د. نجم الدين كرم الله جيب الله

مع استمرار الحرب في السودان منذ نحو عشرة أشهر، والتي تسببت في انهيار تمام لمؤسسات الدولة وادّت إلى مقتل الآلاف من السودانيين، وتشريد الملايين منهم، إلى جانب انتهاكات جسمية في حق الشعب السوداني، لا توجد في الأفق الآن أي بادرة أمل لوقف هذه الحرب العبثية أو التوصل إلى أي اتفاق كان لوقفها أو حتى إمكانية فتح ممرات إنسانية لمساعدة المدنيين.


يرجع هذا الانسداد التمام في الأفق وغياب الحلول العقلانية لازمة السودان هذه، إلى عدم وجود شرعية دستورية نافذة يمكن الاعتماد عليها لإيجاد حلول عملية عاجلة وضرورية لإنهاء هذه الحرب الدائرة الان في السودان، وإيقاف نزيف الدم وذبح المدنيين وتشريد الملايين وهدم منازلهم وسرقة أموالهم وممتلكاتهم، مع تدمير كامل للبنى التحتية ومؤسسات الدولة الخدمية من مستشفيات ومدارس ومتاحف وجسور ومصانع وغيرها.
إذن في ظل هذا الانسداد السياسي الذي تسبب في تلك الحرب وإطالة أمدها وعدم وجود أي شرعية دستورية راسخة، يمكن في تقديري محاولة العودة مرة أخرى الى الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها في العام 2019 بين الشقين العسكري والمدني. وبالرغم من علاتها ومعارضة العديد من الأطراف السودانية لبعض بنودها، الا انه يمكن ان تصبح المرجع الدستوري الوحيد المناسب لحالة السودان، بشرط ان يتم ذلك بعد اجراء بعض التعديلات في جوهرها، واهم تلك التعديلات في تقديري هي إبعاد الشق العسكري تماماً من الوثيقة الدستورية، واعتباره لم يكن موجوداً، واستبداله بشق آخر مدني متوافق عليه.
على هذا الأساس يمكن عودة بعض أعضاء مجلس السيادة المدنيين الى مناصبهم وتطعيمهم بمدنيين أخريين، وان يتولى مجلس السيادة المدني الجديد التحكم في السلطات العسكرية وتعيين المسؤولين العسكريين واللجان الأمنية المنوط بها حفظ الامن وفض النزاعات وإعادة هيبة الدولة. يمكن أيضاً الشروع فوراً في تشكيل البرلمان المعين كما نصت علية الوثيقة الدستورية.
يجب أيضاً تشكيل حكومة كفاءات وطنية كما نصت عليه الوثيقة الدستورية بعيداً عن المحاصصات السياسية، والاهم من ذلك كله تشكيل لجنة محاسبة ومصالحة وطنية للنظر في جميع انتهاكات الحروب في السودان دون استثناء، على ان تكون هذه اللجنة مستقلة ومهنية فعلياً، تحت اشراف ومحاسبة البرلمان المؤقت ومن ثم البرلمان المنتخب لاحقاً، وكذلك الشروع في التحضير للانتخابات التشريعية.
إن العودة الى الوثيقة الدستورية ونقل جميع صلاحيات الشق العسكري الى شق مدني متفق عليه يمكن ان يكون هو الحل المؤقت والعملي لا يقاف نزيف الحرب والعودة الى الوضع الطبيعي، ويرجع ذلك لعدة أسباب هي التالية:
 أولاً هذه الوثيقة هي آخر المرجعيات الدستورية المتفق عليها خلال الثورة الشعبية (دستورية ثورية)، وأعتبر الانقلاب عليها في اكتوبر ٢٠٢١ هو انقلاب عسكري على الدستور الانتقالي أي الوثيقة الدستورية،
 ثانياً اي مفوضات جديدة قد تستغرق وقتاً طويلاً وقد تنشأ خلافات أكثر،
 ثالثاً هناك إمكانية أكبر في تقديري ان تحظى الوثيقة الدستورية المعدلة بقبول الغالبية الكبيرة من الأطراف السودانية، ولاسيما انها نتاج للثورة السودانية التي فجرها الشعب السودان نفسه وحظيت بقبول محلي وإقليمي دولي وعالمي،
 رابعاً ان تعديل الوثيقة الدستورية والاعتماد عليها كمرجعيّة دستورية قد يساعد في إبعاد أو على الأقل تقليل التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، كما قد تساعد على الإجماع الوطني أكثر من فتح حوار جديد،
 خامساً والاهم في ذلك هو ان العودة للوثيقة الدستورية قد تلجم الأطراف العسكرية المتحاربة الآن والتي تدعي أنها لا ترغب في السلطة والحكم وتريد تسليمها للمدنيين وتريد اعادة الديمقراطية للشق المدني،
إذن هذا الخيار يمكن يكون طوق نجاة لنجدة الشعب السوداني من براثن الحرب اللعينة والتي قضت على الأخضر واليابس في هذ البلد العظيم.

karamalla@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الوثیقة الدستوریة فی السودان

إقرأ أيضاً:

هل انقلبت موازين القوى في حرب السودان؟

هل انقلبت موازين القوى في حرب السودان؟

فيصل محمد صالح

شهدت الساحة السودانية تطورات كبيرة خلال الأسبوعين الماضيين، بخاصة على المستوى العسكري؛ إذ حققت قوات الجيش انتصارات كبيرة على «قوات الدعم السريع» في ولايتَي الجزيرة والخرطوم، تغيرت بسببها موازين القوى العسكرية.

بدأت قوات الجيش والمجموعات المتحالفة معها، ومنها قوات «درع السودان» بقيادة أبو عاقلة كيكل، و«كتائب البراء بن مالك» التابعة للحركة الإسلامية، وبعض كتائب القوات المشتركة لحركات دارفور المسلحة، هجومها الواسع لاستعادة مدينة ود مدني الاستراتيجية، عاصمة ولاية الجزيرة من محاور عدة، واستطاعت دخولها بسهولة تشبه احتلال «قوات الدعم السريع» لها قبل نحو عام.

كان المظهر المتكرر لكل المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها، بما فيها مدينة ود مدني، هو تراجع «قوات الدعم السريع» وانسحابها قبل وصول قوات الجيش، بحيث لم تدر معارك كبيرة إلا في المحاور الخارجية عند تقدم قوات الجيش نحو المدينة، لكن عند وصوله للمدينة دخلها بشكل سريع وبلا مقاومة. هذا الانسحاب المتكرر لا يقلل من أهمية انتصار قوات الجيش، ولا يقلل من الهزيمة التي تلقتها «قوات الدعم السريع»؛ فالانسحاب لم يكن عملية طوعية، لكنه تم تحت وطأة هجوم قوات الجيش من محاور متعددة، والتأكد من الهزيمة المتوقعة.

تكرر السيناريو ذاته في بعض مناطق ولاية الخرطوم، حيث حقق الجيش انتصارات كبيرة في منطقة وسط الخرطوم بحري؛ إذ التقت القوات القادمة من شمال المدينة مع قوات «سلاح الإشارة» المتخندقة منذ بدء الحرب في ثكناتها على ضفاف النيل الأزرق، ثم انطلقت نحو القيادة العامة للقوات المسلحة ومنطقة وسط الخرطوم. ويمكن القول الآن إن كل منطقة وسط الخرطوم بحري صارت في قبضة القوات المسلحة، وكذلك أجزاء من منطقة وسط الخرطوم، وتبقت مناطق ومواقع محددة لن تصمد طويلاً في يد «قوات الدعم السريع». لكن ما سر الانهيار السريع لـ«قوات الدعم السريع»؟

السبب الأساسي له علاقة بالانتشار الواسع الذي تورطت فيه «قوات الدعم السريع»، بحيث لم تستطع تأمين المناطق التي تحتلها، وكان رهانها الأساسي، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023، هو افتقاد الجيش قوات مشاة قادرة على الحركة السريعة وحرب المدن بسيارات سريعة وخفيفة تلتف على المدرعات والدبابات البطيئة الحركة. نتيجة لهذا التفوق سيطرت «قوات الدعم السريع» خلال أيام على كل ولاية الخرطوم باستثناء مواقع عسكرية محدودة، ثم امتدت للسيطرة على ولاية الجزيرة، مثلما سيطرت على كل إقليم دارفور، عدا مدينة الفاشر، وأجزاء من ولاية كردفان.

في خلال هذه الفترة استوعبت قوات الجيش آلاف المقاتلين، كما حصلت على كميات كبيرة من الآليات والأسلحة، وسجلت تفوقاً كبيراً باستخدام سلاح الطيران بعد حصولها على طائرات حديثة من دول صديقة. ويبدو أن تفوق سلاح الطيران لعب الدور الأساسي في تحطيم قدرات «قوات الدعم السريع»، وفتح الطريق أمام قوات المشاة لتتقدم على جبهات عديدة.

الموقف الآن يقول إن قوات الجيش استعادت السيطرة على معظم محليات أم درمان، عدا الجزء الجنوبي حتى جبل أولياء، وكذلك الأمر في منطقة بحري، حيث لم تتبقَّ إلا منطقة شرق النيل، وتحتاج قوات الجيش لأيام قليلة لتبسط سيطرتها على منطقة وسط الخرطوم، وتتبقى الأحياء الجنوبية في يد «قوات الدعم السريع».

واقع الحال يقول إن بقاء «قوات الدعم السريع» في بعض مناطق ولايتَي الخرطوم والجزيرة لم يعد ممكناً، إلا إذا دفعت بمجموعات جديدة، وهذا لا يبدو ممكناً في الوقت الحالي. وبالتالي، فإن التركيز سيبقى على إقليم دارفور وبعض مناطق ولايات كردفان، وهو ما يبدو مطابقاً لتوقعات سابقة بأن تتركز قوات كل طرف في مناطق معينة ويبقى واقع تقسيم السودان ماثلاً، سواء تكونت حكومة موالية لـ«قوات الدعم السريع» أو لا.

هذه الانتصارات العسكرية على الأرض لا تتجاهل إمكانية الوصول لتسوية سياسية لإنهاء الحرب، بخاصة مع وصول دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وإعلانه أنه سيعمل لوقف كل الحروب، وبدأ بحرب غزة. تتوقع كل الأطراف ضغوطاً أميركية كبيرة خلال المرحلة القادمة لإنهاء الحرب، تشمل أطراف الحرب والدول الداعمة والممولة للحرب. لهذا تبدو هذه التحركات والانتصارات العسكرية مهمة لتعديل موازين القوى وتحسين المواقف التفاوضية، وقد نشهد خلال فترة قصيرة بدء جولات تفاوضية في منبر جدة أو منابر جديدة؛ فما بدأته الحرب ستكمله السياسة.

* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

الوسومأم درمان الجيش الخرطوم الدعم السريع السودان بحري فيصل محمد صالح

مقالات مشابهة

  • هل انقلبت موازين القوى في حرب السودان؟
  • وزير شؤون الأسرى الفلسطينيين الأسبق: الاحتلال لم يوقف حربه على غزة بشكل كامل
  • عادل الباز يكتب: سياسة ترمب تجاه السودان
  • جامعة الخرطوم تستأنف مسيرة العطاء
  • إعلام العدو: كلفة الحرب بلغت 150 مليار شيكل حتى نصف يناير الجاري
  • مقال الرزيقي
  • تداعيات الحرب السودانية تفاقم معاناة جبال النوبة
  • ثورة الكرامة.. ثورة مائة الف شهيد
  • فلسطيني يوثق مشاهد العودة إلى منزله في شمال غزة.. ماذا حدث؟
  • فتح ممر نتساريم.. عودة سكان غزة إلى الشمال بين الزيارة المؤقتة ونهاية الحرب