آليات تتبناها أدمغتنا لمواجهة أزمة الإنتباه
تاريخ النشر: 17th, January 2024 GMT
تتعدد مشتّتات الانتباه بسبب كمّ المعلومات التي تصل إلينا حاليا من خلال الوسائط الرقمية. ولكي نتمكّن من فهم "أزمة الانتباه" هذه على نحوٍ أمثل ونصل إلى الممارسات الحميدة بهذا الخصوص، قام جون فيليب لاشو، الباحث في علوم الأعصاب ومدير برنامج أتول (Atole)(1)، بفك آليات عمل الدماغ في كتابه الموسوم "الانتباه، هذا شيء يتم تعلّمه"، والصادر عن دار نشر MDI بشراكة مع شبكة كانوبي (Canopé).
لا يمكن إنجاز مهمّتين تتطلبان التركيز في الوقت نفسه وبشكل صحيح..
ولهذا السبب تحديدا يُحذر استعمال الهاتف أثناء القيادة. وإذا لم تكن مقتنعا فحاول أن تحسب ذهنيا عدد مرات ورود حرف الواو في هذا النص، وتبحث في الوقت ذاته عن أسماء سبع مدن تبدأ بحرف الباء. أو حاول أن تحسب عدد مرات ورود حروف الواو والتاء والسين في هذه الفقرة، وفي قراءة واحدة بطبيعة الحال. حظّا موفّقا!
توجد أدبيات علمية تعجّ بالمشاكل التي تطرحها عملية إنجاز مهمّتين معقّدتين في الوقت نفسه. تركّز المقالات التي تنتمي إلى هذا الحقل بشكل أساسي على تحديد ما يسمى "عنق الزجاجة المركزي" (Central Bottleneck). يتشكّل هذا العنق من مجموعة مناطق في الدماغ تتدخّل في كل المهام التي تتطلب التركيز. وعلى شاكلة عنق الزجاجة الذي يحدّ من سرعة تدفق الماء، فإن هذا العنق المعرفي – والذي يقع تحديدا في قشرة الفص الجبهي – هو أيضا يُرغم المهام التي تتطلب التركيز على أن تُنجز تباعا الواحدة بعد الأخرى. وفقط حينما يتم تكرار بعضها ما يكفي من المرات لكي تغدو آلية، يمكن آنئذ إنجازها في الوقت نفسه.
عندما نفهم ما هي مجموعة المهام (task-set) - هذا التمثيل العصبي للتعليمات التي تخص مهمة ما – يغدو من السهل أن نفهم أن تزامن مجموعتين من المهام نشطتين في وقت واحد على مستوى قشرة الفص الجبهي ليست فكرة جيدة، لأنه عند إدراك مثيرٍ ما، تحاول مجموعتا الخلايا العصبية تحفيز أفعال قد تتعارض مع بعضها البعض. من الممكن أيضا أن تتعارض هذه الأفعال مع بعضها البعض حينما يتعلق الأمر بمجموعة الانتباه - ما يجب الانتباه إليه – والدخول في صراع أثناء زيادة حساسية المناطق الحسّية. لقد تمت دراسة هذه الظاهرة جيدا في الحالات التجريبية التي تتطلب من المشاركين المرور سريعا من مهمة إلى أخرى.
وعلى سبيل المثال، حينما ينتقل شخص ما من مهمة تتطلب منه الانتباه إلى الوجوه إلى مهمة قراءة، تبقى مناطق القشرة البصرية في الدماغ المتحسّسة للوجوه في حالة حساسية عالية بسبب تأثير القصور الذاتي (inertia)، حتى لو لم تعد هذه المناطق ضرورية للمهمة التالية. يستمر الشخص رغما عن أنفه في الانتباه إلى الوجوه، مما يؤدي إلى انخفاض أدائه في مهمة القراءة المقترحة أثناء التجربة. وإجمالا يمكننا القول إنه من الأفضل أن يكون لديك في كل مرة قصد واحد واضح، ومجموعة مهام واحدة، وبالتالي مجموعة واحدة من الخلايا العصبية النشيطة.
يُصرّ بعض التلاميذ على أن باستطاعتهم الاستماع إلى الدرس والقيام بالرسم أو اللعب بالأشياء في الوقت نفسه، وعلى أن هذا يساعدهم فوق ذلك على التركيز. ويقول آخرون إنهم بحاجة إلى الاستماع إلى الموسيقى أثناء العمل في المنزل أو أن بإمكانهم إرسال رسائل نصية والإنصات إلى ما يقال لهم في نفس الوقت. هذا ليس خطأ بالضرورة، لأن كل شيء يعتمد على مدى استمرارية الانتباه الذي تتطلبه المهمة الرئيسية.
من الممكن فهم ما يقوله شخص ما، إذا تعلق الأمر بمحادثة بسيطة حول موضوع مألوف، من خلال إعادة بناء الرسالة انطلاقا من بضع كلمات تُلتقط بين الفينة والأخرى. يكون الفهم سطحيّا لكنه يبقى ممكنا. وحينما يخربش التلميذ رسومات على ورقة أو يلعب بقلمه، فإن تركيزه لا ينخرط حقا في هذه المهمة، فهو لا يسعى إلى تحقيق إنجازٍ فني. وعلى النقيض من ذلك، يجب التوقف عن أي نشاط ثانوي عندما يزداد مستوى التركيز الذي تتطلبه المهمة الرئيسية؛ ويمكن لجميع السائقين الذين يوقفون عفويّا راديوهات سياراتهم عندما تصبح القيادة أكثر صعوبة أن يشهدوا على ذلك.
إذا كنت لا تزال تواجه مشكلة في إقناع نفسك بذلك، فاحسب ذهنيا 12 ضرب 14 وقم في الوقت نفسه بتلاوة أحرف الأبجدية بالمقلوب... والآن بعد أن أصبح لديك فكرة واضحة حول ما يمكن الشعور به عند تنفيذ مهمتين في نفس الوقت تتطلب كلاهما التركيز، يمكنك أن تفكر للحظة من أجل تحديد المواقف الدراسية التي تدفع تلاميذك إلى القيام في الوقت نفسه بأمرين لم يتحوّلا بعدُ إلى أمور آليّة لديهم، مع العلم أنهم قد اكتسبوا آليّات أقل بكثير مقارنة بالبالغين.
من الشائع أن تحاول التركيز على شيئين في وقت واحد دون إدراك ذلك
هل تجد نفسك أحيانا غير قادر على المضي قدما في عملك لأنك تتوقع مكالمة هاتفية مهمة تستعد لها على نحو واعٍ أو من دون وعي منك؟ إنها واحدة من تلك المواقف الشائعة حيث ينقسم انتباهنا بين أولويّتين، لأنه ما لم تُفرغ ذهنك من هذا الأمر المستعجَل، فسوف تفكر فيه بشكل منتظم حتى لا تنساه، مما يرغمك على الانتباه إليه. ومع القليل من التأمل الداخلي، ستلاحظ أن الشعور بالعبء العقلي الزائد غالبا ما يكون سببه هو محاولة مؤسفة للانتباه إلى شيئين في وقت واحد.
عندما يكون المرء خجولا بعض الشيء، فإن تقديم عرض أمام زملاء الفصل يمكن أن يكون مناسبَة لتعدّدٍ "سيّئ" للمهام: يركّز الطالب على ما يريد قوله بينما يراقب باستمرار ردود فعل جمهوره. إنه يراقب أدنى علامة على السخرية بينما يتأكد من عدم نسيان أي شيء مهم، مع إلقاء نظرة قلقة على مدرّسه. وعلى الرغم من أن الأمر يبدو وكأنه يتعلق بمهمة واحدة، إلّا أن هذا العرض يمزج في الواقع بين العديد من المهام التي تتنافس مع بعضها البعض والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى ازدحام مروري حقيقي، ناهيك عن القلق الذي يشوّش أيضا على التركيز: يتوقف الطالب ويحمّر خجلاً، فاقدا لوسائله ويعجز عن معرفة ما سيقول، ثم يحاول استئناف عرضه الذي يكون قد نسيه جزئيا. ومن الشائع جدا أن نطلب من التلاميذ التركيز على مهمّتين في وقت واحد دون الوعي بذلك.
حالما نواجه صعوبات في إنجاز مهمة معقدة، من الجيد أن نسأل أنفسنا عمّا نحاول القيام به: ألسنا إزاء مطاردة عدة أرانب في نفس الوقت؟ ألا يضع المدرّس التلاميذ أحيانا في موقف تعدّد "سيء" للمهام دون أن يدرك ذلك؟ هل من الجائز أن نطلب منهم نسخ ما هو مدوّن على السبورة بينما نقوم بشرح شيء آخر؟ الجواب لا، ومن الأفضل تجنب ذلك. غير أنه من الشائع ارتكاب هذا النوع من الأخطاء ونحن في قلب الحدث.
وكما رأينا سابقا، فإن ذاكرة النّوايا تحمل اسما هو: "الذاكرة المستقبلية". إنها الذاكرة التي يتراكم فيها كل ما يتعيّن علينا القيام به لاحقا (أو بعد ذلك مباشرة) ويجب ألا ننساه. إن هذه الذاكرة هي التي تجعلك تضع مجلتك جانبا وتنهض من أجل مراقبة طهي المعكرونة التي ستتناولها في عشائك. ويبدو أن هذه الذاكرة تشغّل أساسا الفصّ الجبهي، وهو المنطقة الأبرز في القشرة الدماغية الواقعة في مقدمة الدماغ على بعد سنتيمترين فقط خلف حاجبيك.
تؤدي هذه المنطقة الرائعة وظائف متعددة. وإحدى هذه الوظائف هي السماح لنا بالتفكير في سياق أوسع من السياق المباشر للمهمة التي نحن بصدد إنجازها. وهي تشكّل بذلك حاجزا يحمينا من الإغراء المتمثل في السماح لأنفسنا بالغرق في هذه المهمة كما لو لم يكن هناك شيء آخر. من الممكن أيضًا اعتبارها بمثابة مصدر إلهاء، لأن التركيز على ما نقوم به يعني أن ننسى لبضع لحظات كل شيء آخر يتعين علينا القيام به. عندما يتعلق الأمر بالفصّ الجبهي، فإن الانتباه يمكن أن يتعرّض بشكل سريع للتشتّت بين ما يفعله المرء وما يجب أن يفعله أيضا، مما قد يترك انطباعا مزعجا عن ذهنٍ ممزّق، وفقا لمعنى الكلمة اللاتينية distrahere، ومنها اشتُقّ الفعل distraire في اللغة الفرنسية (ومعناه ألهى – المترجم).
يكون انتباهنا بالضرورة موزَّعا شيئا ما. عندما نعبر الشارع ونتحدث عبر الهاتف مع صديق، فإننا لا نركّز حصريا على هذه المحادثة. فنحن نحرص أيضا على ألا نتعرّض لحادث سير، والوصول إلى الجانب الآخر من الطريق قبل أن يتحول الضوء إلى اللون الأحمر، إلخ. لكن هذه الحالات تبقى خاصة لأن هذه المهام الملحقة تتطلب مستوى منخفضا جدا من التركيز.
تكمن إحدى السمات المميزة للتعدد "السيئ" للمهام في الشعور بالعبء الذهني الزائد: الشعور بالإرهاق التام لدرجة عدم القدرة على القيام بأي شيء فعّال. حينما تجد نفسك في هذا الوضع، تمهّل وخذ قسطا من الراحة، وذلك لمنح قشرة الفص الجبهي وقتا للعمل بشكل فعال، وأيضا لكي تدوّن سريعا كل ما عليك "القيام به" وتجعل من إحدى هذه المهام أولوية لـلدقائق اللاحقة.
إذا استطعت ذلك، فحدّد مسبقا مقدار الوقت الذي يجب تخصيصه لهذا النشاط ذي الأولوية: خمس أو عشر دقائق. وإذا كان لديك عدّاد في متناول يدك، فسيكون ذا فائدةٍ غالية لك لأنه سيسمح لك بنسيان كل شيء آخر، بما في ذلك الوقت، خلال هذه الفقاعة الصغيرة من الزمن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الوقت نفسه الترکیز على فی وقت واحد شیء آخر تین فی
إقرأ أيضاً:
القسام تفاجئ الجيش الإسرائيلي: تدمير آليات وسقوط قتلى وجرحى في غزة
شمسان بوست / متابعات:
أعلنت “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس” اليوم الثلاثاء، تمكن مقاتليها من مهاجمة عدد من الآليات الإسرائيلية في محاور التوغل، مؤكدة إيقاع جنود إسرائيلي بين قتلى وجرحى.
وقالت في بيان: “في عملية مركبة.. تمكن مجاهدو القسام من قنص جندي صهيوني واستهداف قوة راجلة بقذيفتين مضادتين للأفراد وإيقاع أفرادها بين قتيل وجريح في مدينة جباليا شمال قطاع غزة”.
وأضافت أيضا “تمكن مجاهدو القسام من استهداف قوة صهيونية تحصنت داخل أحد المنازل بقذيفة مضادة للأفراد في حي القصاصيب بمخيم جباليا شمال القطاع”.
مشيرة إلى تمكن “مجاهديها من استهداف قوة صهيونية قوامها 7 جنود داخل أحد المنازل بقذيفة “TBG” مضادة للتحصينات والإجهاز عليها من مسافة صفر بالأسلحة الرشاشة والقنابل اليدوية قرب مسجد “أولي العزم” في بيت لاهيا شمال قطاع غزة”.
كما استهدافوا “دبابة صهيونية من نوع “ميركفاه” بقذيفة “الياسين 105” تم اعتلاؤها والإجهاز على طاقمها واغتنام رشاش منها قرب مدرسة “الفاخورة”، وجرافةً صهيونية من نوع “D9” بقذيفة “الياسين 105” قرب مدرسة “شادية أبو غزالة” غرب معسكر جباليا شمال القطاع”.
وشمال غرب مدينة غزة، “تمكن مجاهدو القسام من استهداف قوة صهيونية متمركزة في أحد المنازل بقذيفة مضادة للأفراد وإيقاعها بين قتيل وجريح”.
هذا وأعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل أربعة جنود في اشتباكات بشمال قطاع غزة، حيث تواصل القوات الإسرائيلية التوغل في المنطقة، بحجة منع إعادة تنظيم صفوف المقاومة هناك.
ولليوم الـ21 على التوالي، يبقى الدفاع المدني معطلا قسرا في جميع مناطق شمال القطاع بفعل الاستهداف المتواصل، مما ترك عشرات الآلاف من الفلسطينيين دون أي رعاية إنسانية أو طبية.