سبق منا بيان بعض أسباب إعادة نشر آثار علي عزَّتبيغوڤيتش رحمه الله، وأننا قد دشَّنا هذا المشروع وقد تلخَّص طموحنا في إعادة تقديم الرجل تقديما أمينا -بحروفه هو- دون زيادة أو نقصان.
وعليه، كانت استراتيجيتنا في ذلك جد بسيطة: دقَّة الترجمة وأمانتها، مع ضبط الاصطلاح الفلسفي العربي والحفاظ على اطراده، دون المساس بآراء المؤلف مهما بَدَت "إشكاليَّة" في عيوننا.
لقد كان الاصطلاح الفلسفي، الذي تبلور في المعجم العربي -مع أستاذنا عبد الوهاب المسيري- للظواهر الحضاريَّة الغربيَّة؛ تعزيزا لإدراكنا للظواهر الاجتماعيَّة والنفسيَّة الحداثيَّة، وللمفاهيم الفلسفيَّة التي صيغت لها، وإثراء للغة العربيَّة، بما يُمكننا من إدراك الظواهر الغربيَّة في خصوصيتها وتركيبيتها. ثم يتلو ذلك قدر من التفكيك والتركيب؛ لنُدرِك تجليات هذه الظواهر عندنا،إذا كانت "دقَّة الترجمة" أمرا قد لا يلزمه كثير بيان، فإن ضبط الاصطلاح الفلسفي كان -ولا زال- مسألة مُربِكَة للكثيرين. ذلك أن بعض المترجمين يَعُدُّ الترجمة الحَرفيَّة، باستعمال المرادف المعجمي الشائع؛ هي الترجمة السليمة المطلوبة دوما، بيد أننا نَعُدُّها أصلا ترجمة مُفتقرة إلى الدقة؛ إذ أن هذه الحرفية المعجميَّة التي تُبعدها عن دقَّة الاصطلاح الفلسفي المُحدَّث، وواقع الظواهر المتغيرة؛ تشويش وتشويه وتضليل وما يصح تسميته بنفس الأسماء، وما قد يجوز صك اصطلاحات جديدة له. وأخيرا؛ صك اصطلاح يُعوض النقص البشري الفطري في رؤية المسيري المعرفيَّة، في محاولة منَّا لتغطية أقصى قدر ممكن من احتياجاتنا الاصطلاحية. وقد كان النقص الأخطر في رؤية المسيري وعزَّتبيغوڤيتش -وسائر الجيل- نقصا يتعلَّقُ بـ"قبولهم" لمقولة التطور التقني -والتقنية في عمومها- بوصفها مقولة "حضاريَّة" محايدة، وعليه؛ الأخذ بهذه التقنية الغربيَّة دون تردُّد، وذلك بوصفها "علما مُحايدا".
ثم مَنَّ الله تعالى علينا، وساقنا إلى العلَّامة سيد حسين نصر ومدرسته في فلسفة العلوم؛ فاطَّلعنا على إعادة تعريفهم للعلوم الطبيعيَّة الحديثة، ووجدنا في جهودهم استمرارا بصيرا -لمحاولات من سبق- في تخليص الفكر الإسلامي من الملوِّثات، واطرادا فكريّا واصطلاحيّا يَلتَزِمُ الإسلام، علاوة على أنه مُشرب بإدراك مُركَّب لنسبيَّة مقولة التقنية، ومن ثم؛ لتلوثها العميق -وسائر ما أثمرته- بشرك الغرب العقدي وانحرافه الأخلاقي. وكما أفدنا من أستاذنا المسيري في تعريب لفظة: "nature" في السياق الفلسفي الغربي بوصفها: "الطبيعة/ المادَّة"، التي تمتازُ بخصائص تعكس رؤية كونيَّة مُشرِكة، لا علاقة لها بتصور المسلم للطبيعة المخلوقة؛ فقد منَّ الله علينا بتعريب اللفظة نفسها في السياق الإسلامي التقليدي بوصفها: "الطبيعة المسخَّرة"، وسنُخصص لهذا المبحث الاصطلاحي موطنا آخر يُحيط به، إن شاء الله تعالى.
بيد أن ما يعنينا هاهُنا، أن اطراد هذا الاستعمال؛ كان يعني ألا نقبل تعريب: "science" بوصفه علما مُجرَّدا مُحايدا، يصحُّ به الوصف في كل سياق، وهذا هو مُنجز سيد حسين نصر في تصويب الرؤية الكونية الإسلامية الحديثة، وتخليصها من هذه الشائبة. ليتحقَّق عندنا أن "العلم" مُفردا مُجرَّدا لا يُوصَفُ به إلا العلم الذي يؤدي إلى الله تعالى، فهو علم منه سبحانه يُعيد إليه؛ كان علما بالفقه أو بالفَلَك، بالسُّنة أو بالأحياء؛ فكلها تؤدي إلى الخالق العليم.
أما اللفظة اللاتينية التي عرَّبها بنو جلدتنا خطأ، وأجرموا بها في حق أجيال؛ فإنها لا تُفرَد وإنما تُكثَّر -ولا أقول تُجمَع فهي شتات- إذ فيها تكثير الشرك للآلهة الزائفة، وترك التوحيد ورائها ظهريّا. فصارت المعارف التي ينتجها الغرب، في محاولته التسلُّط فوق الكون: "علوما طبيعيَّة/ ماديَّة"، والنسبة إليها: "علموي"؛ فهي ليست علما مُفردا يُعيدك إلى الله، ولا هي بعلوم طبيعية فطريَّة معبرة عن خضوع الوجود المخلوق لخالقه العليم، وإنما هي رؤية ماديَّة قلبا وروحا ونتاجا، على المستوى الفلسفي وعلى المستوى التطبيقي؛ مادية يُراد بها أن تصرِف عن الله وتصد عن سبيله، وتُكرِّس عبادة عالم الشهود.
هذه الفائدة التي أفدناها في توصيف الظواهر -توصيفا يجتهد في الانضباط اللغوي والفلسفي- من المسيري ونصر -نفعنا الله بعلومهما في الدارين- ودورها في التفكيك المعرفي لهيمنة هذه "العلوم الطبيعيَّة/ المادية" على وعينا وإدراكنا؛ جعلتنا نتحيَّر هُنيهة إلى أي مدى سيكون ذلك "ضبطا" للاصطلاح عند مؤلفنا العزيز، وذلك بوصفه فيلسوفا عميق الفكرة فذَّ البناء.
وقد تبدَّى لنا أن الأمانة في هذا الأمر كافية لتحقيق مُرادنا، وهي عندنا تتفرَّعُ إلى فرعين: أمانتنا معه في ألَّا نُغير رأيه في الظواهر ولا موقفه منها، ثم أمانتنا على اللغة والاصطلاح والتصور؛ بأن نستنفد أقصى وسعنا في نحت تعريب دقيق لأسماء الظواهر (جريا على سنة أستاذنا المسيري)، يحفظ سلامة المعجم العربي ومدلولات ألفاظه من التشوه، ويستخلص تصورات القُراء من التشوش المهيمن. ولذلك مثلا؛ لم نُغير رأيه في العلوم التقنية وقبوله لها، وما ينبني على ذلك في تصوره، بيد أننا سنُعربها ونصف ظواهرها بلفظ عربي أدق؛ يُبرِز أصولها الفلسفيَّة وجذورها العقديَّة، مُصطحبا معها مكون القلق الواضح عند المفكر المسلم في قبوله لها. وهو مكون طبيعي بوصفه مسلما، فما تجلى قبوله هذا إلا بوصفه اضطرارا ممن لم يهتد آنذاك إلى خيار غيره!
تبدَّى لنا أن الأمانة في هذا الأمر كافية لتحقيق مُرادنا، وهي عندنا تتفرَّعُ إلى فرعين: أمانتنا معه في ألَّا نُغير رأيه في الظواهر ولا موقفه منها، ثم أمانتنا على اللغة والاصطلاح والتصور؛ بأن نستنفد أقصى وسعنا في نحت تعريب دقيق لأسماء الظواهر (جريا على سنة أستاذنا المسيري)، يحفظ سلامة المعجم العربي ومدلولات ألفاظه من التشوه، ويستخلص تصورات القُراء من التشوش المهيمن
ونحن بهذا لن نحفظ مُعجم هذا الفيلسوف فذّا كما هو فحسب، وإنما سنزيده عمقا وتجذُّرا في اللغة التي نُقِلَ إليها، وسنزيد مقدرتنا على دمجه في مجالها التداولي دمجا حقيقيّا، خصوصا إذا كان الاطلاع على نصوصه اطلاعا مُدققا؛ يُبرهن -بما لا يدع مجالا للشك- لا على إخلاصه لدينه فحسب، وإنما على قلقه من قبوله بهذه التقنية وتلك العلوم، تحت وطأة العصر والنشأة، واحتياجات الواقع الضاغط.
وقد كان مما وفِّقنا إليه كذلك، بعد الجهد في تحقيق الاطراد الاصطلاحي؛ ألا نجعل استعمالاته المتأخرة (والناضجة) للألفاظ، تطغى على استعمالاته الأوَّلية. فمن الجلي أن كل مفكر يمرُّ بمراحل يتطور فيها تصوره ومعجمه تطورا جليّا، ومن الخطر العبث بنصوصه وإظهارها كأنما كُتبت كلها في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال، فإن استعماله للفظتي "دين" و"إسلامي" في كتاب: "عوائق النهضة الإسلاميَّة"؛ يختلف اختلافا واضحا عن استعمالات اللفظتين إذ نضجت نُضجا بينا في "الإسلام بين الشرق والغرب"، ثم تحدَّدت تحدُّدا أيديولوجيّا حزبيّا صراعيّا في "الإعلان الإسلامي".
وقد اقتضى منَّا تحقيق هذه الدقَّة ألا نوكل العمل لفرد مهما كان، وإنما يمرُّ النص بعدَّة مراحل ترجع إلى قاعدة تحريريَّة واحدة، ابتداء بالترجمة، ثم المطابقة على الأصل البوسنوي كلمة بكلمة، ثم ضبط الاطراد الاصطلاحي والتحرير، ثم مُراجعة الأصل ثانية؛ للتأكُّد من موافقة ذلك الضبط الدلالي والتراكيبي لمُجمل مُراده، ثم التدقيق اللغوي. وقد تتوزَّع كل مرحلة منها على عدَّة دورات؛ إمعانا في الإتقان.
ولعلَّ من أوائل تجليات هذا التدقيق، إعادة كتابة اسمه: علي عزَّتبيغوڤيتش؛ إذ أن الشائع خطأ محض، ويوحي بأن "بيغوڤيتش" هذا اسم لجده، وهو جهلٌ مُطبق! إذ يتكون اسم عائلته من ثلاثة مقاطع: "عزَّت" و"بيغ" و"أوڤيتش"؛ الأول اسم جده الأعلى، والثاني اللقب العثماني لهذا الجد (هو لقب: بک أو بيک؛ الذي شاع بين العرب)، والثالث لاحقة بمعنى ابن (تشبه استعمال اللاحقة "أوغلو" في التركيَّة). وقد أنبئنا بعض الأساتذة البوسنويين المتبحرين في دراسة العربية؛ أن اللاحقة الأخيرة هذه أشبه شيء بياء النسبة في العربيَّة (كما في: المكي، والزمخشري، والهاشمي.. إلخ). فالاسم على هذه الشاكلة، يُكتَبُ مُتصلا في لغته الأصلية؛ فهو اسم شخص واحد ولقبه ونسبته، ولا يجوز تقطيعه. وقد اخترنا الغين على الكاف في مقطع "بيغ"؛ لأنها أقرب للنُطق السلاڤي لها، إذ تُنطَق جيما مصريَّة حلقيَّة، مُشبعة بالغين. أما استعمال الفاء المثلَّثة (تُنطق "v") في المقطع الأخير؛ فهو نُطقها الصحيح في لغتها.
وربما يجدُر بنا الإقرار بأن النهج الاصطلاحي-الفكري الذي تحريناه في انتقاء ألفاظ الكتاب، لا يُمكن أن يحويه مقال؛ لهذا نترك تلمُّسه والإفادة به للقارئ البصير إذ يفتح الله عليه.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الترجمة الفكر كتب المسلمين الفكر الترجمة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بید أن ة التی
إقرأ أيضاً:
أهم تجاوزات ترامب التي تهز أمريكا فعلا
في الأيام الأخيرة، ومع اقتراب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من بلوغ يومه الثلاثمائة في ولايته الثانية، خاض ما يشبه الجولة الملكية عبر آسيا، مبرمًا صفقات تجارية ومتنعمًا بترف القصور المذهّبة. في كوريا الجنوبية، أهداه مضيفوه نسخة مطابقة من تاجٍ ذهبي قديم، فقال مبتسمًا: «أود أن أرتديه الآن». كانت تلك مزحة تحمل دلالات كثيرة، جاءت بعد أحد عشر يومًا فقط من خروج ملايين الأمريكيين في مظاهرات حاشدة ضد ما اعتبروه نزعة ملكية جديدة في سلطاته، تحت شعار «لا ملوك بعد اليوم» في مئات المسيرات التي عمّت البلاد. بدا واضحًا أن الكوريين يعرفون جيدًا طبيعة ضيفهم.
وأثناء الرحلة نفسها، أعلن ترامب عبر منشور على وسائل التواصل الاجتماعي استئناف التجارب النووية لأول مرة منذ عقود، وأمر بشن ضربة قاتلة أخرى على ما وُصف بأنه قارب لتهريب المخدرات، فيما يبدو أنه حرب غير معلنة تهدف إلى تغيير النظام في فنزويلا. كما هدد، خلال تجمع سياسي أمام حشد من الجيش الأمريكي الذي يُفترض أنه مؤسسة غير حزبية، بإرسال قواتٍ نظامية إلى المدن الأمريكية، وأقرّ بأنه «يودّ» البقاء في منصبه لولاية ثالثة، قبل أن يتراجع على مضض ليعترف بالقيود الصارمة التي يفرضها الدستور.
وفي واشنطن، كان الإغلاق الحكومي مستمرًا للأسبوع الرابع على التوالي، نتيجة جمودٍ سياسي مع الديمقراطيين في الكونغرس، بدا أن ترامب لا يفعل شيئًا لإنهائه، فيما آلاف الموظفين يعيشون بلا رواتب. كان ذلك، ببساطة، أسبوعًا آخر في «عصر ترامب». فالواقع الجديد في أمريكا بات قائمًا على نسيان فضائح الأمس لإفساح المجال لفضائح الغد.
هل تذكرون حين فرض ترامب رسومًا جمركية عقابية على كندا لمجرد أنه غضب من إعلان تلفزيوني؟ أو حين طالب وزارة العدل بدفع أكثر من مائتي مليون دولار كتعويض عن تكاليف التحقيقات التي أجرتها إدارة بايدن ضده؟ أو حين نشر مقطع فيديو مولّدًا بالذكاء الاصطناعي يُظهره وهو يفرغ القمامة على متظاهرين يحتجون عليه؟ كل ذلك كان «في الأسبوع الماضي» وفي عصر ترامب، يبدو الأسبوع الماضي كأنه مضى عليه دهر. الفجوة السوداء التي تبتلع فضائحنا السابقة لا حدود لها.
لذلك أثارت دهشتي موجة الغضب العارمة والدائمة التي أعقبت قرار ترامب هدم الجناح الشرقي من البيت الأبيض من دون أي جلسة علنية أو إذن رسمي. أحد كبار الجمهوريين، وهو ناخب صوّت لترامب أكثر من مرة، وصف الخطوة بأنها «مقززة» و«مريضة». وأظهرت استطلاعات الرأي أن أغلبية واسعة من الحزبين تعارض عملية الهدم. مرّ أكثر من أسبوع، ولا يزال الناس غاضبين ومحتجين. فهل حدث أخيرًا ما اخترق جدار اللامبالاة؟ وهل ما زال ذلك ممكنًا أصلًا؟
في مأدبة عشاء حضرتها هذا الأسبوع، سأل أحد الحاضرين: «ما أسوأ ما حدث منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض؟». جاءت الإجابات مرعبة بتنوّعها وكان من اللافت أن قلة فقط ذكرت مسألة هدم الجناح الشرقي. قال أحدهم: «تخيلوا لو استيقظ رئيس وزراء بريطانيا يومًا وقرر تدمير جناحٍ من قصر باكنغهام». أكثر ما لفتني هو تنوع الردود: من تسييس ترامب للجيش ووزارة العدل إلى إطلاق ثقافة «اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا» الجديدة، التي تمجّد القسوة وتحتفل بها.
قررت أن أواصل النقاش، فطلبت من بضع عشرات من المفكرين والمحللين إرسال آرائهم حول أكثر الأحداث إرباكًا وتأثيرًا ومفاجأة خلال الأشهر الأخيرة.
تدفّقت الإجابات، عميقة، متألمة، وبصيرة، تذكّرني بأن في تسمية المشكلة قيمة بحد ذاتها، حتى لو لم يكن بالإمكان في الوقت الراهن فعل شيء لإيقافها. فهي نوع من المقاومة، وإن كانت غير كاملة، أمام شعور العجز أمام الأحداث المتسارعة؛ دعوة إلى التوقف لحظة لتأملها وتقييمها، والتفكير فيما هو مهم حقًا وما الذي سيبقى من هذا الزمن المربك والتاريخي الذي نعيشه بلا شك.
بعض من تواصلتُ معهم أرسلوا قوائم طويلة من الوقائع الصادمة. فقد عدّد غاري باس، أستاذ السياسة العالمية في جامعة برينستون، سبعة عشر مثالًا قال إنها «مجرد ما خطر ببالي على عجل» من «العفو عن المتمردين المشاركين في أحداث السادس من يناير» إلى «محاولاته التلاعب بالانتخابات حتى لا تنتهي هذه الكابوسية أبدًا».
أما جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، فرأى أن الاستسلام المبكر لشركة المحاماة «بول وايس» لمطالب ترامب كان جرس إنذار حقيقيًا، مضيفًا أنه كان بمثابة «الكناري في منجم الفحم» في إشارة إلى الطائر الذي كان يُستخدم قديمًا لاكتشاف الغازات السامة قبل أن تقتل عمّال المناجم.
وكتبت جيل ليبور، زميلتي في مجلة ذا نيويوركر وأستاذة التاريخ الأمريكي في جامعة هارفارد، وهي أيضًا أستاذة قانون في كلية الحقوق هناك، تقول إنها كانت «مندهشة حقًا» عندما سُئل ترامب عمّا إذا كان يرى أنه ملزم بالدفاع عن الدستور، فأجاب ببساطة: «لا أدري». وأضافت: «كانت إجابة صادمة بالنظر إلى أنه أقسم مرتين أن «يصون ويحمي ويدافع عن الدستور».
وتعلّق ليبور قائلة: «يبدو الأمر تافهًا نوعًا ما، لكنه كشف لي ومضة من الصراحة، ذلك الإيماء الخفيف بكتفيه الذي بدا وكأنه يقول: «أوه، من يدري؟»».
وأشار عدة أشخاص إلى الحدث الاستثنائي في قاعدة كوانتيكو العسكرية، حين ألقى ترامب ومعه وزير حربه المعيّن ذاتيًا بيت هيغسِث محاضرة أمام كبار الضباط الأمريكيين عن ضرورة محاربة «العدو من الداخل» وأضاف هيغسِث مطالبًا الجنرالات «بمزيد من تمرينات الضغط».
وكتب جي. مايكل لَتِغ، القاضي المحافظ السابق في محكمة الاستئناف وأحد أبرز المنتقدين لترامب اليوم، قائلًا: «حين خاطب ترامب الجنرالات من مختلف دول العالم الذين استدعاهم إلى كوانتيكو، حوّل الجيش الأمريكي إلى مؤسسة سياسية في ساعة واحدة من تاريخ أمريكا. شتم رؤساءنا السابقين ووصف الديمقراطيين بأنهم «مجانين يساريون متطرفون»، وأعلن أنه، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، سيستخدم مدن أمريكا الليبرالية من الآن فصاعدًا كـ»ميادين تدريب» لخوض الحرب ضد خصومه السياسيين الذين سمّاهم «العدو من الداخل».»
كتب المؤرخ مايكل كازين من جامعة جورجتاون متأملًا في الطموح غير المسبوق لما يحاول ترامب إنجازه في ولايته الثانية: «أكثر ما فعله اضطرابًا هو أيضًا الأكثر أهمية. لقد سعى ترامب إلى تقويض أبرز المكاسب الثقافية والسياسية التي حققتها الحركات الليبرالية والتقدمية منذ ستينيات القرن الماضي: من برامج التمييز الإيجابي إلى شرعية نقابات موظفي القطاع العام، مرورًا بانفتاح أمريكا على المهاجرين من أنحاء العالم كافة. إن هذا المسعى يبرهن على أن ترامب أكثر الرؤساء جذرية، وإذا نجح إلى حد بعيد فسيُنظر إليه كأكثر رؤساء القرن الحادي والعشرين تأثيرًا، وربما كأحد أكثر الشخصيات السياسية نفوذًا في العالم.»
لكن المشكلة الوحيدة في قائمة كازين الطويلة، التي تضمّنت العديد من الأمثلة الأخرى، أنها ربما كانت ضيّقة جدًا بالمقارنة مع حجم المشهد. فشخصيات أخرى، مثل ريتشارد هاس الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، أضافت قائمة ممتدة من الاضطرابات العالمية أيضًا.
وعند جمع الإجابات كافة، بدت أشبه بتقرير «حصر أضرار المعركة»، كما لو أن الجميع يتحسس جسده بعد الانفجار ليتأكد أي الأعضاء نجا من الدمار. كاد جميع المشاركين يشيرون إلى الموضوعات الكبرى التي تظلل حقبة ترامب منها:
- تسييس مؤسساتٍ كانت في السابق محايدة
- توسّع السلطة التنفيذية إلى حدّ تبرير التجاوزات وحتى الخروج على القانون
- إعادة توجيه عقيدة الأمن القومي الأمريكي بعيدًا عن صراع القوى العظمى مثل روسيا والصين، باتجاه الحرب على «العدو من الداخل»
- الثراء الفاحش الصادم لعائلة ترامب، باستغلالهم سلطة الرئاسة لخدمة مصالحهم الخاصة
- وأخيرًا، انهيار من كان يمكنهم الوقوف في وجهه من الكونغرس إلى المحكمة العليا إلى قيادات المجتمع المدني.
هذا الأخير، في رأيي، كان الأكثر إذهالًا لكثيرين. فترامب لم يعد لغزًا لأحد؛ هو معروف تمامًا الآن. لكن ما يثير الدهشة أنه أصبح مرآة لأمريكا ذاتها، يعكس هشاشتها واستعدادها للاستسلام.
قال مايلز تايلور، المسؤول السابق في وزارة الأمن الداخلي، الذي كتب المقال الشهير المجهول من داخل إدارة ترامب الأولى وتعرّض للتحقيق في ولايته الثانية: «الأمر الأكثر إدهاشًا وكان ينبغي ألا يفاجئنا هو مدى فاعلية التخويف. قطاعات كاملة من المجتمع التي وقفت بوجهه في ولايته الأولى، سُحقت الآن وطرحت أرضًا كما تُرمى المناديل الورقية، ولم تعد تبدي سوى مقاومة واهنة أمام استيلائه على السلطة وحملته للانتقام. لم نكن مستعدين لذلك، وها هو واضح للعيان». وهذا ما يصيبني بالذهول أنا أيضًا. فكم من قرارات فردية صغيرة تراكمت لصنع «ملكٍ أمريكي». وربما هناك سبب وجيه يجعل رئيس كوريا الجنوبية يهديه تاجًا ذهبيًا، أو يجعل قادة شركات عملاقة مثل آبل وأمازون، التي نستخدم خدماتها يوميًا، يقدّمون ملايين الدولارات للمشاركة في هدم الجناح الشرقي للبيت الأبيض. أما الجمهوريون في الكونغرس، الذين تقاعسوا عن أداء واجبهم الدستوري في حماية سلطتهم التشريعية، فقد يبررون صمتهم بأنه الثمن اللازم للاحتفاظ بمناصبهم داخل حزبٍ لا يتسامح مع أي معارض لزعيمه.
وهكذا جاءت كارثة عام 2025: ما بدا منطقيًا على مستوى الأفراد تحوّل إلى جنونٍ جماعي في الواقع. وسأترك الكلمة الأخيرة لصديقتي الجامعية روبي باكستر، مستشارة الأعمال الاستراتيجية ومؤلفة من وادي السيليكون، التي كتبت تقول: «أكثر ما يدهشني هو أن لا أحد يوقفه فعلًا».