العُمانية: تشكل الهوية الثقافية ركيزة أساسية لنمو الطفل معرفيًّا وإبداعيًّا من خلال العديد من المحفّزات والمكوّنات حوله التي يتفاعل معها بشكل يومي من خلال "البيت والمدرسة والمجتمع"، وما يستلهمه من أمور مرتبطة بالدين الإسلامي وعقيدته السمحة، وفي سلطنة عُمان هناك مؤثرات كثيرة تضاف إلى ما سبق من مكونات ومحفّزات تشكل تلك الهوية، تتصل بجوانب معرفية مرتبطة بالثقافة العُمانية الأصيلة الضاربة في القدم، والعادات والتقاليد والسمت العُماني.

وأكد عددٌ من المختصين على ما يمكن أن يُضاف إلى الهوية الثقافية في أدب الطفل في سلطنة عُمان من خلال المحفزات والممكنات الأدبية والعلمية، مع الإشارة إلى التحديات التي تواجهها الهوية في ظل التداخل المعلوماتي في الفضاءات الثقافية المفتوحة.

بدايةً يقول الدكتور عامر بن محمد العيسري، أستاذ مساعد للتربية المبكرة بجامعة السُّلطان قابوس: إن أدب الطفل في سلطنة عُمان نشأ أولا في كنف أدب الكبار وامتزج به، وبدأ أول ما بدأ شفويًا يعتمد على الرواية للأدب والقصص الشعبية على ألسنة الأجداد والجدات، أو في صورة أشعار تتوارثها الأجيال، مثل حكايات الغواصين ومغامرات الهجرة والسفر وحكايات الشجاعة والبطولة والألغاز والألعاب الشعبية التي كان لها دور في إثراء الأدب وتذوقه لدى الأطفال وتنشئتهم وبناء شخصيتهم، وتمثّل الاهتمام بالأطفال وأدبهم في سلطنة عُمان في مجهودات بعض الوزارات المعنية بالطفل مثل: وزارة الإعلام التي قدمت برامج للأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وفي بعض الصحف المحلية التي خصص صفحات وملاحق أسبوعية لأدب الأطفال.

ويضيف: المتتبع للخطوات الحثيثة في سلطنة عمان لتطوير أدب الأطفال، وما يكتب لهم يلحظ وجود بعض التحديات التي توضح أهم الخطوات التي ينبغي السعي لتنفيذها على أرض الواقع لتمضي مسيرة تطور أدب الطفل قدمًا بصورة منظمة، وعلى رأسها المخصصات المالية المحددة لمجال الطفولة، والتقنية الرقمية التي تمثل تحديًا كبيرًا يمكن أن تبعد شريحة واسعة من الأطفال عن الاستمرار في متابعة ما يكتب لهم، ومن أهم هذه الخطوات المهمة التي ينبغي العمل عليها، وجود استراتيجية أو رؤية أو وضوح في الأدوار والآليات، وزيادة الدراسات والنقد الهادف للإنتاج المقدم للأطفال، وتوفير المتخصصين في مجال نقد أدب الأطفال ودعمهم وتعزيزهم، وزيادة الوعي بأهمية تطوير وتجويد ما يقدم للأطفال من إنتاج أدبي، وزيادة وعي الأهالي بآليات اختيار المناسب منه لأبنائهم، وزيادة الحلقات والفعاليات والمسابقات المتخصصة في هذا المجال، وإتاحتها بشكل واسع لجميع الفئات، ووجود دعامات أساسية لإبراز الإنتاج المكتوب للأطفال مثل: المجلات، والقناة الفضائية المتخصصة للأطفال، وتحويل الإنتاج القصصي المكتوب إلى قصص وبرامج كرتونية متحركة ووجود الكتب التفاعلية وتوظيف التكنولوجيا بها، ووجود مدونات وقنوات ومواقع إلكترونية متخصصة في أدب الأطفال، وتخصيص منابع تمويلية ثابتة لدعم الإنتاج المقدم للأطفال وتطويره وتقديم التسهيلات وتبسيط الإجراءات الإدارية فيما يتعلق بطباعة ونشر وإنتاج محتوى أدب الطفل، والابتعاد عن النظرية الربحية في الإنتاج المقدم للأطفال من خلال تقليل البهرجة في الشكل والاهتمام بالمحتوى المقدم وفائدته وتأثيره على الأطفال والاهتمام بالموروث الشعبي والثقافي واهتمامه بالعمق والصدق والخيال وموضوعات فلسفة الحياة التي تهتم بمستقبل الأطفال، وتعدّهم للمشاركة بفاعلية في المجتمع، على أن يتم توجيه كتاب الطفل إلى شرائح عمرية متعددة، يحتاج كل منها إلى اختيار ما يلائمه من موضوعات وأسلوب ومفردات لغوية، وصور وأشكال وألوان وأوعية ثقافية مختلفة، وإخراجات مشوقة وأدوات مساعدة.. مما يجعل كتاب الطفل أكثر تعقيدًا عشرات المرات من كتب الكبار فيؤدي ذلك إلى إنتاج كتب متخصصة وذات جودة من ناحية (النص والصورة والتصميم والإخراج والتسويق).

مؤثرات ثقافية

وتحدثت الدكتورة وفاء بنت سالم الشامسية المتخصصة في أدب الطفل قائلة: إن تنمية هويّة الطفل الثقافية تكتسب أهميتها من ارتباطها بالحياة اليومية للطفل، إذ يعيش في بيئة مليئة بالمؤثرات الثقافية، ويسمع لغة ويرتبط بها، وينشأ في مكان ويشعر بالانتماء إليه، ويمارس عادات وتقاليد مختلفة فتصبح مكونًا رئيسًا من أيدولوجيته الثقافية والمعرفية، ويتفاعل مع عالمه الصغير المحيط به فتنشأ لديه خلفية معرفية وفكرية واجتماعية تتفاوت في تأثيرها من طفل لآخر.

وأكدت على أن هناك بعدًا مهمًّا في الهوية الثقافية وأهمية تنميتها لدى الطفل، إذ أنها أساسٌ لتنمية قدرته على التعامل مع الثقافات الأخرى باحترام من حيث التوافق معها أو التصالح أو التسامح، وهي محكٌّ مهمٌّ يبلور تعامله مع العالم المتغير، والتعلّم من التجارب البشرية والثقافات البشرية الواسعة، لذلك حين يترجم الكاتب الذي يكتب للطفل المحفزات والممكنات الأدبية والعلمية عليه أن يضع خارطة واضحة المعالم بها، فالهوية الثقافية عالمٌ واسعٌ وممتدٌّ، ولا ترتبط بالعالم المادي فقط بل تتجاوزه لعوالم أخرى، والاشتغال على هذا الأمر ضرورة ملحّة لما لأدب الطفل من تأثير كبير على المتلقّي الصغير بما يقدّمه من معالجات وشخصيات يتماهى معها، ويتأثر بها، وبما يضيفه إلى موسوعته العلمية من معارف ومعلومات تظل عالقة في ذهنه لفترة زمنية طويلة مما يشكل لاحقًا تأثيرًا يظهر على قيمه ومبادئه وسلوكياته. لكن ما يحكم هذا الاشتغال هو الأدوات التي يستخدمها الكاتب، ومحدّدات الفئة العمرية التي يخاطبها؛ كي يضمن تقديم معالجة محكمة تعزز الهوية الثقافية لدى الطفل.

وتقول: إن المعالجة تأتي في أشكال مختلفة، منها المكتوب، ومنها المسموع، ومنها المشَاهد، وتبقى "القصة" أكثر الأنواع المطروقة من قبل الكتّاب لمبررات كثيرة، تليها القصص المصوّرة، والمسرحيات، والأناشيد، أمّا من حيث الموضوعات المعالَجة فهي كثيرة، وتأتي القيم على رأس القائمة، ثم هناك الهوية الوطنية، والتاريخ، والدين، واللغة، في حين بقيت بعض المحاور قليلة المعالجة إن لم يكن التطرق لها نادرًا كالهوية الجنسية، والجمالية.

وفي شأن التحديات تقول: التحديّات موجودة، وباتت كثيرة بسبب التداخل المعلوماتي، ولكن الأصل في التنشئة هو تمكين الطفل من هويته الثقافية الأصيلة، وتعزيز مهارات التعامل مع ما حوله بطريقة واعية يعتمد فيها على الغربلة، والتقييم، والمقارنة للوصول إلى المنطقة الآمنة، وأن الاهتمام بالجانب المعرفي فيما يتعلق بالهوية الثقافية يأخذ نصيب الأسد، بينما لا يحظى الجانبان الوجداني والمهاري بذات الاهتمام، رغم أهميتهما القصوى، فهما يؤديان دورًا مهمًّا في استقطاب المحفّزات والتأثر بها، ثم ترجمتها لسلوكيات يمارسها الطفل في الوسط الذي يعيش فيه.

وتبيّن أن أدب الطفل في سلطنة عُمان قطع شوطًا كبيرًا في بلورة المحفزات مستعينًا بأدواته الأدبية والعلمية، وما رأيناه وعايشناه في معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته الأخيرة لهو شاهدٌ على ثراء الاشتغال في مجالات الهوية الثقافية، وتقديمها بأساليب مختلفة ومتنوعة للطفل القارئ، وتأتي الموسوعة العُمانية للأطفال على رأس الهرم فيما قُدِّمَ له تمكينا لمعارفه، وتأصيلا لهويته الثقافية، وربما أشير في مجمل الحديث إلى وجود بعض الفجوات، ومن ضمنها ما نلمسه من قلة الإيمان بدور أدب الطفل في إحداث التغيير المطلوب لدى الأجيال القادمة، إضافة إلى أهمية التكامل بين كل المؤسسات والمشتغلين في أدب الطفل لصناعة المشهد الثقافي الموجّه للطفل بهويته ومعطياته المختلفة بالطريقة العلمية المناسبة، مع التأكيد على ضرورة التمكّن من أدوات الكتابة والمعالجة العميقة والصحيحة للطفل، خصوصا مع ما نراه من ضعف في بعض المعالجات والاشتغالات على مستوى النص أو الرسم أو الإخراج.

هوية الطفل

وترى الباحثة والناقدة في الأدب العُماني الدكتورة فايزة بنت محمد الغيلانية أن المنظومة التربوية والثقافية والإعلامية في سلطنة عُمان تحرص على أن تبرز التربية الدينية الإسلامية، والثقافة العربيّة الأصيلة، والهويّة الوطنية بمكوّناتها الماديّة والمعنويّة، في كلّ ما له صلة بالطفل، من أدب مكتوب، أو مسموع، أو مرئي، وتعد هذه المقوّمات الثلاثة من أهم المحفزات في أدب الطفل في سلطنة عُمان.

وتضيف إنه من خلال الإنتاج المتزايد في أدب الطفل في سلطنة عُمان، وظهور أقلام شابّة تطرح رؤيتها لعالم الطفل من خلال هذا الإنتاج، الذي يتيح الانفتاح على الآخر مع الحفاظ على الهويّة، والتماهي مع التطوّر العلمي من حوله من خلال توظيف نماذجه المختلفة في هذا الإنتاج بوصفه جزءا من العالم الذي يحيط بالطفل، أو يحيا فيه، تبرز مهارات القرن الحادي والعشرين مثل مهارات الاتصال والتواصل، ومهارات التفكير النّاقد، وتوظيف الخيال مثل محفزات تندمج مع الصّور التقليدية، والقيم الأخلاقية المتعارف عليها، لتنتج للطفل أدبًا يربطه بمجتمعه، وبالعالم من حوله، ويتيح له في الوقت نفسه التعامل معه في جوانبه الإيجابية والسلبية بوعي، وقدرة كبيرة على حلّ المشكلات.

وتؤكد على أنه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال في ظلّ الانفتاح المعلوماتي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، وسهولة وصول الطفل إليها؛ أن نمنع وصولها إليه، وهو ما يمثّل التحدي الأكبر، فما يمكن متابعته من الوالدين أو المنزل، يمكن للطفل أن يتابعه من خلال الحديث مع أصدقائه، أو مشاهدته أو قراءته في أيّ من الأماكن التي يرتادها الطفل. وعليه فإنّ الحديث مع الطفل، وتوعيته، ومشاركته ما يقرؤه أو يشاهده يمكن أن ينمّي وعيًا نقديًّا في شخصية الطفل، وقدرة على التعامل مع المتغيرات المتسارعة من حوله، يمكّنانه من التمييز بين الجيّد وغيره وفق المعايير التي تعززها المكوّنات والمحفّزات القيميّة، والسمات الفنيّة المقبولة في أدب الطفل التي اعتاد وجودها فيما يتابعه ويقرؤه ويشاهده.

وتوضح أن الاضطراب المؤسسي في التعامل مع عناصر الهويّة الوطنيّة يمثّل تحديا آخر، لا سيما فيما يتعلّق بالاهتمام باللغة العربية، وتعزيزها بوصفها مكوّنًا أساسيًّا في الهويّة الوطنيّة من خلال التسميات الأجنبية التي بدأت تظهر في المجتمع العُماني لبعض الأماكن التي يمكن أن يرتادها الطفل مثل (ذا فيليج) أو (داون تاون) وغيرها، مما يؤثر بشكل كبير على المدى البعيد في ترسيخ صورة الهويّة في شخصية الطفل، بين ما ينبغي له أن يكونه، وما هو من حوله من مفردات ومسمّيات، وأزياء، وممارسات بعيدة عن هويته الأصلية، ويصبح الأمر أخطر حين يأتي أدب الطفل -أحيانا- مكتوبا باللهجات العاميّة، التي لا تعين على تنمية قدرات الطفل اللغوية، وتبتعد به عن بعض الغايات التي يسهم الأدب بأنواعه المختلفة في تحقيقها، لا سيما في ظلّ ابتعاد مؤسسات أخرى كالمؤسسات التربوية من مدارس وغيرها عن تعزيز مكانة اللغة العربية في نفوس الناشئة؛ نظرًا لغلبة الاعتماد على اللهجات في التدريس وغيره من ممارسات فيها. وهذا ما يجعل التوافق بين المؤسسات المختلفة ذات الصلة بالطفل منقطعا، وأدوارها متضاربة مما يؤثر – دون شك – في تعيين هوية ثقافيّة أصيلة، ومتينة، وواضحة في أدب الطفل.

ركائز ثابتة

وقال الكاتب عبدالرزّاق الربيعي الذي صدرت له إصدارات شعرية ومسرحية موجهة للأطفال: إن تعزيز الهوية الثقافية من أهم الواجبات الملقاة على عاتق من يكتب للطفل في سلطنة عُمان، وهذه الهوية تقوم على ركائز ثابتة، وعميقة، فسلطنة عُمان غنية بموروثاتها الثقافية التي تشكّل مصدرًا مهمًا ومعينًا لا ينضب ينهل منه المشتغلون بالكتابة للطفل، واكتسبت غنى ثقافيًّا ومعرفيًّا، بفضل تاريخها الممتد إلى عصور قديمة، وانفتاحها الثقافي الممنهج على الثقافات الأخرى وهو انفتاح نتج عنه تواصل مع الحضارات المحيطة بدأ منذ العصور القديمة، عندما ارتبطت بعلاقات تجارية مع تلك الحضارات، وكان اللبان والبخور همزة وصل بينها وبين دول قامت في وادي الرافدين والنيل والهند.

ويشير إلى ضرورة أن يعرف الطفل في سلطنة عُمان هذا التاريخ وأن يدرك سمات هذه الهوية المتأصلة ذات الجذور العميقة التي يغلب عليها الاعتدال والتسامح، والتعايش، والتعدّد، والخصوصيّة الوطنية التي تدخل في مفردات الحياة اليومية من ملبس ومأكل ومشرب، وللوصول إلى تحقيق هذا الهدف السامي لابدّ من جهد كبير يبذل على مستوى فردي ومؤسساتي، فالتحدّيات التي تواجهها الهوية في هذه المرحلة كبيرة، والانفتاح الثقافي أضرّ بالثقافة المحلية، وهذا الجهد يبدأ من البيت، حيث يربّى الطفل محافظًا على موروثه الثقافي والاجتماعي وانتمائه لقضايا مجتمعه، حريصا، كلّ الحرص، على العادات، والتقاليد التي من شأنها أن تشكّل منه مواطنا يتفاعل مع مجتمعه، ثم تأتي مهمّة المدرسة التي تقوم بالتأكيد على تلك المفردات وغرس الانتماء الوطني لدى النشء الجديد وإعداده إعدادًا صحيحًا للمستقبل، ويكون دور المشتغلين بأدب الطفل هو مساعدة البيت والمدرسة بهذه المهمة بما ينتجونه من إبداعات في الكتابة الشعرية والسردية والفنون البصرية، لوضع البوصلة في اتجاهها الصحيح، لذا فالمهمة الملقاة على عاتقهم كبيرة، فلابد من تكاتف الجهود من أجل تحقيق الهدف المنشود.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الهویة الثقافیة فی أدب الطفل أدب الأطفال التعامل مع الطفل من من حوله یمکن أن من خلال ة الطفل الهوی ة على أن ا یمکن ة التی

إقرأ أيضاً:

في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس

توطئة: حين يتحوّل الإرث إلى مقام للتأمل

ثمة سِيَر لا تُقرأ كما تُقرأ التواريخ، بل تُلامَس كما تُلامِس آثار الأقدام القديمة ضفاف نهر الجور، حين يُبللها صباحٌ جنوبي جديد: رطبة بالحكاية، متجذّرة في الطين، وتحمل في رائحتها سلالة الذكرى.
فرانسيس دينق ليس فقط صوتًا فكريًا نادرًا خرج من هشيم السودان، بل هو سردية مكتوبة بجمر الذاكرة وسؤال المعنى.
ابن الزعيم دينق مجوك، أحد أعمدة قبيلة الدينكا، تلك القبيلة التي لا تُقاس بحجمها ولا بثقلها الرمزي فحسب، بل بقدرتها العجيبة على حمل الوطن في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكاية، في الغناء، في علاقة الإنسان بالنهر والسماء، وفي مقاومة محو الجوهر الوجودي للذات.

فرانسيس، في كتابه عن والده
The Man Called Deng Majok،
لا يكتب فقط عن الأب، بل عن البذرة التي خرج منها سؤال الهوية، سؤال العدالة، وسؤال الدولة.
كان يعرف منذ البدايات أن الشجرة التي لا تتأمل جذورها، تُقلعها أول ريح.

ولأن التكوين لا يتم في أرض واحدة، كان لا بد لفرانسيس أن يعبر نهر المعنى: من أبيي إلى الخرطوم، ومن جامعة الخرطوم إلى كولومبيا في نيويورك، حيث التقى بالعالم لا بوصفه عالِمًا فقط، بل بوصفه شاهِدًا.
في جامعة كولومبيا، كما في الأمم المتحدة، حمل معه ليس فقط أوراق القانون، بل الندبة السودانية التي لا تكف عن النزيف: الهوية كعبء، التنوع كمصدر قلق لا كقيمة، والانتماء كعملية قيد التشكل، كما لو أن كل محاولة للفهم ليست إلا أطروحة لم تكتمل بعد.

في نيويورك، حيث التقى بالعالم، لم يكن دينق مجرد مهاجر يحمل أوراق اعتماد أممية، بل رجلٌ يضع على طاولة الأمم معضلة اسمها السودان.
لم تُغرِه العواصم بالانفصال عن جذوره، بل عمّقت فيه شعور الغريب الذي يتعلم كيف يُعبّر عن محليته بلغة كونية.

في كولومبيا، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع القانون والفكر السياسي، تبلورت عند البروفيسور فرانسيس دينق تلك الصيغة النادرة: أن تكون مفكرًا أفريقيًا دون أن تُصبح ضحية للابتزاز الثقافي، وأن تصوغ خطابًا أمميًا دون أن تذوب في الرواية البيضاء.

ذلك الإرث القبائلي، المتشعب والعميق، ظلّ حاضرًا في وجدان فرانسيس لا كماضٍ يُروى، بل كصيغة دائمة لتأويل الحاضر.
فيها يتعلم الطفل أن يُصغي لحزن البقرة كما يُصغي لحكمة العجوز، ويعرف الرجل موقع الشمس من ظلّ الأغصان كما يعرف حدود سلطته من صمت السماء.

كان يمكن لفرانسيس دينق أن يكون مجرد رجل قانون آخر، يقف على أعتاب المؤسسات الدولية بوصفه ممثلًا لملف، لا حاملًا لذاكرة.
لكنه، ومنذ البدايات، اختار أن يقف في مواجهة هشاشة التاريخ، لا أن يكتفي بتفسيره.
في سيرته، كما في مرافعاته الأممية، نلمس ذلك التوتر النبيل بين أن تكون منتميًا لجذرٍ قديم، وأن تُعيد صوغه بلغة لم تُصنع لأجله. بين أن تحمل قبيلتك في دمك كإيقاع داخلي، وأن تشرحها للعالم كأنك تترجم حلمًا شفهيًا بلغة لا تعرف الطمي.

الدينكا بالنسبة له لم تكن تصنيفًا إثنيًا ولا إشارة في بطاقات التعريف، بل سردية حيّة، مصنوعة من الطين والدم والماء.

في "رجل يدعى دينق مجوك" لا نعثر على سيرة زعيم فحسب، بل على ما يشبه مخطوطة مغموسة في الحليب المُقدّس ورماد المواقد القديمة؛ عن رجلٍ لم يكن يرى الزعامة سلطة، بل طقسًا من طقوس الحماية، وشكلًا نادرًا من أشكال الأخلاق.
كتب فرانسيس عن والده كما يُكتب عن بلدٍ صغيرٍ يسكنه بكامله، لا كمرافعة في تمجيد خاص، بل كشهادة على إمكان الحكم دون نفي، وعلى معنى أن تُقاس الزعامة لا بمساحة السيطرة، بل بقدرة الصبر على الاستمرار.

لقد فهم فرانسيس، منذ نعومة التجربة، أن الهوية ليست بطاقة تُبرزها عند الحدود، بل مرآة تُكسر عند كل سؤال صعب.
كان يكتب عن النزوح الداخلي لا بوصفه ملفًا إغاثيًا، بل كجرح حضاري: ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من أرضه لا بسبب كوارث الطبيعة بل بسبب عجز الدولة عن أن تكون حضنًا لا سيفًا؟ وماذا يعني أن نطلب من الناس “أن يعودوا إلى ديارهم” حين تكون الديار أول من خانهم؟

لكن الحكاية لم تكن فقط عن الزعامة والهوية، بل عن التمزق الداخلي، عن الغريب الذي كتب عن وطنٍ ظل يخذله دون أن يسقط من قلبه.

لم يكن الشتات عند فرانسيس دينق حادثة عبورٍ خارج الوطن، بل تشكّلًا داخليًا في وجه وطنٍ ظلّ ينفي نفسه. فالسودان الذي عرفه لم يكن خريطة جغرافية بل خريطة قلق، خريطة تتغيّر ملامحها كلما حاول أحدهم أن يعترف بالجميع دون أن يُقصي أحدًا. ومن هذا القلق وُلد صوته: صوتٌ يُسائل لا ليُدين، ويُفكّك لا ليُخرّب، وينتمي دون أن يتورّط في التقديس.

كان يعلم أن في داخل كل “متحدث أممي” ظلّ إنسان يبحث عن وطن، لذلك لم تكن مهمته الأممية تقنية، بل وجودية. كان يُدرك أن النزوح ليس فقط حركة قسرية من مكان إلى آخر، بل أيضًا انزلاقٌ من تعريفٍ إلى آخر، من نظرة ذاتية إلى نظرة فوقية، من لغة البيت إلى خطاب الأمم. وهنا، بالضبط، انحنى ليكتب، لا بالحنين فقط، بل بالمسؤولية: أن تُعيد تشكيل الذات في مواجهة خطاب لا يعترف بذاتك إلا بوصفك قضية إنسانية مؤقتة.

في نيويورك، لم يكن يعيش اغترابًا، بل يكتبه. لم يكن جزءًا من النخبة الدولية التي تتحدث باسم الضحايا، بل كان – ولا يزال – من القلائل الذين يجرؤون على القول: أنا أحد هؤلاء، لا من باب التمثيل، بل من باب الجرح. كانت كلماته، حتى في أكثر لحظات البروتوكول برودة، تحمل أثر تراب أبيي، وصوت دينق مجوك، وشجن الأغنية التي لم تكتمل في صدر الراعي حين جاءت الحرب.

ولعلّ أعظم ما فعله فرانسيس أنه لم يدّع النقاء، بل قبل بالتعقيد. لم يُقدّم قبيلته كـ”نموذج للسلام” ولا نفسه كـ”جسر بين الهويات”، بل قدّم الكلّ كما هو: هشّ، قابل للانقسام، ومع ذلك جدير بالمحاولة.
تلك هي الكرامة كما عرفها: أن تسكن المعنى دون أن تفرضه، وأن تمشي في العالم وأنت تحمل وطنك في صوتك لا في أوراقك.

تلك العلاقة المرهفة بين الوطن والصوت، كانت عند فرانسيس دينق نثرًا آخر للمقاومة.

لم يكن على فرانسيس أن يخترع قضية، بل أن يستمع لصوتها وهي تنشج في داخل اللغة.
منذ البداية، لم يُغره المجد الأكاديمي ولا بهرجة المؤتمرات، بل كان مأخوذًا بذلك السؤال القديم: من نكون حين نُجبر على أن نكون شيئًا واحدًا؟ كان يدرك أن خطورة الهوية لا تكمن في غموضها، بل في اختزالها. فالهويات، كما كتب لاحقًا، لا تتشكل عبر الانتماء فحسب، بل عبر الألم، وعبر مقاومة تلك اليد التي تريد أن تُلصق بك اسمًا واحدًا إلى الأبد.

ولهذا، كان يكتب كمن يُعيد تشكيل شتاته في جملة. كل كتاب له كان محاولة لفك طلاسم الانقسام السوداني، لا بوصفه سياسيًا أو دينيًا فقط، بل بوصفه انقسامًا بين صورتين للذات: الذات كما تريد أن تُرى، والذات كما تُكره أن تكون. وبين هاتين الصورتين، تتشكّل المنطقة الرمادية التي يسكنها المنفيون في الداخل والخارج، أولئك الذين لا يتكلّمون لغتهم الأم إلا بخجل، ولا يثقون بلغة الآخر إلا بحذر.

ولم تكن كتاباته عن الدينكا نوعًا من الفلكلور، بل تمسكًا عنيدًا بذلك الجزء من الذات الذي لم تمسّه بعد آلة الصهر الثقافي. كان يرى أن في رواية القبيلة مقاومة صامتة للزمن الذي يريدنا بلا ذاكرة. ولعل ذلك ما جعل من كتاباته عن مجتمعه ليست مجرد شهادات إثنوغرافية، بل مرايا ملغزة، تعكس فيها الدينكا ككينونة، لا كهوية عرقية فقط، بل كبنية معرفية: في طريقة السرد، في إيقاع الاسم، في قيمة الحليب والرمز والمجتمع.

في كل سطر، كان يُشبه من يبحث عن اسم قديم في حُطام رسالة، عن نغمة لم تُسجّل لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة الجدّات. وربما لهذا لم يكن يكتب ليُقنع، بل ليُذكّر. فالكتابة عنده ليست إثباتًا، بل استدعاء. ليست صراعًا على التعريف، بل دعوة للتأمل في هشاشة هذا التعريف

ولأن الذات لا تُبنى في الفراغ، كان لا بد من العودة إلى البيت الأول، حيث لا تبدأ الحكاية من فكرة، بل من كثافة النسل، وتفرّع الاسم.

في البدء، لم يكن البيت بيتًا واحدًا، بل أرخبيل من البيوت. كان فرانسيس واحدًا من مئات الأبناء الذين حملوا اسم دينق مجوك، ذلك الزعيم الذي لم يكن يكتفي بأن يُدير القبيلة، بل أراد أن يُقيمها في الجسد والذكرى. تزوّج دينق مجوك من أكثر من مئتي امرأة، وأنجب ما يزيد على أربعمائة طفل وطفلة، لا كرمًا نرجسيًا، بل كأنّما يريد للقبيلة أن تتضاعف لتواجه وحدتها بالعُرف، وهشاشتها بالعدد، وشتاتها بالاسم.

في هذا الفضاء العائلي الذي لا تحدّه جدران، تعلّم فرانسيس منذ طفولته أن لا أحد يُقيم لنفسه سردية خاصة، بل كل قصة جزء من نسيج أكبر. كان صوته يتكوّن داخل جوقة واسعة، فيها الكبير والصغير، وفيها النائم بجانب البقرة كما النائم بجانب القصيدة. لم يكن يشعر بالوحدة، لأن المفرد في عرف الدينكا لا يُعوّل عليه. فالفرد ابن الجماعة، والجماعة ذاكرة تمشي على قدمين.

قبيلة الدينكا لم تكن بالنسبة له مجرد انتماء وراثي، بل طريقة في النظر، في الإحساس بالزمن، في تقدير الأشياء، في الصمت كما في الطقوس. فيها، الكلمة لا تُقال عبثًا، والاسم لا يُطلق إلا ليكون توقيعًا على علاقة. وحين غادر الوطن، لم يكن يفرّ من شيء، بل كان يحمل كل هذا الإرث في حقيبة صغيرة، يعرف أن العالم الذي سيواجهه لا يعترف بالقبائل إلا بوصفها عائقًا، وأن عليه أن يعلّم العالم كيف تُصبح القبيلة رؤية لا وصمة.

من هناك، من تلك الحقول التي تُربّي الأغاني كما تُربّي الماعز، عبر فرانسيس إلى الخرطوم، ومنها إلى نيويورك، وهناك كانت كولومبيا. لم تكن الجامعة مجرّد محطة نُحصل فيها على المعرفة، بل كانت بالنسبة له موقعًا لإعادة صياغة الذات: كيف تظلّ وفيًّا لذلك الطفل الذي يتبع ظلّ والده الزعيم، وأنت في قاعة يُناقش فيها العالم معنى “الهوية التفاوضية”، و”تفكيك الخطاب”، و”التاريخ الشفاهي”؟
في كولومبيا، لم تُفكك القبيلة فيه، بل تعمّقت، اكتسبت لغة جديدة. هناك، أدرك أن النَسَب يمكن أن يتحوّل إلى أداة نظر، وأن الزعامة التي نشأ في ظلّها ليست نهاية، بل بداية لسؤال أطول: ماذا يعني أن تكون ابنًا لزعيم، في بلدٍ يكفر بزعمائه كل صباح.

لم يكن فرانسيس دينق مشروع دولة، بل مشروع ذاكرة. لا يبحث عن دورٍ يلعبه، بل عن أثرٍ يُترك بهدوء، كما تُترك خطوات الأب في تراب القرية حين يعود ليلًا من مجلس الحكم. لم يسعَ إلى الشهرة، بل إلى أن يُحافظ على حكاية كانت مهددة بالذوبان. ولأنه لم يكن مشغولًا بصناعة صورة، ظلّ وجهه يشبه صوته: ناعمًا، حازمًا، لا يُحب الضجيج، ولا يخشى العُمق.

وحين نقرأه اليوم، لا نقرأ مفكرًا من جنوب السودان فقط، بل مرآة قلقة لسودانٍ بكامله، لم يتعلّم بعد كيف يحضن تنوّعه دون خوف، ولا كيف يُصغي إلى صوته الداخلي دون أن يرتبك. فرانسيس لم يُطالب بشيء، بل طرح أسئلته في صمتٍ عالٍ، كما يفعل الحكماء حين لا يملكون سوى لغتهم.

لقد كتب كي يُبقي الباب مفتوحًا بين القبيلة والعالم، بين الأب والهوية، بين الذاكرة والتأمل، وكي يُخبرنا، نحن الذين نُكابر كل يوم بأننا وحدويون أو علمانيون أو ثوريون، أن كل تلك التسميات لا تصمد أمام مشهدٍ واحد: طفلٌ يستمع لصوت والده الزعيم، لا ليتعلم السياسة، بل ليتعلم الصبر.

ربما، في النهاية، لم يكن يريد أن يكون شيئًا آخر سوى هذا: ابن رجلٍ يُدعى دينق مجوك، وساردٌ بارع، لم يتخلّ عن قبيلته وهو يدخل الأمم المتحدة، ولم يتخلّ عن أمته وهو يكتب بالإنجليزية عن الألم.
فرانسيس دينق، بما حمل وما ترك، لم يكن ظاهرة فكرية، بل حارسًا صامتًا لذاكرة ظلّ الناس يفرّون منها، فيما هو ظلّ يعود إليها كلما كتب.

لأن الذاكرة، حين تخذلنا الخرائط، لا تحتاج إلى مؤسسات، بل إلى رجلٍ يعرف أن يكتبها كما تُحكى: ببطء، وبصوتٍ لا يُجيد الاستعراض، لكنه لا يُخطئ الطريق.

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • د. عبدالله الغذامي يكتب: المواطنة العالمية
  • مسؤولون أمريكيون يؤكدون على فشل واشنطن في التصدي للحوثيين
  • برشلونة يسعى لترسيخ هيمنته على ريال مدريد وتحقيق الرباعية التاريخية
  • لجنة العلاقات الثقافية بـ ألسن عين شمس تطلق أسبوعًا عن أدب الطفل
  • دهسهما القطار..مصرع طفل وإصابة آخر مجهولا الهوية بالدقهلية
  • مصر والإمارات تواصلان تعزيز الروابط الثقافية في مهرجان الشارقة القرائي للطفل
  • في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس
  • باجعالة يشدّد على ضرورة الاهتمام بجرحى العدوان الأمريكي
  • التضامن تدشن المرحلة الثانية من برنامج تعزيز قيم وممارسات المواطنة
  • "التضامن" تدشن المرحلة الثانية من برنامج "تعزيز قيم وممارسات المواطنة" في المنيا