د. محمد تيراب

تناولنا في الجزء الأول الدور الحاسم الذي تلعبه الدول النامية في الاقتصاد العالمي، وكذا في ديناميكيات العلاقات الدولية، حيث تواجه هذه الدول التي تتسم كثيراً بانخفاض مستويات تنميتها الاقتصادية، وتصنيعها، تحديات جمة. وفي الوقت ذاته تلوح أمامها فرصٌ فريدة في سعيها لتحقيق، النمو والاستقرار. ونتناول في الجزء الثاني صعود بريكس وتعدد الأقطاب.

إذ كان ظهور دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في أوائل القرن 21 بمثابة تحول كبير في ميزان القوى العالمي. هذه الدول، مع عدد سكانها الكبير، والاقتصادات المتوسعة، والنفوذ المتزايد، تحدت هيمنة القوى الغربية والنظام الدولي القائم من جانب واحد.
قمة بريكس الأخيرة
لقد ذهبت قمة بريكس الخامسة عشرة إلى أبعد من أي قمة أخرى في الماضي القريب لتحديث وحفز المجموعة. لقد أرسلت إشارة قوية إلى أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية أنه يجب أن يقبل الواقع متعدد الأقطاب ومتغيرات الحقبة.
من الواضح أن عدد الطلبات الانضمام إلى مجموعة البريكس هو أحد أعراض الشعور بالضيق العميق للدول النامية. إن ميل الغرب إلى فرض عقوبات مالية أحادية الجانب، وإساءة استخدام آليات المدفوعات الدولية، والتراجع عن التزامات تمويل المناخ، وعدم احترام الأمن الغذائي والضرورات الصحية لجنوب الكرة الأرضية أثناء الجائحة ليست سوى بعض العناصر المسؤولة عن خيبة الأمل المتزايدة من النظام الدولي السائد.
من المحتمل أن يكون توسيع مجموعة البريكس إلى شكل بريكس+ واعتماد المبادئ التوجيهية والمعايير والإجراءات الخاصة بها، قد جعل مجموعة البريكس مؤسسة أكثر جاذبية لبناء الإجماع والحوار في العالم النامي. حتى صورة الأعضاء الجدد تشير إلى أن النظام يتجه نحو شيء يتجاوز الشركاء “المقبولين” تقليديا في نظر الغرب، ينعكس ذلك في انضمام أعضاء جدد -كما إيران- بشكل خاص والتي قد نشهد وردود الفعل على ذلك في مقبل الأيام. لذا ينظر الغرب بعين المعايير التي تسلط بها سياطها بأنه على الرغم من أن مجموعة بريكس+ لم تتوسع في نموذج للحوكمة العالمية ، وتركز مناظيرهم – الفاحصة والباحثة عن ثغرات -على سجلات الديمقراطية وحقوق الإنسان للعديد من الأعضاء المدعوين الجدد، وأقصى ما ستخرج به هو أن تصف سجلات تلك الدول بأنها فقيرة ، حيث ترى أن تشكيل مجموعة بريكس+ “ما هو أكثر من مجرد مناورة سياسية لتعزيز رؤية الصين للنظام الدولي” بيد أن جميع أعضاء بريكس+ وكذلك مجموعة الدول اللاحقة بها مستقبلاً من الدول، بالتأكيد ستكون لديها أجنداتها الخاصة. فمنتدى بريكس هو منصة هامة لتجمع الدول الرافضة للأحادية القطبية وعبرها تتشكل ملامح التعددية. هي فرصة للدول الأعضاء لتعزيز رؤيتها، حول مشاركتها لصناعة القرار الدولي ضمن ظروف إقتصادية دولية أكثر عدلاً في الشروط. وبذا تُحل بعض قيود القرار في أجندة العلاقات الخارجية لتلك الدول. ويجب الاخذ في الاعتبار أيضا ان الدول النامية في دول البريكس + لقد استغلت لحظتها الجيوسياسية ودعت إلى موقف موحد للدول الناشئة والنامية ضد نظام عالمي أحادي مهيمن، من أجل صرف النظر عن ممارسة السياسة الدولية التي لا تتوافق مع احتياجاتها وضرورياتها. من الواضح جداً أن الجنوب العالمي يدعو إلى شكل جديد من التعاون المتعدد الأطراف المفتوح والشامل الذي يتجاهل الوضع الداخلي للشركاء – وهو بالتأكيد تحد حقيقي وجدي للغرب.
يشير التوسع في بريكس بدقة إلى تناغم متزايد بين الأجندات الجيوسياسية والاقتصادية داخل مجموعة البريكس، والتي حتماً يستدعي قيام نسق معين من طبيعة العلاقات الدولية وشكل مغاير لها. غدت المجموعة تضم كبار منتجي النفط العالميين وكذلك أعضاء يتحكمون في معابر تجارة دولية مهمة كما قناة السويس ومضيق هرمز ومضيق باب المندب. وفي الوقت ذاته تعمل الهند وإيران وروسيا فعلياً على تطوير ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب. وتوفر السعودية والإمارات-كمصدري النفط والغاز الهامين في العالم- معظم واردات الصين من الطاقة. بنجاح جنوب أفريقيا في التفاوض على ضم بلدين أفريقيين، قد عزز ذلك الأمر الجهود المستمرة لتمتين التكامل والتنمية والنمو من خلال منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
ربما تكون هي اللحظة التاريخية المواتية لأجل إنشاء نظام عالمي جديد متوازن. بعد اختلال ميزانها لعقود، وبذا تكون مجموعة بريكس الآن مجموعة بريكس + ستة جاهزة لاستقبال الأعضاء الجدد لترتفع أصواتهم إلى الدعوة إلى نظام حكم عالمي أكثر إنصافا، وإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وإعلاء شأن النفوذ المستحق للجنوب العالمي.
في الوقت ذاته يجب ملاحظة أن قمة بريكس هذا العام اجتذبت اهتماماً دولياً إستثنائيا، ويرجع ذلك إلى حد كبير للأهمية المتزايدة لجنوب الكرة الأرضية في ميزان الشؤون الدولية اليوم. أعربت أكثر من عشرين دولة رسميا عن استعدادها للانضمام إلى مجموعة البريكس، الأمر الذي دفع -على الأرجح- مجموعة الدول السبع إلى تعزيز تواصلها مع عالم الجنوب في قمة هيروشيما هذا العام. وهو مؤشر جاد أن كلا من مجموعة الـ 7 وبريكس يتنافسان على النفوذ في الجنوب العالمي.
تساهم إمكانات النمو الاقتصادي لجنوب العالم والتأثير الأمني المتزايد في تزايد أهميته في المشهد الدولي. وسط هذا التنافس والتجاذب المحموم طرحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نسختهما من مبادرات البنية التحتية والتنمية، في أعقاب مبادرة الحزام والطريق الصينية، والتي من شأنها أن تحرر بشكل مثالي المزيد من الموارد لدول الجنوب العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة الخاصة بكل منها، وها هو البيت الأبيض يعلن عن مشروعه الملياري لربط أنجولا عبر السكك الحديدية بالكنغو الديمقراطية، كان ذلك إبان زيارة رئيس أنجولا واشنطون بداية ديسمبر الجاري. ومع ذلك، تختلف مشاركة مجموعة الـ 7 ومشاركة مجموعة البريكس الرؤية تجاه الجنوب العالمي بشكل مختلف الى حدٍ كبير. تدعو مجموعة الـ 7 دول الجنوب في بعض الأحيان فقط إلى إجراء حوارات جزئية. في حين أن مجموعة البريكس جندت الآن ستة أعضاء كاملي النفوذ من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأمريكا الجنوبية لمراحل الاستقطاب. يظهر هذا التوسع أيضا قدرة أعضاء البريكس الخمسة الأساسيين على التوصل إلى توافق في الآراء. بالإضافة إلى ذلك، يعمل وزراء خارجية دول البريكس على تطوير رؤى الشركاء لتلبية متطلبات المشاركة من الدول الأخرى في جنوب الكرة الأرضية. إذن على الدول النامية ان تعي كيف لها ان تدافع عن مصالحها وان تدفع بأجندتها الوطنية على طاولات التفاوض والتجاذب.
إدارة المصالح الاستراتيجية الجماعية والوطنية للدول النامية
يتحتم وضع إدارة العلاقات الدولية وحماية المصالح الوطنية من أولويات الاعتبارات الرئيسية للدول الأفريقية والعربية في تعاملها مع دول البريكس والغرب. يجب على هذه الدول أن تتغلب بعناية على التحديات السياسية التي تنشأ عن تفاعلها مع كلا القطبين. ويجب عليهم أن يضمنوا أن انخراطهم مع دول البريكس والغرب يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة الوطنية الخاصة بهم ولا يضر بسيادتهم أو استقلالهم.
تتميز الحالة الراهنة للعلاقات الخارجية للدول النامية بتحالفات متغيرة وديناميات قوة متطورة. ويعتبر صعود مجموعة البريكس كقوة اقتصادية ينحو لموازة وموازنة هيمنة القوى الغربية التقليدية يعتبر ذلك تحدي حقيقي لمعادلات العاقات الدولية على مسرحها، يفضي بالضرورة إلى إعادة تشكيل مسرح العلاقات الدولية هي فرصة ذهبية وmomentum هام جداً للدول النامية الآن كفرصة لتنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية والاستفادة من موقفها في المشهد الدولي المتغير.
إن لنشوء مجموعة بريكس تأثير كبير على الدول الأفريقية والعربية. وقد أصبحت هذه المناطق مركز جذب وتجاذب الأقطاب، لكل من الغرب ودول البريكس بسبب مواردها الهائلة وأسواقها المتنامية ومواقعها الجيوسياسية الاستراتيجية. ومع ذلك، فإن إدارة العلاقات والمصالح الدولية في هذا السياق تمثل تحديات وفرصا فريدة في ذات الوقت.
لإدارة علاقاتها الخارجية بفعالية مع كل من الغرب ودول البريكس، يتوجب على دول المنطقة -الأفرو- عربية- أن تأخذ في اعتبار إستراتيجياتها بعض المعطيات الهامة، معتمدة تنويع الشراكات: ينبغي لها أن تهدف إلى تنويع شراكاتها الخارجية للحد من الاعتماد على أي قوة بمفردها. من خلال التعامل مع مجموعة من الدول والنظم المختلفة، يمكن للدول النامية الاستفادة من موقفها والتفاوض على شروط مواتية للتعاون الجماعي. الأمر الذي يتطلب موازنة المصالح، حيث موازنة مصالحها بعناية بين الغرب ودول البريكس. وهذا يتطلب فهماً دقيقا للأولويات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية لكل طرف معني. ومن خلال تحديد مجالات التقارب والاختلاف، يمكن للدول النامية أن تزيد إلى أقصى حد من فوائدها وتقلل إلى أدنى حد ممكن من الصراعات البينية المحتملة. يتأتى ذلك ببناء التحالفات بالسعي الجاد لبناء تحالفات دبلوماسية مع الدول ذات التوجه المماثل. من خلال مواءمة نفسها مع الدول التي تشارك القيم الأهداف الإنمائية المماثلة، يمكن للدول النامية تضخيم أصواتها وزيادة نفوذها في عمليات صنع القرار الدولي.
تعزيز التعاون فيما بين دول الجنوب عموماً، وفيما بين الدول الأفرو-عربية على وجه الخصوص، وذلك أن تعطي الدول النامية الأولوية للتعاون فيما بين بلدان الجنوب كوسيلة لتعزيز علاقاتها السياسية. من خلال التعاون مع الدول النامية الأخرى، يمكنهم بشكل جماعي مواجهة التحديات المشتركة، وتبادل المصالح والدفاع عنها بشكل جماعي على المسرح الدولي. في ذلك المنحى يمكن- بل يجب- تعزيز القدرات الدبلوماسية، حيث يجب على الدول النامية الاستثمار في تعزيز قدرتها الدبلوماسية على التعامل بفعالية مع كل من الغرب ودول البريكس. وهذا يشمل تعزيز السلك الدبلوماسي كأداة رئيسة في إعمال السياسة الخارجية وتنفيذ أغراضها، وكذلك تعزيز التبادلات الثقافية، وتفعيل الدبلوماسية العامة. من خلال بناء علاقات دبلوماسية قوية، يمكن للدول النامية أن تتغلب بشكل أفضل على تعقيدات العلاقات الدولية في المرحلة القادمة في المشهد الدولي، والذي بادية إرهاصاته اليوم.
للتغلب على التحديات السياسية بفعالية، يجب على الدول النامية بدأً فهم المشهد السياسي الذي تعمل فيه. وهذا ينطوي على تحليل مصالح وأولويات وسياسات كل من الغرب ودول البريكس. ومن خلال اكتساب فهم شامل للديناميات السياسية، بذا يتأتى للدول النامية أن تضع نفسها في وضع أفضل لحماية مصالحها الوطنية واتخاذ قرارات منتجة وسليمة.
إن تحقيق التوازن في إدارة العلاقات مع الغرب ودول البريكس لهو أحد التحديات الرئيسية التي ستواجه الدول النامية لذا من الضروري تجنب الاعتماد بشكل مفرط على جانب واحد، لأن ذلك يمكن أن يحد من خيارات الدول النامية وقدراتها على المساومة. يجب على الدول النامية أن تعمل على الحفاظ على التوازن من خلال التعامل مع كل من الغرب ودول البريكس بطريقة تخدم مصالحها.

الوسومد. محمد تيراب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: على الدول النامیة العلاقات الدولیة الجنوب العالمی مجموعة البریکس مجموعة بریکس دول البریکس النامیة أن مع الدول یجب على من خلال

إقرأ أيضاً:

خارجية النواب: قمة مجموعة الثمانية النامية تجسد ريادة مصر في تعزيز التعاون 

أكدت النائبة إيلاريا حارص، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، أن استضافة مصر لقمة منظمة الدول الثماني الإسلامية (D8) تعكس الدور المحوري الذي تلعبه مصر على الصعيدين الإقليمي والدولي، موضحة أن الكلمة التي ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال القمة تمثل خريطة طريق واضحة لتعزيز التعاون بين الدول النامية، مشيدة بالمبادرات التي أطلقها الرئيس، والتي تهدف إلى توحيد الجهود الاقتصادية والتنموية في ظل التحديات العالمية الراهنة.  

وأشادت حارص بالمبادرات التي أطلقها الرئيس السيسي، مثل تدشين شبكة لمديري المعاهد الدبلوماسية وإطلاق شبكة للتعاون بين مراكز الفكر الاقتصادي، إلى جانب مسابقة إلكترونية لطلاب التعليم قبل الجامعي، واستضافة مصر اجتماع وزراء الصحة 2025، مؤكدة أن هذه المبادرات تترجم رؤية مصر لتكريس التعاون المشترك بين الدول الأعضاء، مع التركيز على الاستثمار في الشباب ودعم الاقتصاد المعرفي.  

وأشارت حارص إلى أن حضور رئيسي تركيا وإيران في القمة يعكس إدراك الدول الإقليمية لأهمية الدور المصري، مؤكدة أن مصر تلعب دورا جوهريا في تعزيز الحوار بين الأطراف المختلفة وحل النزاعات، وهو ما يدعم الاستقرار الإقليمي، مضيفة أن مصر تستغل رئاستها للمنظمة لتكون منصة للحوار الإقليمي، بما يعزز التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الإسلامية.  

ولفتت حارص إلى أن استضافة القمة في العاصمة الإدارية الجديدة تعكس رسالة واضحة بأن مصر تمضي قدمًا في تحقيق التنمية الشاملة، ما يعزز مكانتها كوجهة دولية للاستثمار والحوار الدبلوماسي، مؤكدة أن اللقاءات الثنائية التي تعقد على هامش القمة تتيح فرصًا لتعزيز الشراكات الاقتصادية، ما يضع مصر في صدارة المشهد الدولي كقوة إقليمية رائدة تسعى لتحقيق التنمية المستدامة.

مقالات مشابهة

  • خارجية النواب: قمة مجموعة الثمانية النامية تجسد ريادة مصر في تعزيز التعاون
  • عربية النواب: قمة الثماني النامية فرصة تاريخيّة لإقامة تكتل سياسي واقتصادي كبير
  • خارجية النواب: قمة مجموعة الثمانية النامية تجسد ريادة مصر في تعزيز التعاون 
  • أستاذ علوم سياسية: قمة الدول الثماني النامية تعكس تجدد خطتنا الاقتصادية
  • عربية النواب: قمة الثماني النامية فرصة تاريخيّة لإقامة تكتل سياسي واقتصادي كبيرين
  • عضو بالوحدة الاقتصادية العربية: مجموعة الدول الثماني تخلق سبل عمل جديدة
  • التنسيقية ترحب باستضافة مصر للقمة الاقتصادية للدول الثماني النامية
  • كاتب صحفي: دول مجموعة الثماني النامية صاحبة مصلحة في استعادة الهدوء بالمنطقة
  • باحث: مجموعة الدول الثماني النامية يمكن أن تكون قوة عالمية
  • هدى رؤوف: مجموعة الدول الثماني النامية يمكن أن تكون قوة عالمية