هوامش شخصية على كتاب الإسلام بين الشرق والغرب
تاريخ النشر: 1st, March 2024 GMT
لم تكن علاقتي بعزَّتبيغوڤيتش مُجرَّد علاقة قارئ مَرَّ بمفكر إبَّان نُضجه، بل كانت في حقيقة الأمر: قصة نُضجي؛ أي قصة تبلور صيرورة معينة لشخصيتي وأفكاري. فقد ابتعتُ الطبعة الثانية من الترجمة العربية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" في 1997م تقريبا، وكنت حينها على مشارف المرحلة الجامعيَّة. كانت مأساة البوسنة لا تزال غضَّة طرية؛ فلم تمض سنوات التبرُّع والدعم، ولا انقضت مشاهد المذابح والمعاناة التي كانت تصلنا بعض تفاصيلها.
وقد ابتعت الكتاب -حينئذ- لأني وجدت عليه اسم الرئيس البوسنوي المجاهد، الذي يواجه العدوان الصربي والتواطؤ العالمي وحيدا. لم يكن العنوان يُنبئ بشيء استثنائي، وإن أشارت نبذة المترجم للعكس إشارات غامضة. وربما ظننت حين شرعت في مطالعته -للمرة الأولى- أني سأجد خطابا ناريّا بليغا عن علاقة الإسلام بالغرب مثل كتابات محمد الغزالي، أو حتى قدرا من العمق في طرح إشكالية المواجهة مثل كتابات محمد قطب، رحمهما الله. لكن كانت الصدمة أني لم أُفِدْ شيئا تقريبا، اللهم إلا بعض الأفكار والإشارات المتناثرة، التي تركت أثرها الغامض فيَّ؛ كأنها تَعِدني بالعودة للكتاب ثانية حين أستعد له معرفيّا ووجدانيّا. فقد كان الكتاب مما يلزمه عُدَّة فلسفية وكلامية وعرفانية متينة، ومن قبل ومن بعد؛ كان يلزمه تجربة حياتيَّة ومكابدة حقيقيَّة لا تتوفَّر غالبا لشابٍّ حدث في مُقتبل العمر.
ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها
وسأعود إلى هذا الكتاب العزيز ثانية بعدها بعدَّة أعوام، كنت قد طالعت خلالها ترجمة "الإعلان الإسلامي" الواضحة، وبعض ترجمة "هروب إلى الحريَّة"؛ التي دفعتني ركاكتها للبحث عن الترجمة الإنكليزيَّة. سأعود بعد أن كُسرت عندي رهبة المؤلف، وصرت أعظم إصرارا على اكتشافه واستيعابه؛ خصوصا وقد بدأتْ أدواتي الفلسفية والكلامية تتكوَّن. بيد أن القراءة الثانية لـ"الإسلام بين الشرق والغرب" لم تُثمر هي الأخرى ولا حتى بعض ما كنت أصبو إليه، وإن مثَّلت طفرة حقيقية مُقارنة بالقراءة الأولى.
لكن ما أن بدأتُ أدرِك قصور التحصيل بغير مكابدة، حتى شرَعَتْ أبواب المعرفة تُفتح لي. صحيح أن كلنا يُكابد الحياة يوميّا، بيد أن مكابدة ما نتعلَّمه تبدأ بمحاولة تمثُّله تمثُّلا واعيا؛ فلا شيء يُنضج المعرفة ويعمقها ويختبر قدراتها الحقيقية مثل محاولات تنزيلها. وبمجرد أن طرحت التحصيل النظري المجرَّد جانبا، وشرعتُ في مكابدة ما أتعلمه من خلال حركتي في الوجود؛ حتى صرت مُهيَّأ تماما لا لتشرُّب عزَّتبيغوڤيتش وتلمُّس روحه في حركتها فحسب، وإنما أمسيت أعظم استعدادا لاستيعاب عبد الوهاب المسيري والإفادة منه.
لقد جعلتني الحركة بالمعرفة -في الوجود- أشهد ما لم أكن لأشهده أبدا بالتحصيل الساكن؛ فأقبلت على المسيري كأن أنساقه كانت تسكُن في أغوار نفسي، وتنتظرُ من يصوغها في أدوات. لقد كانت أدوات المسيري تُبين لي طريقة عزَّتبيغوڤيتش في تشكيل نظامه الفكري، وتُكسب الفكر الإسلامي -بل والإنساني!- كله انسجاما وتكامُلا لم أستطع تلمُّسه من قبل، وإن أدركت وجوده مما بثَّته روح سيد قطب في نفسي.
ونتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدة؛ نتيجة أحداث يناير 2011م، تولَّدت داخلي طاقة روحيَّة وفكريَّة هائلة، وإن استُنزِفَت سريعا في إعادة ترتيب أسس وجودي، التي بعثرها الحدث نفسه. لكن كانت أُلفتي لأفكار عزَّتبيغوڤيتش قد بَلغَت مدى عجيبا، ونقلها لهيب الأحداث في روعي نقلة بعيدةما أفضى بي إلى عقد عدَّة جلسات "خاصَّة" لشرح هذا الكتاب الفذ في عام 2012م. وقد استمرَّت عشرة أسابيع تقريبا، وكان اللقاء الواحد يتجاوز الساعات الثلاث أحيانا. وهو ما أفدت منه إفادة عظيمة في إنضاج رؤيتي، فلم أكن أقرأ من الكتاب كما يفعل الشُرَّاح، إذ كنت أبصر كل شيء أمامي بوضوح: هيكل أفكار المؤلف الفيلسوف، وكساءه، وحركة هذا الجسم في الوجود.
وقد فتح الله عليَّ بألا أتناول النص مُغلقا مُنكفئا على نفسه، وإنما من خلال تناصِّه مع نصوص بشرية أخرى، أدبية وفلسفية؛ تأكيدا للمبادئ التفسيرية المركزية التي يُمدك بها بوصفها أدوات فعَّالة، وتقويضا للتمركز حول نصٍّ فرد. وليس من المستغرب أنَّ الله تعالى قد أنطقني في أول تلك الحلقات بمقولة اشتهرت عني بعدها: "كل نص بشري لا يعود بك للوحي الإلهي؛ فلا يعول عليه"، فقد كنتُ أساق سوقا إلى حقيقة الوعي.
* * *
وقبلها بعدَّة أعوام، كنت قد أسست تنوير للنشر والإعلام -في تشرين الأول/ أكتوبر 2007م- وزُرت الأستاذ يوسف عدس مطلع نيسان/ أبريل 2008م، لأستأذنه في نشر ترجمته لكتابنا الأثير هذا؛ فأخبرني أن أستاذنا المسيري رحمه الله -وكان آنذاك في مرضه الأخير- قد سبق وأرسل له ممثلي ناشره المصري قبل زيارتي بشهر واحد؛ ليتعاقدوا معه على نشر الكتاب، حرصا على دوام توفره. وقد قال لي حينها بالحرف: قدَّر الله وما شاء فعل، لو كنت زرتني مبكرا شهرا واحدا؛ لفُزتَ بالكتاب.. فلا أحب معاملتهم منذ نشروا ترجمتي لكتاب: "الإعلان الإسلامي"، وأرهقوني أيما إرهاق! فما كان مني -آنذاك- إلا أن أجبته: فاللهم لا تُمِتني حتى أنشر كتاب: "الإسلام بين الشرق والغرب"؛ فتبسَّم رحمه الله واغرورقت عيناي.
وقد أجيبت "نصف" دعوتي بعد 15 سنة، وحصلت على حقوق نشر الكتاب، بل وانفتحت لي -بحول الله وحده- ترجمته بنفسي ترجمة سلسة ميسورة دون عوائق، ولم أكن أتوقع ذلك ولا أخطط له؛ فلعل أجلي مُرتَهَنٌ بتمام نشره، والله أعلم حيث يجعل رسالته!
إن هذا النص الفذ زهرة نسق عزَّتبيغوڤيتش الفكري وواسطة عقده، وفيه هيكل نظامه الفلسفي كله، وجمهرة تفاصيله المهمة. ومَن أحسنَ استيعابه؛ فقد استوعَب مُجمَل مراد الأستاذ وعرف وجهته. ففيه أثمرت البذور الأوَّلية التي بُذِرَت في "عوائق النهضة الإسلاميَّة"؛ محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصوابفاستوَت فلسفة أخلاقيَّة رفيعة عمادها الإسلام، تجلَّت عبر مُقارنة بنية الإسلام بالمادية والدين المجرَّد (المسيحية). وقد اعتصر رحمه الله من هذا الكتاب الماتع -لاحقا- دليله الحركي، أو "المانيفستو" السياسي الذي دبَّجه في "الإعلان الإسلامي".
ثم لما تسنَّت له -إبَّان سجنه الثاني- فرصة إعادة النظر في نسقه الفكري، وأثمر ذلك كتابه الشذري الماتع: "هروبٌ إلى الحريَّة"، الذي دوَّنه على مهلٍ طيلة ما يقرُب من ست سنوات كاملة؛ كان هذا الأخير إنضاجا لبعض أفكاره التي ضمَّنها في "الإسلام بين الشرق والغرب"، حتى إنه خصَّص لها ما يكاد يبلُغُ رُبع هروبه، في فصلٍ عَدَّهُ حاشية على كتابه الذي نشرُف بأن نقدم لكم اليوم ترجمته الكاملة. وهي ترجمة تنشد الكمال بصدق ودأب، ولن تبلغه؛ فإن الكمال لله تعالى وحده. بيد أنها محاولة تُفيد من جهد من سبق طمعا بتجاوز زلاته؛ فهي أكمل نسبيّا مما سبق. وكما يحلو لي دوما القول: لولا زلَّات من سبقونا من أفاضل الأساتذة؛ لما تعلَّمنا الصواب. فاللهم لا تحرمنا أجورهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر اللهم لنا ولهم.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الترجمة الفكري كتب الفكر ترجمة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بید أن من سبق
إقرأ أيضاً:
الكتاب والأدباء تقيم ندوة للقصة القصيرة جدا في عُمان: المفهوم وجمالية التشكيل
أقامت الجمعية العمانية للكتاب والأدباء مساء الأربعاء ندوة "القصة القصيرة جدًا في عمان: المفهوم وجمالية التشكيل" وقدمت طرحا نقديا حول هذا الجنس الأدبي في عمان، حيث قدم ثاني الحمداني عرضا تناول فيه إشكاليات المفهوم والخصائص، وناقشت غنية الشبيبية الاتساعية النصية في القصة القصيرة جدا، متتبعة كيف تستلهم النصوص الحديثة أعمالا تراثية وتعيد تشكيلها بأساليب جديدة. وتناول أحمد الحجري الكثافة الأنثوية في مجموعة "شبابيك زيانة" مسلطا الضوء على حضور المرأة كعنصر محوري في البناء السردي، فيما أدارت الندوة الأستاذة زوينة سالم.
وقدم الأستاذ ثاني الحمداني عرضا تناول فيه إشكالية المفهوم والخصائص لهذا النوع الأدبي الحديث. استعرض الحمداني جذور القصة القصيرة جدا، متتبعا نشأتها وتطورها بين الأدب العربي والغربي، مع التركيز على الإشكالات النقدية التي أثيرت حولها.
ناقش الحمداني أبرز السمات الفنية للقصة القصيرة جدا، مثل التكثيف، الوحدة السردية، الدهشة، والمفارقة، مشيرا إلى أهمية القفلة المتوهجة في إحداث التأثير المطلوب لدى القارئ. كما استعرض عدة دراسات نقدية تناولت هذا النوع السردي، من بينها أبحاث حول التعاليات النصية، الخطاب السردي العماني، والتكثيف السردي.
كما أشار الحمداني إلى التحديات التي تواجه هذا الفن، خاصة فيما يتعلق بتأصيله في الأدب العربي، ومدى ارتباطه بالحكايات التراثية مثل النادرة والمثل. وختم عرضه بالإشارة إلى أن القصة القصيرة جدا تمثل نوعا أدبيا متجددا، يتطلب براعة في السرد واختزال المعنى دون الإخلال بالحبكة الفنية.
وقدمت الأستاذة غنية الشبيبية ورقة بحثية حول الاتساعية النصية في القصة القصيرة جدا، مستعرضة تطبيقات هذه التقنية في مجموعتي ظلال العزلة وموج خارج البحر لعزيزة الطائية. تناولت الشبيبية مفهوم الاتساعية النصية كما حدده الناقد جيرار جينيت، موضحة كيف أن القصة القصيرة جدًا تستلهم نصوصًا سابقة وتعيد تشكيلها بأساليب حديثة تحمل دلالات جديدة. ركزت الورقة على المحاكاة الساخرة والتحريف الهزلي كأدوات سردية، مستعرضة أمثلة من قصص الحيوانات المستوحاة من كليلة ودمنة، مثل قصة عزاء، التي تعكس استغلال السلطة للفئات الكادحة، وقصة خسارة، التي تُسقط واقع الأوطان المنهوبة على سرد حكائي بسيط.
كما سلطت الضوء على إعادة توظيف ألف ليلة وليلة، مثل قصة مواويل التي تصور شهريار في سياق سياسي حديث يعكس تجاهل الحُكّام لمعاناة شعوبهم. ولم تقتصر الورقة على الحكايات التراثية، بل تناولت تحوير الأساطير والأدب الجاهلي، كما في طائر الرماد، التي تسخر من القيود الاجتماعية المفروضة على المرأة.
واختتمت الشبيبية ورقتها بالتأكيد على أن القصة القصيرة جدًا لا تنغلق على ذاتها، بل تتسع وتتحاور مع نصوص الماضي، مما يجعلها أداة نقدية فعالة لعكس قضايا العصر الراهن بأسلوب مكثف وساخر.
وتناول الأستاذ أحمد الحجري، مجموعة "شبابيك زيانة" لبشاير حبراس للكشف عن الكثافة الأنثوية البارزة في نصوص المجموعة، حيث تشكل المرأة المحور الأساسي في أغلب القصص. استعرض الحجري كيف تم توظيف العناوين، والشخصيات، والرموز، والمواضيع لإبراز مركزية المرأة في السرد، عبر شخصيات نسائية مثل "زيانة، ليلى، سعدة، وأماندا"، وعبر إشارات متكررة لمراحل حياة المرأة، بدءا من الطفولة وحتى الشيخوخة.
سلطت القراءة الضوء على استخدام الرمزية، مثل قصة "كعبة للبحر"، التي تضع المرأة في موقع المركز والقطب الذي تدور حوله الأحداث، إضافة إلى قصص أخرى مثل "كوميدينة ليلى" و"البقعة الصفراء" التي تعزز صورة المرأة كمحور أساسي في العالم السردي للمجموعة. كما ناقش الحجري تكرار الثيمات المرتبطة بالمرأة، مثل الحب، الفقر، والخيانة، وكيف تساهم هذه العناصر في ترسيخ حضورها القوي داخل النصوص.
وأكد الحجري أن هذه المركزية لا تعني غياب الرجل، لكنه غالبًا ما يكون في موقع التابع أو العابر، بينما تبقى المرأة في قلب الحدث.