هل ستغيّر النخب السودانية طريقة التفكير أم ستستسلم للعدم؟
تاريخ النشر: 23rd, January 2024 GMT
بعض الأحيان عندما يعم الكسل الذهني و يكسد الفكر و تستكين النخب لليأس و الإحباط و تستسلم لأن يلفها ثوب العدم سرعان ما يفرز المجتمع حممه بإنفجار بوابات التاريخ الخلفية ليحطم كل السدود المقامة أمام مجرى التاريخ لكي يستعيد مساره من جديد.
ظاهرة المجتمع البشري يسوقها إدراك بأن فكرة اليد الخفية لم تعد تعمل في ظل نضوج تجربة الإنسان في حيز ضمير الوجود.
و هذا ما قدمته حنا أرنت في مجهودها الفكري في مكافحة النظم الشمولية المتمثلة في الشيوعية التي لا تقل بشاعتها عن النازية و الفاشية. حنا أرنت قدمت فكر سياسي يغوص في تاريخ أوروبا منذ أيام إفلاطون و فكرة اليد الخفية التي تحرك من وراء الستار مجتمع افلاطون و عوالمه المثالية الى أن وصلت الى روح عصرنا الحديث حيث وضوح الرؤية و نضوج الهدف فيما يتعلق بمعادلة الحرية و العدالة و تشترك مع مارتن هيدجر في فكرة أن هناك بداية خاطئة للفلسفة منذ أيام إفلاطون و ينبغي إصلاح الخطاء لهذ السبب تعتبر جهود حنا أرنت الفكرية خط موازي في الفكر السياسي لخط ماتن هيدجر في الفلسفة لإصلاح البدايات الخاطئة في الفكر السياسي منذ أيام افلاطون.
إستفادت حنا أرنت من أنثروبولوجيا عمانويل كانط و أنثروبولوجيا الفكر الليبرالي و قد إنتصر فكرها للحرية و الفكر الليبرالي و قد كشفت عيوب النظم الشمولية المتمثلة في الشيوعية و النازية و الفاشية و غياب فكرها الكانطي من ساحتنا السودانية يجعل النخب السودانية تستكين للشيوعية التقليدية وسط الشيوعيين السودانيين و الايمان التقليدي وسط الكيزان و أحزاب الطائفية بل جعلت بعض الشيوعيين التقليديين في حالة تلازم بلا قسور مع الخطاب التقليدي الديني السوداني كما رأينا حالة تماه كمال الجزولي مع فكرة تخليد فكر الامام الصادق المهدي و ايمانه التقليدي. و الغريب نجد أن تماه كمال الجزولي مع فكر الصادق المهدي و ايمانه التقليدي قد وجد إستحسان من أغلب النخب السودانية لدرجة يمكنك أن تستدل به على مستوى تدني وعيه النخب السودانية و ضعفهم امام الايمان التقليدي.
للأسف عندنا في السودان نجد النخب السودانية ما زالت مستسلمة لفكرة اليد الخفية و نجد أغلب النخب السودانية لم تخرج بعد من فكرة أحزاب تسعى لتحقيق فكرة دولة الإرادة الإلهية كموازي لفكرة اليد الخفية كما نجدها في أحزاب الطائفية بقيادة الامام الصادق المهدي و الختم و كذلك لا يختلف عنهما أتباع المرشد أي كيزان السودان و الأدهى و أمر يتبعهم أتباع الأستاذ الشيوعي السوداني منقادون بلاهوت و غائية الهيغلية و الماركسية كالسائر في نومه نحو نهاية تاريخ متوهمة.
قلنا أن أوروبا ما بين الحربين العالمتين عندما إنسدت بوابات التاريخ الامامية جاءت الإنفجارات من البوابات الخلفية لكي يكسح سيلها السدود الامامية و كانت أحداث متسارعة لتنهي نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و تفتح الطريق لفلسفة التاريخ الحديثة.
و هذا ما يحدث الآن في العالم العربي و الإسلامي الذي ما زال يرزح تحت فكرة اليد الخفية التي تظلل إدراك الشعوب و تصيبها بالنعاس و تستكين لفكر من يريد تأسيس حكم تسلطي و هو مطمئن لأنه متناسي مكر التاريخ ها هي مصر عبد الفتاح السياسي ستواجه أزمة اقتصادية و ستكون قمة دالة الإختناقات الاقتصادية في مصر في عام 2024 و هذا سيفتح أعين النخب المصرية بأن لا حل لمصر من التشظي الاجتماعي و الإختناقات الاقتصادية بغير التحول نحو تأسيس نظام حكم ديمقراطي ينهي طموح المجسدين لفكرة سلطة الاب و ميراث التسلط كما يعتقد السيسي في مصر.
و تجربة النظم الديمقراطية تقدم وعي جديد بأن قادة النظم الشمولية على خطاء شنيع و هم يظنون الظنون بفكرة القائد الضرورة و هاهي النظم الديمقراطية في المجتمعات الأوربية تقول لنا أن روح عصرنا الحديث متجددة على الدوام و تحتاج لتجدد مستمر في الأفكار في مواجهة صعاب مجتمعنا الحديث المتجددة و الممسكة بخناق بعضها البعض.
لهذا لا يستطيع أي حزب أن يقدم الجديد في مواجهة أكثر من ثلاثة دورات إنتخابية أي لا يتجاوز نجاح زعيم أي حزب في طرح الجديد من الأفكار على مدى يزيد على أكثر من عقد من الزمن أو ما يعادل دورتين في الانتخابات ليفسح المجال لغيره كما رأينا مارغريت تاتشر و هكذا تتجدد المجتمعات الحديثة و هذا هو سر روح النظم الليبرالية.
رئيس مصر سيفتح عينيه على وسعهما في ظل الازمة الاقتصادية التي ستطوي مصر خلال عام 2024 و هذا سيقول الكثير للنخب المصرية المتحلّقة حول دكتاتور كالسيسي يريد التأسيس لنظام حكم تسلطي إلا أن التطور المتلاحق للأحداث يقول للسيسي لا يمكنك أن تتسمّر في كرسي الحكم كما فعل صدام حسين و الغذافي لأن الأحداث ستتلاحق في شكل تشظي اجتماعي نتاج الأزمات و الإختناقات الاقتصادية المتلاحقة.
و بالتالي لا حل بغير التحول الديمقراطي في مصر على المدى البعيد أي تغيير يقوم على الفكر الليبرالي و ليس كانتخابات مصر الأخيرة التي أعادت السيسي و لا تختلف عن إنتخابات زمن صدام حسين و غيره من الدكتاتوريين في العالم العربي و الإسلامي.
ما أود قوله للنخب السودانية أن زمننا المعاصر يتطلب تغيير شامل لطريقة التفكير القديمة و قد أصبحنا في زمن ستتلاحق فيه الإختناقات الاقتصادية و تعجّل بعدم الإستقرار السياسي لأي نظام يتشكك في النظام الديمقراطي الليبرالي و هذا يحتاج لمجابهة واقع الكساد الفكري الذي يخيّم على أفق النخب السودانية على مدى القرن الأخير.
إذا كان هناك فكر يرسخ لفكرة أن لا يوجد حزب سياسي يستطيع تقديم فكر يحل مشاكل المجتمع لأكثر من عقد من الزمن لما عشم الكيزان في العودة و عرقلوا مسيرة التحول الديمقراطية أيام حكومة حمدوك الإنتقالية و خاصة أن تجربتهم لثلاثة عقود في الحكم أي الكيزان تثبت ما يؤكد أن النظام الليبرالي الديمقراطي محق في أن لا جديد يمكن أن يقدمه أي حزب بعد عقد من الزمن و هذه فائدة الديمقراطية الليبرالية.
و كذلك كان أيضا سيفتح مثل هذا الوعي طريق جديد لأتباع الشيوعية التقليدية السودانية التي ما زالت تعتقد في نهاية التاريخ لكي تدرك بأن مسيرة الإنسانية بلا قصد و لا معنى و مشاكلها متجددة و يجابهها كل جيل بعقلانيته و أخلاقه و لا مكان معها لنهاية التاريخ و لا الإنقلابات العسكرية كما فعل البرهان. أوهام الشيوعي السوداني في مسألة تقديم حلول نهائية كما تتوهم الشيوعية تجعل الشيوعي السوداني ضحية طرحة الجذري و في ظل ظروف حرب يتحدث الشيوعي السوداني عن النقابات و هلوسات لا يقدر على عدم الخجل عليها إلا الشيوعي السوداني.
أضف لذلك معنى أن الديمقراطية الليبرالية هي ليست نظام حكم سياسي فحسب بل هي فلسفة ترسيخ فكرة العيش المشترك بعد تحقيق مبدأ العدالة و المساواة التي لا يمكن تحقيقها عبر أي خطاب ديني أي دين فالديمقراطية الليبرالية هي بديلا للفكر الديني و هي تنشد علاقة الفرد بالدولة مباشرة في سبيل تحقيق المسؤولية الاجتماعية نحو الفرد و لا يتحقق كل ذلك بغير عقلنة الفكر و علمنة المجتمع و هذا هو الذي يقطع الطريق أمام إنقلابات الجيش و كذلك يقطع الطريق أمام مغامرات أي مغامر مثل حميدتي يتحدر من مجموعة رعوية لم تصل بعد لمستوى المجتمعات التقليدية.
الجديد في الأمر أن المجتمع حتى في دول العالم الثالث وصل لمستوى من التعقيد يمكنك أن تقول معه أي إنقلاب عسكري سرعان ما يجابه إختناقات اقتصادية و تقلبات اجتماعية ستقصّر من عمر بقاءه و هذا الذي سيجابهه السيسي في مصر و كما قلنا سوف يعاني نظامه من الأزمة الاقتصادية خلال عام 2024 و لا حل لمصر غير التحول الديمقراطي و لا يتأتى أي تحول ديمقراطي في مصر بغير خروج المثقف المصري من أزمته المتجسدة في مساعدته لأي دكتاتور كالسيسي ليؤسس نظام حكم تسلطي.
و خروج المثقف المصري من أزمته تساعد كثيرا في التحول الديمقراطي في مصر و في العالم العربي إذا ما إتبع المثقف المصري المأزوم أفكار هشام شرابي في تفكيكه لأزمة المثقف في العالم العربي أو كما تحدث عن أزمة المثقف العربي محمد أركون.
يمكننا أن نقول أن فكر محمد أركون يمكنه أن يساعد نخبنا السودانية في الفكاك من قيود الفكر الديني و أغلاله الدوغمائية و قد رأينا أن أغلب النخب السودانية تحاول الترقيع في توفيقها الكاذب مابين عقل الحداثة و الفكر الديني و ايمانه التقليدي المسيطر في السودان. مثلا نجد ذلك في محاولات عبد الخالق محجوب في بحثه لدور للدين في السياسة و نجد محاكاة محمد ابراهيم نقد لعبد الخالق في حوار الدولة المدنية و نجد أن محمد ابراهيم نقد أوصى بعلمانية محابية للأديان و لا يختلف عنهم كمال الجزولي في لقاء نيروبي و هو يقر بأن الدين يمكنه لعب دور بنيوي في السياسة و الاقتصاد و الاجتماع.
و مثله نجد الشفيع خضر ينادي بمساومة تاريخية بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني و الحاج وراق ينادي بمهادنة الطائفية و النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية و المذكورين أغلبهم من أتباع الحزب الشيوعي السوداني و هذا يؤكد أزمة المثقف السوداني و خوفه من الخطاب الديني و يتم عقدهم الفريد الدكتور النور حمد بطرحه المؤالفة بين العلمانية و الدين و هذا يجعلك تقول ما قاله هشام شرابي أن أزمة المثقف العربي تجعله محبط و يائس و مستسلم للعدم كحال المذكورين في أعلاء المقال و مهادنتهم للخطاب الديني الذي يمثل أكبر حاضنة لثقافة تنتج من يكرس لسلطة الاب و ميراث التسلط.
يبقى في الختام أن التحول الديمقراطي في السودان قد أصبح ممر إلزامي و يحتاج لتغيير طريقة تفكير النخب السودانية التي لا تعرف التفكير خارج حقول وحل الفكر الديني في زمن قد أصبحت فيه الديمقراطية الليبرالية هي البديل للفكر الديني أما الدين كظاهرة اجتماعية فهو سيظل كشأن فردي ينظم علاقة الفرد بربه دون وساطة تجار الدين من كل شاكلة و لون و يبقى صراع الفرد مع مجتمعه تنظمه معادلة الحرية و العدالة لأن الدين لم يعد كجالب لسلام العالم وفقا لمارسيل غوشيه المستلف من ماكس فيبر.
و عليه تبقى مسألة فصل الدين عن الدولة هي أول الخطوات المؤدية الى أعتاب الدولة الحديثة و أول الخطوات التي تجعل المجتمع السوداني في تلازم مع الإنسانية التاريخية و الإنسان التاريخي و في وئام مع عقل الأنوار و أفكار الحداثة التي قد قضت على جلالة السلطة و قداسة المقدس كما يقول الشاعر الفرنسي بودلير.
و حينها يمكننا أن نقول أن النخب السودانية قد حققت القطيعة مع تراثها الديني و ايمانها التقليدي و بعدها لا يحتاج المثقف السوداني أن يتماه مع رجل دين كالصادق المهدي و أقصد أن الصادق المهدي كان أقرب لرجل الدين من السياسي و لهذا أي تواطؤ معه كما كان يفعل كمال الجزولي و الحاج وراق في لجنة تخليد فكره و قد وجدا إستحسان من أغلب النخب السودانية و نحن نقول لهم أي للنخب السودانية أنكم قد إستسلمتم لليأس و الإحباط المفضي للإستسلام للعدم كما يقول هشام شرابي في تفكيك أزمة المثقفين العرب.
taheromer86@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدیمقراطیة اللیبرالیة التحول الدیمقراطی الشیوعی السودانی فی العالم العربی الصادق المهدی الفکر الدینی کمال الجزولی نظام حکم فی مصر
إقرأ أيضاً:
العصيدة.. ضيفة المائدة السودانية في رمضان
أحمد عاطف (القاهرة)
تتصاعد روائح الأطعمة الشهية في رمضان، معلنة عن مجموعة متنوعة من الأكلات في السودان، لاسيما العصيدة الشهيرة، التي لا يخلو منها منزل، كما يشتهر السودانيون بعدد من المشروبات الرمضانية المتوارثة عبر الأجيال.
يبدأ السودانيون رمضان بوجبة سحور مميزة، وهي الرقاق الذي يُحضّر من مزيج الدقيق واللبن والسكر، يخبَز على شكل رقائق مقرمشة، وبعد نقعه في اللبن البارد يتحول إلى وجبة سحور محببة تمنح الطاقة والقدرة على تحمل ساعات الصيام الطويلة.
وعلى مائدة الإفطار، تتنافس السيدات في إعداد الأطباق التقليدية، وأبرزها العصيدة التي تُشكَّل على هيئة دائرة وسط الطبق، وتُقدَّم بجانب ما يُعرف باسم الملاح، وهو الحساء الذي يرافقها، وتختلف أنواع الملاح، فمنه ملاح التقلية المصنوع من اللحمة المفرومة وملاح الروب المحضّر باللبن.
وتظهر أطباق أخرى مثل البليلة العدسية والقراصة التي تُعدّ بديلاً للعصيدة، وهي نوع من العجين المملح يطهى على صاج ساخن ويقدَّم مع الصلصات المختلفة، مما يجعلها خياراً مميزاً للإفطار.
ولا تكتمل المائدة السودانية في شهر الصوم من دون مشروب الأبري، أو كما يُعرف بـ"الحلو مر"، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من 5 آلاف عام وفقاً لبعض الروايات الشعبية، وفي روايات أخرى فإن اكتشافه يعود للعام 1860، عندما حاولت سيدة سودانية إنقاذ كمية كبيرة من حبوب الذرة بعدما غمرتها مياه الأمطار، فقامت بطحنها وتخميرها مع إضافة البهارات، لتنتج في النهاية مشروباً منعشاً بنكهة فريدة.
ويقدَّم "الحلو مر" مع الماء والسكر ليمنح الصائمين انتعاشاً في ظل الحرارة العالية بالسودان، ولا تزال السودانيات يتوارثن صناعته، ويقمن بتصديره إلى المغتربين في الخارج.