الجزيرة:
2024-06-30@02:44:10 GMT

قصف صنعاء وحماقات أميركية أعيت من يداويها

تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT

قصف صنعاء وحماقات أميركية أعيت من يداويها

كان نظام الرئيس السوداني (الجنرال عمر البشير/ الجبهة الإسلامية) منبوذًا على أكثر من صعيد. سجلّه في حقوق الإنسان بالداخل مشين، ومدان من الرأي العام العربي والعالميّ، وعلاقاته مع النظام الرسمي العربي مأزومة.

وعلى الأقلّ، كانت علاقته مع الشقيقة والجارة الكبرى (مصر) في أسوأ حالاتها بعد اتّهامه بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس "مبارك" بأديس أبابا وإيوائه مهاجميه الإسلاميين، يونيو 1996، مع غيرهم من أسماء كبرى على قائمة الإرهاب الأميركية، مثل " أسامة بن لادن".

لكنه لم يكن مطرودًا من جامعة الدول العربية أو غيرَ معترف به، أو يعدم حلفاء بين بعض الدول العربية.

إلا أنّه عندما شنّت إدارة الرئيس الأميركي "بيل كلينتون" عدوانَها الجوي على مصنع أدوية "الشفاء" في ضواحي الخرطوم 20 أغسطس/ آب 1998، انقلب الحال، وأصبح "سودان البشير" محلّ تعاطف واسع من الرأي العام في مختلف أنحاء العالم العربي.

وأتذكّر وقتها – وكنتُ أعمل في قسم الشؤون العربية بجريدة "الأهرام" – وقعَ نبأ قصف العاصمة السودانية. حينها توحّدت أجيال من الزملاء الصحفيين على مختلف توجهاتهم في الغضب ضد هذا العدوان. وبعضُها عاصر غزو الأسطول الأميركي، العاصمةَ اللبنانية بيروت 1958، والآخرُ قصفه المدينةَ ذاتَها 1983. والأغلبية تقريبًا عاشت وقائع الغارات الأميركية على العاصمة الليبية "طرابلس"، ومعها "بني غازي" 1986.

الأرشيفات توثق كيف كان يغضب العرب رغم خلافاتهم

وإجمالًا؛ كان للغضب في عموم العالم العربي تأثيرُه على النظام الرسمي العربي، ولم يكن له أن يتغاضى أو يصمت. وهو غضب توثقه برقية لوكالة "رويترز" وتصفه "بالاقتراب من الغليان"، وكما نشرتها "الأهرام" بصفحتها الأولى في 21 أغسطس/ آب 1998.

ومن الجامعة العربية، أصدرت الأمانة العامة في أقل من 24 ساعة بيانًا يستنكر القصف الأميركي للسودان، ويعتبره "عملًا غير مبرّر، وتعديًا سافرًا على سيادة دولة عربيةٍ عضوٍ بالجامعة، وخرقًا للمواثيق الدوليّة".

وبعدها بساعات صرّح وزير خارجية مصر حينها "عمرو موسى" بأن "لا يمكن لأي دولة أن تكون بديلًا عن مجلس الأمن، والقاهرة موقفها واضح بضرورة أن تكون جميع الإجراءات ضد الإرهاب من خلال الشرعية الدولية، وتحت مظلة الأمم المتحدة".

وتحفظ الأرشيفات كذلك افتتاحية "الأهرام" بعد يومين من هذا العدوان. وتحت عنوان: "المواجهة الجماعية للإرهاب هي الحل"، انتقدت ارتداء الولايات المتحدة ثوبَ الشرطي، وأن تضرب هنا وهناك. وحذرت من أن "الانفراد الأميركي بالعمل على هذا النحو يمكن أن يؤدي إلى تعاطف بعض القطاعات الجماهيرية مع الإرهابيين أنفسهم، وهذا غير مطلوب بالقطع".

قصف أميركي لعاصمة عربية مجددًا

لا يرى من "الغِرْبال" أو حتى بدونه من لا يدرك الحساسية المتجاوزة للخلافات عندما يَجري مهاجمة عاصمة عربية، ومن جانب أبناء المستعمرين: بريطانيين وفرنسيين وخلفائهم من الأميركيين. ولا يرى وكأنه أعمى من لا يضع في الحسبان عواقب هذا العدوان.

صحيح أن اليمن / صنعاء/ حكم "الحوثي" اليوم خارج النظام الرسمي العربي وجامعة دوله. كما أنّه محل اتهامات وحملات على مدى ما يزيد عن عقد كامل بأنّه مجرد "وكيل لإيران"، وبالمحاكاة للمصطلح الإعلامي الشائع في الصحافة الغربية (proxy)، وبأنه طرف في صراع المحورَين: السني – الشيعي في العالَمين: العربي والإسلامي. وهو صراع – في اعتقادي وغيري- مصطنع وضارّ ولصالح الصهيونية وأعداء الشعوب.

ومجمل ما سبق يضع صنعاء المعتدَى عليها أميركيًا وبريطانيًا اليوم في وضع أضعف مما كانت عليه الخرطوم عند عدوان أميركي مضى عليه نحو ربع القرن.

وصحيح أن اليمن / صنعاء/ حكم "الحوثي" ما زال يخرج أو ينجو بالكاد من حرب أهلية – إقليمية ضروس، أتت على الأخضر واليابس. وهو لم يعالج بعدُ جراح هذه الحرب داخليًا وإقليميًا. فضلًا عن أن ملفات التعافي من آثارها ما زالت مفتوحة وغير محسومة، على الرغم من بدء مسيرة الهدنة والتهدئة وكذا المصالحة مع السعودية الجارة الكبرى، ومعها شرعية الحكم، وبقاء الانقسام بين صنعاء وعدن.

"مارقة منبوذة" وأصبحت تتمتع بشعبية

لكن ومع كل هذا، جاءت مساهمة القوات اليمنية بجهد حربي في البحر الأحمر من أجل غزة وشعب فلسطين بعد 7 أكتوبر 2023 لتمنح صنعاء شعبية بين الرأي العام العربي، تتجاوز الانقسامات الطائفية والأيديولوجية السياسية.

وببساطة وضعت هذه المساهمةُ المقدرةُ عند الجماهير والنخب في أغلبها – على امتداد العالم العربي – صنعاءَ – هذه "المارقة المنبوذة" غير المعترف بها عند النظام الرسمي العربي – في قلب خريطة الصراع العربي – الصهيوني، اليوم.

وهذا مع أن اليمن – لاعتبارات الجغرافيا السياسية – لم يكن بين ما أطلق عليها "دول المواجهة" أو "الطوق"، وبوقائع التاريخ ومنذ عام 1948 لم يكن له مشاركة ملحوظة في حروب الجيوش العربية مع إسرائيل.

وبالطبع ليس لقواته المسلحة من قبل، ما كان في سجل تاريخ جيوش دول عربية بعيدة عن حدود فلسطين كالعراق، أو بإضافة الجزائر وتونس والمغرب إليها مع حرب 1973. وإن لا يمكن أن ننسى لليمن الجنوبي – عدن مساهمتَه – بالتعاون مع البحرية المصرية – في إغلاق "باب المندب" خلال هذه الحرب، وحصار العدو وقطعه البحرية وموانئه في البحر الأحمر، وخليج العقبة.

وباختصار؛ ما فعلته القوات اليمنية/ صنعاء بعد 7 أكتوبر في جنوب البحر الأحمر ومردوده على حصار إسرائيل بحريًا وبإطلاق الصواريخ تجاهها، وضعَ هذا البلد على نحو غير مسبوق في قلب الصراع مع الاستعمار الصهيوني وحلفائه. كما أذاب، إلى حد ما، انقسامات طائفية نمت وتوحّشت على مدى عقود في منطقتنا، وبخاصة منذ الثورة الإيرانية 1979.

وباختصار أيضًا؛ ما فعلته القوات اليمنية هذه مساهمةً في نصرة غزة ولليوم، سرعان ما وجد مردوده قبولًا عند الشعوب العربية، والتي زادت حربُ الإبادة الصهيونية – الأميركية على الشعب الفلسطيني وصمود مقاومته الأسطوري، من الفجوة بينها وبين أنظمتها في كل قُطر، ومع مجمل النظام الرسمي العربي. ومقارنة المواقف والأقوال والأفعال بين هذا وذاك ماثلة الآن بقوّة، وستظل- في الظن- تأثيراتها لأجيال مقبلة.

بل يمكننا القول؛ إن هذه المشاركة العسكرية اليمنية – ومعها الخروج الشعبي في مظاهرات صنعاء، وغيرها من المدن هناك إلى جانب غزة والشعب الفلسطيني – سمحت، للناس من المحيط للخليج، باكتشافِ أن هؤلاء الملقبين "بالحوثيين"، الذين عرفوهم منمطين "كشيعة متطرفين عملاء لطهران"، لا يتحدثون الفارسية، ولا يعتمرون العمائم السوداء.

بل وأيضًا أصبحت قطاعات معتبرة من الرأي العام ترى ما يفعلون – على الرغم مما بهم من ضعف وفقر وبؤس – "نخوةً عربيةً" مفتقدةً عند غيرهم من الأثرياء أصحاب الميزانيات المفتوحة بلا رقابة، والإمكانات الطائلة وأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا.

ولكنهم محرجون حتمًا

يضع العدوانُ الأميركي البريطاني على اليمن – بمشاركة حلفاء من خارج الإقليم ومن داخله، كما صرّح الرئيس "بايدن" وفورًا – النظامَ العربي وركائزه وقيادته في السعودية موضع حرج أشد وأخطر. أو كما يقول التعبير العربي:" زاد الطين بلة". وهذا ليس لسبب واحد يتعلق بهذا المزاج الشعبي والنخبوي في العالم العربي، وحساسيته بالأصل تجاه ضرب الأميركيين والبريطانيين لعاصمة عربية.

وهذه المرّة فإن الهدف المستهدف صنعاء، وهي في ذروة حضورها  بالصراع العربي – الصهيوني، ومع لحظة كبرى فارقة يواجهها الشعب الفلسطيني وقضيته، ومعه كل أحرار العرب والعالم.

وثَمة قائمةُ أسباب إضافية، ومن بينها؛ أن العدوان على صنعاء ومدن يمنية أخرى جاء مباشرة بعد جولة وزير الخارجية الأميركي "بلينكن" واستقباله في العديد من العواصم العربية. وهو ما يطرح أسئلة لا يقل واحد منها في إحراجه عن الآخر، وهي:

هل أطلعهم على نيّات إدارته شنَ هذه الضربات؟، أم أنه أخفى عن القادة والمسؤولين في هذه العواصم ما سيَجري فور مغادرته المِنطقة؟. وما دلالة أن يشاغلهم بطمأنات عن عزم واشنطن العملَ على منع اتّساع الحرب (وبخاصة إلى لبنان)؟. وهذا، بينما لم تتخلّ إدارته عن المجاهرة -بصراحة وصلف وإجرام – بدعم استمرار الإبادة الصهيونية في غزة. ثم ها هي واشنطن تقوم بتوسيع الحرب هكذا إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، مع مخاطر ردود فعل قد تُعيد حرب ناقلات النفط بنهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

وأيضًا من أسباب الحرج الأشدّ والأخطر للنظام العربي الرسمي ومكوّناته وقيادته كون أنّ العدوان الأميركي البريطاني- مع إسراع واشنطن بالإعلان عن حلفاء من داخل الإقليم وخارجه – قد يفتح الباب لعودة النزاع المسلح داخل اليمن. ويقطع الطريق على تثبيت خطوط وقف إطلاق النار، والتهدئة، وجهود المصالحة مع الأطراف الإقليمية التي انخرطت في هذا النزاع منذ نحو تسعة أعوام.

وهو ما من شأنه أن يجرّ على اليمن والإقليم والعالم، المزيدَ من أعباء هجرة ونزوح ومجاعة ومعاناة ملايين من اليمنيين، لم يتعافوا منها بعد.

وفوق كل هذا وذاك من أسباب الحرج، يُحلّق السؤال: لماذا اختارت الإدارة الأميركية توقيت ضرب صنعاء والمدن اليمنية الأخرى في ذات يوم بدء محكمة العدل الدولية النظرَ في جرائم الإبادة الصهيونية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بغزة؟. وهل هذا من ألوان وفنون " التغطية وسحب البِساط الإعلامي"؟. أَوَ لا تعي واشنطن أن هذا التوقيت – التزامن يصبّ الزيت على نار المقارنة عند الرأي العام العربي بين مبادرة جنوب أفريقيا وحال دولهم الحليفة والصديقة وجامعتها؟

إلا الحماقة..

عند قصف الخرطوم 98، كان نظام البشير- الجبهة الإسلامية الاستبدادي بدوره يُؤوي جماعات وقيادات محسوبة على "الإرهاب". وهذا قبل أن يتخلص منها، ويطردها أو يضيق عليها، فتغادر السودان، أو حتى يسلمها إلى المخابرات الأميركية، وغيرها في صفقات كانت بمثابة الوجه الآخر "البراغماتي" لشعاراته "الإسلاموية" واتّجاره بالدين.

لكن المعتدي الأميركي لم يقدم لليوم إزاء اليمن / صنعاء دليلًا يماثل تبريره- ولو بالأكاذيب- قصفَ مصنع أدوية "الشفاء". لا عندما زعم حينها بأنه يعمل على إنتاج أسلحة كيماوية وغاز أعصاب، أو أن النظام السوداني متورط في تفجيرات السفارتَين الأميركيتَين بكينيا وتنزانيا قبلها، مع نظام "طالبان" بأفغانستان، وحيث وجه إليها ضربات جوية في اليوم ذاته. وفقط يظهر المعتدي الأميركي الآن عاريًا في وضع المدافع عن الصهيونية والحامي لإرهابها. بل وبمثابة وكيل عنها، يخوض معاركها.

للتاريخ دروسه وحكمته

لكن الأحمق من لا يعتبر بالتاريخ وتسلسل وقائعه، فيعود لتَكرار حماقاته المؤذية للغير ولنفسه. إذ لم يمضِ على ضرب العاصمة السودانية نحو ثلاث سنوات إلا واهتزّت الولايات المتحدة ومعها العالم على وقع زلزال هجمات نيويورك وواشنطن بحلول 11 سبتمبر 2001، وحصيلتها الدموية المميتة الفادحة بين المواطنين الأميركيين.

والأكثر مدعاة للدهشة من تَكرار الحماقات، حد الإدمان، أن الإدارة الأميركية في عهد "بوش الأب" كانت قد اعترفت بخطأ تجاهل معاناة الشعب الفلسطيني وقضيته وبعواقب استمرار هذا الظلم التاريخي.

وهذا بعدما لاحظت وأدركت- ومعها العالم – مدى التأييد الجماهيري لضرب الرئيس العراقي السابق "صدام حسين" مدنَ ومستعمرات إسرائيل بالصواريخ عن بعد، وهو في وضع المعتدِي والمحتل لبلد عربي مجاور (الكويت).

وهكذا سارعت هذه الإدارة إلى عقد "مؤتمر مدريد للسلام" قبل نهاية عام 1991، وبعد شهور معدودة من إخراج قوات "صدام" من الكويت.  وهذا مع أن غزو الكويت كان قد أحدث شرخًا داخل النظام الرسمي وانقسامًا في الرأي العام عربيًا، وعلى خلاف أحوال العواصم: الخرطوم 1998 وصنعاء 2024، ومن قبلها طرابلس 1986، حين قصفها العدوان الأميركي.

لكن يبدو أن هذه الحماقات لا شفاء منها، وكما يقال :"إلا الحماقة أعيت من يداويها". وكأنهم لا يتعلّمون- بعد أكثر من درس- أنَّ الظلم والعدوان ومهاجمة العواصم وضربها من شأنها أن ترتد إلى نحر المعتدِي حتى  وإن كان في عقر داره.

 

 

 

 

 

 

 

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: النظام الرسمی العربی العالم العربی الرأی العام لم یکن

إقرأ أيضاً:

ما بعد الانتخابات السنغالية: أبعاد وفرص التعاون مع العالم العربي

تُعتبر السنغال دولة محوريّة لها أهمية إستراتيجية إقليميًا ودوليًّا، وقد نجحت إدارة الدولة منذ الاستقلال سنة 1960م في الحفاظ على الاستقرار والسلم الأهلي دون حدوث أي انقلاب عسكريّ فيها؛ الأمر الذي مكّنها من الفوز بمكاسب سياسية واقتصادية واستثمارية بالشراكة مع الدول الصديقة.

ومع ذلك، عانت الدولة من ظروف سياسية قاسية في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث اتّسعت دائرة النزاع بين السلطة والمعارضة، حدثت خلالها انتفاضة شعبيّة أثرت الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي؛ بيد أن الانتخابات الرئاسية 2024م ألهمت العالم مجددًا بالتغيير السياسي الذي اختاره الشعب مُتجرّدًا من قيود السياسات الكلاسيكية نحو الإصلاح؛ وذلك بتنصيب باسيرو ديوماي فاي رئيسًا، حيث فاز بنسبة 54.28% من الأصوات، ويعتبر هذا الأمر نقطةَ تحوّل جذريّ في السياق السياسي السنغالي.

⁠استقرار الديمقراطية في السنغال

تقع السنغال في غرب أفريقيا، وهي دولة تزخر بتاريخ غني وتنوّع ثقافيّ استثنائيّ، وتُعَدّ منارة للديمقراطية. حيث تعتبر واحدة من أكثر الدول استقرارًا، وتتعاطى مؤسسات الدولة نهج الديمقراطية في الحكم، والتعامل مع المجتمع المدني.

ومع ذلك، شهدت الدولة اتجاهًا للتراجع الديمقراطي منذ عام 2020م، وكانت الأحداث التي تعرقل المسارات الديمقراطية للبلد تتجدد في كل وقت؛ تزامنًا مع توسّع قوّة المعارضة بقيادة عثمان سونكو، وتعقّد الوضع السياسي حتّى توقّع الجميع انهيار الدولة سياسيًا لتلتحق بفئة الدول المرتدّة عن الديمقراطية، في إقليم يعاني من كثرة الانقلابات السياسية. وقد خرجت السنغال من مختلف الأزمات السياسية التي مرت بها في الآونة الأخيرة، بما فيها أزمة تأجيل الانتخابات، وغيرها، وترجع عودة الاستقرار السياسي في السنغال إلى عدة عوامل أهمها:

الحوار الوطني: أدرك النظام السابق مدى خطورة الوضع، وعدم قدرته على تحمّل الضغط الشعبي جراء ما عانته المعارضة من الاضطهاد، دفعهم ذلك إلى الدعوة للحوار، ورغم رفض سونكو المشاركة فيه؛ فإن ذلك لم يمنع فاعلية نتائجه لعودة الاستقرار في الدولة.

الانتفاضة الشعبية: سبّبت الاحتجاجات خسائر مادية، وأدت إلى كثير من الوفيات؛ وخوفًا من تفاقم الوضع كان لابدّ من الاستجابة لمطالب الشعب بتنظيم انتخابات نزيهة لعودة الأمن.

قانون العفو العام: أثمر الحوار الوطنيّ قرارًا يفضي إلى تصويت البرلمان على مقترح "قانون العفو العام لجميع السجناء السياسيين"؛ وساهم هذا الأمر في استقرار الممارسة السياسية، وتسليم الحكم بطريقة ديمقراطية.

نزاهة الانتخابات: حيث ساهم ذلك في الفوز المستحقّ لرجل المرحلة باسيرو ديوماي فاي، وهو الذي رشّحه سونكو لحمل المشروع السياسي بعد عرقلته عن الترشح، وقد ساعد هذا النجاح في استرجاع السِلم الأهلي.

الدور الإقليمي والدولي للسنغال

على الصعيد الإقليمي، تلعب السنغال دورًا أساسيًا في غرب أفريقيا من خلال تأثيرها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بالإضافة إلى كونها راعية للديمقراطية في المنطقة، ومساهمة في حلّ الأزمات الأمنية فيها.

على المستوى الدولي، أدركت القيادة السنغالية الجديدة ضرورة التفاعل السياسي مع مختلف الشركاء، وتشارك السنغال بتاريخها الدبلوماسي في مبادرات الأمم المتحدة التي أسهمت في مواصلة إبراز تأثيرها الدولي لصالح القارة الأفريقية، ويؤكّد ذلك إجراء وزير الاقتصاد والتخطيط والتعاون د. عبد الرحمن سار، يوم الأحد 10 يونيو/حزيران 2024م، جلسةَ عمل مع وفد صندوق النقد الدولي في مهمة رسمية إلى السنغال؛ من أجل المراجعة الثانية للبَرنامج الاقتصادي.

إن التغيرات السياسية الأخيرة بعد انتخابات 2024م، اختبارٌ للسنغال لإعادة تأكيد دورها على الساحتين: الدولية والعربية؛ كي تسرع وتيرة التعافي من الأزمات الاقتصادية، فالإستراتيجية الدولية للسنغال تتجه نحو تعزيز الشراكات الاستثمارية في: الطاقة، والذكاء الاصطناعي، والرقمنة والتكنولوجيا، والثروة الحيوانية، وتعمل على ذلك من خلال إعادة التفاوض في الاتفاقيات الاستثمارية والتجارية، وفي تعديل واعتماد المراسيم القانونية المنظمة للتوجّه الإستراتيجي للنفط والغاز، وسيساهم الإنتاج النفطي لدولة السنغال في تعزيز موقعها الجيوسياسي على المستويَين: الإقليمي والدولي.

السنغال والعالم العربي: آفاق التعاون

في ظل هذا السياق الجيوسياسي، تبرز أهمية السنغال كنموذج للتطور الديمقراطي والتنمية في غرب أفريقيا، وكفاعل رئيس في الدبلوماسية الإقليمية والدولية، حيث يمكنها أن تلعب دورًا محوريًا في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية من خلال تعزيز الشراكات الإستراتيجية، وتوقيع اتفاقيات استثمارية مع الدول العربية الخبيرة في مجال إنتاج النفط، يعزز ذلك وجود قواسم مشتركة بين السنغال والأقطار العربية، دينية وثقافية، بالإضافة إلى انتشار استعمال اللغة العربية تعلّمًا وتعليمًا، محادثة وكتابة.

وعلى الصعيدَين: الاستثماري والثقافي، توسّعت العلاقة في: التجارة، والاستثمار، والتبادل الثقافيّ؛ وتعدّ السنغال من أكثر الدول استفادة من التّمويلات والمساعدات التي تقدمها الدول العربية لأفريقيا، وهي في الترتيب الثاني بعد غينيا، حسب تصنيف BADEA؛ إلا أنها لا تزال محدودة، وقد جاءت زيارة وزيرة الخارجية السنغالية ياسين فال إلى دولة المغرب – مع وصول السلطة الجديدة – تجديدًا للثقة المتبادلة بين البلدين، وهي زيارة إستراتيجية للتعاون من أجل التأثير الإيجابي في الإقليم؛ ولاستثمار العلاقة في تشجيع الاستثمارات مع البلدان الأفريقية المجاورة والدول العربية.

وفي هذا السياق، وجدت السنغال قطراتها الأولى من النفط، وأدى ذلك إلى توسع نقاش النسب المئوية التي تحصل عليها الدولة لدفع عجلة الاقتصاد والتنمية. وعلى هذا الأساس، تم اعتماد وثيقة الميزانية والبرمجة الاقتصادية متعددة السنوات 2026- 2024 (DPBEP) في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 12 يونيو/حزيران، وفيه التفاصيل الموضحة لحصص الدولة، والمبلغ الذي يتم سداده كتكاليف استثمار، بالإضافة إلى ما يمكن لها التصرف فيه من الإنتاج النفطي.

وفيما يأتي أهمّ فرص التعاون التي يمكن للسنغال والدول العربية اغتنامها من أجل تحقيق التنمية:

تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي:

تواجه دولة السنغال تحديات اقتصادية، وتعمل الحكومة على تحفيز النمو الاقتصادي من خلال الاستثمار في النفط، ويؤكد عثمان سونكو أن حصص البلاد من الموارد الطبيعية ضئيلة.. وإنتاج البترول بكميات كبيرة هذا العام، جعلها تتخذ قرارات لمراجعة الاتفاقيات الاستثمارية، وإعادة التفاوض مع الشركات الأجنبية من أجل تخصيص جزء كبير منه لصالح السيادة الوطنية، والاستفادة من ذلك في حلّ مشاكل المواطنين.

كما تسعى السلطة لإجراء مراجعات للبرنامج الاقتصادي، ووضع مقترحات وإستراتيجيات جديدة تخفف من الديون؛ وهذه الخطوة ستعزز من التعاون التجاري والاقتصادي مع الدول العربية كشركاء مؤثّرين؛ وإعادة التفاوض في العقود فرصة لها للدخول في استثمارات ضخمة مع السنغال يستفيد منها كلا الجانبين.

الاستثمار النفطي:

تسعى القيادة السنغالية لتحسين وتجديد علاقتها مع دول الخليج العربيّ، وبالأخص دولة قطر، ويُستحسن استثمار هذه العلاقة الثنائية بين الدولتين في تحديث ملفات التعاون المشترك، كما أن اللقاء بين سفير دولة قطر ورئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو في الأيام الماضية، تمهيد لوضع خطط مشتركة لتعزيز الشراكة الإستراتيجية؛ ونظرًا لريادة دولة قطر في قطاع الطاقة واحتياج دولة السنغال إلى شريك نوعيّ للتنمية المستدامة، فإن هذه الخطوة مهمة. ويضاف إلى ذلك زيارة وزير الطاقة والبترول والمناجم بيرام سُلي جوب لدولة قطر في الشهر الماضي، وقدم الوزير تقريرًا شاملًا عن زيارته الرسمية في اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2024.

وتحمل القيادة الجديدة توجّهًا يميل إلى إعادة دراسة الاتفاقيات السابقة في قطاعات النفط والغاز؛ وربما تهدف لإفساح المجال للمستثمرين الدوليين المؤثرين كالعرب الذين تمّ إبعادهم من طرف الحكومة السابقة لأسباب غير مقنعة. وهذا النوع من المبادرات يجذب المستثمرين الجدد من العالم العربي، ومن خلال ذلك تتمكن السلطة من تنويع الاقتصاد.

التبادل الثقافي:

إن حضور الإسلام واللغة العربية في السنغال متجذّر؛ والدور الريادي للعالم العربي يجعله قادرًا على استغلال فرصة تفعيل الدبلوماسية الثقافية والدينية، والنظر إلى أوجه الاستفادة بالشراكة مع مكتب مديرية الشؤون الدينية في قصر الجمهورية المنشأ حديثًا بقرار الرئيس باسيرو، والعمل على التأثير النوعي في الشؤون الاجتماعية والثقافية عن طريق توقيع شراكات مع المؤسسات السنغالية التي ترتقي إلى هذه المهمّة، ومن بينها: مديرية دمج حملة الشهادات العربية في قصر الجمهورية، ووزارة الإعلام، ووزارة التعليم العالي، ووزارة التربية الوطنية، والهيئة العليا للوقف، والمشيخة الدينية السنغالية، والجامعات.

وعليه، فإن الدول العربية ذات التأثير الثقافي ستكون مرآة لدولة السنغال للاستفادة من تجاربها، وتلقِّي الدعم منها.

وختامًا؛ تعمل القيادة السنغالية الجديدة على إيجاد شراكات قويّة لتحقيق أهدافها السياسية، ويعد العالم العربيّ شريكًا مناسبًا للسنغال؛ لكونه يتكون من دول قادرة على ممارسة التأثير على التفاعلات والأحداث العالمية في البيئة الجيوبوليتكية التي تتحرك فيها، والمناخ السياسي والديني والثقافي متوفر لنجاح هذا الدور.

ومما يبعث على الاطمئنان إلى التعامل الاقتصادي مع السنغال أنَّ سياستها تتميز بالاستمرارية في الخطط والبرامج، رغم اختلاف وجهات نظر الرؤساء المتعاقبين في الحكم، كما أن هناك حاجة من الدول الشريكة للسنغال في العالم العربيّ لوضع خطط استثمارية ومشاريع إستراتيجية لمساندتها في استغلال النفط والغاز، وإدارتها بطريقة شفافة تعزّز النمو الاقتصادي في البلد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الاتحاد العربي يلغي البطولة العربية للأندية
  • «القيادة الرئاسي» يدين اختطاف «الحوثيين» طائرات الخطوط اليمنية
  • ما وراء تغيير مسار الحُجَّاج؟!
  • دعوة ملغومة للحلفاء العرب
  • فلسطين.. بين خيانة القريب ومؤامرة البعيد..!
  • مهرجان الإذاعة والتلفزيون يكرم رئيس البرلمان العربي في تونس
  • «عربي الشطرنج» يعتمد بطولات الموسم
  • الاتحاد العربي للشطرنج يعتمد بطولات موسم 2024م
  • الكشافة السعودية تختتم مشاركتها في الملتقى الكشفي العربي بالقاهرة
  • ما بعد الانتخابات السنغالية: أبعاد وفرص التعاون مع العالم العربي