شجون الغريبة.. تحولات قصيدة النثر اليمنية من مجلة شعر إلى صفحات فيسبوك
تاريخ النشر: 17th, December 2023 GMT
صدر حديثا كتاب "شجون الغريبة: تحولات قصيدة النثر.. من صفحات مجلة شعر إلى صفحات فيسبوك"، من تأليف الناقد اليمني علوان مهدي الجيلاني.
يقدم الكتاب تجربة امتدت سنوات طويلة، عكف المؤلف خلالها على تتبع بدايات قصيدة النثر العربية من خلال نماذجها الأولى كما كتبتها "جماعة مجلة شعر"، ثم من خلال نماذج كتبتها الأجيال التالية لها، مؤشرا إلى سماتها في كل مرحلة مرت بها، وصولا إلى مرحلتها الراهنة، حيث وجدت قصيدة النثر في صفحات موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" حاضنة استثنائية خلصتها من فوقيتها ونخبويتها الزائدة عن الحد، ومن ثم خلصتها من عزلتها وقلة مقروئيتها، وأسهمت في إثراء عوالمها وتعديد أساليبها وتفضيلاتها.
الكتاب الذي صدر عن دار "عناوين بوكس" في القاهرة، ويقع في 420 صفحة من القطع الكبير، يقدم قراءات واسعة لقصيدة النثر من خلال نماذج لأكثر من 80 شاعرا يتوزعون على سائر الجغرافيات العربية في مشرق العالم العربي ومغربه، ويظهر كثيرا من مفاتيح اشتغالات الكتاب، بدءا من مسوغات تسميته في مقدمة الكتاب، التي تستعرضها مقدمة المؤلف التالية:
"شجون الغريبة"في منطقة تهامة "غرب اليمن"، حيث ولدتُ، ثمة عرف ثقافي اجتماعي عجيب يعدّ الضيف غريبا، يصف الضيوف بالأغراب، ويستطيع المرء أن يخاطب الضيوف في عرس ابنه مثلا بهذا الشكل: تفضلوا الغداء يا أغراب.
القادم الجديد للسكن في قرية أو دَيْر يحمل صفة الغريب، وقد تظل هذه الصفة تلازمه بقية عمره.
زوجة الابن، إذا كانت من قرية أو دَيْر غير قريته أو دَيْره سوف توصف بالغريبة، ولن تسقط عنها هذه الصفة مطلقا حتى لو تراجعت قوتها الصريحة بتوالي السنين وإنجاب الأبناء: "الغريبة ذهبت، الغريبة جاءت، الغريبة دخلت، الغريبة خرجت، الغريبة حملت، الغريبة ولدت".
وطوال الوقت سيظل داعي التمييز يحضر بسبب خصومة أو شهادة على خصومة، أو منافسة مع زوجات إخوان الزوج، المنتميات أصلا إلى المكان، سيحضر وصفها بـ"الغريبة".
هذا جانب من مقصود التسمية ودلالتها، وهو يتكئ على كون حضور قصيدة النثر في المشهد الإبداعي العربي ظل ملتبسا بهذه الدلالة منذ البدء، فقد حضرت كشكل تم استيراده من أدب آخر، من لغة أخرى وثقافة مختلفة، وظل المشهد الثقافي العربي حتى اللحظة يتعامل معها بوصفها غريبة.
وزاد من حديَّة هذا الوصف وتكريس وطأته عليها ارتباط غربتها بغرابة تسميتها "قصيدة النثر"، فلم تكن معاناتها من وصف الغريبة يقتصر على قدومها من ثقافة أخرى، وإنما من غرابة التسمية التي ضاعفت حدة التمييز ضدها، وأشعرت المتلقي العادي بقلق التسمية، بينما هو ينتمي إلى ثقافة راكمت -عبر قرون طويلة- مفهومين واضحين للشعر والنثر.
ولعبت وصايات عديد المنظرين والنقاد على قصيدة النثر دورا مماثلا في تكريس وصفها بالغريبة، فهم لم يكتفوا بجعل قبولها أو ممارسة كتابتها ترتبط ارتباطا شرطيا برفض الأشكال الأخرى فقط، بل بالسخرية من الهيئات الصوتية الإيقاعية للوزن والتشطير، حتى إنهم حوَّلوا ممارسة كتابتها إلى عقيدة لا يكتمل الولاء لها إلا بالبراء من الأشكال الأخرى.
ناهيك عن إصرار أولئك النقاد والمنظِّرين على تسييج محدداتها من خلال بضع سمات تقبَّلتها اجتراحاتها في اللغة الفرنسية مثل: الإيجاز، الكثافة، السردية، واللاغرَضية. متجاوزين أو غير منتبهين إلى أن سمات التعبير تختلف في اللغة التي انتقل إليها الشكل، وأن هناك تضمينات ثقافية لا بد أن تفرضها الحاضنة الجديدة عليه، كما حدث في حالة الشعر الفارسي الذي تأثر بالعَروض العربي، بحورا وأوزانا وقوافي، لكنه أخضعها لتضمينات الثقافة الفارسية في الشكل وفي المضمون، فنتج عن ذلك انزياحات كثيرة، لعل أبرز تجلياتها تنعكس في رباعيات الخيَّام، ومثنوي جلال الدين الرومي.
وحدث ذلك، رغم أن قصيدة النثر العربية قد اكتسبت في واقعها سمات جديدة، وأصرت على ممارسة حريتها في تناقض مفارق مع منظِّريها الذين أدخلوها إلى المشهد الإبداعي العربي بوصفها جزءا من حرية الكتابة التي ينشدونها، ويتخلصون بها من قيود الأشكال الموروثة ومحدداتها.
غير أن ثمة فاعلا لعب الدور الأهم في تكريس وصف الغريبة وعزز انطباقه على قصيدة النثر، ذلك هو ربط ممارسة كتابتها بنخبة فوقية، أعوزتها محددات قصيدة النثر المنقولة حرفيا عن الفرنسية إلى قوة التواصل مع الجمهور، وبدلا من مراجعة قضية التمسُّك الحرفي بالمحددات المنقولة بوصفها سبب سوء الفهم العالق بين قصيدة النثر وجمهور القراء، راحت تلك النخبة تكرِّس عزلة هذا الشكل بمزاعم خرقاء؛ مثل القول، بأنه شكل صامت، وأنه ينكتب للقراءة فقط، وأنه ليس جماهيريا، إلى غير ذلك من المزاعم التي جعلت هذه القصيدة غير قادرة على التخلص من وصف الغريبة.
وكان هناك نوع من الخبث في توجيه هذه المزاعم عبر احتكار منابر نشرها التي تقوم على اصطفاءات لا علاقة لها في الغالب بتحقُّق الشعر في النص، ولكن علاقتها قوية بموجهات "أيديولوجية" وسياسية و"شِلَلية"، وقد بلغ من حدة هذا المنحى أنه كان لا يتورع عن خلق الأعداء لقصيدة النثر حين لا يجدهم.
الأكثر غرابة من ذلك كله أن أكثر المنضوين في هذا التوجه كانوا أقل كُـتَّاب قصيدة النثر إبداعا، وكان يصدق عليهم قول البردوني، "إن الإمكان في الشاعر ذاته، لا في المُنْتَمَى المدرسي؛ لأن المدارس الأدبية وجهات عامة، أما عظمة الشعر فهي تترعرع من إمكانية الشاعر وحده، لذلك سقط عشرات الشعراء، ألهتهم المباراة على الحداثة عن معرفة الإجادة والأصالة".
والغريب أن اللعبة خدعت زمنا طويلا المشهد الثقافي، ولم يدرك هذا المشهد زيفها إلا عندما كسرت المواقع والمنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي هيمنة النشر المتعالي، وخلال سنوات صارت قصيدة النثر أكثر الأشكال الشعرية شعبية وتقبلا عند الجمهور، فاتسعت سماتها، واتضحت تضميناتها، وتصالح كتَّابها الجدد مع الأشكال الشعرية الأخرى.
ولعل السر في ذلك أن العوالم الرقمية ساعدت بقوة على انتهاك فكرة القداسة التي كانت تتمتع بها قوانين قصيدة النثر، وهي فكرة كانت تُسيِّجُ الشعر بشكل أكثر وضوحا قبل ظهور هذا الشكل الشعري، إذ أنها كانت جزءا من كُنْهِ الشعر المرتبط بالدين من طرف، وبالكهانة من طرف آخر.. انتهاك القداسة -الذي بدأ بظهور قصيدة التفعيلة في أربعينيات القرن العشرين- اكتسب فاعلية أكثر بظهور قصيدة النثر عند نهاية خمسينيات القرن نفسه، لكنه بلغ ذروته بظهور المنصات الرقمية، حيث جعلت تلك المنصات من النص الشعري لعبة يمكن تداولها بين العامة، بل يمكن كشفها والعبث بقوانينها.
وصار أي نقد رافض يوجه إلى نص ما غالبا ما يُقابل بردَّات فعل سريعة تسوّغ النص المنقود، إما بتأكيد شعريته المختلفة، وإما بجعله كتابة شخصية تقع في مدار الشعر لكنها لا تتقصَّده.
سرعة قبول النص عند المتلقي، وكثيرا ما يكون هذا المتلقي قارئا محايدا، هي ما أرغم المشتغلين بالوصاية على الشعر كتابة ونقدا على رَقْم وثيقة الاعتراف به. وهكذا يمكن وصف مرحلة "قصيدة النثر الفيسبوكية" بمرحلة "الشعر خارج النخبة"، وذلك يعني أن قصيدة النثر اكتسبت في صفحات الفيسبوك ممكنات لم تكن متاحة لها من قبل، وهي ممكنات تتلخص في قدرتها على اكتشاف أسرار القبول عند القارئ.
بتعبير آخر، ذلك يعني أنها نجحت في إلغاء سمات الفوقية والنخبوية والترفع عن هموم الناس، وهي السمات التي كان المتلقي العادي يعدّها وصمة لها.
ما تتمتع به قصيدة النثر الفيسبوكية من ديناميكية، اليوم، إنما ينبع من الطريقة التي تمارس بها لعبة انكتابها، إذ هي تنجح في اقتناص ممكنات طالما كانت خارج الشعر، مثلا "استعارت من كاميرا الهاتف المحمول فكرة الـ"سيلفي selfie"، أو ما يُعرف بالصورة الملتقطة ذاتيا.
ولأن طبيعة الشعر تشتغل على فكرة وجود الكائن داخل العالم، فإن النص برمج نفسه ليأخذ صورة لوجود الكائن، ليس بمعنى عالمه الخارجي، وإنما بمعنى وجوده، حسب اصطلاحات الفلسفة.
إنها صورة لرعبه وقلقه ودهشته وسؤاله وتشكُّكه، ملتقطة ذاتيا، صورة تُطبع بالكلمات، ولم تعد فكرة القياسات الجمالية القديمة تشتغل معها، فهي في النهاية صورة للإبلاغ عن الوجود في مكان ما فقط، قد يكون مكان السؤال أو مكان القلق أو مكان الدهشة.
كذلك هي ترتبط بجملة من السمات الناتجة عن التحامها بالفضاء الافتراضي، أهمها اختلال مُسلَّمة الزمن، إما عن طريق الاستبدال، وإما عن طريق الاستدارة.
ولعل أكثر ما يلفتنا في قصيدة النثر الفيسبوكية هو أنها بحكم نشرها حالات كانت أكثر امتلاكا لإمكانية تقديم نفسها بوصفها محايثا لحياتنا اليومية، وقد نجحت نجاحا عظيما في تحويل الشخصي واليومي والعادي والمألوف إلى سرديات كبرى، وهي من خلال بعض تجلياتها المتمثلة على وجه الخصوص في نصوص مجادلة الحب، ونصوص الاعترافات، ونصوص المخاوف، ونصوص الشكوى، ونصوص الرفض والتهكم، والنصوص السِّيريَّة، تتحول إلى جواذب للمتلقي تفعل به الأفاعيل، فهي تلامسه بسهولة، بينما يصل هو إليها دون أن يصطدم بحواجز تتعالى عليه، أو تتحمَّل بمحمولات أكبر من وعيه.
لهذه الأسباب تغيَّر واقع قصيدة النثر، لم يبقَ من وصف الغريبة إلا المفهوم المتداول في مقاربات الدارسين لها. هنا أجدني أميل إلى القول، إن قصيدة النثر كانت تنتظر صيغتها بقدر ما كانت تنتظر آليات توصيلها.
"الثمرة المحرمة"في هذا السياق، عليَّ أن أعترف أني حين اقترحت "شجون الغريبة" عنوانا مؤقتا لهذا الكتاب، قبل سنوات، لم أكن حينها قد أنجزت حتى ربع محتواه. كنت أفكر أن المتربصين قد يؤوِّلون العنوان كونه عنوانا مبطَّنا بموقف ضدِّيّ. يومها سطَّرتُ ما أوردته في بداية هذا التقديم عن مفهوم الغريبة والغريب والأغراب في تهامة، بوصفه مسوغا كافيا لتوضيح البعد الدلالي من جهة، وإبعاد تهمة إضمار الرفض عني من جهة أخرى.
لكن استقصاء المؤلفات التي تموضعت قصيدة النثر من أجل الاسترشاد بها، أو التمرجع فيها أثناء إنجاز بقية مقاربات الكتاب، كشفت لي أن مرادفات الوصف الذي اختاره عنواني حاضرة في عناوين مؤلفات ودراسات كثيرة، وأن هناك مجموعة من النقاد تتباين مواقفهم من قصيدة النثر تحيُّزا وحماسة لها، أو رفضا قاطعا لوجودها، أو توسطا وتوازنا تجاهها. لكنها تلتقي في التفكير فيها تفكيرا لا يخلو من هذا البعد الدلالي.
"الثمرة المحرمة".. هكذا سمَّى الناقد حاتم الصكر أحد كتبه التي تتموضع قصيدة النثر تنظيرا وتطبيقات على النصوص، وقال متحدثا عن هذا العنوان في إحدى شهاداته "عبَّرتُ فيه بمجازفة استعارية عن اعتقادي بأن قصيدة النثر ظلت الثمرة المحرمة في شجرة الشعر".
مقابل الصكر-المعروف بحماسه البالغ لقصيدة النثر تنظيرا ونقدا وتبنِّيا لتجارب كُتَّابها- نجد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، وهو أشهر المناوئين لها يسميها "القصيدة الخرساء"، وهذا عنوان كتاب موضوعه قصيدة النثر أصدره في 2008م.
ودلالة عنوان أحمد عبد المعطي لا تحكم على قصيدة النثر بوصف الغريبة فحسب، بل تقطع بعدم القدرة على التواصل معها، ليس لعدم الرغبة في التواصل معها، بل لعيب فيها هو عدم قدرتها على النطق.
وبالطبع فإنه لا يخفي عداءه السافر لقصيدة النثر، ووصفه لها بـ"الخرساء" يحيل إلى رفضه لتخلصها من الوزن والقافية والإيقاع، واعتقاده بعدم صوابية كونها شعرا، وكون هذا غريبا على مفهوم الشعر في ثقافتنا.
وصفُ قصيدة النثر بالغريبة يتضمنه العنوان الذي اختاره الناقد العراقي علي داخل فرج لكتابه "محاكمة الخنثى"، وهو عنوان مشفوع بعنوان رديف توضيحي "قصيدة النثر في الخطاب النقدي العراقي".
لكن ما يتضمنه هذا العنوان يشير إلى غرابة التجنيس والمصطلح، حيث تجمع التسمية في ظاهرها بين نقيضين، الشعر مقابل النثر، ومن هنا جاء وصف هذا الشكل الشعري بالخنثى، والوصف يحمل دلالة سلبية تحيل إلى مفهوم "المُشْكِل"، وهو من لا تتبيَّن فيه علامات الذكورة أو الأنوثة، أو تعارضت فيه علاماتهما حتى أشْكَلَ أمره فلا يُعلم أهو ذكر أم أنثى.
وبالطبع فإن مؤلف الكتاب قد اختار عنوانه للإثارة، أما محتوى الكتاب فهو يتميز بالحيادية والجدية، وهو يأخذ على المتجادلين حول إشكاليتَي التجنيس والمصطلح انحيازهم الضمني لوصف الخنثى، بدلاً من تلطيف الأمر بالقول، إن هذا الشكل -سواء في مصدره الأول فرنسا أو بعد نقله إلى العربية- قد تخلَّق نتيجة انفتاح الأجناس الأدبية على بعضها، وإلغاء الحدود والفواصل الموروثة بين الأشكال التقليدية، بقدر ما هو تمرد وكتابة أكثر حرية.
وقد فضلتُ عدم الخوض في إشكالية التسمية، لقناعتي ألا جديد يمكن أن أخرج به، فقد خاض فيها عشرات وربما مئات من الشعراء والنقاد والأكاديميين، وتكررت حولها الاعتراضات والتحفظات نفسها. مع ذلك فقد شاعت التسمية، وأخفقت مقترحات استبدالها الواحد تلو الآخر، ولم تعُد ثمة جدوى من الخوض فيها.
أصوات متجاورةفكرة هذا الكتاب تأسست في كتاب "أصوات متجاورة" الصادر في 2010، وهو الكتاب الذي رصدتُ فيه وجوه تجلي جيل الشعراء التسعينيين في اليمن، وسمات منجزهم الشعري، إضافة إلى اجتراح قراءات موسعة لبعض التجارب الفردية المائزة فيه.
وفي العام نفسه 2010 بدأتُ الاشتغال على كتاب "شجون الغريبة"، وخلال 13 سنة لم أتوقف عن المعايشات والمعاينات، والمرافقة، والمراقبة المستمرة لتجليات قصيدة النثر، وما طرأ عليها من تحولات، خاصة بعد ظهور الشبكة الرقمية بمنتدياتها ومواقعها ومدوناتها، منذ مطلع العقد الأول للقرن 21، ومن ثم ظهور مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر" و"واتساب"، حيث أثرت تلك المواقع "موقع فيسبوك على وجه الخصوص" بشكل كبير في النصوص لغة وأساليب وفنيات ومحاميل دلالية.
وقد حاولت في هذه الاشتغالات تتبُّع هواجس الإرهاصات الأولى المبشرة بظهور قصيدة النثر، من خلال تتبُّع تبدلات النسق المعرفي وأثرها في النوع الشعري، ومن ثمَّ تتبُّع مراحل تجليها من لحظة استنساخ النموذج الغربي، عند غروب خمسينيات القرن العشرين، وحتى بوادر التضمينات التي ألحقتها الهوامش الجغرافية العربية بها، ثم وضوح تلك التضمينات بجلاء عند مفترق نهاية القرن 20، وبزوغ القرن 21.
بعد ذلك تتبَّعتُ تأثير ظهور الشبكة العنكبوتية وما انعكس منها على قصيدة النثر، حيث بلغ الأثر ذروته عندما بدَّلَت كثيرا من سماتها، وأعلنَت شعبويتها بشكل جارف على صفحات موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وكان عليَّ وأنا أتتبَّع ذلك أن أحاول اكتشاف وجوه تبدِّيها الجديد، ومدى اختلافها، والإضافات التي توفرت عليها، لكني قبل ذلك كله كنت معنيَّا بالتثاقف معها من خلال تفهُّم تبدُّلات نسقها، ومن خلال سبر جمالياتها، سواء تلك التي تمثل تطورا لجمالياتها القارَّة منذ عقود مضت، أو تلك التي استجابت لشغف العوالم الرقمية وغواياتها والممكنات التي وفرتها، أو حتى للإكراهات التي فرضتها على المبدعين.
ولا أخفي أني كنت إلى جانب ذلك أحتفل بمتعة التلقِّي، وأوظف خبراتي ومعارفي كوني شاعرا وقارئا ومزاولا لوجوه مختلفة من الكتابة لصالح الاشتباك بالنصوص، ومساءلة وجوه تحققها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: التواصل الاجتماعی على قصیدة النثر هذا الشکل من خلال کانت ت
إقرأ أيضاً:
فديتك زائرًا في كل عام.. الرمضانيات في الشعر العربي
هل سمعت من قبل بالرمضانيات في الأدب العربي؟ لم يكن الأدباء والشعراء على مدى العصور في التاريخ العربي لِيفوّتوا مناسبة عظيمة مثل شهر رمضان المبارك دون أن يتحدثوا عنها، ويبينوا جمالياتها، ويصفوا طقوسها واتفاق الناس واختلافهم في تأديتها، لا سيما أن لشهر رمضان خصوصية مجتمعية تفرض وجودها على أطياف المجتمع كلها، سواء أكانوا من المسلمين أم لا.
تعرَف القصائد التي تتحدث عن شهر رمضان وتدور في فلكه في الشعر العربي بالرمضانيات، ويعدها بعض النقاد لونا شعريا مستقلا، إذ تدور حول مجموعة من الأفكار الثابتة التي تتعلق بشعيرة الصيام لدى المسلمين، ولها خصائص فنية وأسلوبية تميزها من غيرها.
كما تعد هذه القصائد مرآة تعكس الروح الإيمانية لدى الشعراء الذين عُنوا بها وبكتابتها وتحبيرها، إذ يعبرون فيها عن مكنونات النفس المؤمنة وانعكاساتها على الروح في عالم مُواز بعيد عن الواقع المعيش الذي تطوقه المعاني المادية من كل جانب.
فرمضان فرصة الروح للانعتاق من أسر المادة وهيمنة النفس ورغباتها، وذلك بتأطير سلوك المرء وشهواته بالعمل على تربية النفس وتهذيبها وتطويقها بحدود وقواعد لا يمكن للصائم أن يتجاوزها أو يخرج عنها.
تندرج الرمضانيات بطبيعة الحال تحت غرض الشعر الديني، إذ تصور حال المجتمع المسلم وتفاعلاته مع أجواء الشهر الفضيل، وهي قصائد دينية وصفية -إذا جاز التعبير- لأنها تصف حال المسلم أثناء تأدية شعيرة الصيام وأثرها في نفسه.
إعلانكما تصف معراج الروح في الليالي الرمضانية وانعتاقها من قيد الشهوات الدنيوية، وتتحدث عن أهمية شهر رمضان بوصفه أشبه بدورة إعادة تأهيل نفسي وبدني للانطلاق مجددا في مواكب الأرض سعيا وراء تحقيق الهدف الأمثل من الوجود، ومحاكاة حقيقة الخلق.
ومن جانب آخر، تسهم في تحقيق التوازن النفسي، ما يمنح المرء قدرة على التعاطي مع مجريات الحياة في ظل الصخب الذي يزداد في حياتنا يوما بعد يوم، بسبب طغيان المادة والمنفعة على الإنسان في أيامه ومعاملاته عامة.
ولا تخلو الرمضانيات من الوعظ والحكمة، كما تتكئ على أسلوب السرد القصصي التعليمي أحيانا، ما يجعلها أقرب إلى غرض الزهد من غيره.
أضف إلى ما سبق أن قصائد الرمضانيات تُعنى بدرجة عالية بالحديث عن فضائل الشهر المبارك وما خصّه الله به من مضاعفة أجر العبادات التي تؤدى فيه.
كما تصف استقبال الناس له واستبشارهم بطلوع هلاله عليهم، وحزنهم لفراقه بعد ما وجدوه في أنفسهم من عبق إيماني ينتشر شذاه في فراغات النفس حبا وقربا وإيمانا وطمأنينة، وبعدما عاينوه من توازن نفسي أعاد ترتيب أولوياتهم في هذه الحياة، لاسيما بعد ما لاقوه من بركة وخير عميم في أيامه ولياليه.
هلال رمضان في الشعر العربيلشهر رمضان حضور واسع في وجدان الأمة الإسلامية، وحضور بهي في تراثنا الأدبي وأشعارنا، وهلال رمضان بشرى خير تطل على العالم الإسلامي في كل عام.
ويبدأ الاحتفاء به وترقب ظهوره من أواخر شهر شعبان استبشارا بما تحمله أيامه ولياليه من فضائل وخيرات ومسرات وجدانية، فها هو الشاعر البحتري يرحب بقدوم شهر رمضان بين يدي الخليفة العباسي المعتصم بالله قائلا:
قم نبادر بها الصيام فقد .. أقمر ذاك الهلال من شعبان
ويرتبط هلال رمضان ببداية شهر الخير، فالترحيب به ترحيب بما يؤذن به من تجليات إيمانية، فلننظر معا إلى ما قاله الشاعر الأندلسي ابن حمديس الصقلي مُرحّبا محتفيا بمجيء شهر الصيام:
قلت والناس يرقبون هلالا
يشبه الصب من نحافة جسمه
من يكن صائما فذا رمضان
خط بالنور للورى أول اسمه
تعد أيام رمضان ولياليه فرصة عظيمة للتجارة الإيمانية الرابحة بكل تأكيد، لذلك نجد مِن الشعراء مَنْ يحض على اغتنام هذه الأيام والليالي في سبيل تحقيق المغفرة وانجلاء الهموم وتسكين النفس وتعظيم أملها بما ينتظرها في حياتها الآخرة، وفي ذلك يقول الشاعر أبو عبدالله الأندلسي:
هذا هلالُ الصومِ من رمضان
بالأفق بان فلا تكن بالواني
وافاك ضيفًا فالتزمْ تعظيمه
واجعلْ قِراه قراءة القرآنِ
صمْه وصنْه واغتنم أيامَه
واجبرْ ضعافَ الناس بالإحسانِ
واغسلْ به خط الخطايا جاهدا
بهُمول وابِل دمعك الهتّانِ
وفي قصيدة (هلال رمضان) التي تنسب للشاعر أحمد شوقي، استقبل الشاعر فيها شهر رمضان بمعان بديعة جدا، إذ قال فيها:
يا هلال الصيام مثلك في السامين
للعز من طوى الأفلاكا
مرحبا للثواب منك وأهلا
بليالٍ جمالها لقياكا
كل عال أو كابر أو نبيل
أو وجيه من النجوم فِداكا
أنت مهد الشهور والحسن والإشراق
مهد الوجود منذ صباكا
فوق هام الظلام ضوء جبين الكون
تاجٌ للكائنات ضِياكا
ومن بديع ما قاله الأديب مصطفى صادق الرافعي عن هلال رمضان مبتهجا بقدومه وواصفا إياه:
فديتك زائرا في كل عام
تحيي بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حينا
ويبقى بعده أثر الغمام
وفي فضل رمضان وأهميته وتأثيراته العظيمة في نفس المسلم يقول الشاعر الشيخ أحمد سحنون واصفا شهر الصيام بالطبيب المعالج، وبالغيث الذي يهمي على صحراء الروح العطشى لسكينة الإيمان بعد جدب أصابها جراء الانهماك في الحياة الدنيا:
رمضان ما رمضان عهد حضارة … بعطائها زخرت كبحر زاخر
رمضان عنوان الكمال لأمة … صُنعت على عين الحكيم القادر
أكرمْ به شهرًا كأكرم زائر … أعطى وأجزلَ مثل غيث غامر
رمضان يوفده الإله معالجا … لسَقامنا مثل الطبيب الماهر
رمضان ينسينا الهموم بعطره … بين الشهور كمثل روض زاهر
فإليك يا رمضان خير تحية … من حافظٍ عهدَ الصديق وشاكر
ويقول في قصيدة أخرى واصفا جمال أثر الصيام في وجوه الصائمين القائمين العابدين، متحدثا عن انعتاق الروح من شهواتها وتحررها من أسر الحياة الدنيا ومشاغلها:
وعلى الوجوه نضارة الإيمان … يا للجمال يشع في "رمضان"
"رمضان" شهر البر والإحسان … "رمضان" شهر الصوم والقرآن
"رمضان" أغنية بكل لسان … "رمضان" إنك غرة الأزمان
"رمضان " فيك تيقظ الوجدان … "رمضان" فيك تحرر الإنسان
أنا فيك مبتهل إلى الرحمن … فعسى تعود هناءة الأوطان
في رمضان قامت وتحققت أعظم فتوحات المسلمين وانتصاراتهم، أشهرها وأعظمها غزوة بدر التي وقعت يوم 17 رمضان من السنة الثانية للهجرة.
إعلانوكذلك فتح مكة في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة، ومعركة القادسية التي جرت أحداثها في رمضان في السنة الخامسة عشرة للهجرة بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص، وغير ذلك مما لا يمكن للشعراء تفويت الحديث عنه والتغني به.
فها هو الشاعر الشيخ أحمد سحنون يتحدث عن عظيم الفتوحات في شهر رمضان فيقول:
أي شهر قد ساد كل الشهور … فتجلى في حلة من نور!!
وتوالت فيه الفتوحات وانجابت … عن الكون حلكة الديجور
ويتابع قصيدته متحدثا عن فضائل شهر رمضان وخصائصه مُعدِّدا إياها، ففي رمضان تُصفّد الشياطين ويبقى الإنسان في مواجهة حقيقية بينه وبين نفسه الأمارة بالسوء، ولا يغفل الشاعر عن ذكر أهم ما يميز شهر رمضان عن غيره، إذ خصه الله بجعله الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم:
والشياطين صفدت فهي لا تغوي … وتغري بكل إفك وزور
كل خير فيه يسير وفعل الشر … فيه تلفيه غير يسير
أي شهر غير الذي أنزل … القرآن فيه فكان خير الشهور
رمضان الذي به ولد الإسلام … دين الإنشاء والتعمير
رمضان شهر الهداية … والتوبة شهر التحرير والتطهير
شهر تزكيه النفوس وتهذيب … العقول بالعلم والتنوير!
ولشدة جمال أجواء الشهر الكريم وما يضفيه على النفس من حبور واطمئنان تمنى الشاعر تميم الفاطمي لو كان شهر رمضان حولا كاملا؛ فقال:
يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت
فيه الضمائر بالإخلاص في العمل
صومٌ وبرٌ ونسكٌ فيك متصل
بصالحٍ وخشوع غير منفصل
يا ليت شهرك حولٌ غير منقطع
وليت ظلك عنّا غير منتقل
وفي وصف حال الصائمين المنتظرين لأذان المغرب، التواقين لنداء الإفطار بعد صيام طويل، يقول الشاعر راصدا حركات الصائمين وانفعالاتهم النفسية وترقبهم للأذان:
جعلت الناس في وقت المغيب
عبيد ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا
يعذبهم، تلفَّت للطبيب
وأتلِعت الرقاب بهم فلاحوا
كركبان على بلد غريب
مزج بعض الشعراء بين الرمضانيات وأغراض شعرية أخرى، ولعل أولها وأهمها في هذا السياق كان غرض المديح، فإذا أراد الشاعر مدح خليفة أو صاحب مقام عال لا سيما في العصور الإسلامية عمد إلى الحديث عن ورع الممدوح وتقواه وزهده وعباداته.
إعلانوشهر رمضان خير وسيلة لهذا الحديث، ومن ذلك قول الشاعر العباسي ابن أبي حصينة:
صِيامكَ للمهيمن ذي الجلال … وفطرك للمكارم والمعالي
فيومٌ لِلتُقى وَلِنَيلِ أَجرٍ … وَيَومٌ لِلمَواهب والنِزالِ
فأنت من المَناسِكِ غَيرُ عارٍ … وَأَنت من المحامد غيرُ خالِ
فِدىً لِلعامِرِيِّ أَبِي وَأُمّي … وَما ثَمَّرتُ مِن نَشَبٍ وَمالِ
استعمل الشعراء فكرة الصيام وتأدية العبادات في شهر رمضان بوصفها أيقونة تدل على ورع الممدوح والتزامه الديني والأخلاقي.
ومن مبالغة بعض الشعراء أن عمدوا إلى تشبيه فضل الممدوح بفضل شهر رمضان وفضل ليلة القدر على غيرها من الليالي.
ومن ذلك ما قاله الشاعر الصنوبري في سياق المديح:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه .. ووقاك الإله ما تتقيه
أنت في الناس مثل ذا الشهر في الأشهروتنبه الشعراء إلى الاستفادة من شهر رمضان الكريم في نظم قصائد التهنئة لِأُولي الملك والسلطان، كقصيدة البحتري التي هنأ فيها الخليفة العباسي المعتصم بشهر رمضان فقال:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم وبسنة الله الرضية تفطر
ولو أن مشتاقاً تكلف فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر
ماذا عن ليلة القدر في الشعر العربي؟لليلة القدر نصيب كبير من الرمضانيات، وحضورها في الشعر العربي واسع، إذ يترقبها المسلمون ترقب الظمآن بعد قحط وعطش شديد، علّ دعاء فيها يغير الأقدار ويقلب الموازين ويسعد القلوب ويبهج النفوس، وها هو الشاعر أحمد مخيمر يتحدث عن شهر رمضان مبينا فضائله واصفا إياه بروضة المؤمن التقي، وذاكرا فضائل ليلة القدر:
أنت في الدهر غرة وعلى الأر
ض سلام وفي السماء دعاء
يتلقاك عند لقياك أهل الـ
ـبر والمؤمنون والأصفياء
فلهم في النهار نجوى وتسبيـ
ـح وفي الليل أدمع ونداء
ليلة القدر عندهم فرحة العمـ
ـر تدانت على سناها السماء
في انتظار لنورها كل ليل
يتمنى الهدى ويدعو الرجاء
وتعيش الأرواح في فلق الأشوا
ق حتى يباح فيها اللقاء
فإذا الكون فرحة تغمر الخلـ
ـق إليه تبتل الأتقياء
وإذا الأرض في سلام وأمن
وإذا الفجر نشوة وصفاء
وكأني أرى الملائكة الأبـ
ـرار فيها وحولها الأنبياء
نزلوا فوقها من الملأ الأعلـ
ـى فأين الشقاء والأشقياء؟
ومن ذلك أيضا ما جادت به قريحة الشاعر محمد العيد آل خليفة مخاطبا نفسه قائلاً:
تهجدي في الليالي العشر وارتقبي في ليلة القدر ما يسخو به القدر
ولا تكوني بطيب الورد قانعة لا يحمد الورد حتى يحمد الصدر
ظهر هذا الفن كما يقال في العصر العباسي في بغداد ثم انتقل إلى القاهرة، ويعتمد بعض دارسي الأدب عند الحديث عن فن القوما مصطلح أدبيات التسحير.
إعلانفالقيام للسحور من طقوس شهر رمضان المبارك، ويرتبط التسحير أي إيقاظ الناس للتسحر في ليالي شهر رمضان بالدق على الأبواب وقرع الطبل.
والغرض من إنشاد الأشعار المعروفة بفن القوما من قِبَل المسحر هو إيقاظ الناس للسحور في شهر رمضان المبارك، ومن هنا جاءت تسميته بــ"قوما"، إذ تعبر عن نداءات "المسحراتي" الذي يتجول في الأزقة والشوارع وقت السحر ليوقظ الناس مناديا إياهم (قوما للسحور).
لذلك نجد أنها تعتمد اللهجة الدارجة بين الناس، وتعد من الشعر الشعبي، وقد جاء اسم القوما من قول بعض المسحرين:
نياما قوما .. قوما للسحور
وقد نُظمت أشعار القوما على مجزوء الرجز، ويقال إن لهذا الفن وزنين مختلفين؛ الأول مركب من أربعة أقفال، تكون الثلاثة الأولى متوازية في الوزن والقافية، أما الرابع فيكون أطول منها وزنا، ويكون مهملا بغير قافية.
وتقوم هذه الأشعار على مجموعة من المواعظ والحكم الدينية، وتتكئ على اللغة الوجدانية التي تخاطب عاطفة السامع وتحركها وتحضها على العمل من أجل الحياة الآخرة.
وفي تعريف هذا اللون الشعري قال الشاعر محمد علي عزب "إنه نظم غنائي يُصاغ باللفظ العامي، وله شكل فني خاص به، حيث يتكون البيت من عدة أشطر مُقفّاة بطريقة معينة".
يقول الأبشيهي صاحب كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) إن بداية هذا اللون الشعري تعود إلى أبي بكر محمد بن عبد الغني (629هـ) المعروف بابن نقطة، وذكر بعض القصائد التي تندرج تحت "فن القوما"، وأكد أنها تشتهر بطرافة معانيها وخفة إيقاعها.
وأشار الأبشيهي إلى أن تأثير هذا الفن الشعبي كان واسعا، وذكر بعض قصائد صفي الدين الحلي التي حاكت هذا الفن في النظم والأسلوب والإيقاع.
الشكوى من الصيام في فصل الصيفلم يمنع إيمان الشعراء وحبهم للشهر الفضيل من تذمرهم وشكواهم من فرط ما يعانونه من تعب وعطش في أيام رمضان، لا سيما في فصل الصيف، ومن ذلك ما قاله الشاعر العباسي ابن الرومي على وجه الفكاهة:
شهر الصيام مباركٌ .. ما لم يكن في شهر آبْ
خفت العذاب فصمته .. فوقعت في نفس العذابْ
في حين نجد شاعرا آخر يجاهد النفس ويغتنم ما بقي له من أيام في الصيام على الرغم من كبر سنه، وهو الشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، الذي يصور حوارا لطيفا دار بينه وبين آخرين عن تعب الصيام في شهر رمضان، فيقول:
قالوا : سيتعبك الصيام وأنت في السبعين مضنى
فأجبت: بل سيشد من عزمي ويحبو القلب أمنا
ذكرا وصبرا وامتثالا للــــذي أغنى وأقنى
ويمدني روحا وجسما بالقُوى معنى ومبنى
رمضان عافية فصمه تقى، لتحيا مطمئنّا
وإننا في كل عام إذ نستقبل شهر رمضان المبارك نغتنم أيامه ولياليه ونعاين جماله وبركاته، حالنا كحال هؤلاء الشعراء الذين يبتهجون بالشهر الفضيل ولسان حالنا يردد قول الشاعر:
رمضان يا خير الشهور
وخير بشرى في الزمان
ومطالع الإسعاد ترفل
في لياليك الحسان
وفي وداع شهر رمضان المبارك نتمثل قول الشاعر الأندلسي ابن جنان الذي يتحسر على انقضاء شهر الصيام؛ شهر الخير واليمن والبركات فيقول:
مضى رمضان أو كأني به مضى
وغاب سناه بعدما كان أوْمَضا
فيا عهده ما كان أكرم معهدا
ويا عصره أعزِزْ عليّ أن انقضى
ومثله في ذلك الشاعر الشيخ أحمد سحنون الذي يتحدث عن الدقائق الأخيرة المتبقية من رمضان فيقول:
لم يبق من رمضان غير دقائق … ويزول مثل زوال أمس الدابر
يا حسرتا لفراقه ففراقه … ما كان غير فراق عهد زاهر