يفتتح المسلمون هذه الأيام صيام شهر رمضان لعام 1445هـ، وكما جاء في آيات الصيام في سورة البقرة آية 183: {يَا أَيُهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَكُمْ تَتَقُونَ} نجد مصداق ذلك في العديد من شرائع الأديان منذ فترة مبكرة من تطور حياة الإنسان، ففي الحضارة الفرعونية كما يذكر ناصر الكرملي «كان صيام الكاهن يمر بمراحل، إذ يصوم في التكريس الأول عشرة أيام عن أكل اللحم وشرب النبيذ، وفي التكريس الثاني يصوم عشرة أيام بعد تلقيه واجباته المقدسة، وأما الثالث فيصوم رغبة منه لا فرضا»، وأما صيام الشعب فأربعة أيام عندما يحل اليوم السابع عشر من الشهر الثالث من فصل الفيضان».
والصيام في الطاوية «طقس يمارس في احتفال «تشاو» الديني، الذي يتطلب الامتناع عن السمك واللحم والحليب والبيض، خلال فترات الصلاة والتأمل، ويمارس هذا الصيام في جميع الأوقات»، بينما يقوم طقس الصوم في الكونفوشية «على أساس «وجبة واحدة تكفي»، والصيام يكون بتناول الطعام والشراب قبل مواعيد الصلاة فقط، بينما يكتفى الكهنة والرهبان بتناول وجبة واحدة في عصر يومي ظهور الهلال ويوم اكتمال القمر، والصيام عندهم لا يوجد له وقت محدد، وحسب طاقة الشخص، لأجل الرقي الروحي»، وأما الشنتوية لا يوجد فيها صيام بشكل واضح، فهي أقرب إلى «قداسة الأرواح والطبيعة والمبادئ الاجتماعية».
وفي الديانة الهندوسية الصيام حاضر فيها، وإن لم يكن بالصورة الطقسية التقليدية، ففيها الصيام عن الكلام أو الصمت، والصيام عن الطعام والشراب لفترة طويلة، وعند طائفة الفيدس الصيام عندهم «حسب الاستطاعة، صام أسبوعين في الشهر أو بعض الأيام، وحتى نصف يوم، ويتوقفون في اليوم لمدة أربع وعشرين ساعة عن الطعام، وعند آخرين أقل أو أكثر من ذلك»، ومنهم نباتيون يصومون عن اللحوم، ويذكر أبو الحسن الندوي «أن كل طائفة من الطوائف الهندوسية تخصص لنفسها أيامًا تقضيها في الدعاء والعبادة، ويصومها أكثر أفرادها كذلك، فيكفون عن الطعام، ويسهرون الليل كله، ويبيتون يتلون الكتاب المقدس، ومن أهم هذا الصيام، وأكثره انتشارًا في الطوائف المختلفة (ويكنته إيكاوشي) الذي يُنسب إلى (وشنو) فلا يصوم ذلك اليوم أتباع (وشنو) فحسب، بل يصومه أكثر الناس، فيصومون نهاره، ويسهرون ليله، وذكر أيضا أنهم يصومون في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من كل شهر هندي، وهكذا يبلغ عدد الأيام التي تصام عند البراهمة أربعا وعشرين يومًا في كل سنة».
وفي البوذية صيامهم مقرون بالتأمل والصمت، وعندهم صيام الرهبان، وهو أقرب إلى إيذاء النفس، والتقشف في الحياة، لأجل الارتقاء فيها، «ومن الرهبان التيرفادا أي العربة الصغيرة، وهؤلاء يصومون عن الطعام حتى ينحلون، ويعذبون أنفسهم تأسيا ببوذا، وعند مذهب منهم أن أهل المتوفى يصومون تسعة وأربعين يوما، ويكون الصيام عن اللحوم، كما يكون الصيام بينه وبين نفسه، ولا يظهره للناس».
وتميل الديانة الجينية في الهند إلى التشديد في شرائط الصوم وأحكامه، «فأتباعها يواصلون أربعين يومًا بالصوم»، عكس السيخية لا يوجد صيام لديهم، «وعدم أكل اللحوم هي قضية هامشية، وإنما المهم الاهتمام بالروح، فلما يرقى المرء هو من يقرر هل يأكل اللحوم أم لا».
والزرادشت لا يوجد لديهم صيام؛ «لأن فلسفتهم تقضي أن يحافظ الإنسان على صحته طوال العام، بيد هناك من تأثر بغيرهم كالصوم عن اللحوم وهي أقرب إلى العادة، وليس طقسا زرادشتيا دينيا»، بينما المانوية مبالغة في التقشف والرهبنة وترك متاع الدنيا، ونسب إليهم الصيام ثلاثون يوما، وأما المزدكية فأقرب إلى الزرادشت في رؤيتهم السلبية للصيام، بيد أنهم كما يذكر «يحرمون القتل وأكل اللحوم؛ لأن اللحوم تحوي موادا مشتقة من الظلام».
والصوم في الصابئة المندائية يسمى المبطلات، وينقسم إلى المبطلات الثقيلة، والمبطلات الخفيفة، «فالصوم الأكبر صوم انضباط الروح ... [ويسمى] الصوم الكبير، وهو فرض على مدار السنة، وهو صوم انضباط النفس، ومحاسبة الذات، وهي فترة انقطاع عن الشهوات الروحية، والأعمال السيئة، والصوم الصغير وهو صوم لتذكير الإنسان بصيامه الأكبر .. ويتم بالكف عن تناول لحوم الحيوانات وذبحها خلال أيام معينة من السنة، ويتمثل الصوم الأصغر باثنين وثلاثين يوما موزعة على أشهر السنة، وأربعة أيام إضافية تخص رجال الدين، والصوم الصغير ينقسم إلى صيام الأيام الثقيلة، إذ يمتنعون فيها عن اللحوم والمنتجات الحيوانية، ويتوقفون عن النحر، وصوم الأيام الخفيفة وفيها يبيحون أكل الأسماك وشرب الحليب، إلا أنهم يتوقفون أيضا عن العلاقات الزوجية».
والسامريون يصومون يومًا واحدًا في السنة، هو يوم الغفران ولمدة 26 ساعة، «والصوم مفروض على الجميع، كبارًا وصغارًا بما في ذلك الأطفال، ويسمح للطفل الرضيع تناول حليب أمه الصائمة فقط، لأنه: كل نفس لا تصوم في هذا اليوم تموت، ويكون الصيام عن كل شيء من الطعام والشراب والأعمال المنزلية والعمل والدراسة، ولا يمكن القيام بأي نشاطات دنيوية، فقط يكون يومه للصوم والصلاة».
والشريعة اليهودية في الجملة قريبة من السامرية، وتقترب منهما أيضا شريعة المسلمين، وأما الصيام فعندهم كالسامريين صوم الغفران، ويوافق اليوم العاشر من تشرين، وأصبح اليوم صياما وعيدا معا، «ويكون من الغروب إلى غروب يوم التالي، وهذا اليوم يجمع بين روعة العيد بجانب الامتنان لقبول الغفران جنبا إلى جنب، مع الالتزام الكامل بحدود الصيام، والبعد عن المحرمات».
كما يختص اليهود خصوصا الفريسيين أو الربانيين بأعياد قومية «كصوم اليوم التاسع من آب أي ذكرى هدم الهيكل»، كما يستحبون صوم الاثنين والخميس حيث ترفع فيهما الأعمال، «وارتبط الصوم عندهم بمسح الرأس بالزيت، والبكاء والنواح، وعدم غسل الأيدي، ونثر الرماد على الرؤوس» ونحوها، وجاء في سفر الخروج أن موسى صام أربعين يوما وليلة عندما اختلى بربه، لم يأكل خبزا، ولم يشرب ماء، «إلا أنهم لا يصومونه لاستحالته، حيث لم يفطر فيها».
والصوم في المسيحية ينقسم إلى قسمين، القسم الأول صوم من الدرجة الأولى وهو الصَوْمُ الكَبِيرُ أو الصَوْمُ الأَرْبَعِينِيُ، وهو أهم فترات الصيام حسب الديانة المسيحية عموما، يبدأ حسب الطقس الشرقي يوم الاثنين، ويبدأ في يوم أربعاء الرماد حسب الطقس اللاتيني، «وسمي يوم الرماد حيث كان الإكليروس والشعب يضعون رمادًا على رؤوسهم علامة للتوبة»، وتستمر فترة الصيام إلى حوالي ستة أسابيع قبل عيد القيامة، «مصحوبا بالصلاة، والتوبة، والصدقة وممارسة أعمال الرحمة»، والقسم الثاني الصوم من الدرجة الثانية وهو صوم عيد الميلاد، «يبدأ في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في 25 نوفمبر، ويستمر لمدة أربعين يومًا، وينتهى ليلة عيد الميلاد، أي 7 يناير»، «وصوم عيد الميلاد في الكنيسة الكاثوليكية يبدأ في 9 ديسمبر لمدة خمسة عشر يوما تنتهي ليلة عيد الميلاد في 25 ديسمبر وفقا للتقويم الغربي».
وكما يذكر البابا شنودة الثالث في أجوبته «سنوات مع أسئلة الناس» «أن عدد أيام الصيام في الكنيسة القبطية تصل إلى مائتي يوم في العام، أي أكثر من نصف السنة، وبما أن صومهم نباتي، يمتنعون فيه عن اللحوم، وعن أي مصدر نباتي بما فيها الأسماك، هنا رخص لهم تناول السمك في الصيام من الدرجة الثانية، كصوم الميلاد، لكن لا يسمحون بأكلها في الصوم الكبير وفي صوم يومي الأربعاء والجمعة؛ لأنها من الدرجة الأولى. والعلية أن أربعين يوما صامها المسيح، وأسبوع الفصح أو البصخة هي أيام آلام المسيح، ويوم الأربعاء يوم التآمر عليه، ويوم الجمعة يوم صلبه» كما يعتقدون، وهذا يتناسب مع الزهد لا مع الترفه.
وأما اليزيدية أو الأيزيدية «يصومون ثلاثة أيام في كانون الأول من كل عام، وثلاثة أخرى في شهر شباط لاسيما الذين يحملون اسم خدر وإلياس، وأربعين يوما من أربعانية الصيف والشتاء للروحانيين من رجال الدين، ويكون الصيام لله وحده».
ثم جاء الإسلام على يدي النبي محمد عليه الصلاة والسلام في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، وأنزل إليه القرآن، وقد عاش في الحجاز في مكة والمدينة، والحجاز كانت متعددة الأديان حينتها، ولمكة حضارتها واقتصادها بسبب رحلات الشتاء والصيف، واختلاطها ببلاد الشام، ولها مكانتها المقدسة عند العرب.
وقد عرف العرب الصيام قبل الإسلام، وكان في الرمض أي الحر، ولهذا سمي رمضان، وكان الأحناف يقدسون رمضان، واشتهر لديهم مع الصيام عن الطعام والشراب والجماع أيضا الصيام عن الكلام، وكان منتشرا بينهم صيام الأحناف واعتكافهم، واشتهر منهم أربعة رموز اشتهروا مع النبي محمد عرفوا بالتحنث أي الاعتكاف والتأمل، وهم ورقة بن نوفل [توفي ق هـ]، واعتنق النسطورية، وزيد بن عمرو [ت 18 ق هـ]، وكان من الأحناف الباحثين عن الحقيقة، وقس بن ساعدة [ت 23 ق هـ]، وكان من الرهبان المتنسكين، وأمية بن أبي الصلت [ت 5هـ]، وكان من الأحناف أيضا.
ويذكر ابن هشام [ت 218هـ] بيتا لأبي طالب [ت 3 ق هـ]، أن جبل حراء ذاته كان مأوى للمتنسكة والمعتكفين، إذ يقول:
وثورٍ ومن أرسى ثَبيرا مكانه وراق ليرقى في حِراءَ ونازلِ
ويورد ابن هشام أيضا رواية أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – «يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين... وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى حراء، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله»، وذكر ابن كثير [ت 774هـ] رواية أن هذا النسك يمارسه العرب، ومنهم النبي محمد لمدة شهر، وبعد انتهاء الشهر يطوفون بالكعبة سبعة أشواط.
وأصبح الصيام في الإسلام ركنا رابعا من العبادات، فيصومون شهر رمضان، تسعا وعشرين يوما أو ثلاثين يوما حسب الرؤية القمرية، مع اختلاف في بعض جزئياته، فالمشهور عند غالبهم أن الصيام من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، ويبدأ الغروب من بداية نزول الشمس وغياب قرصها، وذهب فريق آخر أن الليل يكون بظهور الظلمة، وهذا يتحقق بظهور النجم أو غياب الشفق الأحمر، كما اختلف أيضا في الخيط الأبيض، أهو بالفجر الصادق أم بظهور الإسفار، أي بعد الغلس وانكشاف الظلمة.
• ملحوظة: مراجع المقالة ستكون مدرجة في مقالات مطولة طيلة شهر رمضان في موقع كاتب المقالة على الشبكة العالمية، وفيها حديث أطول عن الأديان وفلسفة صيامها، فاكتفينا هنا بوضعها بين علامتي التنصيص أو الاقتباس اختصارا.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الطعام والشراب یکون الصیام عید المیلاد الصیام فی الصیام عن عن اللحوم شهر رمضان من الدرجة عن الطعام وکان من لا یوجد أیام ا
إقرأ أيضاً:
مات قبل قضاء صيام رمضان فهل عليه إثم؟.. الإفتاء تكشف
كشفت دار الإفتاء المصرية، عن حكم الشرع في من مات قبل قضاء صيام رمضان ولم يتمكن من القضاء، مشيرة إلى أن المرض المبيح للفطر هو ما كان مؤديًا إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، أو تأخير في الشفاء، وذلك بإخبار أولي التخصص من الأطباء، بل إذا كان الصوم يضُرُّ بصحته فيجب عليه أن يفطر حفاظًا على نفسه من الهلاك.
وأضافت دار الإفتاء، في فتوى لها عبر موقعها الإلكتروني، أن من أفطر في رمضان بسبب المرض الذي يغلب على الظن الشفاء منه بقول أهل الطب المتخصصين، ثم مات في مرضه هذا، أو شفاه الله تعالى منه لكنه مات بعد ذلك مباشرة؛ فلا شيء عليه؛ لعدم تمكنه من قضاء أيام الصوم التي أفطرها قبل موته، ولكونه غيرَ مخاطَبٍ بالفدية حال مرضه هذا.
هل يجوز صرف أموال الزكاة في إصلاح أسقف بيوت الفقراء؟.. الإفتاء تجيب
حكم كتابة الأذكار على كفن الميت.. الإفتاء توضح
متمتع وقارن ومفرد.. الإفتاء توضح الفرق بين أنواع الحج وكيفية أدائها
هل تعليق صورة المتوفى على الحائط حرام؟.. الإفتاء يجيب
وأشارت الإفتاء إلى أنه يُشترَط لوجوب القضاء بلوغُ عدةٍ من أيامٍ أُخَرَ؛ مستشهدة بقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184]، ولم يبلغها بموته؛ فسقط في حقه القضاء، ولكونه غيرَ مخاطَبٍ بالفدية حال مرضه الذي يغلب على الظن شفاؤه منه بقول أهل الطب المتخصصين، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء.
آراء الفقهاء في من مات ولم يتمكن من قضاء رمضانوذكرت دار الإفتاء المصرية آراء عدد من الفقهاء حول حكم من مات وعليه صيام ولم يتمكن من القضاء على النحو التالي:
قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (3/ 89، ط. دار المعرفة): [مريضٌ أفطر في شهر رمضان ثم مات قبل أن يبرأ فليس عليه شيء؛ لأن وقت أداء الصوم في حقه عدةٌ من أيامٍ أخر بالنص ولم يدركه؛ ولأن المرض لَـمـــَّا كان عذرًا في إسقاط أداء الصوم في وقته لدفع الحرج، فلأن يكون عذرًا في إسقاط القضاء أولى] اهـ.
وقال العلامة الميداني الحنفي في "اللباب" (1/ 170، ط. المكتبة العلمية): [وإن مات المريض أو المسافر وهما على حالهما من المرض والسفر لم يلزمهما القضاء؛ لعدم إدراكهما عدةً من أيام أخر] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف على نكت مسائل الخلاف" (1/ 445، ط. دار ابن حزم): [القضاء إذا لم يكن لاتصال العذر فلا يجب بفواته إطعام؛ كالمريض والمسافر إذا اتصل به المرض إلى أن مات] اهـ.
وقال الإمام تَقِيّ الدِّين الحِصْني الشافعي في "كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار" (ص: 304، ط. دار الخير): [من فاته صيام من رمضان ومات؛ نُظِرَ: إن مات قبل تمكنه من القضاء بأن مات وعذره قائمٌ كاستمرار المرض فلا قضاء ولا فدية ولا إثم عليه] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (3/ 152، ط. مكتبة القاهرة): [من مات وعليه صيام من رمضان.. إن مات قبل إمكان الصيام؛ إما لضيق الوقت، أو لعذر من مرض أو سفر، أو عجز عن الصوم، فهذا لا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم] اهـ بتصرف يسير.