تسريبات من مؤتمر العَرَّافِين الطارئ حول الأزمة السودانية
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
فيصل بسمة
بسم الله الرحمن الرحيم و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
تداعت أفراد من كبار/أميز العَرَّافِين العالميين المشهود لهم بجودة الصنعة و التنبؤات من: الكهنة و ضاربي الرمل و الحصى و الوَدِع و راصدي النجوم و الأبراج و قارئي الفناجين و الأكف و الكرات البللورية و أوراق التاروت من مختلف أقطار/أنحآء العالم إلى مؤتمر طاريء بغرض تداول و بحث الأزمة السودانية و النظر في إحتمالات الحلول و النتآئج و تأويلات مستقبل بلاد السودان و شعوبها.
و يعتقد المراقبون أن العَرَّافِين المجتمعين يمثلون خلاصة النخب العالمية المتخصصة في التكهنات و التنبؤات المستقبلية و الحظ مما يضيف/يضفي الكثير من الإعتبار و المصداقية و الثقل لما يصدر عنهم من أقوال و أرآء ، و حرصاً من العَرَّافِين على السرية فقد إنقطعوا في إجتماعات متواصلة في منتجع قصي بعيداً عن أجهزة الإعلام ، و جعلوا كل جلسات مؤتمرهم مغلقة و منعوا عنها أجهزة الإعلام المقروءة و المسموعة و المرئية ، و إمعاناً في التمويه فقد صرحوا بأن إجتماعهم تنظيمي بحت بغرض التباحث و النظر في مستقبل المهنة لا غير...
و على الرغم من التكتم الشديد و الحرص العظيم على السرية فقد سربت مصادر من داخل المؤتمر بعضاً مما سوف يتضمنه بيان المؤتمر الختامي و التوصيات إلى بعض من وسآئل الإعلام ، و قد حوت التسريبات أرآء/توجهات العَرَّافِين حول الأزمة السودانية و قرآءاتهم و تكهناتهم المستقبلية لما سوف تؤول/تصير إليه الأمور و الأحوال في بلاد السودان إعتماداً على المعطيات و الموجودات...
و قد ذكرت المصادر و التسريبات أن العَرَّافِين قد تَوَصَّلُوا في نهاية مداولاتهم و نقاشاتهم إلى أن الحرب في بلاد السودان سوف يتواصل إشتعالها ، و أن الداعمين/الممولين سوف يسعون/يتنافسون/يجتهدون كثيراً في إزكآء نيران الحرب و تأجيجها و إمدادها بالمزيد من الوقود و جميع مستلزمات المَدِيدَة حَرَقَتنِي لكنهم في نهاية الأمر سوف يوهنون و يسأمون ، و تكهنوا تكهن المتيقنين أن أمدَ الحربِ طويلٌ ، و سوف يستغرق ردحاً من الزمان ، و قد خَمَّنَ/قَدَّرَ العَرَّافُون الردحَ من الزمان ما بين الخمس سنوات إلى عدة عقود من السنين إعتماداً على الإحتمالات...
و قد بينت التسريبات أن العَرَّافِين قد نَجَّمُوا بالتأويلات/الإحتمالات التالية:
١- طريق السلام:
إتفق جميع العَرَّافِين على أن الأطراف المتحاربة سوف تبحث لاهثة عن السلام و سوف يستغرق ذلك بضع سنين ، و سوف تلجأ الجماعات إلى التفاوض مكرهين و مجبرين لا أبطال ، و ذلك لإستحالة النصر/الغلبة لأيٍ من الطرفين ، و بسبب الإنهاك و الضجر بين أفراد المقاتلين و نقص الأنفس و الثمرات و نضوب الأنفال و الغنآئم أو الشَّفشَفَة كما في لسان الحداثة ، و أشاروا إلى أن صبر الداعمين/الممولين و جمهور المتفرجين الإقليميين و المحليين و العالميين سوف ينفد لا محالة مما يقود/يسوق المتقاتلون مرغمين/مذعنين/صاغرين إلى طاولات المفاوضات و التنازلات...
و أكد العَرَّافُون أن المجتمع الدولي ممثلاً في: منظمات الأمم المتحدة و الإتحاد الأوروبي و الوحدة الأفريقية و دول خليجية و أفريقية جارة سوف تكون هي المنابر الوسيطة/المسهلة و الضامنة لتفاصيل و مخرجات/بنود الإتفاقيات ، و أن الإتفاقيات سوف توفر ضمانات عدم المسآءلة/المحاسبة و الخروج و الملاذات الآمنة للقتلة و المسيئيين من قادة و أفراد القوات المسلحة و أجهزة الأمن و مليشيات الجَنجَوِيد (الدعم السريع) و أذنابهم من الأرزقية ، و أن السلطة في نهاية المطاف سوف تؤول إلى المدنيين ، و سوف يتم الإتفاق بين المجموعات السياسية على إدارة الدولة السودانية الجديدة على أسس القانون و العدالة ، و بما يضمن حقوق جميع الشعوب السودانية ، و سوف يعاد تأسيس/هيكلة مؤسسات الحكم و الدولة السودانية بما فيها الجيش و المخابرات و الشرطة و الخدمة المدنية ، و سوف يعم السلام و يكون الإستقرار و التنمية ، و قد إتفق أغلب العَرَّافِين إلى أن هذا الإحتمال هو الأرجح و الأوفر حظاً و الأكثر قبولاً لدى جماهير الشعوب السودانية و جمهرة الوسطآء...
٢- إنتصار الجيش و كتآئب الظل و بقية المليشيات الكيزانية المتعددة الأسمآء:
و يرى العَرَّافُون أن فرص هذا الإحتمال ضعيفة للغاية بحسبان أن الجيش قد أصابه الضعف و الوهن بسبب خَرمَجة و دَغمَسَة الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) له و فيه إبان عقود حكمها و تمكنها ، و أن مليشيات و كوادر الجماعة المتأسلمة (الكيزان) قلوبها شتى و ما عندها وجيع ، هذا بالإضافة إلى أن الجماعة ممقوتة/مكروهة و مَكَجَّنَة من غالبية الشعوب السودانية ، و ليس لديها صَلِيح في أغلب دول الإقليم و القارة و العالم ، و يرون أنه و إن حدث و تغلبت الجماعة فإن ذلك سيدوم لفترة وجيزة و عابرة كما فَسوَة الديك...
و قد تكهن العَرَّافُون يقيناً أن تلك الفَرفَرَة/الفَسوَة سوف تكون هي نهاية الجماعة الما بعدها قُومَة ، و جزموا بأن الكيزان سوف يُلحَقُونَ بِأُمَّات طه ، و ذلك لأن جموع الشعوب السودانية الغاضبة/المسحوقة المسلحة و الثآئرة و التي إكتوت بطغيان و بطش و فساد و دجل الجماعة الإنقاذية المتأسلمة (الكيزان) لما يقارب الأربعة عقود و المرابطة الآن في الجبال و الأصقاع سوف يهبطون/ينحدرون نحو المركز من كل النواحي و الإتجاهات ، و سوف يقتلعون دابر ما تبقى من مليشيات الجماعة في قَلعَةٍ (كَتلَة) زنجبارية تحكي بها الركبان في ماضي و حاضر و مقبل الزمان و ذلك من هولها و بشاعتها ، و سوف تتغير تركيبة المركز و السلطة و سوف يكون ذلك أذان بخلاص الشعوب السودانية من الظلم و الطغيان و الفساد و مولد الدولة السودانية الجديدة ، و خلصت التخمينات و التقديرات إلى أن تحقيق ذلك الأمر سوف يستغرق عدة عقود من الزمان...
٣- الغلبة لصاحب البَلِف (البَعَّاتِي) و مليشيات الجَنجَوِيد (الدعم السريع):
و يرى الكثيرُ من العَرَّافِين أن هذا الإحتمال جآئز و ممكن على خلفيات: ضعف الجيش البآئن و إنسحاباته المتكررة من الحاميات و تهاونه/تخاذله في الدفاع عن البلاد و الأعراض ، و أن ما يصدر من المليشيات الكيزانية ذات الأسمآء ما هو إلا حركات جيش و فَرفَرَات مَضبُوح ، و يشيرون في هذا المقام إلى الأثر العظيم للتدخلات الخارجية و الفتنة العرقية و الفوضى و الخَرمَجَة السياسية الضاربات بأطنابهن شعوب بلاد السودان...
و يرى العَرَّافُون أن إحتمال حدوث و تحقق هذا الإحتمال أقل فرصةً من الإحتمال الأول ، لكنه أوفر حظاً من الإحتمال الثاني لقوة و غزارة العون و الدعم/الإمداد الخارجي لمليشيات الجنجويد (الدعم السريع) ، و قد أشار العَرَّافُون إلى أن الإحتمال الثالث يتوافق جزئياً في نتآئجه مع الإحتمال الثاني من حيث القضآء على بعضٍ من أفراد و منظمات جماعة الكيزان...
و قد تَكَهَّنَ/خَمَّنَ العَرَّافُون أنه و إذا ما حدث ذلك الإحتمال فأن تحققه ربما يستغرق عقداً من الزمان أو نحوه ، و تعتقد غالبية العَرَّافِين أن تحقق هذا الإحتمال الأخير يعني عملياً نهاية دولة جمهورية السودان و ولادة جمهوريات جديدة من شاكلة دويلات/جمهوريات الموز التي تأتمر بأوامر سفارات و قنصليات دول الجوار و الإقليم و توجيهات قوى عالمية ذات بأس و نفوذ لها مصالح/مطامع في موارد بلاد السودان من مياه و زروع و مواشي و ما تحتويه الأرض على ظاهرها و تختزنه في باطنها من خيرات...
و الحمدلله رب العالمين و أفضل الصلاة و أتم التسليم على سيدنا محمد.
فيصل بسمة
fbasama@gmail.com
////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الشعوب السودانیة بلاد السودان من الزمان ن الع ر إلى أن
إقرأ أيضاً:
الشهادة السودانية كرقصة التانغو
الشهادة السودانية كرقصة التانغو (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية.
شغلت منصات التواصل رحلة الـ2000 كيلومتر للطالبة شمس الحافظ عبدالله من بلدة أبشي في تشاد إلى عطبرة بولاية النيل بالسودان، للجلوس لاختبار الشهادة السودانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وهو الامتحان الذي تأجل بسبب الحرب وكان مقرراً له يونيو (حزيران) 2023.
وبدا أن قصة عبور شمس فوق الهول لمجرد الجلوس لاختبار، الملحمة في حد ذاتها، ليست نسيج وحدها. ففي بلد القطينة في ولاية النيل الأبيض، التي تحتلها قوات “الدعم السريع”، كان هناك من تحدى الطبيعة والحرب للامتحان. فركبت جماعة من الطلاب القوارب ليعبروا لمدينة الدويم ليجلسوا للامتحان.
وليست هذه أول مرة تكون فيها الامتحانات في عين عاصفة حروب السودان الأهلية. فسبق لطالبة من دارفور نفسها أن غادرت منطقة احتلتها حركة مسلحة حظرت الامتحان لتركب هولاً أصغر إلى مدينة الضعين لتجلس للامتحان.
جلس طلاب الشهادة الثانوية لعام 2023 لاختباراتها المؤجلة لظرف الحرب في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) 2024. واقتضى ظرف الحرب أن تجرى الامتحانات بصورة أساس في ولايات كسلا والقضارف والبحر الأحمر والشمالية والنيل الأزرق، بينما تقام في ولايات نهر النيل والنيل الأبيض وكردفان بصورة جزئية علاوة على 15 دولة أجنبية نزح إليها الطلاب. واضطرت وزارة التربية والتعليم في هذا العام إلى تعديل توقيت الامتحانات ليبدأ عند الساعة الثانية والنصف ظهراً بدلاً من الثامنة صباحاً تقديراً لظروف الطلاب الذين جلسوا للاختبار في مصر. وعددهم أكثر من 27 ألف طالب وطالبة من جملة 49 ألف طالب وطالبة يجلسون للاختبارات من خارج السودان، لاعتذار وزارة التربية في مصر بأنها لا تستطيع عقد الامتحانات في الفترة الصباحية.
وجلس للاختبار 120724 طالباً وطالبة من الولايات تحت قوات “الدعم السريع” في مراكز الولايات التي تحت سلطة القوات المسلحة. وتكفلت حكومات الولايات باستضافتهم وإعاشتهم. وكان من المفترض، بحسب وزارة التربية والتعليم، أن يجلس للامتحانات المؤجلة أكثر من 343 ألف طالب وطالبة يمثلون 70 في المئة من إجمال الطلاب المسجلين البالغ عددهم نحو 500 ألف، إلا أن العدد تقلص بسبب سقوط آلاف أرقام الجلوس، وتأجيل الامتحانات في ولايتي جنوب وغرب كردفان. وكانت لجنة المعلمين السودانيين، وهي غير التي في داخل السودان، قد قالت إن إجراء الامتحانات في شرط الحرب كما سيحدث سيؤدي إلى حرمان 60 في المئة من إجمال الطلاب الذين استوفوا شروط الجلوس للاختبارات قبل الحرب. وتخلف، وفق تقارير سودانية، عن الجلوس قسراً نحو 157 ألف طالب وطالبة في ولايات تقع تحت سيطرة قوات “الدعم السريع”.
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخَّصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية. وساقت جزئية الامتحان معارضة الحكومة وغيرها للقول بأنها مما سيغبن الجماعات التي انحرم طلابها من الامتحان ويمهد “لتفتيت البلاد وتهتك نسيجها الاجتماعي”.
وذهب آخر إلى أن هذا التفكيك للبلاد هو الهدف من إجراء هذا الامتحان الناقص. فالقرار، في قوله، ليس قراراً إدارياً بريئاً، بل يعكس إستراتيجية تتبناها هذه السلطة، التي تسيطر عليها عناصر من النظام المباد، لاستغلال التعليم كأداة لتعزيز نفوذهم السياسي والاجتماعي في مناطقهم المعروفة بـ”دولة النهر والبحر”، وهي تقريباً الولايات التي جرى فيها الامتحان. فتفاوت الفرص فريضة في صفوة هذه الدولة بعواقبه الوخيمة على وحدة السودان.
واتفق مع هذا التطيُّر من الامتحانات رئيس الحزب الاتحادي الموحد، محمد عصمت يحيى، الذي قال إن انعقاد اختبارات الشهادة السودانية في هذا التوقيت هو بداية لانفصال البلاد وخطوة من “خطوات المشروع الانفصالي لسلطة الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني وواجهاتهما تمضي بإجراء امتحانات الشهادة السودانية قدماً في الشهر الذي شهد اندلاع ثورة ديسمبر (2018)”، كأنه لا تثريب على انعقادها في غير هذا الشهر.
قالت النقابية قمرية في نقد الامتحانات الجزئية إن الشهادة السودانية حدث قومي له وزنه وهيبته. ولا غرو أن جاء هذا القول الفصل من مثل قمرية في علو كعبها في التعليم والنقابية. لكنه مما يصدر من مثلها عن “عادة المعارضة” للحكومة. فلم ير الناس من النقابة مشروعاً مستقلاً لانعقاد اختبارات الشهادة. وكان سامي الباقر من نقابة المعلمين قال إنهم ناشدوا طرفي الحرب إعلاناً بوقف إطلاق النار خلال فترة الامتحانات، وفتح طرق آمنة لتمكين الطلاب والطالبات والمعلمين من الوصول إلى مراكز الامتحانات، وأن ترعى الأمم المتحدة هذه الهدنة التربوية مع قادة الأطراف. ولم يفصل سامي في مساعيهم للغرض، واستجابة الأطراف. وخلافاً لهذا العمل البناء استغرقت النقابة في نقد غير راحم للحكومة لأنها قامت بوظيفة من وظائفها لم نر من النقابة اعتراضاً عليها، بل سعت، في قولها هي ذاتها، بطريقتها إلى تأمين انعقاد الامتحانات بسلامة ولم توفق. ونواصل
الشهادة السودانية كرقصة التانغو (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
“فواحد من أكثر وجوه الحرب إظلاماً هو انطفاء أنوار التعليم فينا” الصحافي عثمان ميرغني، التيار.
ملخص
تفجر حول انعقاد هذه الامتحانات الجزئية نقاش شخصه خصوم الحكومة حتى بين التربويين باستخدام الحكومة لها كـ”سلاح التعليم” لتعزيز سلطانها في البلاد. فقالت قمرية عمر، من نقابة المعلمين، إن هذا قرار حكومة الأمر الواقع، حكومة بورتسودان، وهو سياسي ومرتجل وهدفه الادعاء في مواجهة الطرف الآخر بأن السودان آمن، وأن الحياة تسير بصورة طبيعية.
وجاء على قلم مبارك أردول، السياسي من جبال النوبة والرمز السابق في الحركة الشعبية لتحرير السودان، أن عدالة التعليم قضية أساس يجب ألا تغفل. فالولايات التي لا تستطيع الحكومة الوصول إليها بسبب الحرب والحصار ليس عدلاً أن يحرم طلابها من الجلوس، أو تفوت عليهم الامتحانات. و”عادة المعارضة” ناشبة في أردول أيضاً، فهو لا يرى من محنة التعليم، والاختبار الجزئي مجرد مظهر فادح منها، وخطاب الهامش والمركز الذي اكتنفها ما يستوقف مثله من كان ولا يزال طرفاً ذا باع في ذلك الخطاب الذي نبش هذا الامتحان القاصر أرشيف مظالمه. فهو من إقليم جبال النوبة وناشط مرموق في حركتها الشعبية لتحريرها وغيرها من بقاع الوطن حتى 2017. وهو الإقليم الذي تظاهر بعض طلابه أمام قيادة اللواء 54 للقوات المسلحة بمدينة الدلنج مطالبين بتوضيح ما يكتنف جلوسهم للاختبار من ارتباك. وكانت الحركة الشعبية، التي تحتل قسماً من جبال النوبة، أخبرت الحكومة رفضها ترحيل الأوراق عبر مناطقها إلى المدينة تحت إشراف أي مسؤول منها، بينما قبلت أن ترحل بواسطة منظمة اسمها “سمارتن برس”. والمسموع أن الامتحان لم ينعقد مع ذلك في الدلنج لسبب غير واضح.
ويزيد الأمر كآبة أن الحركة الشعبية، التي تحكم بعض إقليم النوبة، استقلت بتعليمها وصرمت أواصرها مع حكومة السودان لتستقي مناهجها من شرق أفريقيا وتعظم دور اللغة الإنجليزية ولتصير لغة التعليم. وقال تربوي من الإقليم المحرر، كما يقال، “لقد اعتبرنا أنفسنا خارج الدولة السودانية”، غير أننا “داخل وطننا ووسط الثقافة والتراث النوبي”، الذي، بتعبيره، كان “مهملاً في المناهج التي تأتينا من بخت الرضا سابقاً (مركز إنتاج المناهج السودانية)، فمناهج السودان لا تهتم بإنسان جبال النوبة”. لو لم تأخذ أردول عزة المعارضة لقرأ من تجربته الخاصة التاريخ الجراح الذي من وراء اختبار حكومة بورتسودان الناقص.
أما الفيل داخل الغرفة في خطاب اختبار حكومة بورتسودان الناقص فهو “الدعم السريع”. فقد أعفاها من أخذتهم عزة معارضة هذه الحكومة من أية مؤاخذة حتى إنه أعاد في موقفه الناقد للامتحان إنتاج اعتراضاتهم على الامتحان حرفياً وبراءة الأطفال في عينيه. فقال مستشار قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، الباشا محمد طبيق، إن قرار عقد الامتحان الناقص ظالم، ولم يراع الطلاب النازحين واللاجئين والموجودين في مناطق سيطرة قوات “الدعم السريع”. وأضاف قائلاً إنه “يهدد آلافاً من الطلاب الذين سيفقدون حقهم في الجلوس للاختبارات، وبذلك يضيع مستقبلهم ويعد تمهيداً لتقسيم السودان”.
ولن تجد لـ”الدعم السريع” ذكراً ممن لا يرون من أوضاع معقدة كالتي نحن فيها سوى عيب حكومة الوقت. فطال مدى المعارضة للحكومات العسكرية والمدنية معاً حتى استبد الاحتجاج بصفوة القلم والرأي الليبرالي واليساري وضمر فيهم “الشوف الشامل” الذي ميزت به شاعرة مولانا أبو القاسم هاشم. فكان بوسع “الدعم السريع”، وبجرة قلم، أن يجعل من الشهادة الثانوية حدثاً قومياً مهيباً كما أرادت قمرية، ولكنه أضرب عن ذلك. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب الشهادة الثانوية بمناطق سيطرتها من المغادرة إلى مراكز الامتحانات التي تقع داخل مناطق سيطرة الجيش السوداني، فأكد وزير التربية والتعليم في الإدارة المدنية بوسط دارفور، الضواي أحمد، أنه لن يسمح لأي طالب بالجلوس لاختبارات الشهادة السودانية خارج الولاية من دون التنسيق مع وزارة التربية والتعليم.
ولم يكن حمل “الدعم السريع” على النزول عن ذلك الإضراب مستحيلاً على نقابة المعلمين وغيرها لو صحت العزائم لانعقاد هذا الحدث القومي المهيب، لا إعادة إنتاج معارضتهم لحكومة الوقت. فلم يقو “الدعم السريع” على مقاومة إرادة الامتحان عند الطلاب والأسر متى حزمت، أو متى رشد. فكانت قوات “الدعم السريع” قد منعت طلاب مدينة أم روابة من السفر للجلوس للاختبار في مدينة الأبيض، إلا أنها تراجعت وسمحت لبعضهم بالسفر فاستقلوا ثلاث حافلات لعاصمة الإقليم. وسمحت للطالبات من مدينة الرهد دون الطلاب السفر للاختبار في الأبيض، حتى قال أحد أولياء الأمور “لا نفهم السبب وراء هذا التمييز، جميع الطلاب لديهم الحق نفسه في التعليم وأداء اختباراتهم”. أما المسؤول المكلف إدارة التعليم في وحدة النصر الإدارية جنوب الخرطوم فقال إن 928 طالباً وطالبة في منطقة مايو الخاضعة لسيطرة قوات “الدعم السريع” سينتقلون لأم درمان للامتحان في المناطق الآمنة بالجيش، أو مناطق محايدة حسب القرار الذي ينتظر أن يصدر في شأنهم.
أكبر خطأ من حملوا على قرار وزارة التربية عقد اختبار الشهادة في ديسمبر الماضي أنهم يفكرون بزمن السلم في وقت الحرب. فهم عند عقيدة أن هذه الحرب، التي لها عاقب ثقيل كل حرب، هي في قرارها عبثية وملعونة، فيحاكمون النقص الذي يقع خلالها بما كانوا عليه في وقت السلم. يريدون للامتحان أن ينعقد في وقت للحرب بأشراط وقت السلم، أو لا ينعقد. وقيل ما لا يعمل كله لا يترك جله.
وإذا صح العزم فسبق لوزارة التربية أن قررت أن تعقد دورة ثانية لاختبار الشهادة الثانوية في أبريل 2025 لمن فاتتهم الدورة الأولى، فليتنافس المتنافسون في استكمال النقص الذي أخذه الناقدون على الدورة الأولى في الدورة المزعومة. ولا يغيب عنهم مع ذ لك بالكلية أن “الدعم السريع” لم تصدق حين طمأنت الطلاب وأسرهم بأنه “ستتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لضمان حقوقهم وتمكينهم من العودة إلى مرافق التعليم وأداء الامتحانات المؤجلة بصورة تضمن التوازن والعدالة مع زملائهم”. فالامتحان هو خاتمة عملية تربوية لا أعتقد أن زمامها سينعقد لـ”الدعم السريع” في وقت قريب. إذا كنا نريد لاختبار الشهادة أن يكتمل فستكون “حكومة بورتسودان” هي القائم به أياً كان الرأي فيها. والعمل معها لمنع الغبن من الامتحان الناقص هو في المحل الأول إذا أراد من أثاروا هذه المظلمة انصاف المناطق التي خرجت عن الامتحان حقاً، ولمعارضتها المحل الثاني. فما استحق معارضتها من أجله كثير بحمد الله. وسيغطي اختبار الدورة الثانية كل خالف إذا اتفق لـ”الدعم السريع”، الفيل في الغرفة، الإذن للطلاب في مناطقه الجلوس للاختبار حيث شاءوا، أو ربما حيث كان الدعم.
يحتاج الامتحان إلى طرفين لكي يوفي الكيل كما تحتاج رقصة التانغو إلى راقصين لتكون.
فواحد من أكثر وجوه الحرب إظلاماً هو انطفاء أنوار التعليم فينا، كما قال الصحافي عثمان ميرغني.