رمضان وحمّى الاستهلاك في زمن الحضارة الماديّة
تاريخ النشر: 20th, March 2024 GMT
ليست صادمة تلكم الدّراسات والتّقارير المختلفة التي تفيد بأنّ استهلاك المسلمين في مختلف بلدانهم يزيد في شهر رمضان المبارك بنسبة 40 في المئة عن استهلاكهم للطّعام والشّراب في غيره؛ هي غير مفاجئةٍ لأنّها معايَنَةٌ منّا جميعا ولأنّنا ألِفنا المشهد وتعاملنا معه على أنّه الحالة الطبيعيّة؛ غير أنّ الحقيقة تؤكّد أنّ هذه الزيادة ينبغي أن تكون صادمة لتفكيرنا وتدفعنا إلى إعادة حساباتنا في التّعامل مع الشّهر الكريم.
تأثير الحضارة الماديّة على شهر رمضان
حمّى الاستهلاك هي ثمرةٌ من ثمرات الحضارة المادية التي قادت المجتمعات عموما إلى الخضوع لمنطق الاستهلاك وخدمة الجسد، مع عدم الاعتراف بالرّوح أصلا والتمركز حول الجسد خدمة وغاية.
وقد أدّت هيمنة الحضارة الماديّة في الغرب إلى تحويل الأعياد الدّينيّة هناك كعيد الميلاد ورأس السنة إلى أعياد استهلاكيّة بحتة.
ونتيجة طغيان هذه الحضارة الماديّة وتأثيرها في بلاد المسلمين المغلوب على أمرها، أخذ شهر رمضان المبارك بالاصطباغ بصبغة الاستهلاك التي تكرّسها الحضارة الماديّة لخدمة الجسد الذي لا تعترف الماديّة إلّا به مكوّنا للإنسان.
ولذلك، فالصيام بوصفه عبادة تخدم الرّوح وتهذّبها عن طريق تقييد رغبات الجسد وشهواته يتصادم مع حقيقة الحضارة الماديّة.
وقد قال الشّيخ محمّد الغزالي رحمه الله تعالى في تجسيد هذا المعنى: "الصّيام عبادةٌ مستغرَبة أو منكورة في جوِّ الحضارة الماديّة التي تسود العالم. إنَّها حضارة تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالرّوح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثمَّ فهي تكره عبادة تُقيِّد الّشهوات ولو إلى حين، وتؤدِّب هذا البدن المدلَّل، وتلزمه مثلا أعلى".
حمّى الاستهلاك تتنافى مع أَحد أهم المقاصد الرئيسة من الصيام، وهو بناء الرّوح وتغذيتها من خلال تعطيش وتجويع الجسد، فنرى النّاس في رمضان يستجمعون شهوات الطعام والشراب خلال النّهار ليطلقوا لها العنان عند أذان المغرب، وكأنّ رمضان غدا شهرا للتفنّن في إرضاء شهوات النفس من خلال تعدّد الأصناف والأطعمة وتكاثرها على المائدة، ليذهب الكثير منها هدرا بعد ذلك إلى سلّات القمامة
إنّ حمّى الاستهلاك تتنافى مع أَحد أهم المقاصد الرئيسة من الصيام، وهو بناء الرّوح وتغذيتها من خلال تعطيش وتجويع الجسد، فنرى النّاس في رمضان يستجمعون شهوات الطعام والشراب خلال النّهار ليطلقوا لها العنان عند أذان المغرب، وكأنّ رمضان غدا شهرا للتفنّن في إرضاء شهوات النفس من خلال تعدّد الأصناف والأطعمة وتكاثرها على المائدة، ليذهب الكثير منها هدرا بعد ذلك إلى سلّات القمامة؛ في مشهد يتناقض مع أبسط معاني العبادة عموما وعبادة الصيام على وجه الخصوص.
وممّا يزيد من حمّى الاستهلاك في رمضان المحاكاة والمنافسة اللّتان تؤثران على نفسية المستهلك حتى دون إرادته، فيندفع لاقتناء ما يقتنيه الآخرون تقليدا وتنافسا في الخضوع للمادة، بدل أن يذهب للتنافس والمحاكاة في بناء نفسه وقلبه والإكثار من عباداته التي تغذّي روحه وتهذبها.
وكذلك فإنّ الآلة الإعلاميّة قد لعبت دورا سلبيّا في إنتاج الحمّى الاستهلاكية المبنية على التقليد، وعلى تشجيع المتابع لها على اقتناء مختلف المنتوجات دون الاهتمام بجانب الجودة ودون مراعاة لإمكانياته المادية، كما عملت على تكريس فكرة أنّ رمضان هو شهر الطعام والشراب من خلال الانتشار غير المسبوق لبرامج الطبخ الرمضانيّة.
كيف جابَه الإسلام حمّى الاستهلاك في رمضان؟
إنّ من أهمّ مقاصد الصيام التي كرّسها الوحي هي كسر شهوات الجسد وعلى رأسها شهوتا الطعام والشراب، وجعل رمضان ميدانا للتعوّد على عدم الخضوع لهذه الشهوات. وقد بيّن الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدّين" أنّ الإنسان إذا بقي أكلُه في رمضان كما هو خارجه لم ينتفع بصومه، فماذا عساه يقول إذن عن الزيادة المفرطة وغير العقلانيّة التي تحدث في كميات الطعام في رمضان هذا الزمان؟
فها هو يقول: "روحُ الصّوم وسرّه تضعيف القُوى التي هي وسائل الشّيطان في العود إلى الشّرور ولن يحصل ذلك إلا بالتّقليل؛ وهو أن يأكل أكلَته التي كان يأكلها كلّ ليلةٍ لو لم يصم، فأمّا إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلم ينتفع بصومه".
إنّ خضوع الصّائمين لمنطق الحضارة الماديّة في تقديس الجسد وخضوعهم لحمّى الاستهلاك من خلال مضاعفة وتكثير كميّات الطعام والشراب في شهر رمضان؛ ما هو إلّا إفسادٌ لحقيقة الصّوم وتشويه لمعالم هذا الشهر الكريم.
مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المسلمين عموما من دعاة وكتّاب وإعلاميين في تحرير شهر رمضان من الخضوع لمنطق الحضارة الماديّة، وتحريره من حمى الاستهلاك التي أفسدته وشوّهت مقاصده، والعمل على نشر ثقافة جديدة تربي الإنسان على تحقيق مقاصد الصوم من خلال تقليل كميات الطعام لا تكثيرها، وتواجه ثقافة الاستهلاك المجنونة
وهذا الخضوع لحمّى الاستهلاك هو أحد مظاهر الإسراف المحرّم الذي نهى الله تعالى عنه في كتابه الكريم، وقد جاءت الآيات تأمر بالأكل والشرب وتنهى عن الإسراف في الآية نفسها، في إشارةٍ إلى أنّ أكثر الإسراف يكون في المأكل والمشرب، وهو في هذا قبيحٌ ويكون أشد قبحا أن يكون الإسراف في الشهر الذي يفترض فيه تقليل كميات الطعام والشراب لا زيادتها؛ فقد قال تعالى: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ".
وممّا يلفت النظر أنّ الله تعالى سبق النهي عن الإسراف بالأمر بالإنفاق في بعض الآيات كما في قوله تعالى: "كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ"، وفي ذلك إشارةٌ مهمّة إلى أنّ ما يبدّده المرء من الطّعام والشّراب من خلال الإسراف إنّما يكون على حساب الفقراء والمساكين وغيرهم من مستحقي النفقات؛ فحمّى الاستهلاك إذن هي ضربٌ من ضروب الظّلم الاجتماعي الذي يطال شرائح من المجتمع هم أولى بهذا الطّعام والشّراب المهدور؛ وما أبشع أن يكون تضييع حقوق هؤلاء المحتاجين في شهر رمضان الذي يفترض أن يكون مساحة تدريبيّة يعيش فيها المسلم مشاعر هؤلاء الفقراء وآلام احتياجهم.
إنّ مسؤولية كبيرة تقع على عاتق المسلمين عموما من دعاة وكتّاب وإعلاميين في تحرير شهر رمضان من الخضوع لمنطق الحضارة الماديّة، وتحريره من حمى الاستهلاك التي أفسدته وشوّهت مقاصده، والعمل على نشر ثقافة جديدة تربي الإنسان على تحقيق مقاصد الصوم من خلال تقليل كميات الطعام لا تكثيرها، وتواجه ثقافة الاستهلاك المجنونة لتعود لشهر رمضان روحه الحقيقيّة.
twitter.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه رمضان الطعام الإسراف الصوم الطعام رمضان الصوم الإسراف مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الطعام والشراب کمیات الطعام شهر رمضان فی رمضان من خلال ة التی
إقرأ أيضاً:
محمد عبد الرحيم البيومي: الحضارة الإسلامية ساهمت بشكل كبير في تقدم مهنة الطب
ألقى الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، محاضرة هامة في كلية التمريض في جمهورية داغستان حول موضوع "البناء الحضاري في التراث الإسلامي في مهنة الطب من خلال الرؤية التجديدية لوزارة الأوقاف المصرية".
وتناولت المحاضرة دور الطب في التراث الإسلامي باعتباره أحد أبعاد الحضارة الإسلامية التي تجمع بين العلم الديني والعلمي، كما قدم البيومي رؤية حديثة حول كيفية تطوير مهنة الطب في ضوء المبادئ التجديدية التى تتبناها وزارة الأوقاف المصرية حيث نبعت من الريادة الطبية فى الحضارة الإسلامية،وكذلك الأخلاق المهنية فى الجانب الطبى والتى تناولتها النصوص التراثية التى واكبت النهضة الطبية فى الحضارة الإسلامية.
كذلك عرض البيومي في محاضرته نماذج من لجنة الطب التابعة للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والتي تعمل على تطوير مفاهيم الطب في ضوء القيم الإسلامية الأصيلة، وأكد أن لجنة الطب لا تقتصر على نشر المعرفة الطبية الحديثة، بل تسعى أيضًا إلى إعادة إحياء التراث الطبي الإسلامي، الذي كان له دور محوري في تطور الطب في العصور الوسطى. وأضاف أن الوزارة تبذل جهودًا حثيثة لتوفير التدريب والتعليم المتخصص في الطب، مما يعزز من تطوير هذا المجال ويعود بالنفع على المجتمع.
ناقش البيومي أهمية الربط بين التراث الطبي الإسلامي والطب الحديث، مشيرًا إلى أن الحضارة الإسلامية ساهمت بشكل كبير في تقدم مهنة الطب من خلال العناية بالصحة العامة، وتطوير الأدوات الطبية، وتقديم أسس علمية مبنية على التوازن بين الجسد والروح، وأوضح أن وزارة الأوقاف المصرية تسعى إلى تجديد هذا التراث من خلال تنظيم برامج تدريبية وورش عمل تهدف إلى تعزيز الوعي لدى الشباب حول أهمية الطب في بناء المجتمع وحفظ الصحة وفقًا للرؤية الإسلامية التي تركز على الحفاظ على كرامة الإنسان.
اختتم البيومي محاضرته بالتأكيد على أن البناء الحضاري في مهنة الطب لا يتوقف عند دراسة العلوم الطبية فقط، بل يشمل أيضًا تعزيز القيم الإنسانية والإسلامية التي تضع الإنسان في قلب الاهتمام، وأوضح أن هذه المحاضرات تأتي في إطار الجهود التي تبذلها وزارة الأوقاف المصرية لتعزيز التكامل بين العلوم الدينية والعلمية في مجالات مختلفة، بما في ذلك الطب، بما يساهم في بناء مجتمع صحي ومتوازن قادر على مواجهة التحديات الحديثة.