نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، مقال رأي، لمؤلف كتاب عن الناقدة سوزان سونتاغ فاز عليه بجائزة بوليتزر، بنجامين موسير، قال فيه "إن معاداة الصهيونية ليست مشابهة لمعاداة السامية، والتاريخ يثبت خطأ المقاربة بين المصطلحين". 

وأشار موسير، في البداية للقرار الذي مرره مجلس النواب الأمريكي في كانون الأول/ ديسمبر وسط سفك الدم والدمار في غزة اعتبر فيه "معاداة الصهيونية تساوي معاداة للسامية"، وتم تمرير القرار بنسبة 311 صوت لصالح 14 صوتا، حيث عبر 91 نائبا حضروا التصويت عن الإجماع بين النخبة السياسية الأمريكية بأن معارضة الصهيونية هو مساو للكراهية التآمرية لليهود.

 

وتابع: "لو لم تكن للقرار أية تداعيات عملية، فإن الإجماع وراءه له تداعيات. ويعكس القرار غير المتوازن دعم الحكومة الأمريكية الدبلوماسي والعسكري والأيديولوجي المطلق لإسرائيل، التي تحكمها أكثر الحكومات المتطرفة في تاريخها والتي تشن حملة ضد عملية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر والتي تسببت بمقتل الآلاف الفلسطينيين بمن فيهم 7.700 طفلا وفي عدد قليل من الأسابيع".

وأضاف الكاتب: "عندما يعلمون بالتصويت هذا، قد يكبت الكثير من الناس على معرفة بالتاريخ اليهودي ابتسامة ساخرة. فإن معاداة الصهيونية هي مفهوم خلقه اليهود وليس أعداؤهم؛  وقبل الحرب العالمية الثانية، كانت الصهيونية من أشد الموضوعات الانقسامية والجدلية في عالم اليهود". 

وأردف: "ظهرت أشكال يسارية وأخرى يمينية لمناهضة الصهيونية، وأشكال دينية وأخرى علمانية وكذا أشكال في كل بلد عاش فيه اليهود" مؤكدا أن "أي شخص مطلع على هذا التاريخ، سيندهش من تحول معارضة الصهيونية، كما ينص القرار إلى مساو لمعارضة اليهود، وليس اليهودية بل وكراهية اليهود أنفسهم". 

واسترسل: "لكن الخلط هذا لا علاقة له بالتاريخ، وعوضا عن ذلك فهو سياسي، هدفه تشويه المعارضين للعنصرية"، مشيرا إلى أن: "العرق ظل دائما في قلب النقاش. وظن الكثير من مناهضي الصهيونية أن اليهود هم في لغتهم "كنيسة"، وهي تعني أنهم وإن تشاركوا في  معتقدات معينة وتقاليد وصلات مع أبناء دينهم في الأمم الأخرى، فإنهم ينتمون في النهاية إلى مجتمعاتهم الوطنية ومثل أي شخص آخر".
 
وتابع: "بالنسبة لهم فابن الديانة اليهودية الأمريكي هو يهودي أمريكي مثل الأمريكي الأسقفي أو الأمريكي الكاثوليكي، هو أمريكي أولا. ولم يكونوا يريدون النظر لليهودي باعتباره جزءا من عرق مختلف ومثل ما يعتقد المعادين للسامية غير قابل للاستيعاب. فهؤلاء الناس لا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم شعب في المنفى كما ترى الصهيونية، بل واعتبروا أنفسهم في الوطن. وخافوا من أن التركيز على الإثنية أو العرق قد يعرضهم للاتهامات القديمة عن الولاء المزدوج والتي قوضت محاولات تحقيق المساواة". 


وأضاف: "في الحقيقة فإن التفكير المناهض للصهيونية سابق تاريخيا للصهيونية، وظهر من الاحتمالية التي ظهرت أولا في نهاية القرن الثامن عشر. ففي رسالته الشهيرة ليهود نيوبورت عام 1790".

وذكر الكاتب نفسه، أن جورج واشنطن، أعلن أن "الجميع يتمتعون بحرية الضمير وحصانة المواطنة. ولم تعد تسامحا يتم الحديث عنه وكأنه تساهلا مع فئة من الناس وكأنه حق طبيعي متأصل، ذلك أن حكومة الولايات المتحدة، ولحسن الحظ، والتي لا تمنح التعصب  حماية ولا تعطي مساعدة للاضطهاد، تطلب من الذين يتمتعون بحمايتها التصرف كمواطنين صالحين".

إلى ذلك، أردف، بأنه "بعد سنوات قليلة، عرض نابليون على يهود فرنسا إمكانية الحصول على الجنسية الفرنسية الكاملة في دولة علمانية، وعمم هذا المبدأ على المناطق الواسعة التي غزاها". مضيفا أن: "انفتاح الغيتوهات أطلق العنان لدفقة من الإبداع بين المفكرين اليهود الذين بدأوا يتعاملون مع فكرة محفوظة في الصلوات التقليدية وهي أن على اليهود العودة إلى فلسطين حيث أرض أجدادهم وسوف يحكمهم سليل بيت داوود ويعيد التضحيات في ظل الكهنوت من نسل هارون ويصلون في المعبد الذي يعاد بناؤه".

وأفاد أنه "قد رفض الكثير من المفكرين الحداثيين هذه الفكرة والطقوس والصيغ على أنها مهجورة وعفا عليها الزمن وخيالية. فبدلا من انتظار الـ "ميسايا" أو المخلص الذي سيقوم بإحياء الموتى، عبروا بدلا من ذلك عن أمل بعصر ميسياني من السلام والأخوة. ولن يكون هذا مشروطا بالأمل الأسطوري بالعودة إلى صهيون. وبدلا من ذلك، فعلى اليهود الآن وهنا العيش في العالم الحقيقي".

وأكد أنه "مع هذه الفكرة جاء مفهوم أن اليهود بكلمات حاخام. مواطنون وأبناء موالون للأرض التي ولدوا فيها أو تبنوها كبلد، وهم مجتمع ديني وليسوا أمة؛ ورغم التعامل في البداية مع هذه الفكرة راديكالية إلا أن غالبية اليهود الغربيين تبنوها بشكل تدريجي. وفي النهاية وجدت هذه الفكرة أتباعا متحمسين لها بين يهود الولايات المتحدة". 

وفي السياق نفسه، قال الحاخام غوستافوس بوزاننسكي من تشارلستون، في ساوث كارولينا في عام 1841 "هذا البلد هو فلسطيننا، هذا البلد هو قدسنا، وبيت الله هذا هو معبدنا". وبعد قرن وأثناء الهولوكوست في الحرب العالمية الثانية، أعلن الحاخام ديفيد شولمان من معبد إيمانو-إيل في نيويورك قائلا "بالنسبة لي، فجوهر الإصلاح في اليهودية هو رفض القومية اليهودية، وليس بالضرورة تناول لحم الخنزير". 

ولاحظ عدد من اليهود أن الحديث عن "الشتات" وحتى بين "الشعب اليهودي" يشبه افتراءات المعادين للسامية والتي اتهمت اليهود بأنهم إمبراطورية غير مندمجة داخل إمبراطورية. فيما لاحظوا، حيث لم يجدوا صعوبة في الملاحظة أن معظم المعادين للصهيونية كانوا من أشد المتحمسين للصهيونية: أب من الأفضل التخلص من اليهود. 

وبعد وعد بلفور في عام 1917 الذي وعد بدولة يهودية إلى أقلية يهودية صغيرة تعيش في فلسطين، لاحظ لورد مونتاغو، اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية أن "سياسة حكومة جلالته معادية للسامية في النتيجة وستكون أرضية لتحشيد المعادين للسامية في كل دولة بالعالم". 


وتابع الكاتب: "لم تكن هناك طريقة لحجب الانقسامات هذه سوى كارثة ساحقة مثل هولوكوست النازية، ومهما فكر اليهود بأنفسهم، جادلت الصهيونية أن الأغيار لن يقبلوا بهم أبدا. فمهما شعروا أنهم في وطنهم ومهما عبروا عن ولائهم، ومهما مات الكثيرون منهم دفاعا عن البلد، سيواجهون في النهاية الإضطهاد. ولا يهم إن أطلقوا على أنفسهم شعبا أم عرقا، ولا يهم إن اعتبروا أنفسهم ألمانيين أو رومانيين أو كنديين، فالعالم الخارجي لا يرى إلا اليهود. فقد أثبت الواقع الكارثي أن اليهود ليس إلا أنفسهم للإعتماد عليها، وأنهم بحاجة لوطنهم الخاص وجيشهم الخاص ودولتهم والتي يجب أن توجد في فلسطين". 

وأضاف: ؛بدا وكأن الهولوكوست دليل إثبات لصحة مقولات الصهيونية. وبالنسبة لكل اليهود تقريبا، فإن ظهور إسرائيل بعد ثلاثة أعوام من هزيمة هتلر هو بمثابة معجزة قيامة. وأضافت انتصارات إسرائيل ضد أعداء أقوياء للحس بأن اليهود لن يعانوا ابدا ما عانوه من قبل.  وبالنسبة لليهود حول العالم، حتى اليهود الذين لم تطأ أقدامهم إسرائيل، فقد حل الفخر بإسرائيل محل الدين الذي فقد الكثيرون صلتهم به،  فبعد ليل طويل في المنفى "غالوت" ظهر فجر رائع وأخيرا".

ويرى الكاتب أنه "خلف الإجماع ظلت الصهيونية مثار جدل. فقد كانت مثيرة للجدل وسط المجتمعات الدينية المتشددة التي آمنت بأن الملخص وحده هو من سيقود اليهود إلى الأرض المقدسة، ورفضوا ما رأوه مادية وعدم صلاح وفسوق المستوطنين اليهود. فيما كانت الصهيونية مثيرة للجدل بين الاشتراكيين والشيوعيين الذين رفضوا كل أشكال القومية". 

وأكد: "لكن النقاش اتخذ بعد إنشاء دولة إسرائيل منحى آخر. فقد كان جوهر الرفض بين المرعوبين  يدور حول ما تعنيه إسرائيل لسكان فلسطين الأصليين. وبالنسبة لهؤلاء، فإن الدروس من معاداة السامية كانت رفض كل أشكال العنصرية وبالذات تلك المجازر التي ارتكبت ضد اليهود. وشعروا بالغضب من أن شعبا لا مسؤولية له عن جرائم النازية سيدفع ثمنها".

وأضاف: "نظرا لالتزامهم بالقيم العالمية فقد تصادموا مع الدولة اليهودية. ونظرا لاستمرار المخاطر التي واجهتها إسرائيل، وظلوا لعقود خارج الإهتمام ومن النادر ما استمع لمواقفهم وتم تجاهلهم ووصفوا أحيانا بـ "اليهود الكارهين لأنفسهم" أو "المعاقين عقليا".

 وأشار إلى أنه "حتى المفكرين الذين ظلوا يتعاملون مع إنشاء إسرائيل كخطأ، حملوا أملا بأن يتم حل النزاع بتقسيم سلمي. وأشارت اتفاقيات أوسلو لهذا الإتجاه، لكن اغتيال اسحق رابين، الذي كان أثرا مباشرا لهذه النقاشات، وضع حدا لهذا الإفتراض، وفتح المجال أمام ظهور سلسلة من الحكومات اليمينية المتطرفة. وجعلت سياساتها من إمكانية ظهور دولة فلسطينية أمرا مستحيلا. ونتيجة لهذا، فقد زدات مناهضة الصهيونية، بدلا من انكماشها، ولم يحدث أن تواجه دولة في العالم  مساءلة بشأن "حقو الوجود" مثل إسرائيل". 

وأضاف: "كان غياب الإعتراف، أهم وربما الأهم من انشغالات الدبلوماسية الإسرائيلية. وربما كانت أحيانا تعبيرا عن رفض أناس يكرهون اليهود، ولكن بين اليهود أنفسهم، كان رفض فكرة الصهيونية. وهي رفض لفكرة الإثنية والقومية، وهي رفض لفكرة المواطنة المرتبطة بالعرق. فإن إسرائيل التي تصف نفسها بالغربية والديمقراطية لا تزال قائمة على هذه الأفكار". 


وتابع: "لأنها أصبحت تعرف نفسها كدولة يهودية فقد بات المدافعون عنها يصفون المعارضين لها بمعاداة السامية. والمشكلة في هذا الوصف؟ هو أن معظم الذين يشتركون بهذا الإعتقاد كانوا من اليهود". 

وقال المدير التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير بأمريكا، جيسون غرينبلات، "لا يوجد هناك نقاش بأن مناهضة الصهيونية تستند على مفهوم واحد، إنكار حقوق الشعب الواحد. وبالنسبة للناس الذين لا يعرفون أي شيء عن واحد من أقدم  وأكثر النقاشات استمرارية في التاريخ اليهودي، فكلامه يبدو معقولا. وأي شخص يفعل هذا لا يمكنه إلا الإعجاب بالبراعة المطلوبة في تقديم هذا السؤال المثير للانقسام، وهو سؤال ظل على مدى قرنين في قلب الهوية اليهودية ويحظى بالإجماع، ولم يكن النقاش هذا أعلى منه الآن".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية حقوق الشعب التاريخ اليهودي امريكا التاريخ اليهودي حقوق الشعب صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة معاداة الصهیونیة معاداة السامیة هذه الفکرة أن الیهود

إقرأ أيضاً:

عداء المستعمرة الصهيونية للأمم المتحدة

منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها المستعمرة الصهيونية على غزة، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلقت الدولة الاستعمارية العنصرية حملة دعائية واسعة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة تحت شعار مناهضة الساميّة. فرغم عجز المنظمة الأممية التي تمثل القانون الدولي، واستلابها من قبل الإمبريالية الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الإسرائيلي، فقد باتت منظمة الأمم المتحدة مستهدفة من قبل الكيان الاستعماري العنصري لكونها تمثل القانون الدولي، حيث تتعرض وكالات الأمم المتحدة المتعددة، كمحكمة العدل الدولية ومنظمة الأونروا وقوات حفظ السلام التابعة لها في لبنان، للهجوم اللفظي الرمزي والاستهداف المادي والجسدي.

ولم يسْلَم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الداعم لإسرائيل من الاستهداف، وتعرّض للتوبيخ حين أشار إلى دور الأمم المتحدة في إنشاء إسرائيل. فحين أكّد ماكرون أنه "لا يجب أن ينسى السيد نتنياهو أن بلاده أنشئت بقرار أممي"، في إشارة إلى القرار 181 الذي يقسم فلسطين إلى دولتين، واحدة "يهودية" والأخرى "عربية"، والذي تم تبنيه في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، ردّ عليه رئيس الحكومة الإسرائيلية: "لم يكن قرار الأمم المتحدة هو الذي أنشأ دولة إسرائيل، بل النصر الذي تحقق في حرب الاستقلال"، أي حرب عام 1948 ضد الفلسطينيين والدول العربية.

لكن الهجمات المنهجية ضد الأمم المتحدة لا يعود تاريخها إلى حدث "طوفان الأقصى"، فتاريخ المستعمرة الإسرائيلية حافل في مهاجمة منظمة الأمم المتحدة.

فككت عملية "طوفان الأقصى" الأساطير المؤسسة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، وكشفت الحجاب عن طبيعة المشروع الصهيوني كظاهرة استعمارية تقوم على الإبادة والمحو والتطهير العرقي
لقد فككت عملية "طوفان الأقصى" الأساطير المؤسسة للمستعمرة الاستيطانية الصهيونية، وكشفت الحجاب عن طبيعة المشروع الصهيوني كظاهرة استعمارية تقوم على الإبادة والمحو والتطهير العرقي، إذ لم تكتف المستعمرة الإسرائيلية على مدى أكثر من عام بشن حرب إبادة شرسة على غزة ثم لبنان؛ أسفرت عن سقوط أكثر من 150 ألف شهيد وجريح فلسطينيّ ولبناني، معظمهم من الأطفال والنساء، بل تجاوزت ذلك إلى تبني نهج عدائي تجاه المؤسسات الدولية والأممية، ليشمل مؤسسات وشخصيات عدة في مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ومحكمة الجنايات الدولية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) في لبنان، ومنظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

ففي 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، أقرّ الكنيست قانونين لحظر أنشطة الأونروا في القدس الشرقية ومنع السلطة الإسرائيلية من العمل مع المنظمة أو ممثليها، وقد دفعت الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان عدة مسئولين أمميين لتوجيه مطالبات ونداءات لاتخاذ موقف حاسم تجاه الكيان الإسرائيلي، وصلت إلى حد المطالبة بتعليق عضويتها في الأمم المتحدة، فقد أوصت مقررة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فرانشيسكا ألبانيزي، في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، بالنظر في تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، وإعلانها دولة فصل عنصري، بسبب "الإبادة الممنهجة" التي ترتكبها في حق الفلسطينيين. وقالت ألبانيزي في تقرير قدمته إلى الأمم المتحدة إن إسرائيل لا ترتكب جرائم حرب في غزة فحسب، بل ترتكب إبادة جماعية "ممنهجة" في صورة مشروع يهدف لمحو الفلسطينيين من الوجود، لإقامة "إسرائيل الكبرى".

لم تقتصر ممارسات المستعمرة الإسرائيلية على الهجمات الرمزية اللفظية على الأمم المتحدة، فقد اعتمدت منذ تأسيسها على الإرهاب والاغتيالات، ففي 17 أيلول/ سبتمبر 1948، أي بعد أربعة أشهر من إنشاء دولة إسرائيل، ومع اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، اغتيل الكونت السويدي فولك برنادوت، وسيط الأمم المتحدة منذ أيار/ مايو 1948، في القدس. وكان برنادوت يعيق الطموحات الإسرائيلية بـ"خطة سلام" لم تكن تريدها إسرائيل، وقد قُتل بالرصاص على يد أربعة رجال يرتدون الزي العسكري، ولكنهم ينتمون إلى جماعة شتيرن، وهي حركة قومية متطرفة، وهذه الجماعة المسلحة تحتلّ اليوم مكانة بارزة في متحف الجيش الإسرائيلي.

وفي اللغة العبرية، يُطلق اختصارا على الأمم المتحدة "أوم"، وقد اعتاد مؤسس دولة الكيان الإسرائيلي ديفيد بن غوريون أن يقول ساخرا "أوم، شْموم"، والتي يمكن ترجمتها بعبارة "نحن لا نكترث بالأمم المتحدة". ويمكن فهم الموقف الاستعماري الإسرائيلي ومقاربته بالرؤية السياسية للإمبريالية الأمريكية، حيث تتعرض الأمم المتحدة للذم من قبل تيار واسع من الطبقة السياسية الأمريكية، التي لا ترى إمكانية خضوع الولايات المتحدة لأي هيئة دولية ولا الالتزام بأي قانون دولي عام يتعارض مع المصالح والسياسة الأمريكية.

منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الصهيونية على غزة أطلقت المستعمرة الإسرائيلية حملة منسقة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة، وعملت دون كلل على تصوير المنظمة الدولية ككيان منحرف داعم للإرهاب وضد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، واتهمت الأمم المتحدة بالعمل على مساندة الإرهاب والحيلولة دون تمكين تل أبيب من تحقيق أهدافها.

منذ اللحظات الأولى لحرب الإبادة الصهيونية على غزة أطلقت المستعمرة الإسرائيلية حملة منسقة لتشويه سمعة منظمة الأمم المتحدة، وعملت دون كلل على تصوير المنظمة الدولية ككيان منحرف داعم للإرهاب وضد حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، واتهمت الأمم المتحدة بالعمل على مساندة الإرهاب والحيلولة دون تمكين تل أبيب من تحقيق أهدافها
وأصر كيان الاحتلال على وصف حماس في غزة وحزب الله في لبنان بأنهما كيانان "إرهابيان"، وهي أوصاف لا تنسجم مع مبادئ الأمم المتحدة التي لا تصنف حماس منظمة إرهابية وتدرجها في سياق حركات التحرر. فمن على منبر الجمعية العامة في 27 أيلول/ سبتمبر 2024، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأمم المتحدة بـ"بالوعة من العصارة الصفراوية المعادية للسامية التي يجب تجفيفها"، وقال إنها إذا لم تمتثل، لن "تُعتبر أكثر من مهزلة حقيرة". ورغم مغادرة نحو ثلاثة أرباع الحاضرين القاعة، إلا أن ذلك لم يكن كافيا للحد من غطرسة نتنياهو، بل تزايد هجومه ضد جميع المنظمات الأممية الموجودة في العالم، سواء كانت عسكرية ("القبعات الزرقاء" أو قوات حفظ السلام) أو مدنية (وكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين- الأونروا). وتصف المستعمرة الإسرائيلية أي انتقاد لجرائمها في غزة بأنه "معاداة للسامية".

منذ تأسيس المستعمرة الإسرائيلية أعلنت عن ازدرائها للأمم المتحدة والقوانين الدولية، وتحت ذريعة الخطر الوجودي ومبدأ الدفاع عن النفس، اعتمدت إسرائيل عقيدة تنص على شن ضربات وحروب استباقية ضد جيران إسرائيل في حالة وجود تهديدات تعتبرها وجودية قبل أن تتحقق. ففي عام 1982، عندما اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان لطرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية وتغيير حكومة البلاد، أوضح رئيس الوزراء آنذاك، مناحيم بيغن، أنه كان يشن الحرب "لأننا نرفض أن تحدث تريبلينكا جديدة" (معسكر تريبلينكا هو معسكر إبادة تم بناؤه وتشغيله من قبل ألمانيا النازية في بولندا المحتلة خلال الحرب العالمية الثانية). وبعبارة مماثلة تحدث بنيامين نتنياهو في اليوم التالي للسابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عن "أكبر جريمة ضد اليهود منذ المحرقة". وهي إشارات واضحة للتخلص من انتقادات الأمم المتحدة بذريعة وجود "خطر وجودي" والحديث عن "معاداة السامية"، رغم أن من يتعرض لخطر وجودي حقيقي وحرب إبادة هو الشعب الفلسطيني، ومن يتعرض لجرائم الحرب هو الشعب اللبناني.

إن نهج الحرب الوقائية التي تعتمده المستعمرة الإسرائيلية، وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية وممارسات المحو والإبادة، معروفة جيدا، ولذلك حذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش مبكرا من الأساليب الوحشية التي ستمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، فبعد أربعة أيام من هجوم حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ذكّر غوتيريش بأنه وبموجب القانون الدولي "يُمنع البتّة استهداف مباني الأمم المتحدة وجميع المستشفيات والمدارس والعيادات". فقد كان غوتيريش يعلم من واقع التاريخ الخبرة والتجربة طبيعة الإجراءات الانتقامية التي سيتخذها جيش المستعمرة الإسرائيلية.

وفي 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، عندما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يهدد اللبنانيين صراحة بـ"نفس الدمار والمعاناة التي في غزة" إذا لم يذعنوا لمطالبه "بالقضاء على حزب الله"، قام الجيش الإسرائيلي بقصف ثلاثة مواقع تابعة لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) عمدا. وبعد ثمانية أيام، سُجّلت خمس هجمات إسرائيلية على الأقل ضد هذه المنظمة، وفي 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، اقتحمت دبابتان تابعتان للاحتلال موقعا لليونيفيل، ليُظهر بوضوح عدم اكتراثه بالضغوط الدولية. وفي غزة، وحتى 14 آذار/ مارس 2024، أحصت الأونروا "ما لا يقل عن 165 عضوا قُتلوا أثناء أداء واجبهم".

بلغت الوقاحة والغطرسة الصهيونية أوجها في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، حين أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن غوتيريش "شخص غير مرغوب فيه" في بلاده. ولم تكف إسرائيل خلال العام الماضي عن المطالبة بمغادرة الأونروا الأراضي الفلسطينية المحتلة، متهمة إياها بتوفير الحماية لـ"الإرهابيين"، ونظمت إسرائيل حملة دعائية نشطة تهدف إلى تصوير الأونروا على أنها "وكر للإرهابيين". ففي 26 كانون الثاني/ يناير 2024، ادّعى نتنياهو أن 12 موظفا تابعا لهذه الوكالة شاركوا في الهجوم الذي نفذته حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وجاء هذا الإعلان في اليوم نفسه الذي فتحت فيه محكمة العدل الدولية تحقيقا بخصوص "خطر محتمل بوقوع إبادة جماعية" في غزة. وسرعان ما حققت إسرائيل أول نجاح كبير لها، ففي 23 آذار/ مارس 2024، صوّت الكونغرس الأمريكي على وقف التمويل الأمريكي للأونروا حتى آذار/ مارس 2025. وهو موقف لم يتبعه في نهاية المطاف سوى القليل من دول العالم.

يبدو أن المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعها إلى عدم الاكتراث بالأمم المتحدة وحالة العزلة والنبذ الدولية المتعاظمة، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه واقتربت نهايته
وقد باشر البرلمان الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2024 مناقشة مشروع قانون لتصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"، وقد صادقت الهيئة العامة للكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة على قانونين يقضيان بوقف أنشطة الأونروا في إسرائيل. ويتطلب أي مشروع قانون التصويت عليه من الكنيست بثلاث قراءات ليصبح قانونا نافذا. وأثار قرار الكنيست انتقادات دولية واسعة، وقال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، إن القرار الصادر عن الكنيست الإسرائيلي بحظر "أنشطتنا غير مسبوق، ويشكل سابقة خطيرة، ويعارض ميثاق الأمم المتحدة".

خلاصة القول أن عملية "طوفان الأقصى" فضحت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية التي تقوم على المحو والإبادة والتطهير العرقي، ونهج الحروب الوقائية وتكتيكات مكافحة التمرد الاستعمارية، وكشفت عن العداء المتأصل لكيان الفصل العنصري للقانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة.

وقد شكلت غزة ذوات أخلاقية جديدة ترفض السردية الصهيونية وتناهض الاستعمار الاستيطاني، وأصبحت القضية الفلسطينية مسألة عدالة سياسية وقضية أخلاقية، فمقاومة السكّان الأصليين الفلسطينيين كانت منذ البداية ضدّ الاستعمار الاستيطاني وحرب الإبادة والتطهير العرقي، ومن أجل التحرير، وما قامت به حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يقع قي سياق من عمليات المقاومة الفلسطينية التي بدأت منذ العام 1948. ويبدو أن المأزق الوجودي الذي تعيشه المستعمرة تدفعها إلى عدم الاكتراث بالأمم المتحدة وحالة العزلة والنبذ الدولية المتعاظمة، فالمستعمرة تدرك أن المشروع التاريخي للصهيونية بلغ مداه واقتربت نهايته.

x.com/hasanabuhanya

مقالات مشابهة

  • دلالات الزيارة السامية
  • بالصواريخ والمسيرات.. حزب الله يواصل دك المواقع والقواعد والمستوطنات الصهيونية
  • اختراق حساب المندوبية السامية للتخطيط على موقع X
  • هكذا يريد اليهود تنفيذ قرارات الأمم المتحدة
  • ما هي قاعدة “حتسور” الجوية الصهيونية التي استهدفها حزب الله للمرة الثانية
  • جمهورية اليهود المخفية.. «بيروبيدجان»
  • عداء المستعمرة الصهيونية للأمم المتحدة
  • خبير فرنسي: هذه هي الإدارة الأكثر معاداة للفلسطينيين في التاريخ الأميركي
  • 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
  • ترودو يندد بأعمال الشغب في مونتريال ويؤطرها ضمن «معاداة السامية»