تخيل أن لديك مطرقة تريد أن تجعلها أكثر فعالية في مهمة دق المسامير بالخشب، فيمكنك في هذه الحالة إضافة تعديلات عليها حتى تعمل بشكل أفضل، وهذا يشبه ما فعله باحثون من جامعة سينسيناتي الأميركية، إذ نجحوا في تطوير مادة محفزة من النحاس لجعلها أكثر كفاءة في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى الإيثيلين الذي يوصف بأنه "أهم مادة كيميائية في العالم".

ويتجه الباحثون عالميا الآن إلى تحويل ثاني أكسيد الكربون من ملوث بيئي إلى منتجات صناعية مفيدة. وبينما عملت فرق بحثية سابقة على إنتاج الإيثلين من ثاني أكسيد الكربون باستخدام محفز النحاس، فإن هذه العملية شابها بعض السلبيات التي نجح الباحثون خلال الدراسة الجديدة المنشورة في دورية "نيتشر كيميكال إنجنيرنغ" في التغلب عليها، عبر تطوير محفز النحاس لجعله أكثر كفاءة في العمل.

ويشرح أستاذ الهندسة الكيميائية بجامعة أسيوط (جنوب مصر) خالد الحلواني في حديث خاصة لـ"الجزيرة نت" ما فعله الباحثون قائلا: " فكّر في محفز النحاس باعتباره الأداة الأساسية، مثل المطرقة، فالجميع يستخدمها لدق المسامير في الخشب، ولكنك نجحت في إجراء تعديلات في مطرقتك الشخصية عبر ربط مغناطيس برأسها لجذب المسامير وتثبيتها في مكانها، مما يسهل طرقها، وهذا جعلها أكثر كفاءة في أداء المهمة، وبالمثل هذا ما فعله الباحثون".

ويوضح أنه "بنفس الطريقة التي استخدمتها لترقية أداء مطرقتك الشخصية، أضاف الباحثون كميات صغيرة من منشطات معدنية نبيلة -مثل الروديوم- إلى سطح محفز النحاس، حيث تعمل هذه المنشطات مثل المغناطيس، مما يجعل المحفز أكثر فعالية في أداء المهمة المحددة المتمثلة في تحويل ثاني أكسيد الكربون إلى إيثيلين".

زينغيوان لي المعد الرئيسي لمشروع بحثي لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى إيثيلين (جامعة سينسيناتي)

وتساعد المنشطات المعدنية النبيلة على توجيه التفاعلات الكيميائية في الاتجاه الصحيح، مما يؤدي إلى زيادة إنتاج الإيثيلين مقارنة بالمنتجات الثانوية الأخرى مثل الإيثانول.

وكما يمكنك ضبط موضع وقوة المغناطيس على مطرقتك لتحسين أدائها، فإن الباحثين يمكنهم التحكم بعناية في كمية وتوزيع تلك المنشطات على المحفز النحاسي، ويضمن هذا الضبط الدقيق تحقيق المحفز أعلى كفاءة ممكنة في إنتاج الإيثيلين، مع تقليل تكوين المنتجات الأخرى غير المرغوب فيها، وفقا للحلواني.

4 خصائص للمنشطات المعدنية

وتحقق المنشطات المعدنية المضافة لسطح محفز النحاس هذه الوظيفة عبر أربع خصائص، يشير إليها الحلواني على النحو التالي:

أولا: إضافة المنشطات المعدنية يعدل من خصائص سطح المحفز النحاسي، بما يؤثرعلى عوامل مثل قوة الارتباط للأنواع الوسيطة المشاركة في التفاعل، وتوزيع المواقع النشطة على سطح المحفز، والتفاعل الكلي للمحفز. ثانيا: تُظهر المنشطات المعدنية المعتمدة على المعادن النبيلة؛ خصائص تحفيزية فريدة بسبب تركيبة كيمياء سطحها، ومن خلال دمج كميات صغيرة منها في المحفز النحاسي يمكن تعزيز النشاط التحفيزي للمحفز. ثالثا: يمكن للمنشطات المعدنية النبيلة المضافة لسطح المحفز النحاسي، تعزيز تفاعلات معينة عن غيرها بشكل انتقائي، وفي حالة التحويل الكهروكيميائي لثاني أكسيد الكربون إلى إيثيلين، فإن وجودها يساعد في توجيه التفاعل نحو إنتاج الإيثيلين مع قمع التفاعلات الجانبية المتنافسة التي قد تؤدي إلى تكوين منتجات ثانوية أخرى مثل الإيثانول. رابعا: تسمح إضافة المنشطات المعدنية النبيلة بضبط مسارات التفاعل المشاركة في العملية التحفيزية، ويمكن أن يؤدي هذا الضبط الدقيق إلى تحسين انتقائية وكفاءة واستقرار المحفز، مما يؤدي إلى تحسين الأداء العام في إنتاج الإيثيلين. في الطرق التقليدية يجري إنتاج الإيثيلين عادة من خلال التحلل الحراري للهيدروكربونات مثل الإيثان أو النافتا (شترستوك) إنتاج صديق للبيئة

وفي الطرق التقليدية، مثل "التكسير بالبخار"، يجري إنتاج الإيثيلين عادة من خلال التحلل الحراري للهيدروكربونات مثل الإيثان أو النافتا.

وتتضمن هذه العملية تعريض الهيدروكربونات لدرجات حرارة عالية في وجود البخار، مما يؤدي إلى تكوين الإيثيلين ومنتجات ثانوية أخرى.

ولكن الطريقة التي وصفها الباحثون في دراستهم تعتمد على "الاختزال الكهروكيميائي"، حيث يتعرض ثاني أكسيد الكربون في الخلية الكهروكيميائية للاختزال، وهذا يعني أنه بمساعدة الكهرباء يجري تقسيم جزيئات ثاني أكسيد الكربون إلى مركبات أبسط، بما في ذلك الإيثيلين.

وتحتوي الخلية الكهروكيميائية على قطبين كهربائيين مغمورين في محلول "إلكتروليت" يحتوي على ثاني أكسيد الكربون المذاب، وعندما يُمرر تيار كهربائي عبر الخلية فإن جزيئات ثاني أكسيد الكربون الموجودة عند الكاثود (القطب السالب) تخضع للاختزال، مما يؤدي إلى تكوين الإيثيلين ومنتجات أخرى.

ويساعد وجود محفز النحاس المعدل بالمنشطات المعدنية بـ"الكاثود"، على تحسين كفاءة عملية التحويل وتعزيز نشاطها وانتقائيتها تجاه إنتاج الإيثيلين.

4 مزايا بيئية واقتصادية

ومقارنة بالطريقة التقليدية، يحمل هذا الإنجاز أربع مزايا بيئية واقتصادية، يعددها أستاذ الهندسة الكيميائية والباحث الرئيسي بالدراسة جينجي وو، في بيان صحفي نشره الموقع الإلكتروني لجامعة سينسيناتي، وهي:

إنتاج الطاقة الخضراء: فهذه العملية توفر إمكانية إنتاج الإيثيلين باستخدام مصادر الطاقة الخضراء بدلا من الاعتماد على الوقود الأحفوري، ويتوافق هذا الجانب مع الهدف الأوسع المتمثل في الحد من انبعاثات الكربون والانتقال نحو ممارسات طاقة أكثر استدامة. عزل الكربون: من خلال استخدام ثاني أكسيد الكربون كمادة أولية لإنتاج الإيثيلين، تساعد العملية في إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، وبالتالي المساهمة في جهود عزل الكربون والتخفيف من تغير المناخ. الكفاءة والانتقائية: يعمل محفز النحاس المعدل على تحسين كفاءة وانتقائية عملية التحويل الكهروكيميائية بشكل كبير، مما يؤدي إلى زيادة إنتاج الإيثيلين مقارنة بالطرق التقليدية، وتعد هذه الانتقائية المعززة أمرا بالغ الأهمية لتحسين العمليات الصناعية وتقليل النفايات. إزالة الكربون من الإنتاج الكيميائي: يمثل تطوير هذه التكنولوجيا خطوة مهمة نحو إزالة الكربون من الصناعة الكيميائية، فمن خلال استخدام الكهرباء من مصار الطاقة المتجددة والمواد الخام المستدامة مثل ثاني أكسيد الكربون، يمكن جعل إنتاج المواد الكيميائية أكثر مراعاة للبيئة وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة. الدكتور جينجي وو نجح في تطوير تفاعل كهروكيميائي لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى مادة الإيثيلين (جامعة سينسيناتي) تطبيقات صناعية متعددة

وبينما عملت فرق بحثية حول العالم على إعادة تدوير ثاني أكسيد الكربون في منتجات قيمة، مثل "ثنائي ميثيل إيثر" أو "كربونات الجلسرين"، فإن الباحثين بدوا في الدراسة الجديدة أكثر حماسا لإنتاج "الإيثلين" الذي وصفوه في البيان الصحفي بأنه "أهم مادة كيميائية في العالم"، وقالوا إن الصناعة الكيميائية أنتجت منه 225 مليون طن متري ( الطن المتري يساوي 1000 كلغم) عام 2022.

ويدخل "الإيثلين" في مجموعة واسعة من التطبيقات الصناعية، وتشمل:

الإيثيلين حجر الأساس لإنتاج البولي إيثيلين، وهو أحد أكثر أنواع البلاستيك استخداماعلى مستوى العالم، ويستخدم في تطبيقات مختلفة مثل التعبئة والتغليف (الأكياس البلاستيكية والزجاجات والحاويات) والأنابيب وقطع غيار السيارات. يعمل كمادة كيميائية وسيطة في تركيب العديد من المواد الكيميائية والمنتجات الأخرى، ويُستخدم لإنتاج أكسيد الإيثيلين الذي يُعالج بشكل إضافي لصنع جلايكول الإيثيلين، وهو مكون رئيسي في إنتاج ألياف البوليستر ومضادات التجمد. يستخدم في إنتاج مركبات الفينيل، بما في ذلك كلوريد البولي فينيل الذي يستخدم على نطاق واسع في مواد البناء مثل الأنابيب وإطارات النوافذ والأرضيات والجوانب، وكذلك في الأجهزة الطبية وقطع غيار السيارات والسلع الاستهلاكية. يعتبر مقدمة لـ "الستيرين" الذي يستخدم في إنتاج البوليسترين، وهو بلاستيك متعدد الاستخدامات يستخدم في التعبئة والتغليف والعزل وأدوات المائدة التي تستخدم لمرة واحدة ومنتجات الرغوة. يعد مادة خام رئيسية في إنتاج المطاط الصناعي، بما في ذلك مطاط "الإيثيلين بروبيلي" و"مونومر الإيثيلين بروبيلين ديين"، والتي تستخدم في إطارات السيارات والخراطيم وغيرها من التطبيقات. يستخدم في الزراعة كعامل إنضاج للفواكه والخضراوات، فهو يساعد على تسريع عملية النضج وتحسين تلوين الفاكهة وتنظيم الإزهار في بعض النباتات. يستخدم وقودا في بعض العمليات الصناعية، مثل اللحام والقطع بالوقود الأكسجيني، حيث يُحرق لإنتاج الطاقة الحرارية. مزيد من العمل لحصد الفوائد

ويحتاج حصد هذه الفوائد الاقتصادية والبيئية لإنتاج الإيثيلين من ثاني أكسيد الكربون، إلى عمل إضافي يجب أن يؤديه الباحثون للانتقال بفكرتهم من المعمل إلى التطبيق التجاري.

وكان الباحثون حريصون في البيان الصحفي على توضيح النقاط التي يجب العمل عليها في دراسات لاحقة لتحقيق هذا الغرض، وهي:

استقرار عملية التحويل: فنظام التحويل يفقد كفاءته بمرور الوقت بسبب تكوين منتجات ثانوية على محفز النحاس مثل هيدروكسيد البوتاسيوم، وقال الباحثون إنهم بحاجة إلى استكشاف طرق لتحسين استقرار أداء المحفز للحفاظ على الكفاءة على مدى فترات طويلة من التشغيل. الجدوى التجارية: في حين أظهرت الدراسة نتائج واعدة في المختبر، يعترف الباحثون بالحاجة إلى تحسين العملية لجعلها أكثر جدوى من الناحية التجارية، وقد يتضمن ذلك تحسين الجوانب المختلفة لنظام التحويل الكهروكيميائي، بما في ذلك فعالية التكلفة وقابلية التوسع وكفاءة الطاقة. التشغيل الممتد: فقد قال الباحثون إن لديهم هدفا يتمثل في تمديد تشغيل نظام التحويل من ألف إلى مئة ألف ساعة، وسيتطلب تحقيق هذا الهدف معالجة التحديات المتعلقة بتدهور أداء المحفز، واستقرار التفاعل بشكل عام.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: إنتاج الإیثیلین مادة کیمیائیة أکثر کفاءة فی مما یؤدی إلى کیمیائیة فی الکربون من بما فی ذلک یستخدم فی فی إنتاج من خلال

إقرأ أيضاً:

رمضان في مختبرات الغرب.. كيف يحل الباحثون العرب معادلة الصيام والإنجاز؟

بالنسبة للباحثين العرب في مختبرات الغرب يمثل شهر رمضان الكريم اختبارا يوميا لقوة الإرادة وقدرة التحمل في مواجهة تحديات العمل العلمي المكثف، فهؤلاء الباحثون، الذين يواصلون أبحاثهم المتقدمة في جامعات ومختبرات عالمية، يجدون أنفسهم أمام تحديات مزدوجة، وهي مواصلة الصيام لساعات طويلة مع الحفاظ على التركيز والإبداع في بيئات أكاديمية صارمة.

وفي هذه المادة، نغوص في قصص هؤلاء الباحثين العرب، ونستكشف كيف يواجهون تحديات الصيام والعمل العلمي، وكيف ينجحون في حل معادلة الصيام والإنجاز خلال شهر رمضان.

البداية كانت مع د. عبد الله شرف، باحث ما بعد الدكتوراه بمركز الأحياء في التشيك، الذي استهل الحديث عن تجربته بموقف جمعه مع مشرفه في رسالة الدكتوراه خلال أول شهر رمضان يقضيه في التشيك.

يقول ضاحكا في حديثه لـ"الجزيرة نت": "لم أعهده يتردد كثيرا على المختبر أثناء عملي، لكن في أول أيام الشهر كان يتردد بمناسبة وبدون مناسبة، ليصارحني لاحقا بأنه كان يخشى أن أتعرض للإغماء بسبب صيام رمضان، الذي تزامن حينها مع فصل الصيف".

ويضيف: "ينظر الغرب إلينا كباحثين عرب حريصين على الصيام خلال شهر رمضان على أننا أناس خارقون، إذ كيف نستطيع الامتناع عن الطعام والشراب طيلة فترة النهار، خصوصا في فصل الصيف".

د.عبد الله شرف يحرص خلال وجوده بالتشيك على تبكير وجبة السحور حتى يستطيع الاستيقاظ مبكرا ولا يتأثر إنتاجه البحثي بفترة الصيام (عبد الله شرف)

ورغم شيوع نمط "الصيام المتقطع"، القائم على الامتناع عن الطعام لفترة من الوقت تقترب من فترة صيام يوم في شهر رمضان، فإن الامتناع عن المشروبات خلال تلك الفترة لا يزال يمثل بالنسبة للغرب أمرا غريبا، كما يوضح شرف.

إعلان

ويقول: "ينتظر أقراننا في المختبرات رؤية كيف سيكون أداؤنا خلال هذا الشهر، لذلك فإن أكثر ما يحزنني أن بعض العرب يتخذون رمضان فترة للراحة، ويصدرون رسالة بأنه موسم كسل بالنسبة لنا".

وعن كيفية تنظيم يومه كي لا يؤثر الصيام على أدائه البحثي، يوضح أنه منذ عمله في مركز الأحياء في التشيك، يحرص على ألا تؤثر عباداته مثل الصيام وصلاة الجمعة على عمله، فتكون صلاته في الأيام العادية خلال استراحة الغداء، ويكون يوم صيامه يوما عاديا يذهب فيه إلى العمل في نفس الموعد الذي تعود عليه.

ولتحقيق ذلك، يقوم شرف بتبكير وجبة السحور إذ لا تتعدى منتصف الليل، حتى يستطيع الاستيقاظ مبكرا، ويحقق العهد الذي قطعه على نفسه بعدم تأثر إنتاجه البحثي بفترة الصيام.

ويقول: "أفتقد بذلك الكثير من أجواء الشهر، ولكن عزائي أن لدي رسالة مهمة أحرص على إيصالها، وهي أن عبادة الصيام لا تؤثر على إنتاجي البحثي، بل كثيرا ما أفاجئهم بمعدل إنجاز يفوق الأيام العادية في أحيان كثيرة".

الصيام وسط شعب محب للطعام

النظرة الغربية نفسها تجاه الشخص الصائم التي أشار إليها شرف، عاشها أيضا د. محمد فريشح، باحث ما بعد الدكتوراه بكلية الجيوديسيا والجيوماتكس بجامعة ووهان في الصين. يقول لـ"الجزيرة نت": "الشعب الصيني محب للطعام ويستمتع بتناوله في أوقات محددة، لذا ينظرون إلينا كأشخاص قادرين على الامتناع عن الطعام والشراب لفترات طويلة وكأننا خارقون".

ويلمس فريشح تقديرا كبيرا تجاه الشخص الصائم، وهو ما لاحظه في عدة مواقف لا تفارق ذاكرته، ومن أبرز تلك المواقف، عندما كان في رحلة مع زملائه بالجامعة إلى مدينة أخرى داخل الصين خلال شهر رمضان.

يقول: "وصلنا قبل الإفطار بساعتين، وعندما علم عميد الكلية التي زرناها أنني مسلم، أقام لنا وليمة في مطعم إسلامي، وعند تقديم الطعام، اعتذرت عن مشاركتهم لأنني كنت صائما، وفي البداية، رفضوا الأكل مراعاة لي، ولكن بعد أن أوضحت لهم أنني لا أنزعج من رؤيتهم يأكلون، وأصررت عليهم أن يتناولوا الطعام، وافقوا، وعند وصولنا إلى الفندق، اكتشفت أن عميد الكلية طلب لي وجبة إفطار من المطعم الحلال وأعطاها لمساعده ليحضرها لي عند وقت الإفطار".

إعلان

ولا يشعر فريشح أن الصيام يؤثر على إنتاجيته، ويضيف: "يمكن ببعض المرونة في تنظيم أوقات العمل ضبط الإيقاع خلال رمضان لتحقيق التوازن المطلوب، فيمكن مثلا العمل بعد الإفطار حتى السحور، أو خلال أوقات معينة من النهار، لأن طبيعة العمل البحثي لا تتطلب الحضور والانصراف في أوقات محددة".

ويحرص فريشح وأقرانه من الباحثين العرب في جامعة ووهان على خلق أجواء رمضانية عبر التجمع لأداء صلاة التراويح في منزل أحد الأصدقاء وتنظيم سحور جماعي، كما يقيمون إفطارا جماعيا في أول أيام رمضان بالجامعة. ومع ذلك، فإن هذه الأجواء لا تعوض الأجواء الرمضانية في مصر، ولكن من الأمور الإيجابية التي يشير إليها فريشح أن الوجود في الخارج يمثل فرصة للتدريب على البساطة في الإفطار والسحور، بعيدا عن إعداد أصناف كثيرة من الطعام.

ينصح الباحثون العرب في مختبرات الغرب ببعض المرونة في تنظيم أوقات العمل خلال رمضان لتحقيق التوازن المطلوب بين الصيام والإنجاز البحثي (محمد فريشح) صيام القطب الجنوبي.. أمنية مفقودة

مثل فريشح، تمكن د.أحمد سليمان، الباحث في معهد "كالتك" بالولايات المتحدة ومختبر الدفع النفاث التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، وأقرانه العرب، من خلق أجواء رمضانية عربية في أميركا، ويستخدم الطريقة نفسها التي تعتمد على تعديل مواعيد العمل بما يسمح بعدم تأثير الصيام على الإنتاجية.

ويرتبط شهر رمضان لدى سليمان بإنجازات مهمة، وأبرزها العام الماضي كان المشاركة في إتمام تطوير كاميرا تلسكوب "نانسي غريس رومان"، التي تفوق دقتها دقة كاميرا تلسكوب جيمس ويب بألف مرة، وهذه الكاميرا القادرة على تحييد ضوء الشمس، قد تسهم في اكتشاف حضارات فضائية لم نتمكن من رؤيتها.

وأثناء عمله على هذا المشروع المهم خلال شهر رمضان، كان سليمان يحضر بعض الحلوى الرمضانية لأقرانه في المختبر، حتى إنهم باتوا يسألون عن موعد حلول الشهر ليستمتعوا بالحلوى التي يجلبها. ويقول لـ"الجزيرة نت": "نجحت في خلق هذه الروح الإيجابية من خلال مشاركتهم فرحتهم بأعيادهم، فأصبحوا يشاركونني أيضا في الاحتفال بالأعياد الإسلامية".

إعلان

ولا ينسى سليمان أمنيته المفقودة، وهي صيام رمضان في القطب الجنوبي، وكان قريبا من تحقيق هذه الأمنية خلال إحدى المهام البحثية هناك، ولكن انتهت المهمة قبل حلول الشهر.

وأثناء تلك المهمة البحثية في القطب الجنوبي، خاض تجربة الإقامة لمدة يومين داخل خيمة تحاكي تلك التي استخدمها النرويجي روال أموندسن، ثاني مستكشفي القطب الجنوبي، الذي رفع علم النرويج فوق الخيمة الشهيرة.

ويقول: "قضيت معظم وقتي في الصلاة وقراءة القرآن، وكنت أتأمل في الآية الكريمة (حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا)، حيث إن الشمس لا تغيب في القطب الجنوبي، وتمنيت أن يكتب لي الله الصيام في هذا المكان، ولكن المهمة انتهت قبل حلول رمضان".

وعن كيفية الصيام في مكان لا تغيب فيه الشمس، يضيف: "كنت سأعتمد على التوقيت النيوزيلندي لأنه الأقرب للقطب الجنوبي، تماما كما فعلت مع مواقيت الصلاة خلال المهمة التي استمرت 4 أشهر".

د. أحمد سليمان الباحث بمختبر الدفع النفاث التابع لـ (ناسا) كان على مقربة من قضاء شهر رمضان بمكان لا تغيب عنه لشمس خلال مهمة بحثية طويلة بالقطب الجنوبي (أحمد سليمان) تجاوز اختبار شهر رمضان

ويرتبط شهر رمضان أيضا لدى د.محمد شعبان، الباحث في البيولوجيا البنيوية بجامعة إمبريال كوليدج لندن ومعهد فرانسيس كريك في المملكة المتحدة، بتحقيق إنجازات بحثية، كان أبرزها العام الماضي، كتابة دراسة مهمة نُشرت في دورية "موليكولار سيل"، كشفت أسرار عملية تخلص خلايا الإنسان من البروتينات التالفة.

ويقول شعبان لـ"الجزيرة نت": "بذلت جهدا كبيرا خلال الشهر بين عملي في المختبر وكتابة الدراسة، لكن الصيام لم يؤثر على حماسي، فشهر رمضان بالنسبة لي هو شهر الإنجاز".

ويضيف: "نصيحتي لمن سيصوم لأول مرة في الغرب هي ألا يؤثر الصيام على إنتاجك".

ويتذكر شعبان أثناء دراسته للماجستير في جامعة ستوني بروك بأميركا قبل انتقاله إلى لندن، أن زميلا أميركيا كان ينتظر شهر رمضان ليختبر نشاطه اليومي بالحضور مبكرا والمغادرة متأخرا، ولكنه لاحظ أن نشاطه لم يتأثر، فقال مازحا: "كنت أعتقد أن سر نشاطك هو نوع القهوة التي تحتسيها، لكن يبدو أن هناك سرا آخر".

إعلان

ويقول شعبان: "لا يوجد رسالة أفضل من أن نظهر للعالم أن الصيام ليس عائقا، بل محفز للنشاط والإنتاج".

د. محمد شعبان الباحث بجامعة إمبريال كوليدج لندن كان على موعد مع كتابة أهم أبحاثه حول اكتشاف آلية تخلص الخلايا البشرية من النفايات خلال شهر رمضان الماضي (محمد شعبان) رسالة إيجابية

وحرصت د.أمل أمين، أستاذة تكنولوجيا النانو بالمركز القومي للبحوث بمصر، والرئيسة المؤسسة لمبادرة "النساء في مجال العلوم بلا حدود"، خلال رحلتها البحثية بين ألمانيا وأميركا، على تصدير هذه الرسالة الإيجابية التي أشار إليها د. محمد شعبان.

وتقول لـ"الجزيرة نت": "أثناء دراسات ما بعد الدكتوراه في أميركا، كان الصيام يمتد حتى التاسعة مساء، وكان زملائي في المختبر يحثونني على الانصراف مبكرا، لكنني كنت حريصة على الانصراف في السابعة، وهذا كان يثير تساؤلات بعض الزملاء الأجانب حول كيفية القدرة على الصيام طيلة تلك الفترة، فكانت فرصة جيدة لشرح بعض معاني الصيام الحقيقية وتصحيح الصورة المغلوطة عنه بأنه يعوق العمل".

وترى أمين، من خلال تجربتها، أن الباحثين العرب بإمكانهم تنظيم وقتهم لقضاء الشهر الكريم بصورة متوازنة وغير مرهقة، خاصة أن أغلب العمل البحثي لا يرتبط بدوام ثابت، بل يرتبط بتجارب يمكن تنفيذها في أي وقت.

وتضيف: "على سبيل المثال، تخصصي في الكيمياء لا يعتمد على ساعات عمل محددة، بل يرتبط بتجارب أقوم بتنفيذها، وينتهي عملي بانتهاء تلك التجارب".

وتحذر أمين من استخدام بعض الباحثين العرب للصيام كمبرر للكسل أثناء عملهم في الغرب، مشيرة إلى أن ذلك يترك انطباعا سلبيا قد يؤثر على مسيرتهم البحثية وفرصهم في الاستمرار هناك.

تعاطف لا يضر بالعمل

ويشارك د.هيثم شعبان، أستاذ الفيزياء الحيوية ومدير أحد المشروعات البحثية بمركز أجورا لأبحاث السرطان بجنيف، د.أمل أمين في إطلاق التحذير نفسه.

إعلان

ويقول لـ"الجزيرة نت": "ستجد في الغرب تعاطفا من المشرفين وزملائك الباحثين أثناء الصيام، لا سيما إذا حل الشهر في فصل الصيف، إذ يكون الطقس حارا واليوم طويلا، لكن هذا التعاطف يقتصر على إبداء مرونة في تعديل مواعيد العمل، دون أن يؤثر ذلك على جودته، فما يهمهم هو الإنتاج".

ورغم هذه المرونة، يؤكد د.شعبان أنه تعود طوال رحلته البحثية الممتدة بين أميركا وأكثر من دولة أوروبية على عدم الاستفادة من هذه المرونة، وتكييف يومه بما لا يؤثر على أدائه خلال الصيام، حتى لو كان ذلك على حساب أداء الطقوس الدينية الخاصة بالشهر.

ويضيف: "ينتهي يومي مثل أي يوم عادي بصلاة العشاء، ولا أتناول وجبة السحور حتى لا أضطر للاستيقاظ قبل الفجر، والعودة للنوم مجددا، مما قد يعوق قدرتي على الذهاب إلى العمل مبكرا".

مقالات مشابهة

  • الاتحاد الأوروبي يعتزم منح شركات السيارات 3 سنوات للالتزام بخفض ثاني أكسيد الكربون
  • تحويل نفايات النسيج إلى ورق لمواد التعبئة والتغليف أكثر قوة
  • إنتاج 5 أصناف جديدة من محصول القمح عالية الإنتاجية.. خبراء: تطوير أصناف قمح جديدة ضرورة لمواجهة التغيرات المناخية.. الأصناف الحديثة من القمح أكثر تحملًا وإنتاجية
  • ارتفاع “غير النفطية”.. وخبراء يتوقعون: السعودية ثاني أسرع اقتصاد نمواً في العالم
  • رمضان في مختبرات الغرب.. كيف يحل الباحثون العرب معادلة الصيام والإنجاز؟
  • اكتشاف مركب في الزنجبيل كفيل بتقليل التهابات الأمعاء المزمنة
  • «حمدان بن راشد للعلوم» تبحث تعزيز التعاون مع الإيسيسكو
  • أستراليا تشهد ثاني أكثر صيف حرارة في تاريخها بسبب التغير المناخي
  • دراسة تكشف تأثير تناول البرتقال على الاكتئاب
  • حصاد الأسبوع| انطلاق منتدى الشباب الدولي للتكنولوجيا النووية.. روسآتوم: المحطة توفر 25% من إنتاج الكهرباء منخفضة الكربون.. والهيئة: خبرات كل من المحطات النووية و«روسآتوم» يساهم في تشكيل عصر جديد لمصر