سبق منا بيان بعض أسباب إعادة نشر آثار علي عزَّتبيغوڤيتش رحمه الله، وأننا قد دشَّنا هذا المشروع وقد تلخَّص طموحنا في إعادة تقديم الرجل تقديما أمينا -بحروفه هو- دون زيادة أو نقصان.
وعليه، كانت استراتيجيتنا في ذلك جد بسيطة: دقَّة الترجمة وأمانتها، مع ضبط الاصطلاح الفلسفي العربي والحفاظ على اطراده، دون المساس بآراء المؤلف مهما بَدَت "إشكاليَّة" في عيوننا.
لقد كان الاصطلاح الفلسفي، الذي تبلور في المعجم العربي -مع أستاذنا عبد الوهاب المسيري- للظواهر الحضاريَّة الغربيَّة؛ تعزيزا لإدراكنا للظواهر الاجتماعيَّة والنفسيَّة الحداثيَّة، وللمفاهيم الفلسفيَّة التي صيغت لها، وإثراء للغة العربيَّة، بما يُمكننا من إدراك الظواهر الغربيَّة في خصوصيتها وتركيبيتها. ثم يتلو ذلك قدر من التفكيك والتركيب؛ لنُدرِك تجليات هذه الظواهر عندنا،إذا كانت "دقَّة الترجمة" أمرا قد لا يلزمه كثير بيان، فإن ضبط الاصطلاح الفلسفي كان -ولا زال- مسألة مُربِكَة للكثيرين. ذلك أن بعض المترجمين يَعُدُّ الترجمة الحَرفيَّة، باستعمال المرادف المعجمي الشائع؛ هي الترجمة السليمة المطلوبة دوما، بيد أننا نَعُدُّها أصلا ترجمة مُفتقرة إلى الدقة؛ إذ أن هذه الحرفية المعجميَّة التي تُبعدها عن دقَّة الاصطلاح الفلسفي المُحدَّث، وواقع الظواهر المتغيرة؛ تشويش وتشويه وتضليل وما يصح تسميته بنفس الأسماء، وما قد يجوز صك اصطلاحات جديدة له. وأخيرا؛ صك اصطلاح يُعوض النقص البشري الفطري في رؤية المسيري المعرفيَّة، في محاولة منَّا لتغطية أقصى قدر ممكن من احتياجاتنا الاصطلاحية. وقد كان النقص الأخطر في رؤية المسيري وعزَّتبيغوڤيتش -وسائر الجيل- نقصا يتعلَّقُ بـ"قبولهم" لمقولة التطور التقني -والتقنية في عمومها- بوصفها مقولة "حضاريَّة" محايدة، وعليه؛ الأخذ بهذه التقنية الغربيَّة دون تردُّد، وذلك بوصفها "علما مُحايدا".
ثم مَنَّ الله تعالى علينا، وساقنا إلى العلَّامة سيد حسين نصر ومدرسته في فلسفة العلوم؛ فاطَّلعنا على إعادة تعريفهم للعلوم الطبيعيَّة الحديثة، ووجدنا في جهودهم استمرارا بصيرا -لمحاولات من سبق- في تخليص الفكر الإسلامي من الملوِّثات، واطرادا فكريّا واصطلاحيّا يَلتَزِمُ الإسلام، علاوة على أنه مُشرب بإدراك مُركَّب لنسبيَّة مقولة التقنية، ومن ثم؛ لتلوثها العميق -وسائر ما أثمرته- بشرك الغرب العقدي وانحرافه الأخلاقي. وكما أفدنا من أستاذنا المسيري في تعريب لفظة: "nature" في السياق الفلسفي الغربي بوصفها: "الطبيعة/ المادَّة"، التي تمتازُ بخصائص تعكس رؤية كونيَّة مُشرِكة، لا علاقة لها بتصور المسلم للطبيعة المخلوقة؛ فقد منَّ الله علينا بتعريب اللفظة نفسها في السياق الإسلامي التقليدي بوصفها: "الطبيعة المسخَّرة"، وسنُخصص لهذا المبحث الاصطلاحي موطنا آخر يُحيط به، إن شاء الله تعالى.
بيد أن ما يعنينا هاهُنا، أن اطراد هذا الاستعمال؛ كان يعني ألا نقبل تعريب: "science" بوصفه علما مُجرَّدا مُحايدا، يصحُّ به الوصف في كل سياق، وهذا هو مُنجز سيد حسين نصر في تصويب الرؤية الكونية الإسلامية الحديثة، وتخليصها من هذه الشائبة. ليتحقَّق عندنا أن "العلم" مُفردا مُجرَّدا لا يُوصَفُ به إلا العلم الذي يؤدي إلى الله تعالى، فهو علم منه سبحانه يُعيد إليه؛ كان علما بالفقه أو بالفَلَك، بالسُّنة أو بالأحياء؛ فكلها تؤدي إلى الخالق العليم.
أما اللفظة اللاتينية التي عرَّبها بنو جلدتنا خطأ، وأجرموا بها في حق أجيال؛ فإنها لا تُفرَد وإنما تُكثَّر -ولا أقول تُجمَع فهي شتات- إذ فيها تكثير الشرك للآلهة الزائفة، وترك التوحيد ورائها ظهريّا. فصارت المعارف التي ينتجها الغرب، في محاولته التسلُّط فوق الكون: "علوما طبيعيَّة/ ماديَّة"، والنسبة إليها: "علموي"؛ فهي ليست علما مُفردا يُعيدك إلى الله، ولا هي بعلوم طبيعية فطريَّة معبرة عن خضوع الوجود المخلوق لخالقه العليم، وإنما هي رؤية ماديَّة قلبا وروحا ونتاجا، على المستوى الفلسفي وعلى المستوى التطبيقي؛ مادية يُراد بها أن تصرِف عن الله وتصد عن سبيله، وتُكرِّس عبادة عالم الشهود.
هذه الفائدة التي أفدناها في توصيف الظواهر -توصيفا يجتهد في الانضباط اللغوي والفلسفي- من المسيري ونصر -نفعنا الله بعلومهما في الدارين- ودورها في التفكيك المعرفي لهيمنة هذه "العلوم الطبيعيَّة/ المادية" على وعينا وإدراكنا؛ جعلتنا نتحيَّر هُنيهة إلى أي مدى سيكون ذلك "ضبطا" للاصطلاح عند مؤلفنا العزيز، وذلك بوصفه فيلسوفا عميق الفكرة فذَّ البناء.
وقد تبدَّى لنا أن الأمانة في هذا الأمر كافية لتحقيق مُرادنا، وهي عندنا تتفرَّعُ إلى فرعين: أمانتنا معه في ألَّا نُغير رأيه في الظواهر ولا موقفه منها، ثم أمانتنا على اللغة والاصطلاح والتصور؛ بأن نستنفد أقصى وسعنا في نحت تعريب دقيق لأسماء الظواهر (جريا على سنة أستاذنا المسيري)، يحفظ سلامة المعجم العربي ومدلولات ألفاظه من التشوه، ويستخلص تصورات القُراء من التشوش المهيمن. ولذلك مثلا؛ لم نُغير رأيه في العلوم التقنية وقبوله لها، وما ينبني على ذلك في تصوره، بيد أننا سنُعربها ونصف ظواهرها بلفظ عربي أدق؛ يُبرِز أصولها الفلسفيَّة وجذورها العقديَّة، مُصطحبا معها مكون القلق الواضح عند المفكر المسلم في قبوله لها. وهو مكون طبيعي بوصفه مسلما، فما تجلى قبوله هذا إلا بوصفه اضطرارا ممن لم يهتد آنذاك إلى خيار غيره!
تبدَّى لنا أن الأمانة في هذا الأمر كافية لتحقيق مُرادنا، وهي عندنا تتفرَّعُ إلى فرعين: أمانتنا معه في ألَّا نُغير رأيه في الظواهر ولا موقفه منها، ثم أمانتنا على اللغة والاصطلاح والتصور؛ بأن نستنفد أقصى وسعنا في نحت تعريب دقيق لأسماء الظواهر (جريا على سنة أستاذنا المسيري)، يحفظ سلامة المعجم العربي ومدلولات ألفاظه من التشوه، ويستخلص تصورات القُراء من التشوش المهيمن
ونحن بهذا لن نحفظ مُعجم هذا الفيلسوف فذّا كما هو فحسب، وإنما سنزيده عمقا وتجذُّرا في اللغة التي نُقِلَ إليها، وسنزيد مقدرتنا على دمجه في مجالها التداولي دمجا حقيقيّا، خصوصا إذا كان الاطلاع على نصوصه اطلاعا مُدققا؛ يُبرهن -بما لا يدع مجالا للشك- لا على إخلاصه لدينه فحسب، وإنما على قلقه من قبوله بهذه التقنية وتلك العلوم، تحت وطأة العصر والنشأة، واحتياجات الواقع الضاغط.
وقد كان مما وفِّقنا إليه كذلك، بعد الجهد في تحقيق الاطراد الاصطلاحي؛ ألا نجعل استعمالاته المتأخرة (والناضجة) للألفاظ، تطغى على استعمالاته الأوَّلية. فمن الجلي أن كل مفكر يمرُّ بمراحل يتطور فيها تصوره ومعجمه تطورا جليّا، ومن الخطر العبث بنصوصه وإظهارها كأنما كُتبت كلها في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال، فإن استعماله للفظتي "دين" و"إسلامي" في كتاب: "عوائق النهضة الإسلاميَّة"؛ يختلف اختلافا واضحا عن استعمالات اللفظتين إذ نضجت نُضجا بينا في "الإسلام بين الشرق والغرب"، ثم تحدَّدت تحدُّدا أيديولوجيّا حزبيّا صراعيّا في "الإعلان الإسلامي".
وقد اقتضى منَّا تحقيق هذه الدقَّة ألا نوكل العمل لفرد مهما كان، وإنما يمرُّ النص بعدَّة مراحل ترجع إلى قاعدة تحريريَّة واحدة، ابتداء بالترجمة، ثم المطابقة على الأصل البوسنوي كلمة بكلمة، ثم ضبط الاطراد الاصطلاحي والتحرير، ثم مُراجعة الأصل ثانية؛ للتأكُّد من موافقة ذلك الضبط الدلالي والتراكيبي لمُجمل مُراده، ثم التدقيق اللغوي. وقد تتوزَّع كل مرحلة منها على عدَّة دورات؛ إمعانا في الإتقان.
ولعلَّ من أوائل تجليات هذا التدقيق، إعادة كتابة اسمه: علي عزَّتبيغوڤيتش؛ إذ أن الشائع خطأ محض، ويوحي بأن "بيغوڤيتش" هذا اسم لجده، وهو جهلٌ مُطبق! إذ يتكون اسم عائلته من ثلاثة مقاطع: "عزَّت" و"بيغ" و"أوڤيتش"؛ الأول اسم جده الأعلى، والثاني اللقب العثماني لهذا الجد (هو لقب: بک أو بيک؛ الذي شاع بين العرب)، والثالث لاحقة بمعنى ابن (تشبه استعمال اللاحقة "أوغلو" في التركيَّة). وقد أنبئنا بعض الأساتذة البوسنويين المتبحرين في دراسة العربية؛ أن اللاحقة الأخيرة هذه أشبه شيء بياء النسبة في العربيَّة (كما في: المكي، والزمخشري، والهاشمي.. إلخ). فالاسم على هذه الشاكلة، يُكتَبُ مُتصلا في لغته الأصلية؛ فهو اسم شخص واحد ولقبه ونسبته، ولا يجوز تقطيعه. وقد اخترنا الغين على الكاف في مقطع "بيغ"؛ لأنها أقرب للنُطق السلاڤي لها، إذ تُنطَق جيما مصريَّة حلقيَّة، مُشبعة بالغين. أما استعمال الفاء المثلَّثة (تُنطق "v") في المقطع الأخير؛ فهو نُطقها الصحيح في لغتها.
وربما يجدُر بنا الإقرار بأن النهج الاصطلاحي-الفكري الذي تحريناه في انتقاء ألفاظ الكتاب، لا يُمكن أن يحويه مقال؛ لهذا نترك تلمُّسه والإفادة به للقارئ البصير إذ يفتح الله عليه.
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الترجمة الفكر كتب المسلمين الفكر الترجمة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بید أن ة التی
إقرأ أيضاً:
الأزمة التي تحتاج إليها ألمانيا
تُـعَـد ألمانيا النموذج المثالي لكل ما يشوب الاقتصاد الأوروبي من عيوب؛ فالناتج المحلي الإجمالي في طريقه إلى الانخفاض للعام الثاني على التوالي. والصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات والأعمال المعدنية في حالة ركود. كما أعلنت شركات وطنية كبرى، مثل Volkswagen وThyssenKrupp، عن تخفيضات غير مسبوقة في الوظائف وإغلاق مصانعها.
دأبتُ لفترة طويلة على الزعم بأن أفضل طريقة لفهم هذه المشكلات أن ننظر إليها باعتبارها نتيجة سلبية لنجاح ألمانيا الاقتصادي السابق والركائز المؤسسية التي قامت عليها الإنجازات السابقة. وتشكل الوعكة الاقتصادية الألمانية الحالية دليلا آخر على هذا. في أعقاب الحرب العالمية الثانية -فترة من الاضطرابات والأزمات لكنها أيضا كانت فترة من التجديد والفرص- طورت ألمانيا الغربية آنذاك مجموعة من المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي تناسبت بشكل مثالي مع الظروف في ذلك الوقت. وللاستفادة من براعتها القائمة في التصنيع عالي الجودة، وضع صنّاع السياسات برامج ناجحة للتدريب المهني والتلمذة الصناعية، والتي نجحت في توسيع المعروض من الميكانيكيين والفنيين المهرة. لاستغلال التجارة العالمية المتنامية بسرعة واختراق أسواق التصدير العالمية، ضاعفت الصناعة الألمانية من إنتاج المركبات الآلية والسيارات والسلع الرأسمالية، وهي المجالات التي طورت فيها ميزة نسبية واضحة.
في الوقت ذاته، أنشأت ألمانيا الغربية نظاما ماليا قائما على البنوك لتوجيه الأموال إلى الشركات المهيمنة في هذه القطاعات. ولضمان الانسجام في شركاتها الكبرى والحد من الارتباكات في أماكن العمل، طورت نظاما للمشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، والذي أعطى ممثلي العمال مدخلات في قرارات كبار المسؤولين التنفيذيين. وأخيرا، للحد من السياسات الـمُـعَـطِّـلة، وعلى وجه التحديد لكبح جماح ذلك النوع من التطرف السياسي والتفتت البرلماني الذي طارد ألمانيا في الماضي، وُضِـع نظام انتخابي نسبي يسمح لكل أحزاب التيار السائد بأن يكون لها صوت، مع مراعاة العتبة 5% كحد أدنى للتمثيل البرلماني (للحد من نفوذ الأحزاب الهامشية).
كانت النتيجة السعيدة لهذا التوافق بين المؤسسات والفرص هي «Wirtschaftswunder»، «معجزة النمو الاقتصادي» في الربع الثالث من القرن العشرين، عندما تفوقت ألمانيا الغربية على منافسيها من الاقتصادات المتقدمة الرئيسية (باستثناء اليابان).
من المؤسف أن هذه المؤسسات والترتيبات ذاتها أثبتت أن تعديلها أمر بالغ الصعوبة عندما تغيرت الظروف. أصبح التركيز على التصنيع عالي الجودة ينطوي على مشكلات معقدة مع صعود منافسين جدد، بما في ذلك الصين، ومع ذلك ظلت الشركات الألمانية مُـوَظَّـفة بشكل كبير في خدمة هذه الاستراتيجية.
كان مبدأ المشاركة في اتخاذ القرار سببا في إحباط محاولات تغيير تنظيم محل العمل، ناهيك عن إغلاق المصانع غير الاقتصادية. لم يكن تمويل الشركات البادئة في قطاعات جديدة الميل الطبيعي للبنوك الـمُـحافِظة التي اعتادت التعامل مع الزبائن الراسخين المنخرطين في خطوط أعمال مألوفة. كما أسفر النظام الانتخابي النسبي مع العتبة 5% عن نتائج غير مرضية وائتلافات غير مستقرة عندما انتقل الناخبون إلى التطرف، فأصبح حزب البديل من أجل ألمانيا على اليمين وتحالف العقل والعدالة (Sahra Wagenknecht Alliance) على اليسار لكسب التمثيل البرلماني، في حين تُـرِكَ المنتمون إلى الحزب الديمقراطي الحر (Free Democrats) الأكثر اعتدالا عُـرضة لخطر الاستبعاد.
والحلول، كما يبدو، واضحة؛ زيادة الاستثمار في التعليم العالي والإقلال منه في التدريب المهني العتيق الطراز حتى تتمكن ألمانيا من أن تصبح رائدة في مجال الأتمتة (التشغيل الآلي) والذكاء الاصطناعي. وتطوير صناعة رأس المال الاستثماري بما يجعلها قادرة على خوض المجازفات التي لا ترغب البنوك في تحمّلها. واستخدام سياسات الاقتصاد الكلي لتحفيز الإنفاق بدلا من الاعتماد على أسواق التصدير الخاضعة للرسوم الجمركية. وإعادة النظر في نظام المشاركة في اتخاذ القرار والنظام الانتخابي النسبي المختلط الذي لم يَـعُـد مجديا.
أخيرا، وليس آخرا، تخفيف «مكابح الديون»، والتي تشكل إرثا آخر من الماضي يحد من الإنفاق العام. هذا من شأنه أن يسمح للحكومة بزيادة الاستثمار في البحث والتطوير والبنية الأساسية، وهما عاملان حاسمان في تحديد النجاح الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. قد يكون تصوّر مثل هذه التغييرات سهلا، لكن تنفيذها ليس كذلك. فالتغيير صعب دائما، بطبيعة الحال. لكنه صعب بشكل خاص عندما يسعى المرء إلى تعديل مجموعة من المؤسسات والترتيبات التي يعتمد نجاح تشغيلها، في كل حالة، على تشغيل مؤسسات وترتيبات أخرى. تشبه محاولة تنفيذ مثل هذا التغيير استبدال جهاز نقل الحركة في سيارة فولكس فاجن بينما المحرك يعمل. على سبيل المثال، تشعر البنوك الألمانية، التي تعتمد على علاقاتها القائمة مع الزبائن، بأكبر قدر من الارتياح عندما تقرض شركات راسخة تعمل بطرق راسخة.
في المقابل، تعمل هذه الشركات على نحو أفضل عندما تكون لديها علاقات طويلة الأمد مع البنوك التي يمكنها الاعتماد عليها في التمويل. والاستعاضة عن هذه الشركات القائمة بشركات بادئة من شأنها أن تجعل البنوك التي تفتقر إلى الخبرة التي تتمتع بها صناديق رأس المال الاستثماري في مأزق عميق. وإذا أقدمت على الإقراض رغم ذلك فإنها تعرض نفسها لخطر الإفلاس. وإذا استعضنا عن البنوك بصناديق رأس المال الاستثماري، التي لا تهتم كثيرا بشركات ثني المعادن الثقيلة الحركة، فسوف تفقد هذه الشركات القدرة على الوصول إلى التمويل الخارجي الذي تعتمد عليه.
هذه هي طبيعة الجمود المؤسسي في ألمانيا. الخبر السيئ إذن هو أن الأمر ينطوي على تناقض خطير بين الوضع الاقتصادي الحالي في ألمانيا وإرثها المؤسسي، وأن هناك عقبات كبرى تحول دون تغيير هذا الإرث لإعادة تنظيمه بما يتماشى مع الوضع الحالي. أما النبأ السار فهو أن الأزمة التي تدفع إلى إعادة التفكير الشامل في هذا الإرث المؤسسي قد تؤدي إلى كسر الجمود. ولعل هذه هي الأزمة التي تحتاج إليها ألمانيا.