اللغة العربية في ظل الهجرة.. واجبات ومنهجيات
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
تتعرض الآراء والأفكار حول أهمية الحفاظ على اللغة العربية لكثير من المدّ والجَزر، وتتقاذفها الأمواج، فيأخذها المد حينا ويجذبها الجزر في حين آخر، ففي واقع الهجرة التي فرضت على كثير من أبناء الشعب العربي، نجدنا أمام تحدّ كبير يتمثّل بمدى رغبتنا وجدية واجبنا تجاه الحفاظ على لغة الأجيال القادمة التي تنشأ في تربة غير تربتها الأصلية، وتعيش في ظروف مختلفة عن ظروف الأبوين، وفي واقع جديد يفرض لغة المكان بوصفها لغة المدرسة والتحصيل العلمي.
هناك كثير من العقبات والصعوبات التي تعترض الأجيال الناشئة في بلاد المهجر والنزوح في مجال تعلم اللغة العربية، لكن النقطة المركزية في هذه القضية هي أن اللغة العربية حين تكون اللغة الأم للأبوين فإنه من الواجب عليهما أن يفتخرا بلغتهما ويعتزّا بها ويُثمّناها حتى ينتقل ذلك طواعية وبسلاسة وعذوبة إلى الأبناء، فخير معلّم هو المثال الحي والنموذج العمليّ والأسوة الماثلة، والأبناء بطبيعة الحال مرايا آبائهم وأمهاتهم.
أما إن كان لدى الأبوين زعزعة نفسية تجاه أهمية اللغة العربية بوصفها اللغة الأم وإن كان لديهم شك بقيمتها ومكانتها، فلن ينتقل حبّها إلى الأبناء ولن يقدّروا قيمتها، ولن يهتمّوا بإتقانها إن كانت محض أداة للتواصل مع الدائرة الأبعد من الأهل القابعين في بقعة أخرى من هذا العالم.
فلا بدّ أن يعلم الآباء العرب لا سيما المقيمون في المهاجر غير العربية مكانة اللغة العربية فيستحضروا قيمتها في أنفسهم وفي أحاديثهم مع أبنائهم، ويستحضروا أقوال أئمة اللغة والشرع في مكانة العربيّة لتعزيز مكانتها في نفوس الأجيال، ومن ذلك ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": "اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميّزون". وكذلك ما يقوله ابن كثير الدمشقي في تفسيره عند تعليقه على قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف/2): "وذلك لأنّ لغة العرب أفصح اللّغات، وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنّفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللّغات على أشرف الرّسل بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتُدِئ إنزاله في أشرف شهور السّنة وهو رمضان، فكَمُل من كلّ الوجوه".
بل إن الفقهاء ذهبوا إلى أن تعلّم اللغة العربية واجب شرعي على اختلاف بينهم في مقدار الواجب تعلّمه منها، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي فيما نقله عنه الإمام الشوكاني في كتابه "إرشاد الفحول": "يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جَهده في أداء فرضه". بينما ينقل عن الإمام الماوردي قوله: "ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره". وكذلك ينصّ ابن تيمية بوجوب تعلم العربية فيقول في "اقتضاء الطريق المستقيم": "إن نفس اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، لكنّه يرى أنّها فرض على الكفاية لا العينيّة، إذ يقول في مجموع الفتاوى: "معلوم أن تعلم وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسنة المائلة عنه، فتُحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو ترك الناس على لحنهم كان نقصا وعيبا".
وفي هذا السياق فإن المصاعب تزداد مع أولئك الأطفال الذين نشؤوا وكبروا في بلاد المهجر فصارت لغة المكان لغة المدرسة لديهم هي لغة الحياة، فهي الأمكن في عقولهم والأسهل جريانا على ألسنتهم، وبها يعبرون عن ذواتهم ويعكسون كثيرا مما يتمتعون به من صفات شخصية خاصة، وهنا نقع فعليا بمأزق حقيقي! ولا بد أن يتنبه الأبوان إلى هذه النقطة جيدا، فاللغة التي يفكر بها المرء هي اللغة الأقوى حضورا في ذهنه ونفسه، وهي لغة أحلامه وتصوراته، ولغة حديثه ونجواه مع نفسه، ولغة انفعالاته كذلك، فعندما يغضب الطفل سيعبّر عن غضبه باللغة الأقرب إلى نفسه، وهي اللغة التي يتعرض لسماعها أكثر ويمارس الحديث بها بالضرورة، فتصبح الأكثر هيمنة على عقله ولسانه، وغالبا ما تكون لغة الدراسة هي المهيمنة والمسيطرة!.
لذلك يجب الحذر مما لا بد منه، وهو كائن! فمعظم الأهالي في بلاد المهجر يواجهون التحديات نفسها ويعانون من المشكلات نفسها، غير أن هناك أُسرا لا تُلقي بالا لأهمية اللغة العربية ولا تحرص على تعلّم أبنائها إياها، وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة أخرى سيواجهها الأبناء حين يكبرون بأراض مختلفة وظروف بيئية وثقافية بعيدة عنهم، فالانتماء لديهم عربي إسلامي، لكن اللسان أعجمي!.
منهجيّة التحبيب باللغة العربية وآلياتهامن أجل كلّ ما سبق يجب التركيز على ربط الأبناء باللغة العربية وتحبيبهم بها وتشويقهم إليها، وتحفيزهم وتشجيعهم للإقبال على تعلمها ومساعدتهم والأخذ بأيديهم نحو إتقانها، ولن يتحقق ذلك بسهولة إن لم تكن العربية لغة الأبوين في المنزل، إذ يقع على عاتقهما تفعيل استعمال اللغة العربية في البيت على أقل تقدير، ليتعرض الأولاد للغة بالسماع ويتلقونها بحب وعذوبة حين تجري على لسان الأبوين في خطاب الأبناء ومحاوراتهم، وفي الجلسات الدافئة التي تجمعهم معا لتصبح لغة العقل والقلب معا.
ولا بد من تدعيم فكرة السّماع بوصفه الحل الأفضل لتلقي اللغة وتعلّمها، وذلك عن طريق مشاهدة البرامج المحببة للأطفال أو الناشئة، وتحديدا تلك التي تتحدث بلغة عربية فصيحة وعذبة وواضحة لا تعقيد فيها. وقد يتطلب الأمر تفعيل القنوات العربية التي تعتني باللغة وتهتم بفصاحتها في البرامج التي تعرضها، فيغدو السماع غير المتعمد أيضا وسيلة لخلق الألفة بين الأبناء واللغة العربية، وكذلك الاستماع إلى القرآن الكريم وتعلّمه، فقراءته وفهمه وإتقان تلاوته الغاية الأسمى لدى كلّ من يعبأ بدين أبنائه وتنشئتهم على تعاليم الإسلام وتقوية الانتماء إليه والاعتزاز به.
وتعد السنوات الخمس الأولى من عمر أي طفل الأهم لاكتسابه أي لغة وجعلها اللغة الأم لديه، فهي سنوات التأسيس اللغوي، وهو ما يعني أن الأطفال الذين يولدون في بلاد النزوح والمهجر يكتسبون لغتهم الأم من ذويهم بالدرجة الأولى، وواجب الأبوين اللذين يشعران بعظم المسؤولية أن يوفرا للطفل هذه المساحة اللغوية، وذلك بالتعرض لها من المحيط الصغير، وباستعمالها مع الطفل ومخاطبته بها. فإن استطاع الأبوان فعل ذلك وتوفير هذه البيئة اللغوية السليمة للطفل فقد قطعا شوطا كبيرا معه، وسيكون تلقيه لأي لغة يتعلمها بعد ذلك تلقي اللغة الثانية التي سيعالجها ويحاكمها ويقارنها في ذهنه على الدوام بلغته الأم.
إنّ حضور اللغة العربيّة في الاجتماعات والمحافل والمناسبات العربيّة والإسلاميّة مع تعزيز العلاقة بين اللغة والآباء والأمهات لهو أكبر محفِّز للأبناء، وأكبر دافع لهم لإنشاء رباط حقيقي بينهم وبين اللغة العربية؛ وإنّ مما يهوّن آلام الغربة تمسّك الأجيال بهويّتهم التي تمثّل لغتُهم العربية عنوانَها الأبرز، وقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي إذ يقول:
نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارا وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
وَيَجمَعُنا إِذا اختَلَفَت بِلادٌ بَيانٌ غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات اللغة العربیة اللغة العربی العربیة فی لغة العرب فی بلاد
إقرأ أيضاً:
عيد اللغة العربية
عيد اللغة العربية هذا العام أطل ولم يجد أحدا في بلادنا الحبيبة فالمواطن أما لاجيء ، نازح أو هائم علي وجهه وقد اعياه البحث عن ملاذات آمنة يلتقط فيها بعض أنفاسه ومن ثم يواصل الرحلة ( رحلة الضياع ) !!..
لو أن من أشعلوا الحرب اللعينة العبثية المنسية استطاعوا أن يجردونا من احلامنا لما ترددوا في مصادرتها للصالح العام كما يزعمون عندما يريدون التبكيت علي المواطن وحشره دائما في الزوايا الضيقة !!..
كنا عند حلول الثامن عشر من شهر ديسمبر من كل عام نتوجه الي المنتديات الادبية والثقافية في العاصمة أو الأقاليم لنحتفل بعيد اللغة العربية الشريفة ، لغة القرآن الكريم ، لغة أهل الجنة ، التحدث بها فضيلة وتعلمها واجب .
وهنالك في قاعة الشارقة وفي رحاب ندوة العلامة عبدالله الطيب يصطف العلماء في المنصة الرئيسية يتقدمهم تلميذ العلامة عبدالله الطيب البروف صديق عمر الصديق ويومها تكون القاعة المهيبة مضمخة بأريج اجود الكلم بلسان عربي مبين وينداح النثر الموموسق والشعر الرصين يجريان في صفاء مثل النيلين يحملان من المعاني والحكمة والمتعة والجمال الكثير الكثير .
تسمع البروف صديق عمر الصديق بصوته المميز وسمته الرزين ووقفته الوادعة ووجهه الطلق واشاراته اللماحة وعيونه المشعة بالذكاء واللباقة والأناقة والبلاغة يخيل اليك وكأنه مصاحب لابن الحسين الكوفي ( المتنبي ) في رحلة من رحلاته التي تكاد لا تهدأ ودائما معه مكتبته المتحركة علي ظهر بغير بها من أمهات الكتب في مقامها جديرة بأن يكون متصفحها هذا الشاعر الفيلسوف الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .
ننتظر البروف صديق بعد العودة من سياحته الأدبية غير العادية مع أشعر شعراء زمانه ذاك الإنسان القلق الذي يمدح نفسه قبل أن يتجه الي مدح الأمراء والكبار وهو يري نفسه ليس بأقل منهم أن لم يكن أفضلهم ولكن للاسف وقد سعي لأن تكون له ولاية يحكمها وبذل كثيرا من الوقت والمحاولات والسفر والتغرب والتقلب في البلدان ولم يقبض إلا الريح الي أن وافته المنية مقتولا في بادية السماوة بسيف فاتك الاسدي عدوه اللدود .
كنا سنسمع الدرر والعجايب مروية بعذوبة مفرطة وعلم غزير متدفق من ابن توتي البروف صديق لم لا وقد نال الكثير من حكمة وجودة شيخه ابن المحاذيب عبدالله الطيب الذي نال ثقة العاهل المغربي الملك محمد الخامس ومن بعده ابنه وكان يحاضرهم في المسجد الكبير هما والرعية والضباط والاجناد فيتحفهم بأسرار لغة الضاد ويكشف لهم عن أدق اسرار حلاوتها وأناقتها ودقة تعابيرها واتساع معانيها وخفة ظلها وجمالها الذي لا يباري !!..
مازلنا وأملنا في الله سبحانه وتعالى كبير أن تتوقف هذه الحرب اللعينة العبثية المنسية وان نعود لديارنا سالمين غانمين سعيدين فرحين مستبشرين وان نسعد مجددا بما كان عندنا من منتديات أدبية وثقافية فيها نرتاح من ضغوط الحياة وبها يعود الينا الصفاء والنقاء واتزان النفس مما يحفز علي المزيد من العمل والإنتاج وبهما تسير الحياة وتبني الاوطان !!..
حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .
ghamedalneil@gmail.com