التصوّف يمثل، بشكل عام، توجهًا إنسانيًا ظهر في مختلف الثقافات بأشكال متنوعة. يتمحور جوهره حول تحقيق الرضا الروحي والابتعاد عن متع الحياة الدنيوية، مع التوجه نحو الاقتراب من الله ورغبة في تجاوز الشهوات المادية بهدف التطور الروحي وتحقيق السعادة. يعبر التصوف عن امتداد للعبادة والتقوى في سياق الإسلام، حيث يتأثر بتعاليم الدين وقيمه.

فهو يعتبر تطبيقًا لطريقة الزهد التي اتبعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.

أصل الكلمة

تتنوع وجهات النظر والآراء بين الباحثين ومؤرخي التصوف بشأن أصل مفهوم التصوف وتشتت الرؤى حوله. يظهر مصطلح التصوف في معاجم اللغة تحت مادة "صوف"، وقد اشتقت كلمة "تصوف" من الصوف المعروف منذ القدم، ويشتمل مفهوم التصوف على عدة معانٍ، منها استخدام كلمة "صوف" للإشارة إلى الصوف الناعم الذي يُستخرج من شعر الحيوانات، ومنها استخدامها للإشارة إلى التصفية والتنقية الروحية والاقتراب من الله.

ظهور التصوف في المجتمع الإسلامي 

ظهور التصوف في المجتمع الإسلامي كان منطلقًا من الثقافة الإسلامية المتميزة، حيث كان يعتمد على الروحانية المستمدة من الزهد في الدين. يتجلى التصوف في المجتمع الإسلامي من خلال الالتزام بتعاليم الدين والسعي نحو القرب من الله، مما ينعكس تلك القيم في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية.

ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن التصوف يتأثر بالخصوصيات الثقافية لكل مجتمع، ويتم تجسيده وفقًا للمعتقدات والقيم الخاصة بذلك المجتمع. لذلك، فإن ممارسة التصوف قد تختلف من ثقافة لأخرى ومن فترة زمنية لأخرى، ولكن الهدف العام لها يظل السعي نحو الروحانية والتقوى.

أقسام التصوف الإسلامي

ينقسم التصوف الإسلامي إلى قسمين: قسم يتعلق بالتربية وتهذيب الروح ونبل الخلق والتحلي بالفضائل والمحاسن الأدبية، وهو ما اصطلح على تسميته بعلم المعاملة، وقسم يتعلق بالرياضة الروحية والعبادة وما فيها من نور وطهر وكشف وفيض.

والقسم الأول يمثل عماد فلسفة الغزالي الأخلاقية، وهو القسم الأساسي في كتابه الأكبر "الإحياء"، الذي يعتبر مرجعًا رئيسيًا في تاريخ الفكر الإسلامي. يجسد هذا القسم مدى أهمية الغزالي كشاهد دائم لجماليات الإسلام، حيث يقدم توضيحًا لفضائل الدين وأنواره. فهو يوفر مصدرًا غنيًا للمفكرين الذين يدرسون الأخلاق، ويمثل مرجعية لأولئك الذين يسعون إلى النبل والتحضر، حيث يبرز من خلالها معاني الحديث الشريف: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وأما القسم الثاني وهو قسم العبادة والفيض، فأول شروطه كما يقرر الغزالي: معرفة الكتاب والسنة معرفةً عليا خلافًا لمن قال: إن الفيض يأتي بالطهارة فقط ولو لم تكن هناك معرفة بالكتاب والسنة والفقه.

مراحل التصوف الإسلامي

تاريخ التصوف يتضمن عدة مراحل تطور، حيث يتنوع هذا التطور بتأثير المؤثرات الخارجية والعوامل الداخلية. تبدأ المرحلة الأولى في القرنين الأول والثاني الهجريين، وتعرف بمرحلة الزهد. تتأثر هذه المرحلة بتعاليم الإسلام التي تدعو إلى الزهد والتبتل والعبادة، وأيضًا بالتوسع الإسلامي الذي أحاط بالمجتمعات المسلمة بالبذخ والترف، مما دفع ببعض المسلمين إلى اتخاذ حياة الزهد. 

المرحلة الثانية تتميز بتطور التصوف كحركة منتظمة، حيث يطرح المتصوفة مواضيع جديدة كالسلوك والمقامات والأحوال والمعرفة والتوحيد والفناء. تنقسم هذه المرحلة إلى نوعين، الأول يلتزم بالكتاب والسنة، بينما يبتعد الثاني عن الشطحات الصوفية والكرامات. 

في المرحلة الثالثة، يتأثر التصوف بالمؤثرات الفلسفية الخارجية، مما يؤدي إلى تطوير نظريات جديدة. يستمر التصوف في المراحل التالية بالتأثير المزدوج بين المصادر الإسلامية الداخلية والمصادر الفلسفية والثقافية الخارجية، ويتطرق المتصوفة إلى تفسير المذهب الإسلامي بطرق مبتكرة ومستقلة. يتجسد هذا التطور في أعمال كبار المتصوفة مثل الغزالي وابن عربي. تعاني التصوف في فترات لاحقة من التدهور بسبب التضييقات والاضطهادات التي تعرضت لها، ولكنها تظل حاضرة كجزء لا يتجزأ من تاريخ الإسلام.

هل اختلف أئمة الإسلام مع التصوُّف؟

بالطبع في العلوم الإسلامية ونهج البحث الإسلامي، ليس هناك من ينتقد المذهب والظواهر بالكليَّة، إنَّما يُنظر لما هو فيه الفوائد وما هو محطُّ الضرر، فإن كانت الأولى فيكون الاستحسان، وإن كانت الثانية يكون خلاف ذلك. 

إنَّ العقيدة لا تعرفُ غير طريق الحق وطريق الله، وإنَّما في دراسة الأصول والطرق، ما يثير العقل والبحث لدى الدارسين، فيكون الحكم من قِبل الطرائق العلمية والمنهاج الذي لا يخرجُ عن الأصول. فدراسة المذهب ليست كالتعبُّد به؛ لأنَّ في الدراسة أخذ وردّ، وقولٌ وقولٌ آخر، وآراء تستفيض. فإن كان السؤال حول اختلاف الأئمة، فإنَّه وارد على سبيل البحث والقراءة؛ لنجد أنَّهم فرَّقوا بين  مدح شخص معين ينسب إلى التصوف والزهد، كالجنيد بن محمد، وأبي سليمان الداراني ممن عرف بالصلاح والعبادة، وبين مدح الصوفية على سبيل العموم.

طبيعة الاختلاف

انَّ التصوُّف الإسلامي يعتبر ظاهرةً اسلاميةً نشأت وازدهرت في إطار البيئة الإسلامية، وتأثرت بشكل أساسي بتعاليم سيدنا محمد - صلوات الله عليه وعلى آله - وأصحابه الكرام. استمدت التصوف حكمتها ومواعظها من القرآن الكريم والسنة النبوية. ومع ذلك، لم تظل التصوف معزولة عن التأثيرات الخارجية التي توجهت إلى العالم الإسلامي. فلقد تأثر التصوف بعناصر غير إسلامية في مراحل تطوره، لا سيما الديانات المسيحية والفارسية واليهودية، والبوذية.

الإمام مالك

فيما يتعلق بالإمام مالك، قال القاضي عياض رحمه الله: "وقال المسيبي: كنا عند مالك وأصحابه حوله، فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله، عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرًا، ثم يأخذون في القصائد، ثم يقومون فيرقصون. فقال مالك: الصبيان هم؟ قال: لا. قال: أمجانين؟ قال: لا، قوم مشائخ. قال مالك: ما سمعت أن أحدًا من أهل الإسلام يفعل هذا".

الإمام الشافعي

فقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: “ لو أن رجلا تصوف أول النهار لم يأت عليه الظهر إلا وجدته أحمق “ رواه البيهقي في "مناقب الشافعي".

شيخ الإسلام ابن تيمية

في قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهؤلاء المشايخ لم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول 'أهل السنة والجماعة'، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة، الدعاء إليها، الحرص على نشرها ومنابذة من خالفها، مع الدين والفضل والصلاح: ما رفع الله به أقدارهم، أعلى منارهم. وغالب ما يقولونه في أصولها الكبار: جيد؛ مع أنه لا بد أن يوجد في كلامهم وكلام نظرائهم من المسائل المرجوحة، والدلائل الضعيفة؛ كأحاديث لا تثبت، ومقاييس لا تطرد، مع ما يعرفه أهل البصيرة، وذلك أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم" من كتاب "مجموع الفتاوى" (3/ 377). يستنتج من كلام شيخ الإسلام أن الصوفية الأوائل كانوا مستقيمين على منهج أهل السنة والجماعة بشكل عام، ولكن قد تحمل بعضهم بعض الأفكار التي قد تختلف معها.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: التصو ف التصوف الإسلامي التصوف الإسلامی التصوف فی

إقرأ أيضاً:

الأسبوع الثالث للدعوة يختتم فعالياته في سوهاج بمحاضرة حول “دور الشباب بين عمران النفس وعمران الكون”

اختتمت الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، أسبوعها الثالث بجامعة ومساجد ومراكز شباب محافظة سوهاج، اليوم، بمحاضرة حول دور الشباب ببن عمران النفس وعمران الكون، والتي عقدت بجامعة سوهاج.
وقال الدكتور محمود الهواري، الأمين المساعد للدعوة والإعلام الديني بمجمع البحوث الإسلامية، إن مضاد كلمة العمران الإبادة والخراب، وأمة الإسلام ليست مخيرة في مسألة العمران وإنما مكلفة به، وإن كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس؛ فخروجها للناس لا يعنى التفرد والتميز عن باقي الأمم بلا قيد، بل بتَحمّل المسؤولية والعمل والإخلاص والإصلاح سعيا لعمران الأرض.

وأضاف أمين الدعوة والإعلام الديني، أن التدين ليس مجرد عبادة في المساجد؛ وإنما العبادة في المساجد جزء من التدين، والتدين الحق هو الإصلاح وعمارة الأرض، والناظر إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي المعلم دائما كان يعطي دروسا لأصحابه في حب العمل وإعمار الكون، فكان يوجه الصحابة للعمل بما يناسب قدراتهم حتى لو كانت زهيدة، كالرجل الفقير الذي  أمره الرسول أن يحتطب وألا تمنعه قلة حيلته وضيق رزقه عن مواصلة العمل، وفي ذلك نموذجا في حسن القيادة  وحسن التوجيه في الاستثمار، لترسيخ أن العمل واليد العاملة هي من أساسيات فقه العمران.

وأوضح الدكتور أحمد همام مدير عام الإعلام بأمانة الدعوة بمجمع البحوث الإسلامية، أن العمران الحقيقي له دعائم، ومن دعائم العمران سواعد الشباب وإرادته الواعية، شريطة أن يتقرب الشباب من الله، فكم من إنسان تعلم وقدم ولم يُخلّد ذكره ولم يُحفظ اسمه، موضحًا أن أول خطوة من خطوات البناء والعمران هي أن يقرأ الشباب، ومن يقرأ يقرأ لله، ومن يُعمر يُعمر لله، لا لمنصب ولا شهرة ولا سمعة، وقبل إعمار المجتمع يجب على الشباب أن يعمر نفسه أولا، كذلك لا يكفي الدعاء والتضرع لله لإتمام العمران دون عمل وسعي، بل على الشباب أن يجمع  بين السعي والعبادة والاستمرار في طاعة الله، حتى يشتد العمران ويكون المجتمع في أبهى صورة.

وشهدت المحاضرة تفاعلًا كبيرًا بين علماء الأزهر وطلاب الجامعة، حيث تم فتح باب النقاش والأسئلة، ومن بين هذه الأسئلة استفسار الشباب عن مدى تأثير الإعلام والثقافة في عمران المجتمع؟ أجاب الهواري، أن النفس البشرية أعقد من أن نحيط بأسرارها، وأصبحنا اليوم نقلد غيرنا تقليدا أعمى بسبب أننا محتلون عقليا، ناصحا الشباب أن لا يملكهم فكر، إلا ما أمرنا الله به، ولا يسلموا لرأي دون مصادرنا الأساسية وهي مصادر الشرع، وعلى الشباب أن يسأل نفسه من أنا وماذا أريد؟، وليعلم الشباب أن الله أعطاه الحرية وكرمه بالعقل والتمييز، مشددًا أن الإسلام إذ أمرنا بالتفكير، فإنه يأمرنا أن يكون تفكيرا مفيدا بناء، وفي حال الاطلاع على آراء وثقافة الغير، يجب أن نتحقق من صحة المصادر والمعلومات وكونها ليست موجهة.

حضر الندوة الدكتور حازم مشنب عميد كلية العلوم جامعة سوهاج، نائبا عن رئيس الجامعة، كما حضر عمداء وأساتذة الجامعة، ولفيف من علماء الأزهر الشريف، وشهد المحاضرة عدد كثيف من طلاب وطالبات جامعة سوهاج. 

تأتي لقاءات «أسبوع الدعوة الإسلامي» الثالث، التي انعقدت على مدار هذا الأسبوع في رحاب جامعة ومساجد سوهاج، في إطار مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي،" بداية جديدة لبناء الإنسان"، وتهدف إلى إعداد خريطة فكرية تتناول بناء الإنسان من جميع جوانبه الفكرية والعقدية والاجتماعية، وترسيخ منظومة القيم والأخلاق والمُثُل العليا في المجتمع، وذلك بمشاركة نخبة من علماء الأزهر الشريف.

مقالات مشابهة

  • بيان منزلة النفس الإنسانية في الإسلام.. الإفتاء تجيب
  • الجنائية الدولية تلاحق نتنياهو وغالانت..نظرة قانونية
  • روشتة نبوية لعلاج الغضب في 3 خطوات
  • 4 أمور تعكر على الإنسان صفو توجهه إلى الله.. علي جمعة يكشف عنهم
  • مكانة الصلاة في الإسلام وحكم تاركها
  • رئيس جامعة الأزهر: الرسالات السماوية جاءت لتصون النفس البشرية
  • من الذي يعذب يوم القيامة الروح أم النفس.. الإفتاء تجيب
  • فعالية خطابية للملتقى الإسلامي وجامعة المعرفة إحياءً لذكرى سنوية الشهيد
  • الأسبوع الثالث للدعوة يختتم فعالياته في سوهاج بمحاضرة حول “دور الشباب بين عمران النفس وعمران الكون”
  • "الإسلام وعصمة الدماء".. الجامع الأزهر يحذر الطغاة من مواصلة استباحة دماء المسلمين