المسحراتي.. موروث رمضاني يحافظ على بقائه في مدينة صيدا بلبنان
تاريخ النشر: 25th, March 2024 GMT
صيدا- "يا نايم وحّد الدايم.. يا نايم وحّد الله، قوموا على سحوركم، جايي رمضان يزوركم"، العبارة التقليدية التي ورثها المسحراتي محمود فناس عن والده، أول مسحراتي في صيدا منذ أكثر من نصف قرن، وهو يكررها يوميا خلال شهر رمضان في صيدا القديمة جنوب لبنان ليوقظ النائمين على السحور.
داخل بيته التراثي الذي يحمل عبق الماضي، يجمع فناس مجموعة من الطبول والصنوج وغيرها من الآلات التي ورثها عن والده، والتي يستخدمها المسحراتي عادة لإيقاظ الناس، بما يتلاءم مع روحية هذا الشهر الفضيل الذي ينتظره المؤمنون بفارغ الصبر كل عام.
يرتدي فناس عباءة بيضاء طويلة، ويضع شالا وقبعة خضراء، ويحمل معه طبلة نحاسية، وإلى جانبها يحمل فانوسا صغيرا ليرى الطريق أمامه في الليل وسط الأزقة الضيقة بين المنازل المتلاصقة في الحارات القديمة التي تتشكل منها صيدا القديمة.
بين بيوتها الشعبية، تبدأ مهمة المسحراتي فناس قبل نحو ساعتين من موعد أذان الفجر، حيث تستمر جولته نحو ساعة. يحمل معه طبلة، ينقر عليها بلسان جلدي فتبعث رنة توقظ النائمين، ويصدح صوته الجهور بأبيات دينية هي أقرب إلى الموشحات تدعو للاستيقاظ، فيبدأ فناس بتنبيه السكان بموعد السحور ليتناولوه قبل صلاة الفجر.
يروي فناس قصته مع هذه المهنة للجزيرة نت، ويقول "منذ 6 سنوات وأقوم بهذه المهمة التي أعشقها، كنت أرافق والدي -رحمه الله- وهو يوقظ الناس للسحور، وعندما توفي عام 2018 واصلت مسيرته بلا انقطاع حتى اليوم".
ويضيف "تعود مهنة المسحراتي إلى عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- حيث كان المؤذن بلال بن رباح أول من قام بهذه المهمة. ومنذ ذلك الحين، انتقلت هذه العادة إلى مصر، ومنها انتشرت إلى معظم الدول العربية، ومن بينها لبنان ومدينة صيدا تحديدا".
ويفتخر فناس بأنه ورث مهنة المسحراتي "أبا عن جدّ"، حيث كان جده في صغره يمارسها في مدينة عكا الفلسطينية قبل أن تنتقل هذه العادة إلى والده، الذي انتقل إلى مدينة صيدا وعمل مسحراتيا.
ويؤكد فناس للجزيرة نت أن مهمته تتطلب إيمانا بأنها خدمة للمجتمع، ويشير إلى أنه يحظى بمحبة وتقدير من أبناء حيه لما يقوم به. ويضيف "حتى الآن، الناس حريصون على تذكر مهنة المسحراتي، لأنها تمثل جزءا من مظاهر البهجة المرتبطة بطقوس الشهر الفضيل".
وبحسب فناس يعتبرونه "نكهة رمضان"، حيث يخرج بعضهم إلى الشرفات لرؤيته والترحيب به، في حين ينتظر بعضهم الآخر مع أولاده في الحارات للانضمام إليه في جولته.
في رمضان هذا العام حضرت الحرب الإسرائيلية على غزة وجرحها النازف على لسان المسحراتي في أزقة صيدا، حيث يردد فناس هتافات تضامنية مع غزة والقدس، ويُبدي دعمه وتقديره لهم بكل مديح. يقول "في هذا الوقت الفضيل، يجعلون من التضحية والشهادة لأهل غزة مصدرا للتقدير والتضامن".
ورغم كثرة التساؤلات عن دور المسحراتي في هذه الأيام، في ظل تقدم التكنولوجيا وسيطرتها، يصر فناس على التمسك بهذه العادة ليحافظ على بقائها، ولذلك يعمل على نقل "المسحراتي" إلى ابنه كما اكتسبها هو من والده الذي ورثها عن جده أيضا، بهدف عدم اندثار هذه العادة بشكل خاص من صيدا وبشكل عام من لبنان.
وكون الدخل الذي يحصل عليه فناس من عمله مسحراتيا في غاية التواضع، يقسم وقته بين محله لبيع الهدايا والألعاب داخل صيدا القديمة خلال النهار، ويقضي 3 أيام في الأسبوع مع فرقته "بلابل الذاكرين" في تقديم عروض وموشحات في أحد مطاعم المدينة، ويختم يومه بمهمة التسحير التطوعي لينام بعد صلاة الفجر، ويبدأ يوما جديدا.
ويقول "لا أشعر بالتعب من هذه المهمة التطوعية، ولا أتقاضى أجرا مقابل دعوة الناس للسحور، ولكن الناس بطبيعتهم ووفقا لعاداتهم يقومون بإكرامي مع نهاية الشهر وخلال عيد الفطر المبارك".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات مهنة المسحراتی المسحراتی فی مدینة صیدا هذه العادة عن والده
إقرأ أيضاً:
شهيد العمل.. سقوط نجار مسلح من على سقالة بالدور الثالث في سوهاج
كان "أحمد" يخرج كل صباح قبل أن تشرق الشمس، في جرجا بمحافظة سوهاج، يحمل أمله المتعب فوق كتفيه، وعينيه معلقتان بمستقبلٍ طالما حلم أن يهديه لأمه العجوز وأطفاله الصغار.
في ذلك الصباح الكئيب، ودّع والده بقبلة مرتعشة على الجبين، همس له:" ادع لي يا أبي... اليوم أنهي عملي وأعود بالأجر"، لم يكن يدري أن قدميه لن تطأ عتبة البيت مجددًا.
وصل إلى العقار تحت الإنشاء، صعد درجات السقالة الخشبية المتآكلة، كأنّه يتسلق خيطًا بين الحياة والموت، الريح تعصف بثيابه البالية، والغبار يخنق أنفاسه، لكنه كان يبتسم كان يحمل في قلبه ما يكفي من الأحلام ليواجه العالم كله.
وقف على السقالة، يداه المتشققتان تثبتان الخشب، وعيناه تتأملان السماء الرمادية، لحظة غفلة، وخطوة خاطئة، وصوت انكسار، انهار الخشب تحت قدميه.
تأرجح جسده في الهواء لحظة قصيرة، كأنّه كان يودع الحياة، ثم هوى، سقط "أحمد" أرضًا، اصطدم رأسه الصغير أولًا، وتبعثر جسده بعدها كدمية كسرت أطرافها يد القدر.
تجمّع العمال حوله، لكن لم يكن في الجسد سوى سكون الموت، في المستشفى، وقف والده فوق جثمانه المسجى، عيناه جافتان من الدموع، شفتاه ترتعشان بكلمات لم تجد سبيلها للخروج:" كنتَ أملنا... فمات الأمل بين يدي".
زوجته جلست في زاوية الغرفة، تحتضن طفلها الرضيع، الذي ظل ينظر إلى الباب ينتظر دخول أبيه ولم يعلم أن الباب لن يُفتح أبدًا.
في جنازته، كان الصمت أكبر من أن يُحتمل، لم تبكِ السماء، لكن القلوب كانت غارقة في حزنٍ أسود، ومرّ نعشه بين أزقة القرية الضيقة، ليصل إلى مثواه الأخير، تاركًا خلفه بيتًا بلا سقف، واحلاما بلا صاحب.
وتعود أحداث الواقعة عندما تلقى اللواء صبري صالح عزب، مساعد وزير الداخلية مدير أمن سوهاج، إخطارًا من مأمور قسم شرطة جرجا، يفيد بوصول المدعو (أحمد ع. م. ع. ا - 34 عامًا - نجار مسلح)، والمقيم بدائرة القسم، إلى مستشفى جرجا العام جثة هامدة، إثر ادعاء سقوطه من علو.
وبالانتقال والفحص، وسماع أقوال كل من والده (65 عامًا - بالمعاش)، وصاحب العقار المدعو محمود ي. م. ي (74 عامًا - بالمعاش)، وشاهد الواقعة طلعت ق. س. ا (44 عامًا - عامل).
أكدوا أنه أثناء عمل المتوفى على سقالة خشبية بالطابق الثالث بعقار تحت الإنشاء ملك الثاني، اختل توازنه وسقط أرضًا مما أدى إلى وفاته، ولم يتهموا أحدًا بالتسبب في الحادث، كما نفى والده وجود شبهة جنائية.
وبتوقيع الكشف الطبي على الجثمان بمعرفة مفتش الصحة، تبين وجود كسر بالجمجمة والفكين نتيجة السقوط من علو، وأرجع سبب الوفاة إلى هبوط حاد بالدورة الدموية والتنفسية.
تم تحرير المحضر اللازم بالواقعة، وأُخطرت النيابة العامة لمباشرة التحقيقات.ت