير 12 قاعدة للحياة. استطرد استطرادا قصيرا هنا، فرغم معرفتنا وانكشاف صهيونية هذا المؤلف بعد أحداث السابع من أكتوبر، إلا أن في كتبه مما يُستفاد منه، كما أن في الكتاب نفسه من القرائن ما تدلل على علل المؤلف ذاته وموقفه السياسي الأيديولوجي، ولكن هذا لا يسوغ أن ننسف عمله أو علمه بالكامل، فهو إنسان يخطئ ويصيب، رغم خيبتنا الكبيرة بأن عقلا مثله لا يرى الوحش الصهيوني كما نراه. وقعت هذه العبارة في نفسي موقعًا أستحسنه وأتبناه، فهو موقفي من الثقافة والأشخاص على السواء، فلا يمكن بحال اعتبار الكذوب خيِّرًا، ولا الكذب خيْرا؛ بل هما على القدر ذاته من السوء.
إن الصدق مع الذات يتطلب شجاعة حقيقية، ولربما إحدى أكثر الشخصيات بروزًا اليوم ومثالا على الصدق مع الذات؛ هو جلال الدين الرومي العالم الفقيه الذي غدا متصوفا، بل غدا الأيقونة الملازمة للتصوف لا يذكر أحدهما دون الآخر. وقبله عالم العلماء حجة الإسلام (ألقابه التي استعملتها الدولة العباسية في عهد الوزير نظام الملك والخليفة العباسي أبي جعفر عبدالله) أبو حامد الغزالي، الذي كتب في أخريات حياته «المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال» وهو كتاب ماتع، صغير الحجم، عظيم الأثر، فيه من الصدق مع الذات والقارئ ما يستوجب التحية والإجلال لمؤلفه الكبير.
فالغزالي، كان في مكانة عالية سامقة يحلم بها كل من يريد حظا في الثراء والمكانة الاجتماعية، لكنه ضرب بهذين الأمرين عرض الحائط، واختار الصدق سبيلًا ومسلكًا؛ وصدق الغزالي صدقٌ مع الذات لذلك هو أصعب وأجدر بالاحتفاء، فحين انكشفت له ذاته، أبى أن يستمر في الطريق الذي يعدّه أصحاب المقياس النفعي تحقُّقًا اجتماعيًا واقتصاديًا.
ما مغزى هذا كله؟ «من الحكمة أن تبدأ بإجراء تغييرات بسيطة وتنظر إذا ما كانت تصنع فارقا. ولكن في بعض الأحيان، قد يكون تسلسل القيم بأكمله خاطئا، ويجب التخلي عن المنظومة بأكملها. يجب تغيير اللعبة بأسرها. وهذه ثورة، بكل ما تنطوي عليه الثورة من فوضى وفزع إنها ليست شيئا يمكنك الانخراط فيه باستخفاف، لكنها تكون ضرورية أحيانا. إن تدارك الخطأ يتطلب تضحية، وتدارك الخطأ الفادح يتطلب تضحية عظيمة. وتقبّل الحقيقة يعني أن تضحّي؛ وإذا كنت قد رفضت الحقيقة لفترة طويلة من الزمان، فأنت بذلك تثقل عاتقك بدين كبير من التضحيات المتراكمة على نحو خطير». جوردان بيترسون من الكتاب ذاته.
يتطلب النموُّ النقصَ أحيانا؛ فكي تدرك معنى الشبع، لا بد أن تجوع، ولن يدرك قيمة الماء المهدور إلا من أصابه الظمأ. ولأننا في رمضان، فحري بنا أن نكون صادقين في مواجهة أنفسنا والعالم على السواء، فنتحرى بتلك المكاشفة مع الذات مكانتنا الحقيقية في مقام التجرُّد من الزيف. ومن كتب الماتعة، الجزء السادس والثلاثون من «موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية» الصادرة عن دار رواح للنشر والتوزيع، ومنها أقتبس بيت المعرّي الذي ورد في لزومياته:
أصدِّقُ وعدِي والوعيدَ كليهما
ولا خيرَ فيمن لا يُرى صادِقَ الوَعْدِ
لم يتبق على انقضاء الشهر الفضيل سوى أيام معدودة، وما لا يدرك كله لا يترك جله، أيامٍ يستطيع المرء فيها التقاط أنفاسه ومراجعة نفسه وذاته، لأن ماراثون الحياة بعد رمضان؛ يتطلب جهدًا مضاعفًا ونيَّةً صادقة لا يفلّها الحديد. وإذا كان العمر يقاس بالأعوام، فإن الحياة الحقيقية تقاس بما فيها من صدق، فأن تختار ما تؤمن به، وكيف تعيش، وماذا تلبس وتأكل وتركب، لأجلك لا لأجل الآخرين؛ هي البداية الحقيقية لسلوك الحياة المتجردة من الأوهام، والعيش في اطمئنان وسلام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مع الذات
إقرأ أيضاً:
ندوة تناقش عنف الملاعب وسبل الحد منها... وبلقشور يؤكد أن قانون الشركات الرياضية يتطلب المراجعة
أوضح لحبيب بلكوش، رئيس مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية، أن مواكبة الأوراش التي فتحها المغرب تطرح تحديا في إدارة الأمن، مؤكدا أن الفعاليات المنتظرة ستجذب ملايين المشجعين، مما يطرح إمكانية وجود حالات عنف.
وأوضح بلكوش، أن مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية، ومركز جنيف، يؤمنان بأن أية مقاربات أمنية فعالة لمواجهة ظاهرة العنف في الملاعب يجب أن تكون شمولية ودامجة، تتجاوز المعالجة الظرفية نحو بناء رؤية استباقية قوامها الحكامة الأمنية الجيدة، والتنسيق المتين والانفتاح على مقاربات وقائية وتواصلية، مقاربات تتقاطع فيها أدوار الأجهزة الأمنية ومؤسسات العدالة والهيئات الرياضية والمجتمع المدني والإعلام، لتشكيل جبهة موحدة قادرة على خلق بيئة رياضية أمنية ومحفزة.
وأشار لحبيب بلكوش، اليوم الثلاثاء، بالرباط، إلى أن التدبير الأمني لأحداث العنف بالملاعب الرياضية بالمغرب يتسم بحساسية كبرى، لأنه يأخذ بعين الاعتبار المحطات الرسمية التي سينظمها المغرب، ويتعلق الأمر بكل من نهائيات كأس الأمم الإفريقية 2025، وكأس العالم 2030 بمعية إسبانيا والبرتغال.
وتابع المتحدث نفسه، أن المؤسسة الأمنية ساهمت في توفير الخبرة في تنظيم أحداث دولية في قطر وباريس، مؤكدا أن المغرب يسعى إلى فتح نقاش من أجل الحكامة والحياة الاجتماعية، وفتح نقاش إدارة العنف يندرج ضمن هذه الدينامية، مردفا أن الهدف هو حملات توعية بين المشجعين، لأن أي مقاربة أمنية فعالة يجب أن تكون شمولية ودامجة، ومبنية على التنسيق المتين، وخلق جبهة موحدة قادرة على خلق بيئة رياضية محفزة.
وأضاف بلكوش، أن مواكبة الأوراش التي فتحها المغرب تطرح تحديا في إدارة الأمن، نظرا لأن الفعاليات المنتظرة ستجذب ملايين المشجعين؛ مما يطرح إمكانية وجود حالات عنف، مؤكدا أن الأمر يفترض وضع خطط وتدابير أمنية لازمة لضمان راحة وسلامة الجميع، موضحا أن المغرب استثمر الكثير في المجال الرياضي عامة وكرة القدم بوجه الخصوص من بنية تحتية شملت ملاعب بمواصفات دولية وملاعب القرب والدفع بتحديث الفرق وتعزيز الاحترافية وخلق مدارس التكوين وتطوير التشريع والانضمام لمعاهدات دولية.
وفي السياق ذاته، قال عبد السلام بلقشور، رئيس العصبة الوطنية لكرة القدم الاحترافية، في كلمة له نيابة عن فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية للعبة، أن تنظيم التظاهرات المقبل عليها المغرب سواء منها الدولية أو القارية يجعل الجامعة ومعها جميع الشركاء واعين ومدركين لهاته الاستحقاقات ولقيمة المغرب وصورته وهو ينظم هذه الملتقيات، موضحا أن المملكة كسبت رهانات متعددة من بينها البنية التحتية التي تمشي فيها البلاد بخطى ثابتة ومتفوقة في تأهيل الملاعب وبناء أخرى جديدة.
وأضاف بلقشور، في معرض حديثه، أن ملعب بنسليمان الذي تبلغ سيعته 115 ألف مقعد، سيكون من أكبر الملاعب في العالم والمراهن عليه لاحتضان أهم مباريات كأس العالم 2030 المنظم بالمغرب بمعية إسبانيا والبرتغال، بالإضافة إلى تأهيل ملاعب أخرى بكل من مراكش وأكادير وفاس وطنجة، موضحا أن المغرب يتوفر على ملاعب ذات القيمة المتوسطة والصغرى والكبرى، بالإضافة إلى مراكز التكوين لتوسيع القاعدة والتأطير والتسيير في مجال كرة القدم.
وتابع المتحدث نفسه، أن المغرب يراهن ويكسب بعض الخطوات فيما يخص التدبير المحكم للشأن الرياضي في التسيير والتدبير، وذلك عبر خلق الشركات الرياضية وهذا ما جاء به قانون 30.09، الذي يتطلب بعضا من التحيين، مؤكدا أن ظاهرة العنف معقدة ويجب التعامل معها بشكل حضاري، يعتمد على العلم والفكر، مشيرا في الوقت ذاته، إلى أن المقاربة الأمنية هي آخر حل يمكن اعتماده، كما أن الجماهير تخترق أحيانا من طرف أشخاص غايتهم أشياء أخرى غير كرة القدم، وتقوم بأمور غير مقبولة ومسيئة للمنافسة الرياضية.
وتابع بلقشور، أن كرة القدم هي تدبير لمشاعر وأحاسيس، ومعالجة العنف والشغب ستضيف لمسة وستزيد من حضور المستثمرين والفاعلين، خصوصا في ظل تطهير الحقل الرياضي بصفة عامة وكرة القدم بصفة خاصة.
وتواصلت المداخلات، خلال الندوة الدولية الخاصة بالتدبير الأمني لأحداث العنف بالملاعب الرياضية بالمغرب من أجل مقاربة أمنية دامجة، بمداخلة رئيس وحدة الأمن والسلامة بالاتحاد الإفريقي لكرة القدم، كريستيان إيمريوا، الذي أوضح من خلالها أن الأمن أمر مهم على المستوى النفسي، خصوصا إذا تعلق بتدبير الحشود، ولاسيما في منافسات كرة القدم.
وتابع كريستيان، في معرص حديثه، أن العنف لا يقتصر على الجماهير لكنه يمتد إلى المسؤولين، لذا علينا أن نكون جاهزين لمثل هذه التحديات، مشيرا إلى أن هناك عددا من المخاطر تحدق بالمباريات، كالشهب الاصطناعية والمفرقعات التي تؤثر على الممارسة الرياضية، وهو أمر منتشر أساسا لدى أندية شمال إفريقيا.
وأشار المتحدث نفسه، إلى أن المقذوفات التي يتم رميها في الملاعب في حالات الغضب بسبب الخسارة، يرفضها الكاف ما يستوجب يقظة عالية من أجل تجاوز هذه المشاكل، مؤكدا أن البعض يعتقد أن العنف في الملاعب معفى من المتابعة والاعتقال، مردفا أن قوانين الاتحاد الدولي والإفريقي وقوانين الدول المستضيفة للمنافسات، وقوانين الانضباط يتم استخدمهما لمعالجة أي انفلات ممكن.
كلمات دلالية الأمن الرياضي الحبيب بلكوش عبد السلام بلقشور