بعد معاناة النزوح.. ما هو الروتين اليومي الصارم لعائلات غزة من أجل النجاة؟
تاريخ النشر: 7th, January 2024 GMT
يجلس أفراد عائلة أبو جراد في زاوية بجنوبي غزة متشبثين بروتين صارم ليتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.
وتركت العائلة وراءها منزلا بثلاث غرف للنوم شمالي غزة بعد اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل قبل حوالي ثلاثة أشهر.
العائلة المكونة من 10 أفراد تعيش اليوم في خيمة تبلغ مساحتها 16 متر مربع، تقبع على أرض رملية محاطة بالنفايات، وهي مثال فقط على عائلات فلسطينية عدة نزحت بسبب النزاع الأخير.
كل عائلة تأخذ على عاتقها مهام يومية محددة، من بين جمع أغصان الأشجار وصولا إلى إشعال النيران للطبخ والبحث في أسواق المدينة على الخضار، إلا أن جهودهم لا تخلو من اليأس، وفق ما ذكرته "أسوشيتد برس" التي تحدثت لأسرة أبو جراد.
وتقول عواطف أبوجراد، وهي من كبار السن في العائلة: "في الليل، تحوم الكلاب فوق الخيام.. نحن نعيش مثل الكلاب".
ويقول الفلسطينيون الذين لجؤوا إلى جنوب غزة إنهم يكافحون كل يوم للعثور على الغذاء والماء والدواء والحمامات الصالحة للاستخدام، وطوال الوقت يعيشون في خوف من الغارات الجوية الإسرائيلية والتهديد المتزايد للأمراض.
اقرأ أيضاً
المرصد الأورومتوسطي: 4% من سكان غزة بين شهيد ومفقود وجريح
وكان القصف الإسرائيلي والغزو البري لغزة، الذي دخل الآن أسبوعه الثالث عشر، سببا في دفع جميع الفلسطينيين تقريبا في قطاع غزة نحو مدينة رفح الجنوبية على طول الحدود المصرية.
وكان عدد سكان المنطقة قبل الحرب يبلغ نحو 280 ألف نسمة، وهو رقم ارتفع إلى أكثر من مليون في الأيام الأخيرة، وفقا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة "أونروا".
وتكتظ المباني السكنية في رفح بالناس، وهم في الغالب عائلات ممتدة فتحت أبوابها لأقاربها النازحين.
وفي غرب المدينة، نُصِبت آلاف الخيام المصنوعة من النايلون، وينام آلاف الأشخاص في العراء، على الرغم من طقس الشتاء البارد والممطر في كثير من الأحيان.
وتقع معظم مناطق شمال غزة الآن تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي الذي حث الفلسطينيين في بداية الحرب على الرحيل إلى الجنوب.
ومع تقدم الحرب، صدرت المزيد من أوامر الإخلاء للمناطق في الجنوب، مما أجبر المدنيين الفلسطينيين على التجمع في مساحات أصغر من أي وقت مضى، بما في ذلك رفح وقطعة أرض مجاورة تسمى المواصي.
اقرأ أيضاً
واشنطن ترفض تصريحات بن غفير وسموتريتش حول تهجير أهالي غزة طوعيا
وحتى هذه المساحات التي يُزعم أنها آمنة تتعرض في كثير من الأحيان للغارات الجوية والقصف.
واندلعت الحرب يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، بعد أن اقتحم مسلحو حماس جنوب إسرائيل، مما أسفر عن مقتل حوالي 1200 شخص واختطاف 240 آخرين، حسب السلطات الإسرائيلية.
وأدى القتال إلى استشهاد أكثر من 22 ألف فلسطيني، وفقا لوزارة الصحة في الأراضي التي تديرها حماس.
ووفقا لنعمان، شقيق عواطف، فإن الصراع قاد الأسرة إلى جميع أنحاء قطاع غزة، إذ فروا من منزلهم في بلدة بيت حانون الحدودية الشمالية في اليوم الأول من الحرب، ثم أقاموا مع أحد أقاربهم في بلدة بيت لاهيا القريبة.
وبعد 6 أيام، أدت شدة الضربات الإسرائيلية على المنطقة الحدودية إلى إرسالهم جنوبا إلى مستشفى القدس في مدينة غزة، وعندما بدأ الناس بإخلاء المستشفى بعد يومين، سافروا إلى مخيم النصيرات للاجئين في وسط غزة، في رحلة طولها 10 كيلومترات سيرا على الأقدام.
ومكثوا في مبنى مدرسة مكتظ تابع للأمم المتحدة في النصيرات لأكثر من شهرين، لكنهم غادروا في 23 ديسمبر/كانون الأول، عندما حول الجيش الإسرائيلي تركيزه نحو أهداف "حماس" في مخيمات اللاجئين بوسط غزة.
اقرأ أيضاً
مرصد حقوقي: جنود الاحتلال ينهبون منازل أهالي غزة
وفروا إلى المواصي، في 23 ديسمبر/كانون الأول، معتقدين أنه الخيار الأكثر أمانا.
وفي الليلة الأولى، ناموا في العراء، ثم اشتروا النايلون والخشب من سوق رفح لبناء خيمة.
نعمان، محاسب، ينام على الأرض المغطاة بالنايلون مع زوجته وشقيقته وبناته الست وحفيده، ينامون على جنبهم لتوفير المساحة.
وقال إن تكلفة الخيمة تبلغ 1000 شيكل (276 دولارا)، مضيفا "إنه أمر جنوني تماما".
وفي ظل اقتصاد الحرب القائم على الطلب في رفح، تتراوح أسعار الخيام العائلية الأكبر حجما المبنية مسبقا بين 800 دولار و1400 دولار.
وتبدأ معاناة الأسرة في الخامسة صباحا، ويقول نعمان إن وظيفته الأولى هي إشعال نار صغيرة لطهي وجبة الإفطار، بينما تقوم زوجته وبناته بإعداد العجين لصنع الخبز، ثم غسل أوانيهم وصينية الطبخ المعدنية.
وبعد تناول الطعام، يتحول اهتمامهم إلى جلب الماء والطعام، وهي المهام التي تستغرق معظم ساعات النهار.
يقول نعمان، إنه والعديد من أقاربه الصغار يجمعون أباريق الماء من أحد الأنابيب العامة القريبة، وهي مياه تستخدم للغسيل فقط وغير صالحة للشرب.
اقرأ أيضاً
رسائل صمود أسطورية لأهالي غزة: ندعم المقاومة وسنعيش فوق بيوتنا المهدمة
وبعد ذلك، يتوجهون إلى واحدة من عشرات صهاريج مياه الشرب المنتشرة في جميع أنحاء المدينة، حيث ينتظرون في الطابور لساعات.
وبعد جلب المياه، يتنقل أفراد الأسرة بين عدة أسواق مفتوحة للبحث عن الخضروات والدقيق والأغذية المعلبة لوجبة ذلك المساء.
وفي هذه الأثناء، ينشغل نعمان بالبحث عن الأغصان وقطع الخشب لإشعال النار.
أما أسعار المواد الغذائية فقد ارتفعت بشكل ملحوظ في ظل نقص حاد للغذاء والدواء في قطاع غزة نقصا حادا في الغذاء والدواء، حيث يُعتمَد إلى حد كبير على المساعدات والإمدادات التي تتدفق عبر معبرين، أحدهما مصري والآخر إسرائيلي، وعلى ما تمت زراعته في الحصاد الأخير.
وقالت الأمم المتحدة، في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، إن أكثر من نصف مليون شخص في غزة، أي ما يقرب من ربع السكان، يعانون من الجوع.
وتقول داليا أبو سمهدانة، وهي أم شابة تعيش مع عائلة عمها في منزل مزدحم يضم 20 شخصا في رفح، إن المواد الغذائية الأساسية الوحيدة في سوقها المحلي هي الطماطم والبصل والباذنجان والبرتقال والدقيق.. كلها لا يمكن تحمل كلفتها تقريبا.
اقرأ أيضاً
صحيفة إسرائيلية: إيمان الفلسطينيين وصمودهم في غزة دفع الأمريكيين للإقبال على الإسلام (فيديو)
ويبلغ ثمن كيس الدقيق الذي يبلغ وزنه 25 كيلوجراما، قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، حوالي 10 دولارات.
ومنذ ذلك الحين تقلبت بين 40 و 100 دولار.
وقالت أبو سمهدانة، وهي غير متأكدة من كيفية إطعام ابنتها: "لقد نفدت أموالي تقريبا".
ويحق للفلسطينيين النازحين في رفح الحصول على مساعدات مجانية إذا قاموا بالتسجيل لدى وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، التي توزع الدقيق والبطانيات والإمدادات الطبية في 14 موقعا في جنوب غزة.
وغالبا ما يقضون ساعات في الطابور في انتظار توزيع المساعدات.
وقالت أبو سمهدانة، وهي في الأصل من مدينة خان يونس الجنوبية القريبة، إنها حاولت التسجيل للحصول على مساعدات مجانية عدة مرات، ولكن تم رفضها بسبب نقص الإمدادات المتاحة.
جولييت توما، مديرة الاتصالات في الوكالة التابعة للأمم المتحدة، تقول إن الوكالة تعاني ببساطة من ضغوط شديدة، وهي تقدم بالفعل الدعم لـ 1.8 مليون شخص في غزة، مشيرة إلى أنها لا تعرف ما إذا كانت الوكالة قد توقفت عن تسجيل طالبي المساعدة الجدد.
اقرأ أيضاً
برامج كوميدية بقنوات عبرية تسخر من معاناة أهالي غزة.. وحقوقية إسرائيلية: نحن فاشيون
ومع قلة الخيارات المتبقية، لجأ بعض الفلسطينيين الجياع في رفح إلى انتزاع الطرود من شاحنات المساعدات أثناء مرورها.
وأكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن بعض إمدادات المساعدات سُلِبت من الشاحنات المتحركة لكنها لم تقدم أي تفاصيل.
وقد أبلغت منظمة الصحة العالمية عن عشرات الآلاف من حالات التهابات الجهاز التنفسي العلوي والإسهال والقمل والجرب وجدري الماء والطفح الجلدي والتهاب السحايا في ملاجئ الأمم المتحدة.
ويعود الانتشار السريع للمرض أساسا إلى الاكتظاظ وسوء النظافة بسبب نقص المراحيض والمياه اللازمة للاغتسال.
وقامت عائلة أبو جراد بحفر مرحاض مؤقت ملحق بالخيمة لتجنب الحمامات المشتركة.
ومع ذلك، فإن الأسرة معرضة للإصابة بالأمراض.
وقالت ماجدة، زوجة نعمان: "حفيدتي تبلغ من العمر 10 أشهر، ومنذ يوم مجيئنا إلى هذا المكان وهي تعاني من فقدان الوزن والإسهال.. الذهاب إلى الصيدلية لا يقدم سوى القليل من المساعدة"، مضيفة "لا يمكننا العثور على أي أدوية (مناسبة) متاحة".
اقرأ أيضاً
انعدام الغاز والكهرباء يجبر أهالي غزة نحو مواقد الحطب وحرق الملابس
المصدر | أسوشيتد برسالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: حرب غزة غزة إسرائيل قصف روتين نزوح رفح أزمة إنسانية للأمم المتحدة اقرأ أیضا أهالی غزة فی رفح
إقرأ أيضاً:
أن تكون نازحا!
مما يزيد في صدق كتابة الإنسان وجعل ما يكتبه يلامس قلوب القراء، معايشته تفاصيل القضية التي يكتب عنها، سواء فرحا أو حزنا، وإلا سيقل تأثير الكاتب بالقرّاء، وسيفتقدون دسم الدهشة في كلماته.
حاولتُ مرارا الكتابة عن تجربة النزوح والنازحين، لم يكن الأمر سهلا، ولم تسعفني الكلمات؛ لأني لم أكن أحد أعضائها بالمعنى الدقيق للكلمة بعد، صحيح أنني كنتُ مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لكن لم أعش بخيمة، على اعتبار أن محافظتي لم يصلها إشعار بالإخلاء بعد، وهنا يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل "الشوف مش زي الخراف" يعني "من يرى ليس كمن يسمع".
أما منذ شهر أيار/ مايو 2024 إلى الآن -وإلى أجلٍ غير مسمى- فقد دخلتُ نادي النازحين بما فيه من ألمٍ ومعاناة، فالآن أكتبُ ودمعُ العينِ ينسكبُ عن تجربةِ النزوح.
فالنزوحُ أيها السادة ليست كلمة تُقال، أو فعلا يمارسه الإنسان وهو في كامل الفرح والسرور، بل يمارسه وهو في كامل القهر والحرمان، وهو أن يخرج من بيته بعد وصول إخطار له من طائرات الاحتلال، أو وصول صواريخ الاحتلال لتجبره دونما تفكير على إخلاء بيته أو منطقة سكناه ليصبح هائما على وجهه يبحث عن مأوى له ولعائلته، وهنا يُصاب الإنسان بالخوفِ والقهر حين يشعر بأن عليه إخلاء بيته الذي بناه على مدار سنوات، وله في كل ركنٍ درايةٌ ورواية.
لقد كنت مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، والذي يحتوي على 100 خيمة بعدد أفراد يصل إلى 800 شخص، ولكل فرد احتياجات حسب سنه وجنسه.
كنت أتابع أمورهم باهتمام وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم من خلال التواصل مع المؤسسات المانحة والداعمة، كما كنا ننفذ أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال وندوات توعوية للنساء، وفتحنا مركزا لتحفيظ القرآن كان مقره في الطابق الثاني من بيتي حتى نشعرهم بالأمان.
كنت أرى في أعينهم الأسى وأستمع لقصصهم فلكل إنسان قصة، منهم من كان يتجهز للسكن في شقته الجديدة الجاهزة لكن الحرب لم تمهله، ومنهم من لم يمر على سكنه في شقته سوى أيام أو أشهر قليلة، ومنهم من لم ينته من تجهيز بيته، ومنهم من لم يسدد أقساط بيته الجديد بعد، ولكل نازح رواية لا تكفي لسردها ألف ليلة وليلة.
وبالعودة لعنوان المقال، فـ"أن تكون نازحا!"، يعني:
- أن تبدأ رحلة البحث عن مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس منذ طلوع الشمس حتى بعد غروبها، وأبسط مثال قد تمشي مسافة نصف كيلومتر حتى توفر عبوة ماء.
- أن تقضي وقتا طويلا في البحث عن الحطب والكرتون لمعاونة زوجتك في صناعة الخبز لأطفالك في ظل انعدام الغاز.
- أن تبقى لمدة أسبوعين وأكثر دون استحمام، وملابسك دون تبديل؛ لأنك لم تتمكن من إحضار ملابسك كاملة حين غادرت منزلك..
- أن قضاء حاجتك يسبب لك حرجا، فكل مخيم فيه حمام عام، ودخولك أنت أو أحد أفراد أسرتك للحمام يشعركم بالحرج خاصة النساء، وحتى الحمامات التي تكون داخل الخيمة تخضع لقانون الدور والترتيب.
- إن معاناتك تتفاقم بوجود أطفال ومرضى وكبار السن، فجميعهم يحتاجون لطعام خاص ورعاية خاصة وهدوء وراحة، وهذه الأمور يتعذر توفرها دوما.
- ألا تشعر بالأيام وهي تمر سريعا، فما أن يبدأ الأسبوع حتى ينتهي، وربما هي نعمة.
- أن تهتم بمتابعة الأخبار لتعرف أين وصلت الأمور، ثم تصاب بخيبة أمل حين لا تأتي الأخبار بما يسر القلب.
- أن تصبح خبيرا بكل أنواع الطقوس المجتمعية التي كانت في بلدك وأنت لا تعرفها.
- أن تفرق بين المهم والأهم، والضروري العاجل والضروري غير العاجل.
- أن تدرك أن قيمة المرء فيما يحسنه.
- أن تتأكد بأنك قد تصبح الشهيد التالي.
لكن رغم المصائب في غزة، وخاصة في مخيمات النزوح، رأينا الأمل والعزة والفخر في نفوس الناس فمنهم من تزوج في الخيمة، ومن ناقش رسالة الماجستير في الخيمة، ومن وضعت مولودها في الخيمة، وحفظ القرآن في الخيمة، ومنهن من تَكوّن في رحمها جنينٌ وهي في الخيمة، ومنهم من أكمل فصله الأخير في الجامعة للحصول على بكالوريوس تربية إسلامية وهو في خيمة مثل كاتب هذا المقال.
إجمالا، ما سبق هو غيض من فيض مما نعانيه في مخيمات النزوح، لكن يبقى أملنا بالله قويا ليرزقنا نصرا مؤزرا قريبا عاجلا إن شاء الله، رغم عواصف الشتاء.
وللحديث بقية مع الجرح الثالث من جروح النزوح.