بعد وفاة الإمام أحمد بن سعيد مؤسس دولة البوسعيد (سنة 1196هـ) تولى ابنه سعيد الحكم متخذا من الرستاق عاصمة للدولة، بطريقة فيها غموض، فلا يوجد ما يؤكد صراحة أن هنالك بيعة من العلماء، كما أن إخوته اعترضوا على تغلبه على الحكم، وكان اثنان منهم (السيدان سيف وسلطان) يوم وفاة والدهما خارج عمان، وتحديدا في منطقة مكران، ومع عودتهما كان الأمر قد حسم بأن أمسك السيد سعيد بن الإمام أحمد بزمام الأمر والحكم، فنتج من هذا التفرد بالرأي والاستبداد دخول البلاد في دائرة النزاع الأسري.
كان سعيد حازما، لكنه كان يفتقر إلى مؤهلات القائد وإلى فهم المجتمع، ولسوء إدارته استدعى النزوانيون العلامة جاعد بن خميس الخروصي، وطلبوا منه إعلان إمامة جديدة، فعلم سعيد بذلك فقدم إلى نزوى بجيش كبير فنكّل بالناس هناك. وكان أثر حملة سعيد على نزوى كبيرا في أفراد الشعب، فاجتمع جمع كبير من العمانيين بالمصنعة ومعهم أخوه قيس، واتجهوا إلى العاصمة الرستاق، وطلبوا من سعيد أن يحضر إليهم فرفض، بل أمر حامية الرستاق أن تطلق عليهم النار، فعاد كل منهم إلى بلاده.
وهنا أدرك ولده حمد أن تصرفات أبيه ستقود البلاد إلى الفتنة، وستقوّض الحكم، فأخذ يتقرّب إلى الناس، وبدأ في معالجة تعسف أبيه، ونتيجة وضعه الصحي أمر سعيد ولاته ورجال دولته بتسليم الأمور كلها إلى ولده حمد، وأخبرهم أن ليس له من الإمامة إلا النفوذ الاسمي.
هكذا قرر حمد نقل العاصمة إلى مسقط التي عمّرها وحصّنها وبنى بيت الفلج في روي، وحصن بركاء وحصن قريات، وزودها بمدافع ضخمة، واتخذ له مستشارين، وأمر بصنع بوارج حربية في بورما وزنجبار.
كما واجه حمد تمردا من أعمامه سيف وسلطان، واستطاع بدهائه وحنكته القضاء على هذا التمرد، وكان يتجوّل في عمان مرتين في العام، أشبه بالجولات السلطانية في عهد السلطان قابوس .
لكن المرض لم يسمح له بإظهار كل مواهبه فاختطفه الموت (1206هـ/1792م) بعد إصابته بالجدري. وأتاحت وفاة حمد عام 1206هـ/ 1792م، ووجود والده في الرستاق، المجال لسلطان بن أحمد للاستيلاء على مسقط ومنع السيد سعيد بن الإمام من استعادتها، فآل أمر المملكة إليه، خاصة بعد اجتماع بركاء عام 1207هـ/1793م، الذي كرّس سلطان حاكما على مسقط، وصار الإمام سعيد بن الإمام لا يملك من أمر عمان إلا الرستاق، ومن الحكم إلا مسماه، حتى وفاته عام 1225 هـ/ 1811م. وهو الذي مثّل بداية مرحلة جديدة من مراحل الحكم الذي ظل ينتقل في ذريته، ولم يخرج عنهم إلا مرتين في فترتين قصيرتين جدا.
تلك مقدمة عابرة تظهر لنا شخصية الإمام سعيد السياسية، غير أن هناك جانبا آخر لهذه الشخصية، أكثر إشراقا وجمالا، وأعذب روحا ومعنى، إنه شخصيته الأدبية فقد كان شاعرا رقيقا، عذب اللفظ، حاضر البديهة، والحق أن شخصية سعيد تجعلنا نشعر أننا بإزاء فنان حقيقي، والدليل ما تركه في مجال العمارة في حصن المنصور البهيج الرائع، وما تركه من الشعر العذب الرائق، ولولا السياسة لترك لنا شعرا رائقا، لكن السياسة جنت عليه مرتين: مرة بسوء الذكر، ومرة أخرى بصرفه عن موهبته الحقيقية.
ورغم قلة ما تركه لنا من الشعر، إلا أنها من التميز بحيث بقيت خالدة -رغم صورته النمطية السيئة في أذهان أهل السياسة - ومن قصائده الخالدة (يا من هواه أعزه وأذلني) و(وافى حمامك يا حبيبي بالعجل) في رثاء ابنه القائد الفذ حمد:
وافى حمامك يا حبيبي بالعجلْ
نارٌ تلّهب في ضميري تشتعلْ
يا من له شرفٌ وفضلٌ في الورى
أمسى وحيدا مفردا دون الأهلْ
الله أكبر من مصابٍ عمّنا
هما وغما لا يبيد ولا يفلْ
حمدٌ حوى المجد الشريف تغيّرتْ
أيامه قد كان يضرب بالمثلْ
صبرا لأولاد الإمام ومن لهم
من أخوةٍ وأقاربٍ فيما نزلْ
لا غرو هذا قد أتى خير الورى
لم تمنع الأموال عنه والدولْ
وأنت ترى سهولة العبارة، ودفق الموسيقى، وأسلوبه السهل الممتنع، ومن ذلك مقطوعته (لهفي على عيش مضى)
وفيها يقول أيضا في رثاء ابنه حمد أيضا:
لهفي على عيشٍ مضى
ما ذقتُ أحلى منه شيْ
لما ذكرتُ عهوده
جرت الدموع وقلتُ أيْ
وهي مقطوعة توحي بعاطفة جياشة، ولغة عذبة رقيقة حرمتنا منها السياسة.
أما نصه الذي طار في الآفاق، شعرا وغناءً فهو «يا من هواه أعزه وأذلني» وفيها يقول:
يا من هواه أعزّه وأذلني
كيف السبيل إلى وصالك دلني
وتركتني حيرانَ صبّا هائما
أرعى النجوم وأنت في نومٍ هني
عاهدتني أن لا تميل عن الهوى
وحلفتَ لي يا غصنُ أن لا تنثني
هبّ النسيم ومال غصنٌ مثله
أين الزمان وأين ما عاهدتني
جاد الزمان وأنت ما واصلتني
يا باخلا بالوصل أنت قتلتني
واصلتني حتى ملكتَ حشاشتي
ورجعتَ من بعد الوصال هجرتني
لما ملكتَ قياد سري بالهوى
وعلمتَ أنيَ عاشقٌ لك خنتني
ولأقعدنّ على الطريق فاشتكي
في زي مظلومٍ وأنت ظلمتني
ولأشكينّك عند سلطان الهوى
ليعذبنّك مثل ما عذّبتني
ولأدعينّ عليك في جنح الدجى
فعساك تبلى مثل ما أبليتني
فنراه ينادي يا من حبي له أعزه مكانا وأذلني قيمةً، كيف الطريق إلى لقائك، فقد تركتني حيرانا عاشقا هائما أراقب النوم وأنت نائم في هناء وسعادة، وكنت قد عاهدتني أن لا تترك حبي ولا تتخلى عني، ولكن حين مضى الزمان تركت عهدك، فأين ذلك الزمان الجميل؟ وأين عهدك لي؟ وقد سمح الزمان باللقاء لكنك لم تفعل، وبخلت به يا قاتلي بالهجر، نعم واصلتني من قبل حتى أحببتك ثم هجرتني، حين علمت أنني أحببتك وأصبحت لك كما تريد، فأنا مستعد أن أجلس على الطريق لأشتكي ظلمك لي، ثم سأرفع شكواي عند سلطان الحب، ليعذبك بهجر أحبابك لك كما عذبتني، وسأدعو عليك في ظلام الليل، حتى يصيبك الضعف والألم الذي سببته لي.
فأنت أمام لوحة فنية عذبة، تتلمّس سهولة العبارة، وعدم التصنّع والتكلّف، ونلاحظ عدم الاهتمام بالمحسنات البديعية، وكذلك المحسنات البيانية. وجمال التصوير والرقة، كما نلاحظ ترابط النص، والخيال خصب رغم أنه تقليدي، أما الموسيقى الداخلية للنص فهي نابعة من جمال المفردات والتصوير، وهي تتعاضد مع الموسيقى الخارجية النابعة من وحدة القافية، ونلاحظ أن موسيقى الأبيات خفيفة رشيقة جميلة.
قبل أن أختم أريد أن أقول: ترى أكان الإمام سعيد حين نظم هذه الأبيات يمر بمشاكله السياسية المتعددة، فرمز بالحبيبة للسلطة، التي أحبها، وطلبها وبذل لها نفسه وحاله وضحّى بموهبته الفنية، فلما تمكّن منها تركته إلى غيره، ولمن سيشتكي بؤس حاله، إلى سلطان الحب، فقد انتزع منه ملكه، ليدعو على تلك «السلطة» التي سلبته عمره وموهبته وابنه ثم هجرته؟
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارًا
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإمام سعید
إقرأ أيضاً:
السلطان هيثم
صاحب السمو/ نمير بن سالم آل سعيد
منذ تولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم فإنَّ الأمور لم تعد كما كانت فهناك تغييرات كثيرة تحدث في البلاد، إنه عهد جديد ونهضة مُتجددة بتغييرات كثيرة لصالح الوطن والمواطن نحو الأفضل.. صعود إلى آفاق أرحب من التقدم والنمو يسعد المواطن ويجعله يتطلع بتفاؤل إلى السنوات القادمة تتحقق فيها آماله وطموحاته.
كل المؤشرات تدل على تحقيق النجاحات بالجهود الخيرة والمساعي الجادة الذي يقودها عاهل البلاد ليعم المزيد من الخير على كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة.
والتطور سائر إلى الأمام في الطريق الصحيح بمنهجية مدروسة وفكر واعٍ مُستنير داعم لكل ما هو جديد لمصلحة البلاد مع الحفاظ على السمات الأصيلة للهوية الوطنية والتراث المجيد.
نحيا في بلد آمن مستقر، وينتظرنا مستقبل واعد، في كنف نظام دولة راسخ، والتفاف وطني بالولاء والطاعة خلف القيادة الحكيمة في مسارها الحثيث من أجل عُمان.
ولأن عُمان في أيادٍ مُخلصة أمينة، فقد أخذت على عاتقها القيام بنقلة حضارية كبيرة بتطلعات عالية وعزم صادق ولأنَّ عُمان تستحق الأفضل. وقد وضع السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الأسس الراسخة لهذا الوطن، وقدَّم الكثير لعُمان في فترة حُكمه كأحد سلاطين عُمان الأماجد. ليتولى من بعده الحكم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- حفظه الله ورعاه- ليُكمِل المسير بفكرٍ جديدٍ ورؤية مُستقبلية واضحة وتطلعات طموحة لخدمة عُمان وشعبها؛ متزودًا بالعلم والمعرفة، ومدركًا للكثير من تفاصيل أروقة الإدارة الحكومية وجوانب أمورها ومتطلبات المجتمع، بفضل اندماج جلالته الاجتماعي الكبير مع أبناء المجتمع الذين يمثلون نبض الوطن وهمومه وآماله وتطلعاته، ولقاءته العفوية معهم في الكثير من المناسبات الاجتماعية المختلفة التي كان يحضرها أو ضمن تواجده الوظيفي في مقر عمله أو زياراته الميدانية، وحضوره للعديد من الاجتماعات والملتقيات عبر فترة زمنية طويلة قبل أن يكون سلطانًا للبلاد.
ومن الصفات الشخصية المُميزة لجلالة السُّلطان المفدى- أعزه الله- في تعاملاته مع الغير، التواضع؛ إذ ليس به شيء من كِبر أو غرور، كما إنه هادئ الطبع، دمث الخلق، يحترم الصغير والكبير، متزن، وشهم كريم.
وإدراكاً من جلالته- حفظه الله ورعاه- لأمور الدولة والشعب- عن قرب- فإنَّ أول ما شرع في تنفيذه- أيده الله- هو ضبط المصروفات ووقف الهدر المالي وخفض الإنفاق الحكومي بطريقة ترشيدية حريصة وفعّالة، والبدء في تسديد مديونيات الدولة، ومكافحة الفساد والمفسدين الذين تُسوِّل لهم أنفسهم نهب المال العام.
كما أولى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الأجهزة العسكرية والأمنية الاهتمام الكبير، والرعاية المستمرة، تدريبًا وتسليحًا، وغيرها من المجالات، التي تُعزِّز القيام بواجبها الوطني المقدس، في حمل أمانة الدفاع عن الوطن والذود عن حياضه الطاهرة وحراسة لمكتسباته وحماية لمنجزاته دعمًا للسلام والاستقرار.
كما عمل جلالته- حفظه الله ورعاه- على إعادة هيكلة بعض مفاصل الدولة وإلغاء بعض القوانين وإرساء قوانين جديدة للصالح العام؛ بمشاركة مجلسي الدولة والشورى في مراجعة ودراسة القوانين ورفع اقتراحات تعديلها.
كما وجه جلالته بتحسين الأداء الوظيفي وزيادة إنتاجية العمل والرقابة عليها، وخفض معدلات الباحثين عن العمل تدريجيًا حسب القدرة الاستيعابية للمؤسسات الخاصة والعامة، ودعم الأسر والأفراد الأقل دخلًا والأقل فرصًا في المجتمع لتحسين ظروفهم المعيشية عبر منظومة الحماية الاجتماعية.
وأيضًا وجّه جلالته- أعزه الله- بخلق فرص وظيفية جديدة ونشر ثقافة ريادة الأعمال، والتقليل من البيروقراطية من خلال تبسيط الإجراءات الحكومية، واستحداث وسائل وطرق مختلفة لتنويع الدخل الحكومي وتسهيل الاستثمار في البلاد، والقيام بمشاريع بناء المدن الحديثة ومشاريع العمران بما يعرف بـ"الداون تاون" والتي سترى النور في سنوات لاحقة مُقبلة بإذن الله؛ لتكون واجهات حضارية سياحية جذابة للبلاد.
وأيضاً استمرت السلطنة بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- بالمحافظة على ثوابت سياستها الخارجية والقائمة على التعايش السلمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير والتعاون الدولي في مختلف المجالات.
وها هو حضرة صاحب الجلالة سلطان البلاد المُفدّى- نصره الله- يؤدي مهامه السلطانية على أكمل وجه؛ وهو السلطان التاسع في سلسلة سلاطين الدولة البوسعيدية العريقة الماجدة، إذ إنِّه "خير خلف لخير سلف".. قائدًا مطلعًا مبادرًا فاعلًا لكل ما فيه مصلحة الوطن والمواطنين، يقود البلاد بفكرٍ حكيمٍ وتطلعاتٍ سامقة، يضع- حفظه الله- نصب عينيه أهدافًا سامية تتمثل في تحقيق تقدم البلد وتطورها ونمائها وإسعاد المُواطن في كافة مناحي الحياة.
فبورك من قائدٍ.. وبوركت من مساعٍ سلطانيةٍ خيِّرةٍ.
وكلُ عامٍ والجميعُ في مَسرَّةٍ وازدهارٍ.
رابط مختصر