عربي21:
2024-12-22@17:29:28 GMT

هوامش شخصية على كتاب الإسلام بين الشرق والغرب

تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT

لم تكن علاقتي بعزَّتبيغوڤيتش مُجرَّد علاقة قارئ مَرَّ بمفكر إبَّان نُضجه، بل كانت في حقيقة الأمر: قصة نُضجي؛ أي قصة تبلور صيرورة معينة لشخصيتي وأفكاري. فقد ابتعتُ الطبعة الثانية من الترجمة العربية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" في 1997م تقريبا، وكنت حينها على مشارف المرحلة الجامعيَّة. كانت مأساة البوسنة لا تزال غضَّة طرية؛ فلم تمض سنوات التبرُّع والدعم، ولا انقضت مشاهد المذابح والمعاناة التي كانت تصلنا بعض تفاصيلها.



وقد ابتعت الكتاب -حينئذ- لأني وجدت عليه اسم الرئيس البوسنوي المجاهد، الذي يواجه العدوان الصربي والتواطؤ العالمي وحيدا. لم يكن العنوان يُنبئ بشيء استثنائي، وإن أشارت نبذة المترجم للعكس إشارات غامضة. وربما ظننت حين شرعت في مطالعته -للمرة الأولى- أني سأجد خطابا ناريّا بليغا عن علاقة الإسلام بالغرب مثل كتابات محمد الغزالي، أو حتى قدرا من العمق في طرح إشكالية المواجهة مثل كتابات محمد قطب، رحمهما الله. لكن كانت الصدمة أني لم أُفِدْ شيئا تقريبا، اللهم إلا بعض الأفكار والإشارات المتناثرة، التي تركت أثرها الغامض فيَّ؛ كأنها تَعِدني بالعودة للكتاب ثانية حين أستعد له معرفيّا ووجدانيّا. فقد كان الكتاب مما يلزمه عُدَّة فلسفية وكلامية وعرفانية متينة، ومن قبل ومن بعد؛ كان يلزمه تجربة حياتيَّة ومكابدة حقيقيَّة لا تتوفَّر غالبا لشابٍّ حدث في مُقتبل العمر.

ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها
وسأعود إلى هذا الكتاب العزيز ثانية بعدها بعدَّة أعوام، كنت قد طالعت خلالها ترجمة "الإعلان الإسلامي" الواضحة، وبعض ترجمة "هروب إلى الحريَّة"؛ التي دفعتني ركاكتها للبحث عن الترجمة الإنكليزيَّة. سأعود بعد أن كُسرت عندي رهبة المؤلف، وصرت أعظم إصرارا على اكتشافه واستيعابه؛ خصوصا وقد بدأتْ أدواتي الفلسفية والكلامية تتكوَّن. بيد أن القراءة الثانية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" لم تُثمر هي الأخرى ولا حتى بعض ما كنت أصبو إليه، وإن مثَّلت طفرة حقيقية مُقارنة بالقراءة الأولى.

لكن ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها. وبمجرد أن طرحت التحصيل النظري المجرَّد جانبا، وشرعتُ في مكابدة ما أتعلمه من خلال حركتي في الوجود؛ حتى صرت مُهيَّأ تماما لا لتشرُّب عزَّتبيغوڤيتش وتلمُّس روحه في حركتها فحسب، وإنما أمسيت أعظم استعدادا لاستيعاب عبد الوهاب المسيري والإفادة منه.

لقد جعلتني الحركة بالمعرفة -في الوجود- أشهد ما لم أكن لأشهده أبدا بالتحصيل الساكن؛ فأقبلت على المسيري كأن أنساقه كانت تسكُن في أغوار نفسي، وتنتظرُ من يصوغها في أدوات. لقد كانت أدوات المسيري تُبين لي طريقة عزَّتبيغوڤيتش في تشكيل نظامه الفكري، وتُكسب الفكر الإسلامي -بل والإنساني!- كله انسجاما وتكامُلا لم أستطع تلمُّسه من قبل، وإن أدركت وجوده مما بثَّته روح سيد قطب في نفسي.

ونتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدة؛ نتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدةما أفضى بي إلى عقد عدَّة جلسات "خاصَّة" لشرح هذا الكتاب الفذ في عام 2012م. وقد استمرَّت عشرة أسابيع تقريبا، وكان اللقاء الواحد يتجاوز الساعات الثلاث أحيانا. وهو ما أفدت منه إفادة عظيمة في إنضاج رؤيتي، فلم أكن أقرأ من الكتاب كما يفعل الشُرَّاح، إذ كنت أبصر كل شيء أمامي بوضوح: هيكل أفكار المؤلف الفيلسوف، وكساءه، وحركة هذا الجسم في الوجود.

وقد فتح الله عليَّ بألا أتناول النص مُغلقا مُنكفئا على نفسه، وإنما من خلال تناصِّه مع نصوص بشرية أخرى، أدبية وفلسفية؛ تأكيدا للمبادئ التفسيرية المركزية التي يُمدك بها بوصفها أدوات فعَّالة، وتقويضا للتمركز حول نصٍّ فرد. وليس من المستغرب أنَّ الله تعالى قد أنطقني في أول تلك الحلقات بمقولة اشتهرت عني بعدها: "كل نص بشري لا يعود بك للوحي الإلهي؛ فلا يعول عليه"، فقد كنتُ أساق سوقا إلى حقيقة الوعي.

* * *

وقبلها بعدَّة أعوام، كنت قد أسست تنوير للنشر والإعلام -في تشرين الأول/ أكتوبر 2007م- وزُرت الأستاذ يوسف عدس مطلع نيسان/ أبريل 2008م، لأستأذنه في نشر ترجمته لكتابنا الأثير هذا؛ فأخبرني أن أستاذنا المسيري رحمه الله -وكان آنذاك في مرضه الأخير- قد سبق وأرسل له ممثلي ناشره المصري قبل زيارتي بشهر واحد؛ ليتعاقدوا معه على نشر الكتاب، حرصا على دوام توفره. وقد قال لي حينها بالحرف: قدَّر الله وما شاء فعل، لو كنت زرتني مبكرا شهرا واحدا؛ لفُزتَ بالكتاب.. فلا أحب معاملتهم منذ نشروا ترجمتي لكتاب: "الإعلان الإسلامي"، وأرهقوني أيما إرهاق! فما كان مني -آنذاك- إلا أن أجبته: فاللهم لا تُمِتني حتى أنشر كتاب: "الإسلام بين الشرق والغرب"؛ فتبسَّم رحمه الله واغرورقت عيناي.

وقد أجيبت "نصف" دعوتي بعد 15 سنة، وحصلت على حقوق نشر الكتاب، بل وانفتحت لي -بحول الله وحده- ترجمته بنفسي ترجمة سلسة ميسورة دون عوائق، ولم أكن أتوقع ذلك ولا أخطط له؛ فلعل أجلي مُرتَهَنٌ بتمام نشره، والله أعلم حيث يجعل رسالته!

إن هذا النص الفذ زهرة نسق عزَّتبيغوڤيتش الفكري وواسطة عقده، وفيه هيكل نظامه الفلسفي كله، وجمهرة تفاصيله المهمة. ومَن أحسنَ استيعابه؛ فقد استوعَب مُجمَل مراد الأستاذ وعرف وجهته. ففيه أثمرت البذور الأوَّلية التي بُذِرَت في "عوائق النهضة الإسلاميَّة"؛ محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصوابفاستوَت فلسفة أخلاقيَّة رفيعة عمادها الإسلام، تجلَّت عبر مُقارنة بنية الإسلام بالمادية والدين المجرَّد (المسيحية). وقد اعتصر رحمه الله من هذا الكتاب الماتع -لاحقا- دليله الحركي، أو "المانيفستو" السياسي الذي دبَّجه في "الإعلان الإسلامي".

ثم لما تسنَّت له -إبَّان سجنه الثاني- فرصة إعادة النظر في نسقه الفكري، وأثمر ذلك كتابه الشذري الماتع: "هروبٌ إلى الحريَّة"، الذي دوَّنه على مهلٍ طيلة ما يقرُب من ست سنوات كاملة؛ كان هذا الأخير إنضاجا لبعض أفكاره التي ضمَّنها في "الإسلام بين الشرق والغرب"، حتى إنه خصَّص لها ما يكاد يبلُغُ رُبع هروبه، في فصلٍ عَدَّهُ حاشية على كتابه الذي نشرُف بأن نقدم لكم اليوم ترجمته الكاملة. وهي ترجمة تنشد الكمال بصدق ودأب، ولن تبلغه؛ فإن الكمال لله تعالى وحده. بيد أنها محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصواب. فاللهم لا تحرمنا أجورهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر اللهم لنا ولهم.

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الترجمة الفكري كتب الفكر ترجمة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بید أن من سبق

إقرأ أيضاً:

الإفتاء في حملتها ضد التعدي على المياه.. محرم شرعًا واعتداء على الحقوق

أكدت دار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي، أن التعدي على المياه أو وصلاتها بأي صورة من صور الاعتداء، سواء كان ذلك بالسرقة أو الاختلاس أو أخذها دون وجه حق، يعد فعلًا محرمًا شرعًا، لما فيه من اعتداء على حقوق الآخرين وانتهاك للقوانين.

وأوضحت دار الإفتاء أن هذه الجريمة تزداد خطورتها إذا كان التعدي يمس حقوق المواطنين جميعًا وليس فردًا بعينه، مما يجعلها انتهاكًا للحقوق العامة، التي حث الإسلام على الحفاظ عليها وصيانتها. واستندت الدار في بيانها إلى قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29]، مؤكدة أن هذه الآية تعبر عن تحريم كل صورة من صور الاستيلاء على أموال الناس بغير حق.

المياه مورد مشترك

أشارت دار الإفتاء إلى أن الماء يعد من الموارد التي أتاحها الله لجميع البشر دون تمييز، ويجب التعامل معه بأمانة ومسؤولية. وأكدت أن التجاوز في استخدام المياه أو سرقتها يعبر عن سلوك يخالف مبادئ العدالة التي أرساها الإسلام.

أهمية الوعي والتنوير

وأطلقت دار الإفتاء حملتها التوعوية تحت شعار (ولو كنت على نهرٍ جارٍ)، بهدف تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الموارد المائية، وعدم التعدي عليها أو استغلالها بشكل يخالف الشرع والقانون.

ودعت الدار المواطنين إلى الالتزام بالضوابط الشرعية والقانونية في استخدام المياه، مؤكدة أن الحفاظ عليها واجب ديني وأخلاقي، لا سيما في ظل التحديات البيئية الراهنة التي تهدد الموارد الطبيعية.

 

واختتمت دار الإفتاء بيانها بالتأكيد على أن الإسلام يحث دائمًا على احترام حقوق الآخرين وصيانة الممتلكات العامة، واعتبرت أن التعدي على المياه لا يمثل مجرد سرقة، بل هو تعدٍ على حق الله وحق المجتمع بأسره.

مقالات مشابهة

  • سوريا والغرب ونظرية المٌدان تحت الطلب!
  • الإفتاء في حملتها ضد التعدي على المياه.. محرم شرعًا واعتداء على الحقوق
  • استعراض كتاب “المبشرون الأميركيون وفشل تحويل الشرق الأوسط إلى المسيحية”
  • سفارة روسيا في لشبونة: الأضرار التي لحقت بالسفارة البرتغالية في كييف كانت بسبب قوات الدفاع الجوي الأوكرانية
  • الشيخ ياسر مدين يكتب: في الصوم
  • لمحات من حروب الإسلام
  • الرجالة كانت بتغير منه.. طليقة مصطفى فهمي تكشف أسرارا عن حياتهما قبل الانفصال
  • (عودة وحيد القرن) كانت من أنجح العمليات التي قام بها قوات الجيش السوداني
  • علي جمعة: الصدق الذي نستهين به هو أمر عظيم
  • الغيب في الإسلام: بين علم الله وحذر الإنسان