في العمق : لماذا اهتمام جلالة السلطان برصد ومتابعة الظواهر السلبية فـي المجتمع العماني؟
تاريخ النشر: 19th, December 2023 GMT
أشار حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ـ في أكثر من خِطاب له إلى التحدِّيات والاتِّجاهات والظواهر الفكريَّة السلبيَّة الَّتي تواجه مُجتمع سلطنة عُمان عامَّة قِيَمه ومبادئه وثوابته وأخلاقه وهُوِيَّته، وتواجه النشء خصوصًا، في ظلِّ اتِّساع المتغيِّرات العالَميَّة وتسارعها، وزيادة حدَّة المؤثِّرات الداخليَّة والخارجيَّة الفكريَّة على المنظومات المُجتمعيَّة الأخلاقيَّة والثقافيَّة، وقَدْ تناول جلالة السُّلطان في خِطابه السَّامي بالعيد الوطني الثالث والخمسين المَجيد في افتتاح دَوْر الانعقاد الأوَّل من الدَّوْرة الثامنة لمجلس عُمان في الرابع عشر من نوفمبر 2023، هذا الموضوع بشكلٍ صريح حيث جاء في عاطر النطق السَّامي «إنَّنا إذ نرصد التحدِّيات الَّتي يتعرض لها المُجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقيَّة والثقافيَّة؛ لنؤكِّد على ضرورة التصدِّي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المُجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوِيَّة الوطنيَّة، والقِيَم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأُسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتِّجاهات الفكريَّة السلبيَّة، الَّتي تخالف مبادئ دِيننا الحنيف وقِيَمنا الأصيلة، وتتعارض مع السَّمت العُماني الَّذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنيَّة».
وبالتَّالي ما تُمثِّله توجيهات جلالة السُّلطان المُعظَّم من مرتكزات لبناء إطار إجرائي وطني واضح المعالم مُحدَّد الأدوات، في إدارة الظواهر الفكريَّة وتتبعها والكشف عَنْها ودراستها وتحليلها وفَهْم الدوافع والأسباب الَّتي أسهَمت في انتشارها، وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناغم مع هُوِيَّة المُجتمع العُماني، ويجسِّد جهود الحكومة والقِطاع الخاصِّ في تحقيق رؤية «عُمان 2040» في محور الإنسان والمُجتمع، فلماذا شكَّل هذا الموضوع هاجسًا لدى جلالة السُّلطان المعظم؟ وما الدلالات الَّتي تحملها التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان في التصدِّي لها، ودراستها ومتابعتها؟ وماذا يجِبُ على قِطاعات الدَّولة المعنيَّة ومؤسَّساتها أن تفعلَ في سبيل ترجمة التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان إلى برنامج عمل واستراتيجيَّات أداء متقنة؟
إنَّ الحديث عن الظواهر السلبيَّة في المُجتمع ليس ترفًا فكريًّا، بل خيار وطني يعكس تعاظم التحدِّيات الكونيَّة واتِّساع نطاقها وتشابك مساراته، الأمْرُ الَّذي باتَ يُشكِّل تهديدًا للنَّاشئة والقِيَم والأخلاق والثوابت والهُوِيَّة العُمانيَّة، وما ارتبط بالتقنيَّات الحديثة من تحدِّيات فكريَّة اختزلت الكثير من القِيَم والثوابت وسَعَتْ إلى إخراج النشء من إنسانيَّته ومبادئه وأخلاقه وانتمائه الوطني وولائه لقيادته، وتوجيهه في إطار سلبيَّة المفاهيم والتراكمات الَّتي باتَتْ تبثُّها المنصَّات الاجتماعيَّة والحسابات الوهميَّة إلى التغرير بالنشء وانسلاخه من قِيَمه ومبادئه وخصوصيَّته الوطنيَّة، سواء عَبْرَ تشويه صورة الأخلاق والقِيَم؛ باعتبارها من الماضي وأنَّها أمور تعَبِّر عن الرجعيَّة وعدم اللحاق بالركب الحضاري العالَمي وأنَّها تدعو إلى التقوقع على الذَّات، وأنَّها سبب تخلُّف الفرد عن تحقيق المنافسة، أو من خلال إعادة توجيه الصورة الذهنيَّة لدى النشء حَوْلَ واقعه وظروفه والتحدِّيات الَّتي يواجهها في الحصول على الوظيفة والاستقرار المهني وغيرها، بالإضافة إلى زرع المفاهيم المرتبطة بالاستهلاك والاستقلاليَّة والحُريَّة والخروج من جلباب الأبوَّة وغيرها من المفاهيم الَّتي باتَتْ تضع النَّاشئة في حالة من الحيرة والتذبذب الفكري والاختلال القِيَمي، وتشجيعه على الخروج عن مظلَّة الأُسرة والاحتواء العائلي، بهدف إنتاج شخصيَّة أخرى مقاومة للموروث الحضاري والقِيَمي والإنساني، لا يعترف بمواطنته ولا ينتمي لوطنه ولا يصنع لممارساته حدودًا أخلاقيَّة أو إطارًا مُجتمعيًّا يلتزم به، بل يعيش في إطار الذَّات، ويمارس دَوْره في إطار المزاجيَّة والأثَرة، وليس في كونه التزامًا أُسريًّا أو مُجتمعيًّا، ودُونَ أيِّ اعتبار لقِيَم المُجتمع ومفاهيم الذَّوق والمشاعر والخصوصيَّات والمشتركات الإنسانيَّة.
وفي الوقت نَفْسه تُمثِّل الظواهر الفكريَّة السلبيَّة على اختلاف تصنيفاتها ومجالاتها وأنماطها ونماذجها وأمثلتها أحَد أهمِّ مُهدِّدات الأمن الاجتماعي ومنغِّصات الاستقرار الأُسري ومرهقات التنمية، وما باتَتْ تسبِّبه من هدر للموارد والإمكانات وخلق حالة من اللااستقرار في المُكوِّن الاجتماعي الوطني والسَّلام الداخلي بَيْنَ أفراده، الأمْرُ الَّذي يستدعي توجيه جهود المؤسَّسات إلى العمل على مراجعتها وإدارتها والحدِّ مِنْها، فهي من جهة تتطلب موازنات وجهودًا مؤسَّسيَّة وتنسيقًا وتخطيطًا وبرامج إعلاميَّة وتوعويَّة وتثقيفيَّة ونماذج محاكاة وتشريعات وضوابط، ومن جهة أخرى تستهلك الكثير من الموارد المُجتمعيَّة الَّتي قَدْ تكُونُ موجّهة لأولويَّات تنفيذ المشاريع وتعزيز الرفاه الاجتماعي، وتوفير فرص عمل للمواطنين، ويصبح وجود هذه الظواهر السلبيَّة واتِّساع نطاقها وانتشارها في المُجتمع مدخلًا لإشاعتها وتقمُّصها أو استدامة ممارستها، بما يفتح الطريق لنُموِّ الجريمة في المُجتمع واتِّساع انتشارها بَيْنَ فئاته، ذلك أنَّ الجرائم نتاج لممارسات غير مسؤولة في المُجتمع وجدت في ظلِّ غياب الرقابة والضَّوابط والرَّصد والمتابعة بيئة خصبة لنُموِّها واتِّساع نطاقها، فإنَّ الظواهر الفكريَّة السلبيَّة والجرائم وجهان لعملة واحدة، وخطرهما يُمثِّل تهديدًا للأمن الاجتماعي والسِّلم الداخلي والموارد والثروات، لذلك كان الحدس السَّامي لجلالة السُّلطان مدركًا لهذه المخاطر في ظلِّ المؤشِّرات الإحصائيَّة الاجتماعيَّة الَّتي باتَتْ تصِف أثَرها، فالمخدِّرات والمؤثِّرات العقليَّة والطلاق وغيرها من الظواهر المُجتمعة، باتَتْ تسجِّل ارتفاعًا في مؤشِّراتها. كما أنَّ الكثير من الظواهر السلبيَّة تمارس بشكلٍ علني فردي أو جماعي، ولكنَّها لا تحظى بالرَّصد والمتابعة الإحصائيَّة والتقارير الدَّوْريَّة ووجدت البيئة الخصبة لنُموِّها واتِّساعها بَيْنَ فئات المُجتمع الممارِس لها أو المقتنع بها، الأمْرُ الَّذي يضع تحدِّيًا أمام قِطاعات الدَّولة في أولويَّة البحث عن آليَّات أكثر ابتكاريَّة ومهنيَّة واستدامة في مراقبتها ومتابعتها والوقوف على أسبابها، وأهمِّية اتِّخاذ إجراءات وآليَّات وتشريعات تضمن الحدَّ مِنْها، خشية استفحالها وخروجها عن السيطرة، ولعلَّ من بَيْنِ الظواهر الَّتي أصبح يمارسها المُجتمع، ولها تداعياتها على مستقبل الأُسرة العُمانيَّة، والَّتي أشار إليها جلالة السُّلطان المُعظَّم؛ تربية الأبناء والاعتماد على المنصَّات الاجتماعيَّة والتقنيَّات الحديثة وما يسببه ذلك من سوء استخدام النشء والأبناء لهذه المنصَّات والأجهزة دُونَ متابعة أو رقابة والديه، هذا الأمْرُ يتَّسع لِيشملَ أيضًا عاملات المنازل وتقمُّصهن دَوْر الأُمَّهات وإسناد مسؤوليَّة التربية لهنَّ في ظلِّ انشغال الوالدَيْنِ أو اهتمامهما بأولويَّاتهما الخاصَّة، ويقاس على ذلك الكثير من الممارسات الَّتي باتَتْ تُشكِّل اليوم ظواهر مقلقة على الأمن الاجتماعي والاستقرار الأُسري.
وتبقى الإشارة إلى أنَّ تحقيق ركيزة أولويَّة رؤية عُمان 2040 «مُجتمع إنسانه مبدع معتزٌّ بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام» تقتضي وجود مواطن منتج، يمتلك القِيَم والمهارة، وأُسرة آمنة مطمئنَّة تعيش الاستقرار والاحتواء والحُب والمودَّة والرَّحمة، ومُجتمع متعاون، يؤمن بالمشتركات ويتقاسم المسؤوليَّات ويدرك قِيمة الضبط الاجتماعي، كما يعي قِيمة التشريع وأهمِّية القانون ودَوْر مؤسَّساته، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا عَبْرَ امتلاكه للأدوات والوسائل والأساليب القائمة على التعليم الجيِّد، والثقافة الوقائيَّة الرصينة، والحسِّ المسؤول، والوعي الرقابي، والوازع الديني وغيرها من محقِّقات التوازن في بناء الشخصيَّة. ولمَّا كانت الظواهر الفكريَّة السلبيَّة بكُلِّ تفاصيلها وأنواعها وتصنيفاتها ومدلولاتها، ممارسات خارجة عن القانون والفطرة، وتتعارض مع الثوابت الوطنيَّة والسَّمت العُماني أو قَدْ يمارسها الفرد والمُجتمع بِدُونِ إدراك لمخاطرها ونتائجها السلبيَّة؛ فهي تتنافى مع الأولويَّات الوطنيَّة في بناء مُجتمع الأمن، وتتجافى مع معايير الاستقرار وجودة الحياة، وبناء القدرة الوطنيَّة وصناعة القدوات، في إنتاجها لفرد خامل واهنٍ مريض، غير قادر على الحركة والعمل والإنتاج، يعيش حالة من الإهمال النَّفْسي والفكري الذَّاتي، وتقُودُه خيالاته وأفكاره إلى الجهل والمرض والعبَث بحياته، فتعطل فيه قِيَم الخيريَّة والصَّلاح والإصلاح والقدوة، لذلك يُمثِّل التوجيه السَّامي في دراستها والوقوف عَلَيْها، خيار القوَّة في الحفاظ على مكتسـبات الدَّولـة وحماية الأُسرة العُمانيَّة وإعادة إنتاجها في مواجهة ثورة الواقع.
أخيرًا، فإنَّ تحقيق التوجيهات السَّامية لجلالة السُّلطان المُعظَّم بحاجة اليوم إلى برنامج عمل يضعها موضع التطبيق الجادِّ، والتنفيذ الأمين المُخطَّط، في ظلِّ تكامل الجهود القِطاعيَّة والمؤسَّسيَّة، وتفاعل الأُطر، وتناغم الاهتمامات، وتعظيم فرص الشراكة، واستدعاء الذَّاكرة الجمعيَّة الوطنيَّة والمبادرات الناجحة وأفضل الممارسات العُمانيَّة في هذا الجانب، وعَبْرَ برنامج عمل وطني ملموس يقوم على رصد الظواهر الفكريَّة السلبيَّة، والتحدِّيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والتنمويَّة، والعادات الضارَّة المكتسبة الَّتي باتَتْ تنتشر في مُجتمع سلطنة عُمان، سواء على مستوى الأفراد أو الَّتي باتَتْ تمارَس في شكلها الاجتماعي العامِّ في الحواضر والبوادي والقُرى والولايات والمحافظات، أو أنَّها ممارسات مكتسبة جاءت نتاجًا للثقافة الربحيَّة الَّتي تمارسها الأيدي الوافدة، أو في تفاعل الثقافة العُمانيَّة مع غيرها من الثقافات أو التقنيَّة، أو بسبب الأزمات والظروف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي أدَّت إليها، بما من شأنه رصد هذه الظواهر وتتبُّعها وتبنِّي آليَّات محكّمة للوقوف عَلَيْها، ودراسة تداعياتها الأمنيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة والشخصيَّة وتأثيراتها على الخصوصيَّة والسَّمت العُماني، هذا الأمْرُ يؤكِّد على أهمِّية تبنِّي مسار وطني واضح في تسريع وتفعيل وتمكين دَوْر المؤسَّسات التعليميَّة والبحثيَّة والعلميَّة والدينيَّة والإعلاميَّة، ومراكز البحث العلمي والاجتماعي والتوسُّع فيها، ومراكز الاستشارات المُجتمعيَّة والأُسريَّة وتقنينها ومراقبة عملها وأدواتها، ودَوْر المجالس التشريعيَّة (مجلس عُمان) والمجالس البلديَّة وغيرها في تشخيص لهذه الظواهر عَبْرَ تقديم الدِّراسات المعمَّقة والمتخصِّصة والعلميَّة، والتشريعات والقوانين لمعالجتها ودراستها بصورة عمليَّة وعلميَّة وموضوعيَّة وحياديَّة تتناغم مع النَّسق الاجتماعي العُماني وخصوصيَّته وحساسيَّته.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: ن الاجتماعی فی الم جتمع لجلالة الس ة الع مانی جلالة الس الکثیر من ة السلبی لطان الم والق ی م الأ سرة م جتمعی الق ی م جتمع ا م جتمع الأم ر
إقرأ أيضاً:
السماء على موعد مع حدث فلكي مميز يوم 26 نوفمبر الجاري.. ترقبوا المشهد
يمكن لمحبي الظواهر الفلكية، متابعة دخول القمر إلى منطقة الأوج، يوم 26 نوفمبر الجاري، دون الحاجة إلى ارتداء نظارات خاصة، لأنها من الظواهر الليلية التي لا تؤثر على العين، بالنظر إليها، على عكس الظواهر النهارية، التي تتطلب اتخاذ الاحتياطات اللازمة.
يدخل القمر في يوم 26 نوفمبر الجاري منطقة الأوج، وهي المنطقة البعيدة نسبيًا عن الأرض، إذ تبلغ المسافة بينهما حوالي 405,300 كم، ولا تثبت هذه المنطقة في مكان واحد، علمًا بأنها تتغير من شهر لآخر، بحسب أشرف تادروس، أستاذ الفلك بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية، عبر حسابه الرسمي على «فيسبوك».
يؤثر دخول القمر منطقة الأوج على المد والجزريؤثر دخول القمر في منطقة الأوج، على ظاهرة المد والجزر، والتي تمثل تغيرات دورية في مستوى سطح البحر، وبشكل عام يمكن تعريف منطقة الأوج على أنها النقطة الأبعد عن الأرض، على عكس نقطة المدار الأقرب إلى الأرض بالحضيض، وتحدث هذه الظاهرة كل فترة.
يمكن النظر إلى الظاهرة بالعين المجردةيشكل دخول القمر منطقة الأوج والظواهر الفلكية بشكل عام، أجمل المشاهد في السماء، خاصة عند الوصول إلى الذروة، ويمكن النظر إليها بالعين المجردة في بعض الأحيان، أو دون الحاجة إلى التلسكوب، مع عدم ارتداء نظارات عند رؤية اقتران القمر مع أي نجم، أو دخوله لأي منطقة، لأن الظواهر الليلية بصفة عامة لا تؤثر على الرؤية، بعكس المشاهد الفلكية التي تحدث خلال النهار، وتؤثر على العينين، لذا ينصح بارتداء نظارة عند النظر إليها.
دخول القمر إلى منطقة الأوج ليست الظاهرة الأخيرةدخول القمر إلى منطقة الأوج، ليست الظاهرة الفلكية الأخيرة خلال شهر نوفمبر، فهناك اقتران للقمر مع النجم سبيكا، يوم 27 نوفمبر الجاري، ويبلغ حجمه 8 مرات تقريبا حجم الشمس، وكتلته 11 مرة تقريبا كتلة الشمس.