الجذور الاجتماعية للنقد الثقافي
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
مارس 16, 2024آخر تحديث: مارس 16, 2024
إبراهيم أبو عواد
كاتب من الأردن
إنَّ النقد الثقافي لا يَعْني تحليلَ الأنساقِ الثقافيةِ الكامنةِ في النُّصُوصِ الأدبية فَحَسْب، بَلْ يَعْني أيضًا تَفكيكَ الأفكارِ الفلسفية الراسخة في الصُّوَرِ الإبداعية الفَنِّية ، وإعادتها إلى أشكالها الأوَّلِيَّة في الواقعِ اليَوْمِي ، وإرجاعها إلى جُذورها الاجتماعية في الأحداث الحياتية .
والنقدُ الثقافي لَيْسَ مُوضةً عابرةً ، ولَمْ يَجِئْ مِن العَدَمِ ، ولا يَتَحَرَّك في الفراغ ، بَلْ هُوَ تَجربةٌ إنسانية مُتكاملة لها جُذور اجتماعية عميقة ، ومَصْدَرٌ أساسي للمَعرفةِ المُسْتَتِرَةِ في تفاصيل المُجتمع ، وإعادةُ إنتاج للعلاقات الاجتماعية كأدواتٍ لُغَوية لتفسيرِ المفاهيم المُسيطرة على الواقع اليَوْمِي ، وإعادةُ تَشكيل للتَّرَاتُبِيَّةِ الهَرَمِيَّة كَآلِيَّاتٍ ثقافية لتأويلِ الخِطَاب المُهيمِن على الأحداث الحياتية .
وإذا كانَ المُجتمع يَستمد سُلطته الاعتبارية مِن مَصادرِ المعرفة ، فَإنَّ النقد الثقافي يَستمد طاقته الرمزيةَ مِن جُذوره الاجتماعية . وإذا اندمجت السُّلطةُ الاعتباريةُ معَ الطاقةِ الرَّمزية ، فإنَّ مَرجعية اللغةِ سَوْفَ تَتَكَرَّس في الإبداعِ الأدبي وَالوَعْيِ الاجتماعي معًا ، ويُصبح جَسَدُ اللغةِ بَحْثًا دائمًا عَن المَعْنَى ، وتَجسيدًا مُستمرًّا للأنساقِ الثقافية القادرةِ على الجَمْعِ بَيْن المَركزي والهامشيِّ.
وكُلُّ عَمَلِيَّةٍ نَقْدِيَّةٍ لا تُصبح مَنظومةً حياتيةً شَرْعِيَّةً إلا إذا قامتْ على مُسَاءَلَةِ الأنساقِ الثقافية في تَحَوُّلاتِ الزمانِ والمكانِ داخل العمل الأدبي ، واعتمدتْ على تَكوينِ نِقَاط تَوَازُن بَيْن المَعرفةِ والسُّلطةِ داخلِ اللغةِ والمُجتمعِ معًا ، باعتبار أنَّ اللغةَ والمُجتمعَ هُمَا المَجَالان الحَيَوِيَّان للثقافةِ فِكْرًا ظاهرًا ونَسَقًا مُضْمَرًا ونِظَامًا وُجوديًّا .
وإذا كانَ الفَصْلُ بَيْن المَعْنَى والمَبْنَى في جَسَدِ اللغةِ يُؤَدِّي إلى انهيارِ العملِ الأدبي ، فإنَّ الفصل بَين الرُّوحِ والمَادَّةِ في النَّقْدِ الثقافي يُؤَدِّي إلى انهيارِ الوَعْي الاجتماعي . وهذا يَدُلُّ على ضَرورة التلاحم بَين المَرجعيات الفِكريةِ والاجتماعيةِ ، مِن أجْلِ تَحريرِ كَينونةِ الإنسانِ مِن قَبْضَةِ النظامِ الاستهلاكي الذي يَخْنُق رُوحَ المُجتمعِ ، وتَحريرِ هُوِيَّةِ التَّعبيرِ الفَنِّي مِن شظايا الانفجار اللغوي التي تُمَزِّق رُوحَ النَّصِّ ، وتُحِيله إلى خِطَابٍ مَعرفي وَهْمِي عاجز عن التوفيق بين الأصالةِ والمُعَاصَرَةِ مِن جِهَة، وبَين الحَداثةِ وَمَا بَعْد الحَداثةِ مِن جِهة أُخْرَى.
إنَّ الاندماج بَين رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ يَهْدِف إلى التنقيب عَن الأنساق الثقافية في الوَعْي الاجتماعي باستخدام اللغةِ بِوَصْفِهَا أداةَ حَفْرٍ في المَكبوتِ والمُهَمَّشِ والمَنْسِيِّ ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفعيلِ النقد الثقافي كَسِياسةٍ لُغوية ، ومَنهجيةٍ وُجودية ، ومَركزيةٍ حضارية ، ومَرجعيةٍ مَعرفية ، وتَفعيلِ المَبادئ الإنسانية في الجُذور الاجتماعية للنقد الثقافي . وهذا التَّفعيلُ المُزْدَوَجُ يَدفَع العمليةَ النقدية باتِّجاه التَّركيز على المَحمولِ الفِكري لا الحاملِ اللغوي ، أي : التركيز على المَعاني العميقةِ والأنماطِ المُضْمَرَةِ والرسائلِ الغامضةِ في العملِ الأدبي كِيَانًا وكَينونةً ، بعيدًا عَن الانبهارِ بِجَمَالِيَّاتِ النَّصِّ وشِعْرِيَّةِ اللغةِ ولَمَعَانِ الألفاظِ المُنَمَّقَةِ وبَرِيقِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ. والنقدُ الثقافي لا يُصبح نظامًا ومَنظومةً إلا إذا كَشَفَ عَن عملياتِ الاحتراقِ الفِكْري والانفجارِ المَعرفي داخل لُغَةِ العمل الأدبي ، ولَمْ يَنخدع بلمعانِ الإطارِ وبَرِيقِ الصُّورة . وجَوْهَرُ العملِ الأدبي يَكْمُن في النَّوَاةِ الداخلية السِّرِّية ، ولا يَكْمُن في مَظْهَرِه وبَلاغةِ لُغته ورَوْعَةِ أُسلوبه .
والجُذُورُ الاجتماعية للنقد الثقافي لَيْسَتْ مَرجعياتٍ فِكرية وتاريخية فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا هُوِيَّات فَرْدِيَّة وجَمَاعِيَّة ، والهُوِيَّةُ الإنسانيةُ لا تُصبح سُلطةً مَعرفية إلا إذا تَمَّ فَحْصُها واختبارُها ، وهذا يَستلزم تَحويلَ رَمزيةِ اللغةِ إلى مِحْوَر ارتكاز بَيْن النَّسَقِ المُضْمَرِ والنَّسَقِ الظاهر ، وتَحديدَ طَبيعة حركتهما في الفَضَاءِ اللغوي والمَجَالِ الاجتماعي تَزَامُنِيًّا وَتَعَاقُبِيًّا .
واللغةُ هي نِشَاطٌ اجتماعي ، والمُجتمعُ هُوَ خِطَابٌ لُغَوي ، ولا يُمكِن صَهْرُهما في حَقْلٍ مَعرفي واحد إلا بواسطة النقد الثقافي ، الذي يُعيد صِيَاغَةَ مَنطِقِ اللغة الرمزي بِتَحريكِ المَركزِ ، وزَحزحةِ الهَوامشِ ، مِن أجْلِ تَحويلِ العملِ الأدبي إلى مَنهج نَقْدِي مُستمر ، وتَحويلِ الواقعِ إلى فاعليَّة ثقافية دائمة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَفسيرِ المَرجعيات الفِكرية ضِمْن سِيَاقَاتِهَا التاريخية والحَضارية ، وتَمييزِ الأنساق الثقافية المُسيطِرةِ عَن المُهَمَّشَةِ ، وتَمييزِ الوَعْي الاجتماعي الحاضر عَن المُغَيَّب ، وهذا الأمرُ ضَروري مِن أجْلِ تَحديدِ التَّطَوُّراتِ الثقافية في هُوِيَّةِ المُجتمع الإنسانية، وتَحديدِ التَّحَوُّلاتِ الاجتماعية في سُلطةِ النَّصِّ الأدبي . ولا تُوجَد ثقافة بِدُون مَعايير نَقْدِيَّة، ولا يُوجَد مُجتمع بِدُون حراك ثقافي إنساني . وهذا يَستلزم تَعرية الأنساق الثقافية الوَهْمِيَّة ، وفَصْلها عَن طبيعة الواقع اليَوْمِي، الذي تَجِب تَنقيته مِن مُخَلَّفَاتِ الوَعْي الزائف ، وإفرازاتِ النظامِ الاستهلاكي. وَسَيَبْقَى النقدُ الثقافي مُحَاوَلَةً لِتَطهيرِ رُوحِ النَّصِّ ورُوحِ المُجتمعِ مِن المَادِيَّة المِيكانيكية المصلحية .
المصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: النقد الثقافی ع ی الاجتماعی الثقافی ل د الثقافی الم جتمع الو ع ی والم ج م جتمع
إقرأ أيضاً:
اكتشاف بروتين قد يكون مفتاحا لفهم سر نشأة اللغة المنطوقة
لا تزال أصول اللغة البشرية لغزا محيرا للعلماء، وعلى الرغم من أن بعض الأدلة تشير إلى أن النياندرتال كانت لديهم تراكيب تشريحية في الحنجرة والأذن تمكنهم من التحدث والاستماع، فإن الدماغ البشري وحده هو الذي شهد توسعا في المناطق المسؤولة عن إنتاج وفهم اللغة.
وبحسب دراسة جديدة نُشرت في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز"، فإن فريقا بحثيا من جامعة روكفلر الأميركية أعلن أنه على مقربة من الكشف عن هذا السر، حيث حصل العلماء على أدلة وراثية مثيرة تشير إلى وجود بروتين يُعرف باسم "نوفا 1" موجود حصريا لدى البشر ربما قد لعب دورا حاسما في نشأة اللغة المنطوقة.
ويقول محمد الجندي، باحث في الكيمياء الحيوية في جامعة أوبسالا السويدية، وغير المشارك في الدراسة، في تصريحات حصرية للجزيرة نت: "المتغير هو أحد أشكال التحول في الجينات، فلكل جين شكل أساسي، وعندما تحدث له بعض التغيرات الطفيفة تؤدي إلى ظهور المتغيرات، ولكن في معظم الحالات تحافظ المتغيرات على نفس وظيفة الجين الأساسي ولا ترقى إلى تكوين جين جديد بوظيفة مختلفة".
والجينات هي أكواد موجودة على الحمض النووي الموجود في خلايا أجسامنا، كل منها مسؤول عن سمة أو وظيفة محددة، ويمكن النظر إلى الحمض النووي كله على أنه "كتاب تعليمات" ضخم يحتوي على جميع الأوامر البيولوجية التي تجعل الكائن الحي على ما هو عليه.
لطالما ارتبطت القدرة اللغوية لدى البشر بجين يدعى (فوكس ب 2)، يتحكم في تطوير الدماغ، إلا أن دوره لا يزال محل جدل. وعلى النقيض، يُعتقد أن جين (نوفا 1) يلعب دورا أكثر تعقيدا.
إعلانولقياس ذلك، أدخل فريق بقيادة روبرت دارنيل، رئيس مختبر علم الأورام العصبي الجزيئي في جامعة روكفلر، المتغير البشري من بروتين (نوفا 1) في فئران المختبر، وأظهرت النتائج نجاح الفئران في إصدار أصوات مختلفة عند التواصل فيما بينها، مما يشير بحسب الباحثين إلى تأثير هذا المتغير على الأنماط الصوتية.
وتشرح يوكو تاجيما، من مختبر علم الأورام العصبية الجزيئي، جامعة روكفلر بالولايات المتحدة الأميركية، والمؤلفة الأولى للدراسة في تصريح حصلت الجزيرة نت على نسخة منه قائلة: "التغيرات التي طرأت على جين (نوفا 1) ربما قد أدت إلى تطورات مهمة في الدماغ البشري ساهمت في نشأة اللغة وتطورها." وأضافت: "اكتشفنا أن التغيير البشري الفريد في البروتين يتسبب في تغييرات جوهرية في التعبير الجيني المرتبط بالصوتيات."، ولذلك يعتقد الباحثون بناء على تجربتهم أن (نوفا 1) ربما يكون جينا رئيسيا في اللغة البشرية.
استخدم الباحثون تقنية كريسبر لتحرير الجينات بهدف استبدال النسخة الطبيعية من بروتين (نوفا 1) في الفئران بالمتغير البشري. وعند تحليل تأثير هذا التغيير، لم يجد الباحثون أي تأثير على الوظائف العصبية أو الحركية، لكنهم لاحظوا تغيرات ملحوظة في الأصوات التي تصدرها الفئران.
ويقول الجندي: "من التحديات التقنية لاستخدام التحرير الجيني في هذا المجال هو أن بعض المتغيرات لا تتوافق عند نقلها بين البشر والفئران، وثاني التحديات يكمن في قَصْر عملية التحرير على حمض أميني واحد فقط تجنبا لظهور أي نتائج غير مرغوب فيها، بالتالي تسهل عملية قياس نتائج تحرير الجين".
راقب الباحثون، وسجلوا وحللوا الأصوات التي تصدرها الفئران المعدلة وراثيا، وقارنوها بالفئران الطبيعية. ونظرًا لأن الفئران تصدر أصواتا لا يمكن سماعها بالأذن البشرية، استخدم الباحثون ميكروفونات حساسة للموجات فوق الصوتية لتسجيل الأصوات في حالتين: عندما تكون صغار الفئران منفصلة عن أمهاتها، لاستكشاف نداءات الاستغاثة، وأثناء تفاعل الذكور مع الإناث البالغة لدراسة أصوات المغازلة.
إعلانوبعد جمع التسجيلات، حلل الباحثون الصوتيات باستخدام برامج متخصصة لتحديد الفروق بين الفئران العادية والمعدلة، وركزوا على عدة معايير، هل الفئران المعدلة تصدر أصواتا أكثر أو أقل من العادية؟ وتصنيف الأصوات إلى أنواع مختلفة، مثل نغمات بسيطة أو متغيرة أو متقطعة، والتغييرات في تردد الأصوات، مثل ارتفاعها أو انخفاضها، وطولها وقصرها، ومدى التعقيد.
وعند مقارنة البيانات، وجد الباحثون أن الفئران المعدلة وراثيا أظهرت تغيرات في تردد الأصوات عند الصغار، حيث أصبحت بعض النغمات أكثر حدة أو أقل حدة من المعتاد. كما لاحظوا انخفاضا في عدد النغمات مما يشير إلى نمط صوتي مختلف.
أما في البالغين، فقد ظهرت تغييرات في الأصوات المستخدمة خلال المغازلة، حيث أصبحت بعض النغمات أقل تكرارا أو أكثر تعقيدا، بالإضافة إلى اختلافات في الترددات العليا، مما يشير إلى تأثير محتمل على التحكم العصبي بالأصوات. وكانت لحظة مذهلة بحسب الباحثين، إذ لم يتوقعوا هذه التغيرات.
أثر المتغيرلمعرفة ما إذا كان هذا التغيير الجيني فريدا للبشر، قارن الباحثون بين الجينوم البشري والحمض النووي الخاص بالنياندرتال والدينيسوفان، وهم أفراد من الجنس الإنساني الذي يضم الإنسان العاقل كذلك (البشر الحاليين)، وقد أظهرت النتائج أن المتغير غير موجود لدى النياندرتال والدينيسوفان، مما يشير إلى أنه تطور حديث نسبيا في تاريخ البشر، وربما كان عاملا رئيسيا في قدرة الإنسان على تطوير لغة معقدة.
إلى جانب دوره في اللغة، قد يساعد البحث أيضا في فهم بعض الاضطرابات اللغوية والتطور العصبي. فهناك دلائل على أن الطفرات في جين (نوفا 1) قد تكون مرتبطة بالتوحد واضطرابات النطق.
ورغم النتائج المثيرة، لا يرى الجندي أن (نوفا 1) وحده يمكن أن يكون المسؤول عن نشأة اللغة البشرية، مختتما: "كان يعتقد أن جين (فوكس ب 2) لفترة طويلة هو أحد أهم العوامل المسؤولة عن نطق اللغة أو التواصل البشري، لكن الأمر أكثر تعقيدا مما كنا نظن، وهذه الدراسة تدعم هذه الفكرة. لا يوجد جين واحد فقط مسؤول عن القدرة على النطق والتواصل اللغوي، "فالدلائل التي تقدمها هذه الدراسة وغيرها تستند إلى قياسات وظيفية غير حصرية لتطور اللغة".
وقد تساعد الأبحاث المستقبلية في تحديد العلاقة بين هذا الجين والاضطرابات العصبية، وربما حتى تمهيد الطريق لعلاجات جديدة للاضطرابات اللغوية. في النهاية، يبقى السؤال مفتوحا: هل يمكن من خلال علم الوراثة فك شفرة اللغز الذي جعل البشر متحدثين فريدين؟
إعلان